ولعل القراء يلاحظون أن أدب أبي العلاء قد نشأ في عصر فساد وفتنة واضطراب، وأنه كان تنبؤا بكوارث خطيرة لم تلبث أن صبت على العالم الإسلامي حين أغار عليه الصليبيون، وأن أدب فرانز كفكا قد نشأ في عصر فساد وفتنة واضطراب، وكان تنبؤا مروعا بكوارث خطيرة لم تلبث أن صبت على العالم بإعلان الحرب العالمية الثانية.
وقد احتفل العرب منذ أعوام بالعيد الألفي لأبي العلاء، وأكبر الظن أن الأوروبيين لن ينتظروا ألف سنة ليحتفلوا بفرانز كفكا، ولكنهم سينتهزون أقرب الفرص للاحتفال به، وسيتبينون - إن لم يكونوا قد أخذوا يتبينون بالفعل - أن أدب فرانز كفكا قد كان من الخصب والقوة بحيث أخذ يترك في الآداب العالمية آثارا بعيدة عميقة، ليس إلى محوها من سبيل.
ملاحظات
ما زال الأدباء الفرنسيون يجادل بعضهم بعضا، حول موضوع يراه بعضهم خطيرا، ويراه أكثرهم لا خطر له، وهو التزام الأديب حين ينشئ أدبه ، واحتماله تبعة ما يكتب بأوسع معاني هذه الكلمة، كلمة التبعة، واتصاله حين يكتب بحقائق الحياة الواقعة التي تحيط به.
وقد عرضت هذا الموضوع عرضا مفصلا في هذا المكان نفسه من «الكاتب المصري» في أول شهر أغسطس الماضي، وكنت أظن أنها خصومة قد انقضت أو توشك أن تنقضي، ولكنها فيما يظهر ما تزال قائمة، وما يزال الكتاب الفرنسيون يبدئون فيها ويعيدون.
وصاحب هذا الرأي هو جان بول سارتر أديب «الوجوديين» الفرنسيين في هذه الأيام؛ فهو الذي يكتب في هذا الموضوع فيطيل، وهو الذي لا يسأم التكرار في هذه القضية، حتى كأنه يتحدى خصومه ويريدهم على أن يجادلوه أو يعطوه أيديهم وينزلوا عند رأيه.
وقد استأنف الحديث في هذه القضية في مجلته «العصر الحديث» منذ أشهر، فبدأ في نشر دراسة مفصلة، عنوانها «ما الأدب؟» وموضوعها الدقيق هو التزام الأديب حين يكتب، واحتماله تبعة ما يكتب، ووجوب أن يكون متصلا حين يكتب بما يحيط به من واقع الحياة.
وقد وصل إلي أكثر ما كتب في هذه الدراسة الأخيرة، وقد نشر في عددي فبراير ومارس من هذا العام، وما زالت لهذه الدراسة بقية نشرت في عدد أبريل الذي لم يصل إلى الآن، ولعلها تجاوزت هذا العدد إلى عدد مايو أيضا، وما كان بي أن أعود إلى هذا الحديث لولا أن الدراسة التي ينشرها جان بول سارتر، قيمة حقا، فمن النافع أن يلم بها قراء اللغة العربية، ولولا أن في هذه الدراسة القيمة ملاحظات مختلفة يتصل بعضها بالفن الخالص ويتصل بعضها بالأدب ويتصل بعضها بالفلسفة، ويمس بعضها ما يكون بين الكاتب وقارئه من صلة، ومن النافع كذلك أن يظهر قراء العربية على مثل هذه الملاحظات، ولولا أن في هذه الدراسة القيمة أيضا أحكاما يخيل إلي أنها أرسلت إرسالا، أو أنها نشأت عن التكلف والتحذق والحرص على تحدي الخصوم، ومن النافع لقراء العربية أن يظهروا على بعض هذه الأحكام، وأن يحذروا منها ومن أمثالها.
وقد قسم الكاتب دراسته ثلاثة أقسام، الأول عنوانه: ماذا نكتب؟ والثاني عنوانه : لماذا نكتب؟ والثالث عنوانه: لمن نكتب؟
وقد يكون من الطريف أن يرى القارئ كيف يبدأ جان بول سارتر دراسته عنيفا متحديا لخصومه ساخرا منهم غير حافل بهم وغير متردد في أن يتهمهم بالعناد أو بالغباء؛ فهو يقول في أول بحثه: «كتب إلي مغفل يقول: «إذا أردت أن تلتزم فما يمنعك أن تنضم إلى الحزب الشيوعي؟» وقال لي كاتب كبير التزم كثيرا، وتحرر أكثر مما التزم، ولكنه نسي التزامه وتحرره: «إن أسخف الفنانين أشدهم التزاما، وانظر إلى المصورين السوفييتيين.»
Shafi da ba'a sani ba