ولا أريد الإجازة التي نشأت عن هذا المعنى القديم، واستعملت في العصر الحديث لتدل على شيء محدث لم يكن مألوفا فيما مضى من الزمان، وهو هذا الإذن الرسمي الذي تمنحه الجامعات، ومعاهد العلم للذين يتخرجون فيها من التلاميذ، وتبيح لهم به أن يعلموا الأجيال الناشئة ما تعلموا من الأجيال الماضية.
لا أريد إجازة الأستاذ القديم لتلميذه القديم، ولا إجازة التدريس التي تمنحها الجامعات الحديثة للتلاميذ المحدثين، متأثرة في تسميتها بالجامعات الأوروبية في القرون الوسطى، أكثر من تأثرها بسنتنا الموروثة وتقليدنا القديم.
ولا أريد الإجازة التي تصدر عن الملوك والأمراء وأشباه الملوك والأمراء إلى الشعراء والكتاب، فتمنحهم الجوائز السنية من الذهب والفضة والجوهر، ومن الإبل والشاء والطعام والثياب، وإنما أريد الإجازة بمعناها الشائع الحديث بين الموظفين من جهة، وبين الطلاب والتلاميذ نقلا عن الموظفين من جهة أخرى؛ فلم نكن أيام الشباب نطلق لفظ الإجازة على ما يتاح للمعلمين والمتعلمين من أيام الفراغ، وإنما كنا نسمي ذلك تسمية أخرى يسيرة واضحة قريبة الدلالة، كنا نسميها «المسامحة ».
وكنا نعرف المسامحات الطوال حين يقبل فصل الصيف، وحين يظل شهر رمضان أساتذة الأزهر وتلاميذه أثناء الشتاء، والمسامحات القصار حين تعود الأعياد وتظل المواسم.
وكنا نفهم من هذه الكلمة أن النظام الأزهري أو المدرسي يسامح المعلمين والمتعلمين، ويأذن لهم في أن يستريحوا من جهد الدرس ومشقة الطلب وخشونة الحياة، وفي أن يعودوا إلى أهلهم في المدن والقرى؛ ليجدوا عندهم أياما فارغة، تستريح فيها العقول، وتنمو فيها الأجسام، وتستمتع فيها النفوس بشيء من الروح والهدوء.
وكانت كلمة المسامحة هذه تؤدي معناها في قوة ويسر، لا نكاد ننطق بها حتى نفهم منها الراحة والدعة والحرية والنوم إلى أن يرتفع الضحى، لا نستيقظ قبل أن ندعى إلى صلاة الفجر لنشهد الصلاة ونسمع الدروس، والنوم إذا زالت الشمس واجتمعنا حول مائدة الغداء وتفرقنا عنها، لا نعجل عن ذلك بدرس النحو أو درس البلاغة، والسهر حتى يتقدم الليل فيبلغ نصفه أو يتجاوز النصف، نسمر أثناء ذلك بما يسلي ويلهي، ولا نشق على أنفسنا بتلك المشكلات العلمية التي كانت تكلفنا ألوان العناء.
ولست أدري كيف أعرضنا عن كلمة المسامحة تلك السمحة الحلوة التي يمتد بها الصوت ويشارك في النطق بها الحلق واللسان والشفتان، إلى كلمة الإجازة هذه القصيرة التي اجتمع بعض حروفها على بعض فلا يكاد الصوت يمتد بها، ولا تكاد النفس تجد حين يجري بها اللسان شيئا من راحة أو دعة أو هدوء.
وأكبر الظن أن الموظفين هم الذين أدوا هذه الكلمة إلى أبنائهم، فاصطنعوها ليدلوا بها على أيام الراحة والفراغ، يرون في اصطناعها شيئا من ترف، ويقلدون آباءهم حين يدلون بهذه الكلمة على ما تمنحهم الدولة من أيام الفراغ في كل عام.
ومهما يكن من شيء، فإني أريد أن أتحدث عن الإجازة بهذا المعنى الذي يستعملها فيه الموظفون والمحدثون من الطلاب والتلاميذ، وهو هذه الأيام الطوال أو القصار التي تمنح للموظفين والطلاب والتلاميذ، والتي نمنحها نحن لأنفسنا حين نكون أحرارا لا من أولئك ولا من هؤلاء، نرفه فيها على أنفسنا، ونستريح فيها من عناء الأعمال، كما يقال.
وواضح أني إنما أتحدث عن هذه الإجازة؛ لأني منحت نفسي إجازة أريح فيها وأستريح من هذا العناء الطويل الثقيل الذي أنفقت فيه العام، فتعبت وأتعبت، وشقيت وأشقيت، وأحسست الحاجة إلى أن أريح نفسي من التعب والإتعاب، ومن الشقاء والإشقاء، وأريح الناس الذين يتصلون بي من قرب أو بعد أشهرا أو أسابيع، فلا أفكر فيهم ولا يفكرون في، ولا أشقى بالكتابة لهم ولا يشقون بالقراءة لي، ولا أضني نفسي بالاتصال بهم ولا يضنون أنفسهم بالاتصال بي.
Shafi da ba'a sani ba