فقال الأمير: أنا ابن الدولة وعبدها المطيع. وكان كلام الكولونل روز لا يزال يتردد في ذهنه؛ وهو أنه إذا دارت الدائرة على النصارى تبادر دولة من الدول الأوروبية إلى احتلال بلادكم. وصمت قليلا ثم قال: ولكن هل تأذنون دولتكم لي في الكلام بحرية وصراحة؟ فقال الوالي: قل ما تشاء. فقال: هب أن الحرب الأهلية نشبت وأننا انتصرنا على خصومنا بمعونة الله وبتأييد دولتكم لنا، أفلا تكون النتيجة أن دول أوروبا ترسل مراكبها الحربية وتحتل البلاد حالا؟!
فتبسم الوالي وقلب شفتيه، وقال: كن مطمئن البال من هذا القبيل، فإن دول أوروبا متخاصمة متناظرة، ولا يمكن لدولة منها أن تسمح لأخرى باحتلال هذه البلاد، وأحب ما علينا أن تقع المنافسة بينهم حتى نخلص من شرهم.
الأمير أحمد: حلمك يا أفندينا، فأنا قرأت في التاريخ أن دولة واحدة منهم تحسب حامية المسيحيين في الشرق والدول الباقيات يسلمن لها بهذا الحق.
فقطب الوالي وجهه لكنه قال: إن هذا الكلام حبر على ورق، فدولة فرنسا تدعيه ودولة المسكوب تنازعها فيه، والحق للقوة، ألا ترى أن الفرنسويين ساعدوا محمد علي، والإنكليز قاوموهم وغلبوهم، وأنا واثق أن الإنكليز معنا في هذه النوبة أيضا، ولذلك لا ألومك لأجل ترددك على قنصلهم ألا ترى أنه معنا.
والتفت الأمير أحمد حينئذ إلى الجامع فرأى الناس قد أخذوا في الخروج فقال في نفسه: إنني أخلص من مشكل وأقع في آخر! لكنه كان قوي البداهة، فأجاب الوالي قائلا: نعم، إني أرى منه كل تشجيع لنا وغيرة على دولتنا، ويظهر لي من كلامه أن الإنكليز لا يزالون مخاصمين للفرنسويين، ولا يهون عليهم أن تحتل فرنسا هذه البلاد.
وكانت الجماعة قد خرجت من الجامع كما تقدم، فسار الوالي والأمير أحمد معه، وخرجا من الباب الخارجي كأنهما صليا مع الجماعة وخرجا معها، وهو أمر عادي للولاة والحكام يدخلون المعابد ويقفون في صحنها يتحدثون مع خواصهم في شئون مختلفة، وهم يحسبون أنهم أتوا وعبدوا مثل غيرهم، كأن الكبراء معفون من القيام بشعائر الدين، وسري عن الأمير أحمد؛ لأنه كان يكره الرياء ولكنه لم يكد يسير في الشارع مع الوالي، حتى رأى المرأة التي ديس ولدها واقفة له في المرصاد، وهي تصيح وتصخب فسأل الوالي عن قصتها، فقيل له إن جوادا من خيل الأمير داس ابنها، فوقف وأدار رأسه إلى الأمير وشمخ بأنفه كأن لسان حاله يقول له: مسكتك وكيف تنجو من يدي. فقال الأمير: نعم، إن ابنها وقع في الطريق، فرفسه فرس رجل من أتباعي، ولكن المسألة عرضية.
فقال الوالي: ألم يدسه فرسك؟ فقال الأمير: كلا بل فرس رجل من أتباعي وهو له ليس لي، ومع ذلك فالمسألة عرضية وقد نقل إلى المستشفى.
فأسف الوالي على ما بدر منه، وأراد أن يمحو تأثير كلامه من ذهن الأمير أحمد، فدعاه لزيارته حينما ينزل ثانية إلى بيروت، وقال لرئيس الضابطة وكان سائرا وراءه: خذ هذه المرأة من هنا ولا تدعني أرى وجهها. ثم ودع الأمير أحمد وسار في طريقه، فوقف الأمير إلى أن أبعد عنه، ثم ركب جواده وأسرع إلى بيت عمه وهو لا يصدق بالنجاة من هذه المشاكل المتوالية.
فلما وصل إلى بيت عمه وجد عمه والبعض من مشايخ البلاد في انتظاره فهنئوه بالسلامة؛ لأن أحد أتباعه كان قد سبقه إلى هناك وأخبرهم عن التقاء الوالي به، وأخذه معه إلى الجامع بعدما جرى للولد ما جرى، وكانوا يخافون أن يمنع من دخول الجامع مع الوالي، أو يأخذه الوالي بجريرة الرجل الذي داس فرسه الولد، فتفضي الحال إلى ما لا تحمد عقباه، فلما وصل قص عليهم ما جرى له مع الوالي في صحن الجامع وكلام الوالي له، وكانوا كلهم من رأي الوالي، ويظنون أن إنكلترا تساعدهم نكاية في فرنسا، أما هو فأكد لهم أن إنكلترا لا تساعدهم بل تطلب منهم أن يلزموا السكينة ولو اعتدي عليهم، فقالوا: له إذن تكون العاقبة وخيمة علينا، ولا نعود نستطيع السكن في البلاد، بل نضطر أن نرحل منها، وأروه مكاتيب واردة إليهم من دروز حوران ووادي التيم، فقرأها وتمعن فيها مليا وجاراهم في الحديث، ثم جلسوا للطعام وغيروا موضوع الكلام أمام الخدم، وجلسوا بعد ذلك ينظرون في تدبير المال اللازم لما يقصد من الأعمال؛ لأن الوالي وعد بكل مساعدة حتى بالرجال والسلاح، ولكن خزينته أفرغ من جراب أم موسى، وكان الخواجه بخور قد انتقل إلى بيروت، بعدما وقف على رأي الأمير المغربي، فزاره عم الأمير أحمد وطلب منه أن يقرضه ألف كيس؛ أي خمسمائة ألف غرش، وهو يرهن له ما يملكه من الزيتون في صحراء الشويفات، واختلفا على المدة ومعدل الربا؛ فالأمير طلب أن تكون المدة أربع سنوات، ويكون الربا اثني عشر في المائة، والخواجه بخور طلب أن تكون المدة سنتين فقط، ويكون الربا عشرين في المائة ، وأن الأمير أحمد يضمن الدين مع عمه، ولذلك لم يتفقا.
وجاء الخواجه بخور حينئذ لرد الزيارة ومشاهدة الأمير أحمد؛ لأنه كان يعرف أباه وكان بينهما صداقة قديمة، ولم تطل إقامته حتى اتصل الكلام إلى مسألة الدين. فقال الخواجه بخور: لقد بلغت الديون التي استدانها منا جمهور المشايخ والبكوات حتى الآن أكثر من ثلاثين ألف كيس، وكلها بفائدة عشرين في المائة، فلا يخلصنا أن نعطيكم بأقل من هذه الفائدة؛ لأن النقود صارت عزيزة في هذه الأيام، ولا سيما بعدما عقدت فرنسا قرضا وعقدت سردينيا قرضا آخر استغرقا كل الأموال التي في أيدينا، وأنتم تعلمون مقدار القلاقل المنتشرة في البلاد كلها، ولولا علمي أن الفوز يكون لكم أخيرا؛ لأن الدولة معكم، ما كنت أخاطر بغرش واحد، ولكن مع ذلك من يدري ماذا تكون العاقبة.
Shafi da ba'a sani ba