وأحسبني أصبحت ألأمها كلبا
من أشنع الخطأ إذن أن يقال إن أدبنا العربي في عصوره المزدهرة قد كان أدبا معتزلا مترفعا عن الحياة الواقعة أو مهملا لهذه الحياة، وإنما الذين يقولون مثل هذا القول هم الذين غرتهم ظواهر الأشياء عن حقائقها، فلم يروا في شعر الشعراء إلا مدحا وهجاء ورثاء، ولكنهم لم يتعمقوا هذا المدح والهجاء والرثاء، ولم يفهموا هذه الفنون على وجهها، ولم يدرسوا غيرها من الفنون التي طرقها هؤلاء الشعراء، ولم يروا في نثر الكتاب إلا تنميقا وتزويقا وتأنقا في اختيار اللفظ، وتكلفا في تحرير المعاني، وتصنعا في تعقيد الأسلوب، ولكنهم لم يتجاوزوا هذا إلى ما يمكن أن يكون وراءه من مشاركة في الحياة الواقعة أو ترفع عن هذه الحياة.
والغريب أن الذين يدرسون تاريخ الأدب العربي لا يكادون يفطنون إلى أن أكثر كتابنا إنما كانوا يعملون في المرافق العامة، ويتصلون بالسلطان من قرب أو من بعد، ويتأثرون بالخطوب التي يقتضيها الاتصال بالسلطان والاشتراك في الحياة العامة، ويصورون هذا كله حين يكتبون، سواء أصدروا فيما يكتبون عما يقتضيه العمل أو عما يجدونه في ذوات أنفسهم.
وأنا ألتمس الكاتب العربي أو الإسلامي الذي نفض يده من الحياة العامة نفضا واعتزل الحقائق الواقعة اعتزالا، فلا أكاد أظفر به أثناء هذه العصور الأدبية العربية المزدهرة.
وواضح جدا أن اتصال الأدب بالحياة الواقعة ليس معناه أن ينقطع الأديب عن نفسه، فلا يكتب ولا ينظم إلا فيما يمس هذه الحياة الواقعة. فتصور الاتصال بين الأدب والحياة الواقعة على هذا النحو ضرب من السخف لا غناء فيه؛ لأن الإنسان، ولا سيما حين يكون على ما ينبغي أن يكون عليه صاحب الفن من دقة الحس ورقة الشعور وصفاء الطبع واعتدال المزاج، لا يستطيع أن ينسى نفسه ولا أن يجحد ما يختلف عليها من ألوان الشعور حين يتصل بظواهر الأشياء وحقائقها.
فإغراق الشاعر في الغناء وإلحاحه في وصف الجمال مهما يكن مظهره، ليس معناه انقطاع هذا الشاعر عن الحياة الواقعة واعتزاله في برجه العاجي، وإنما معناه أنه لا ينسى نفسه كما أنه لا ينسى غيره، وأن ذهنه مهيأ لتلقي الانطباعات مهما يكن مصدرها، ثم لتصوير هذه الانطباعات فيما ينشئ من أثر منظوما كان هذا الأثر أو منثورا.
فإغراق أبي نواس مثلا في وصف الخمر وتهالكه على تصوير أهوائه الجامحة ولذاته الآثمة، ليس معناهما أن أبا نواس قد اعتزل حياة الناس وارتفع أو اتضع بأدبه عن المشاركة في هذه الحياة، بل معناه أنه قد آثر نفسه بمقدار قليل أو كثير من إنتاجه الأدبي دون أن ينسى الحياة الواقعة، وإنما هو يشارك فيها حين يمدح الخلفاء والوزراء والأمراء، ويشارك فيها حين يهجو، ويشارك فيها حين يصور الزهد؛ ومن يدري! لعله يشارك فيها أشد المشاركة حين يغرق في وصف الخمر، وحين يصور الأهواء الجامحة واللذات الآثمة؛ لأنه لم يكن يعاقر الخمر ولا يقارف الإثم وحده، وإنما كان فردا من طبقة ألفت معاقرة الخمر ومقارفة الإثم.
فهو إذن لا يصور نفسه وحدها، وإنما يصور طبقة من معاصريه؛ وهو في هذه الناحية مشارك في الحياة الواقعة حين تكون جدا وكدا ومواجهة للمشكلات، وحين تكون عبثا وهزلا ومجونا ومقارفة للموبقات. وهو من هذه الناحية أيضا مرآة للعصر الذي كان يعيش فيه، أو مرآة إن شئت للون من ألوان الحياة في العصر الذي كان يعيش فيه.
ولولا أن الأدباء يشاركون في الحياة الواقعة بأدبهم لما أمكن أن يلهج مؤرخو الآداب بهذه الجمل التي يلحون علينا بها من أن الأديب صورة لعصره ومرآة لبيئته ومن أن الأدب مصدر من مصادر التاريخ، إلى آخر هذه العبارات التي لا تدل في حقيقة الأمر على شيء إلا أن الأدب متصل بالحياة الواقعة مشارك فيها مصور لها، حافظ بحكم هذا كله لخصائصها التي يمكن أن تنقل من جيل إلى جيل، وأن تصبح بعد ذلك موضوعا لدرس التاريخ.
من السخف إذن أن يقال إن أدبنا العربي قد كان معتزلا للحياة الواقعة، منفصلا عنها في تلك العصور، ومع ذلك فقد يمكن أن نلاحظ أن الشعر مثلا قد نأى عن الحياة الواقعة في بعض عصوره حين غلبت العجمة على الحياة الأدبية، وحين تسلط المستبدون من غير العرب على حياة الشعوب واستأثروا لأنفسهم وخاصتهم بالسلطان كله، ولم يشركوا الشعب في قليل أو كثير من هذا السلطان، وإنما قدسوا سلطانهم ليقدسوا أنفسهم، واحتكروا الأمور العامة وحظروا على غيرهم أن يشارك فيها أو يخوض في ذكرها.
Shafi da ba'a sani ba