وإنما الذي أشك فيه شكا كثيرا، هو أن المصور حين يرسم البيت الحقير لا يزيد على أن يرسم بيتا حقيرا، ولا يزيد على أن يشعرك بأنه قد أتقن التصوير أو لم يتقنه.
وأكبر الظن أن كثيرا من آيات المصورين لا تثير الإعجاب بالجمال وحده، ولكنها تثير وراء هذا الإعجاب عواطف أخرى قد تغير من اتجاه الإنسان في حياته، وقد تحوله عن طريق إلى طريق، وقد تدفعه إلى محاولات عملية تغير من حياته ومن حياة الناس من حوله، وأمر الموسيقى كأمر التصوير وغيره من الفنون الرفيعة المختلفة.
وكل ما يمكن أن يسلم للكاتب، هو أن الأدب أصرح وأفصح وأوضح دلالة من الفنون الأخرى التي تعتمد على الرمز والإيماء أكثر مما تعتمد على التعمق والاستقصاء الدقيق؛ فإذا استباح جان بول سارتر لنفسه أن يلزم الأدب ويحمله التبعات لأنه يعيش في بيئة، فيجب أن يصور هذه البيئة ويصلحها ويحتمل معها تبعاتها، فقد يجوز أن نطالب المصورين والموسيقيين والمثالين بمثل ما نطالب به الأدباء من الالتزام واحتمال التبعات، ويخيل إلي أنهم لم ينتظروا أن نطالبهم بهذا الالتزام! فالذين صوروا مشاهد الدين وأقاموا المساجد والكنائس والتماثيل التي تصور هذا الشخص أو ذاك وهذه الفكرة أو تلك، مهما تكن شخصيتهم وعبقريتهم واستقلالهم، قد تأثروا بالبيئة التي عاشوا فيها وأثروا في هذه البيئة وفي البيئات الأخرى التي عاصرتها أو تبعتها؛ فهم إذن ملتزمون مشاركون في احتمال التبعات.
وقد يكون الفرق عظيما هائلا بين تصريح الأدب وتلميح التصوير، ولكن الشيء المحقق أن تأثير الفن في إذكاء العواطف الدينية مثلا، ليس أقل من تأثير الكلام.
وملاحظة أخرى: يخيل إلي أن جان بول سارتر لم يوفق فيها للصواب كله، وهي التي تتصل بالشعر؛ فهو يريد أن يلزم الشعر كما يلزم النثر، وهو يتوسل إلى ذلك بنفس المنهج الذي أعفى به الفنون الرفيعة الأخرى من الالتزام، وهو يعترف بأن الشعر يأتلف من الألفاظ التي يأتلف منها النثر، ولكنه يرى مصيبا أن نظر الشاعر إلى الألفاظ مخالف أشد المخالفة لنظر الناثر إليها؛ فالألفاظ عند الناثر وسائل لا أكثر، وهي عند الشاعر غايات يريد الكاتب بألفاظه أن يؤدي المعاني، ويريد الشاعر أن يجد في الألفاظ نفسها جمالا خاصا يستكشفه ويحققه بما يحدث بين هذه الألفاظ من الائتلاف.
ولا يستطيع جان بول سارتر أن يقصر عناية الشاعر على الألفاظ وما يكون من ائتلافها واختلافها؛ فهناك معان وحقائق يحاول الشاعر أن يدل عليها بشعره، ولكن هذه المعاني والحقائق ليست هي الأشياء التي يقصد إليها الشاعر مباشرة حين ينظم الشعر، وإنما هو يجد هذه المعاني في نفسه ويجد هذه الحقائق في الخارج، ويحاول أن يتخذ من الألفاظ رموزا لها وصورا تدل عليها من بعيد.
وإذن فلا حرج على الشاعر إذا لم يلتزم، ولم يحتمل التبعات، ولم يتصل بحقائق الحياة الواقعة الإنسانية متأثرا بها مؤثرا فيها دافعا إلى تغييرها إن احتاجت إلى التغيير، وإلى صيانتها إن احتاجت إلى الصيانة والبقاء، وهذا حق في جملته، ولكن جان بول سارتر إنما يتحدث عن الشعر المعاصر عند بعض الأوروبيين، أو عن بعض المذاهب لبعض الشعراء المعاصرين.
وأمامه مشكلة خطيرة لم يحلها، بل لم يحاول أن يحلها، بل لم يشر إليها من قريب أو بعيد، وهي أن الإنسانية المثقفة تكلمت شعرا قبل أن تتكلم نثرا، وأدت بالشعر أغراض الحضارة كلها في وقت من الأوقات؛ فقد كان الشعراء إذن يلتزمون ويحتملون التبعات، يتأثرون بالحياة الواقعة، ويؤثرون فيها إلى حد أن كان الشعر بالقياس إلى الإنسانية القديمة مصدرا خطيرا من مصادر التاريخ.
ومن أسخف السخف أن يقال إن شعراء الإلياذة والأودسة والشعراء الغنائيين والممثلين عند اليونان والرومان وفي العصر الحديث، لم يكونوا يلتزمون ولم يكونوا يقصدون إلى المعاني في أنفسها، ولم يكونوا يتخذون الألفاظ وسائل إلى هذه المعاني.
وهناك حقيقة أدبية أخرى لم يلتفت إليها جان بول سارتر مريدا أو غير مريد ألا يلتفت إليها، وهي أن الكتاب الناثرين قد يذهبون مذهب الشعراء، فيعنون بالألفاظ في أنفسها ويتخذونها غاية فنية، ومظهرا من مظاهر الجمال، ووسيلة إلى إثارة الإعجاب والبهجة اللذين يثيرهما الشعر.
Shafi da ba'a sani ba