وفي تلك اللحظة عينها خطرت بباله صورة سلمى ممزقة الأذيال، تجري بين الصخور والأدغال، ووراءها وغد يجد في أثرها، فجمد الدم في عروقه، ثم انتفض كما انتفض العصفور بلله القطر، وقال للكولونل روز: ألا تظن أنني أستطيع أن أقوم ببعض ما يجب علينا إذا ذهبت إلى صيداء واستصحبت قنصلنا أو بعض القواسة، ومضينا إلى جهات حاصبيا ووادي التيم نفتش عن الذين سلموا من القتل والموت؛ فنغيثهم ونأتي بهم إلى بيروت؟!
وقبل أن يجيبه الكولونول على ذلك، شعر أنه أخطأ فيما قال؛ لأن غرضه الأكبر من هذا الذهاب شخصي، وقد عبر عنه على أسلوب يفهم منه أنه مجرد عن كل غاية شخصية، فلام نفسه على ما فرط منه، واستدرك قائلا: ولي في ذلك مأرب شخصي لا أخفيه عن الكولونل. ثم قص عليه قصته مع الأميرة سلمى من أولها إلى آخرها.
وكان الكولونل يعرف الأمير عباسا ويوده لإخلاصه، ويعلم أنه على خلاف مع الوالي، وأنه غير راض بما حدث من الفتن، ولكنه لم يكن يعرف شيئا عن ابنته، ولا عن علاقة السر هنري بها، فتحركت في نفسه عوامل الشهامة، وشعر بسلطة الحب شعور من نسي صديقا عزيزا، ثم التقى به فرثى لحال السر هنري، وقال له: قم ولا تتأخر ساعة، وإني لاستغرب سكوتك عن ذلك إلى الآن، نعم إنك غير واثق بحب هذه الأميرة لك، ولكن مهما كان شأنها، فليس من الشهامة وعزة النفس أن تتركها في هذا الوقت وأنت قادر على مساعدتها، لو كنت مكانك لذهبت الآن ولم أتأخر ساعة.
فشكره السر هنري على ذلك وقال له: يشق علي جدا أن أتركك في هذا الوقت مع تراكم الأشغال عليك، واشتداد هذا الحر الذي يكاد يزهق النفوس، ولكن ما دام الذهاب فرضا علي فأنا ذاهب.
وقام من ساعته وأمر أحد القواسة أن يعد ما يلزم لذهابهم إلى صيداء وجهات مرجعيون وغيابهم شهرا من الزمان، وكتب إلى أمه بخلاصة ما بلغهم من أخبار المذابح، وطلب منها أن تبذل كل ما في وسعها لجمع الصدقات من أهل البر والإحسان، وقال لها: إن ما ترسلونه من نقود وأحرمة وأقمشة تشكرون عليه أعظم شكر؛ لأن علينا أن نطعم ألوفا من النساء والأطفال ونكسوهم. وختم الكتاب بالسلام لإفلين وبالالتجاء إلى كرمها وحنانها.
الفصل الرابع والعشرون
حادثة دمشق
لا أعدى من الحمس الديني، ولا أشد منه خطرا على البلاد، لا سيما وأنه سلاح الرعاع الذين إذا ثار ثائرهم أمسوا وحوشا ضارية لا تأخذهم شفقة ولا رحمة، ويا ويح بلاد يطلق العنان لرعاعها، ويحرضون على الانتقام من مخالفيهم مذهبا، فإن التاريخ يشهد أنهم كانوا يفتكون بالألوف ولا يملون، ويرتكبون أقبح الموبقات مع أسيادهم الذين هم غرس نعمتهم، وأي عمل أقبح من أن تربي ولدا مسكينا في بيتك، وتأتمنه على أولادك وأموالك، ثم تراه وقت الشدة مقبلا إليك كالوحش الضاري والخنجر في يده يغمده في صدرك وصدور أولادك لكي يغتنم أموالك، الوحوش الضاربة لا تصل إلى هذه الشراسة، ولكن ابن آدم يقدم عليها عفوا إذا ثار في صدره ثائر الحمس الديني، كذا فعل اليهود بالنصارى والنصارى باليهود، وأهل الشيعة بأهل السنة وأهل السنة بأهل الشيعة، ولا تزال أمثال هذه الفظائع تجري في بلدان المشرق، وإن زالت الآن من بلدان المغرب حتى لقد يقف المرء حائرا بين فوائد الأديان ومضارها، وأيها أكثر لنوع الإنسان، وإن شئت فقل المتنطعين في الأديان؛ لأن الدين بريء مما يفعله المتنطعون فيه باسمه.
أهالي دمشق من مسلمين ونصارى من ألين الناس عريكة، وأكثرهم وداعة، وقد عاشوا السنين الطوال متآلفين متحابين والنصارى قلال العدد جدا، وكأنهم عائشون في حمى المسلمين، وهؤلاء أهل تقى ومسالمة ولا سيما الكبراء منهم، ولكن لما أراد ذوو الشأن أن يوقعوا الجفاء بينهم وبين المسيحيين لأغراضهم، لم يتعذر عليهم أن يجدوا من يجيب نداءهم من العامة، فحرضوهم وأطلقوهم فانطلقوا كالنار في الهشيم يذبحون ويفتكون إلى أن جرت الدماء أنهارا، وحل بالمسيحيين هناك ما لم يحل بهم مثله من زمن الفتح إلى الآن، ولولا بعض الصلاح ذوي الشهامة والنجدة لما أبقى الأشرار على أحد. كل ذلك، والوالي متسلح بالأوامر السرية التي في يده وغير خائف أن يطالب بشيء مما فعل.
ووصلت أخبار هذه المذابح إلى بيروت، وهاجر إليها من بقي حيا من نصارى دمشق وسائر مدن الشام التي أصابها ما أصاب دمشق، فازدحمت بهم منازلها وشوارعها وبساتينها ، حتى كنت ترى عائلتين أو ثلاثا في غرفة واحدة، بل أخرجوا الدواب من مزاربها وسكنوها، والأولاد المعتادون رفاهة العيش كانوا يفتشون عن أوكار النمل ليأكلوا ما فيها من الحبوب، وإذا أصاب أحدهم رغيفا اجتمع حوله عشرون من أمثاله يقاسمونه إياه.
Shafi da ba'a sani ba