إذا تلون أهل الجور ألوانا
يا للرجال لداء لا دواء له
وقائد ذي عمى يقتاد عميانا
ولا تحسبن العمران الغربي مزبلا لهذه الشكوى وشافيا من هذا الداء. كلا، بل إن مطامع أهل الغرب تفوق مطامع أهل الشرق، ودهاتهم من رجال المال ورجال السياسة يتذرعون إلى نيل مآربهم بكل وسيلة، ويستحلون كل عمل، فيدخل روادهم بلادا بعيدة، ويخاتلون صاحبها حتى يعاهدهم معاهدة لا بد له من الإخلال بها، ثم يتعقبونه إلى أن يستولوا على بلاده أو على خيراتها بحجة مخالفته لذلك العهد، ولا بد من ذلك ما دام هذا التنازع للبقاء سنة للكون. •••
في غرفة من غرف الدار الكبيرة التي يسكنها الأمير أحمد أرسلان، وقد سكنها أبوه وجده من قبله، جماعة من الأمراء والمشايخ والعقال اجتمعوا على أثر عودة الأمير أحمد من عند الكولونل روز، وتداولوا في أحوال الجبل، فقص عليهم الأمير ما قاله له الكولونل وما قاله الوالي، وجعل كل يبدي رأيه، ويعيد تاريخ الجبل، ويذكر أسباب الأحقاد القديمة من عهد آل تنوخ وآل معن، وتعرض الدول الأوروبية لإبراهيم باشا، وكيف استتبت السلطة للباب العالي على البلاد بمساعدة دولة إنكلترا، ولولاها ما استطاعت الدولة العلية أن تخرج إبراهيم باشا من بلاد الشام، بل كان نصف رجال الدروز الآن منتظمين في سلك الجنود المصرية.
وبعد كلام طويل في هذا الشأن تناول الحديث شيخ أشيب من التلاحقة، وقص عليهم ما فعله السنيور ود قنصل الإنكليز في دمشق الشام منذ ثماني عشرة سنة، لما هرب الأمير أمين أرسلان والأمير أسعد شهاب ونحو ألفين من الدروز إلى حوران فرارا من عمر باشا، الذي اعتقل أمراء الدروز ومشايخها، وكاد يوقع بكل عظيم منهم، فإن والي الشام أوجس منهم شرا، لا سيما وأنه يعلم ما فعل الدروز بعساكر إبراهيم باشا في تلك البلاد الوعرة، فجمع أعوانه واستشارهم في الأمر، فأشاروا عليه أن يلجأ إلى السنيور ود لكي يقنع الدروز بالعودة إلى الطاعة والرجوع إلى أوطانهم، والظاهر أن السنيور ود سر بذلك؛ لأنه كان يود أن يتوسط أمر الدروز من نفسه، ويخشى أن لا تقبل وساطته على حد قولهم «كل معروض مرفوض»، فقبل الوساطة على شرطين؛ الأول: أن يطلب العفو لأولئك الرجال من الباب العالي، والثاني: أن يؤمنوا على أرواحهم إلى أن يأتيهم العفو، فقال له الوالي أحمد باشا: إني أسمح لهؤلاء العصاة أن يقيموا في دار القنصلية إلى أن يصل فرمان العفو من الباب العالي، وأطلق كل أقاربهم الذين قبض عليهم وأدعهم يقيمون معهم في دار القنصلية.
فبعث السنيور ود ترجمانه إلى حوران، ومعه أمر الوالي بالمهادنة إلى حين وصول العفو من الأستانة، وكتب معه إلى الأمراء والمشايخ ضامنا لهم سلامتهم بناء على ضمانة الوالي له، وناصحا لهم لكي يسلموا وينزلوا إلى دمشق، وبعد أيام قليلة عاد الترجمان ومعه الأمير أسعد شهاب - وكان قد انضم إلى الدروز؛ لأنهم وعدوه بالولاية على الجبل - والشيخ يوسف عبد الملك وغيرهما من مشايخ الدروز وسبعمائة من أتباعهم، ومضى السنيور ود إلى الوالي بمشايخ الدروز، فرحب الوالي بهم، وأعطى كلا منهم شالا من الكشمير علامة العفو والرضا، ثم وصل بقية الدروز فضاقت بهم دار القنصلية، ورأى السنيور ود أنه يستحيل عليه أن ينزلهم كلهم في داره إلى أن يرد العفو من الأستانة، فسمح لهم الوالي بالعودة إلى بلادهم ما عدا سبعين من رؤسائهم بقوا في دمشق منتظرين فرمان العفو.
وبعد شهرين جاء الفرمان المنتظر، وفيه أمر صريح بالقبض على أولئك المشايخ وقتلهم وإرسال رءوسهم إلى الأستانة، وكان أحمد باشا قد عزل من ولاية دمشق، وولي علي باشا بدلا منه، فجاء كاخيته إلى دار القنصلية قبلما اشتهر ما في الفرمان، وقال لمشايخ الدروز: علام انقطعتم عن التردد على دولة الوالي؟! فتفضلوا واشربوا فنجان قهوة. فانخدع الشيخ يوسف عبد الملك بهذا الكلام، وسار معه إلى دار الولاية، فقبض عليه حالما وصلها، وبلغ السنيور ود ذلك، فهرع إلى دار الولاية، وأبى أن يجلس إلا ويطلق سبيل الشيخ، فأخبره الوالي بمضمون الفرمان، ثم قرأه له فالتفت إلى أحمد باشا، وكان جالسا مع علي باشا، وقال له: كيف كان الاتفاق بيني وبينك؟ ألم يكن على كذا وكذا؟! وقص على علي باشا واقعة الحال، ثم قال لأحمد باشا: إنك لو ذكرت للباب العالي واقعة الحال كما وقعت تماما، لجاء الفرمان بالعفو حتما، فأجاب أحمد باشا: إنني ذكرت لهم كل ما حدث بالتدقيق، فكانت النتيجة كما ترى، وقال علي باشا: لا بد لنا من العمل بالأمر العالي.
فقال السنيور ود: إن استطعتم أن تفعلوا ذلك فافعلوا، ولكن اعلموا أن إنكلترا لا تخفر ذمة قنصل من قناصلها.
ثم احتدم الجدال بينه وبينهما ثلاث ساعات على غير طائل، وأخيرا قالا له: إنك إن لم تسلمنا كل الرجال الذين عندك برضاك، اضطررنا أن نرسل قوة عسكرية ونستلمهم عنوة.
Shafi da ba'a sani ba