Amin Rihani
أمين الريحاني: ناشر فلسفة الشرق في بلاد الغرب
Nau'ikan
فم الأتون بيروت، وأفق النور بيروت، ومطلع الظلمة بيروت، عروس الحرية هي وعجوز الحرية. يوما تتهادى تحت علم الوطن عفة وكبرا، ويوما تتوكأ على عصاها كيدا ومكرا، يوما تلبس الرعاة العتاة إكليلا من الأزهار، تصعر يوما خدها للظالم، وأمام سدته تعفر يوما وجهها.
بيروت منبر الدستور ومشنقته، بيروت حسناء النظام، وبيروت صخابة الفوضى.
مدينة المدن السورية بيروت، منبت الياسمين والقلام، مغرس الورد والشوكران، القراص فيها يرفع رأسه عزة تحت أزاهر الليمون، والعليق يسرح ويمرح في ظلال النخيل. مدينة الدماء، مدينة المدن، مدينة الخلسة والرجاسة، أخت أورشليم، روحها تئن في الأزقة، نفسها تحشرج في المجاري، قلبها يغرد في البساتين، عينها تدمع في دوائر الحكومة، جسمها يذوب في الموبقات، وعقلها يدق على سندان التفريق في المدارس.
بيروت إحدى وصيفات باريس، هي قمر ينعكس فيه نور المغرب فيضيء المشرق، وتنعكس فيه أيضا ظلمة الغرب، فتزيد الشرق ظلاما. بيروت منبت العلوم، ومغرس الخرافات، هي حقل خصب التربة تزرع فيه أوروبا قمحها وزوانها ووردها وقلامها ، ومع ذلك نراها سائرة إلى الأمام ساهرة صابرة. إذا أقبلت سوريا بيروت أمامها، وإن أدبرت بيروت وراءها. إذا كانت اليوم كآذار من السنة تتراوح في رعدها وبرقها بين الظلمة والنور، غدا تصير كآيار، بل كتموز، كآيار بأزهارها، كتموز بثمارها. إذا كانت اليوم أسيرة شياطين التفريق، غدا تصبح ربة الألفة والإخاء، إذا كانت اليوم عرش التعصب الديني؛ فهي غدا قبره.
مدينة المدن السورية بيروت، وإثمها مثل مجدها؛ كلاهما عظيم، إذا بكت هاج بكاؤها بكاء الأمة، إذا غردت رددت أنغامها بلابل حلب، وشحارير الشام، وحساسين لبنان، وحمام الجليل.
إذا وردت بحيرة الإصلاح «ورد الفرات زئيرها والنيلا»، وإذا أفسدت أفسدت بناتها في السواحل، وعلى شواطئ العاصي والأولى والأردن وبردى.
كلمة باطل تنطق بها بيروت تمسي حجة في دمشق، كلمة حق تصدع بها بيروت تروي غليل القرى الظمآنة، وتبعث في مدن السواحل والسهول روح الجهاد.
أم المدن السورية هي، وعجوز المدن السورية، تعلم بناتها الفضيلة يوما، ويوما تعلمهن الرذيلة، تحمل إليهن نورا، وتحمل إليهن سما، إثمها مثل مجدها؛ كلاهما عظيم، وأعظم من الاثنين واجب فرضه الله على الأمهات: أحسني القدوة يا بيروت يحسن بناتك الاقتداء ... في المروج والجبال، وفي السواحل والسهول، بناتك يستقين من ينابيع علمك وأدبك، من مدارسك، من صحافتك، من منابرك، من مطابعك، فصفي مياها تسقينها بناتك، اخفري السبل، صوني المناهل، تعهدي المسارب، اقطعي يد كل أثيم يشتغل اليوم في تعكيرها أو تخريبها أو تسميمها، اقطعي الأيادي التي تحمل إليها سرا فضول الأديان، وأوحال التعصب، وأوساخ سخافات الأدب والسياسة، طهري ينابيعك، ارحمي بنيك وبناتك.
أشهد ألا نور ولا دخان ولا وحول في سوريا اليوم غير ما كان مصدره بيروت، وأشهد أن بيروت وجه سوريا، وأن «الهوتنتوتي» في هذا الزمان يغسل وجهه ... بيروت قلب سوريا، والعلم يقضي بأن يكون النقل كالقلب والجسم نظيفا نقيا، ولكن المدينة التي تدعى درة في تاج آل عثمان هي درة في أوحال وغبار، تئن فوقها وتحتها الكهرباء، وتبص حولها حباحب الأدباء.
أوحال وأقذار وغبار في أسواق المدينة، وفي آدابها، وفي سياستها، وفي أديانها، ودرة العلم، ودرة الدين، ودرة تاج آل عثمان في هذه الأوحال والأقذار غائصات ضائعات، وماذا يزيل الأوحال والأقذار والغبار؟ لا الصحافة، ولا قرض البلدية، ولا قصائد الشعراء، ولا كلماتي تزيلها. هذه الأقذار من فضول الأعصر والأجيال، ولا يزيلها أبدا سرمدا غير التربية الحقة، والتهذيب الصحيح. تربية أساسها الشجاعة والحمية والصدق والنظافة، وتهذيب أساسه النزاهة والأمانة والإقدام، وحب العدل والوطن، متى تأصلت هذه الفضائل في الرعاة، وفي الرعية، وفي السائدين والمسودين، تصطلح جادات المدينة، وتستقيم جادات الأدب والدين والسياسة، أصلحوا الحياة تصلحوا الحكومة، أصلحوا الحياة تصلحوا المدينة. (2) وادي الفريكة أو العود إلى الطبيعة
Shafi da ba'a sani ba