وليس أدل على ذلك - إن احتاج ذلك إلى دليل - من أن بشارا كان يمدح الخلفاء والسادة ليأخذ جوائزهم، وكان يهجوهم إذا خلا إلى نفسه وإلى شياطينه.
ونحن نرى في شعر الشعراء في ذلك العصر لهوا وعبثا ومجونا، فنستنبط من هذا كله متعجلين أن الحياة كانت رائقة شائقة وجميلة خلابة، وننسى أن الإسراف في العبث والغلو في المجون والإغراق في اللذات، كل ذلك لا يدل إلا على اختلال الموازين وفساد القيم، وانحراف الناس عن الجادة، وحاجتهم إلى أن ينسوا أنفسهم ويتسلوا عن همهم.
وأقل ما يمكن أن تدل عليه موجة الاستهتار التي اكتسحت بيئات الأدباء في البصرة والكوفة وبغداد، هو أن هؤلاء الأدباء كانوا قد انتهوا إلى لون من ازدراء التقاليد والاستخفاف بالسنن الموروثة والاكتفاء أو الاستعانة بانتهاز الفرص على احتمال الحياة.
ونحن إذا استقصينا الشعر الذي كان يقال في ذلك العصر رأيناه ينحل إلى مدح يصور الرياء في جملته، وإلى هجاء يصور ما في الحياة من خلال تستحق المقت، وإلى مجون يصور الحاجة إلى الهرب من هذه الحياة والتخفف من أثقالها، ثم إلى زهد يصور النظر إلى الحياة على أنها جد، ولكنه جد يشيع اليأس في النفوس، ويدفع العاقل إلى أن ينسى حاضره ويتسلى عن يومه ليفكر في غده، وليستعد لما يهيأ له بعد الموت.
ومع هذا كله فقد أخذ العقل الإسلامي يظهر عناية شديدة بالمشكلة الفلسفية الكبرى، مشكلة الاختيار والجبر، وما تستتبع من مشكلة الأمل واليأس، كما أخذ العقل الإنساني يتعمق النظر في شئون الحياة اليومية على اختلاف فروعها، فينكر أكثرها، ولا يكاد يعرف منها إلا القليل.
ونكاد نحس منذ هذا العصر أن التشاؤم قد أخذ يتصور مذهبا مستقلا له عماده الفلسفي، وله في الوقت نفسه وسائله الأدبية؛ فلم يكن بشار متفائلا، بل لم يكن بشار من التفاؤل في شيء، وإنما كان ساخطا متشائما، يقيم سخطه وتشاؤمه على إخفاقه في إرضاء عقله حين التمس إرضاء هذا العقل في مذاهب الفلاسفة والمتكلمين، فلما لم يظفر بشيء صار إلى هذا الشك البغيض.
وكل ما في الأمر أن التشاؤم يكون باسما أحيانا، وعابسا أحيانا أخرى، وقد يتحول ابتسامه إلى ضحك شيطاني عريض، وقد يتحول عبوسه إلى يأس من كل شيء وقنوط حتى من روح الله، يختلف هذا كله باختلاف المزاج والطبع والبيئة.
وقد كان تشاؤم بشار هادئا باسما أحيانا، وشيطانيا مقهقها في أكثر الأحيان، وليس لهو بشار وتصويره لهذا اللهو فيما روي لنا من شعره إلا مظهرا لهذا التشاؤم، وأحسب أن العابثين من أصحاب بشار كانوا يذهبون مذهبه حين يحسون الإخفاق في إرضاء العقل، وينتهون إلى الشك فيستهزئون بكل شيء، ويسخرون من كل شيء، وينتهزون فرص الحياة.
وما أرى إلا أن حمادا، ومطيعا، ووالبة، وأمثالهم من أصحاب الخلاعة والمجون قد تعرضوا لنفس الأزمة الفلسفية التي تعرض لها بشار، وخرجوا منها على نفس النحو الذي نحاه بشار حين خرج من أزمته.
ومن شباب هذا العصر من تعرض لمثل ما تعرض له بشار، ولكنه لم يخرج من أزمته إلى اللهو والمجون والشك، وإنما خرج منها إلى الجد، فعني بفنون من الحياة يستطيع العقل أن ينتج فيها دون أن يتعرض لمحنة، أو يواجه هذه المشكلات التي لا حل لها، والمؤرخون يحدثوننا عن فقهاء وزهاد عاصروا بشارا وأصحابه، وسلكوا معهم طريقهم الفلسفية، وكادوا يتعرضون لليأس، فشغلوا أنفسهم بالفقه والزهد والنسك عن مواطن الزلل هذه.
Shafi da ba'a sani ba