إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون
إلى آخر الآية، فالثورة في مظهرها خارجية، قد باع الثائرون فيها أنفسهم لله يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون، كما كان الخوارج يصنعون من قبل، وكما كانوا يصنعون من بعد، وكما كان خارجي آخر يصنع في الوقت نفسه، فيكلف الدولة عناء ثقيلا، يقاتل ومعه أصحابه كما كان يزعم في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وهو مساور الذي خرج على الدولة في أعماق إيران.
وأحب أن ألاحظ آخر الأمر أن ثورة الرقيق على الجمهورية الرومانية في إيطاليا قد أثارت كثيرا من القول، فكتب فيها المؤرخون القدماء وكتب فيها المحدثون، بل تأثر بها بعض المحدثين في آرائهم الاجتماعية والسياسية، وما زالت تلهم الكتاب الأوروبيين إلى الآن، وهذا هو الذي دفعني إلى أن أعرض لهذا الموضوع في هذا الحديث.
فقد قرأت في هذه الأيام الأخيرة قصة رائعة للكاتب المجري أرتور كوسلر، موضوعها «سبارتاكوس وثورة الرقيق على روما» فسألت نفسي: ما بال ثورة الزنج لم تحدث في حياتنا الأدبية مثل ما أحدثته هذه الثورة الإيطالية القديمة؟ لقد سجل المؤرخون أحداثها كما سجل المؤرخون الرومانيون أحداث الثورة الإيطالية، وقال الشعراء المعاصرون في الثورة كثيرا من الشعر، كما تحدث الأدباء الرومانيون من قبل في اللاتينية واليونانية عن ثورة سبارتاكوس، ولكن الأوروبيين لم ينسوا تاريخ روما وأحداثه، ولم ينظروا إليه على أنه تاريخ ليس غير، وإنما جعلوه جزءا من حياتهم ومن حياتهم الواقعة التي يحيونها بالفعل؛ فهم يستلهمونه كما يستلهمون التاريخ اليوناني وكما يستلهمون أساطير اليونان والرومان، وكما يستلهمون التوراة فيما يكتبون من نثر وما يقرضون من شعر، فأما نحن فنعرض عن التاريخ العربي إعراضا يوشك أن يكون تاما، لا نكاد نحفل منه إلا بعصر البطولة الذي نجتمع كلنا على حبه والإعجاب به، فنحن نتحدث عن عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين، ونحن نذكر دمشق عاصمة بني أمية، ونذكر بغداد عاصمة بني العباس، ونذكر القاهرة عاصمة الفاطميين، نذكر هذا كله نلتمس فيه الفخر بالقديم ونلتمس فيه العبرة والعظة أيضا، وقد نلتمس فيه ما يدفعنا إلى الجد ويثير فينا النشاط، ويعزينا عن بعض ما نلقى مما لا يلائم كرامتنا ولا يوافق مجدنا القديم، وكل هذا حسن من غير شك، ولكن من الخير أيضا أن ننظر إلى تاريخنا على أنه مصدر من مصادر الإلهام الأدبي، وعلى أنه جزء من حياتنا الواقعة لم تنقطع بيننا وبينه الأسباب، فنحن ما نزال نشارك القدماء فيما شعروا وفيما أحسوا، لا يفرق بيننا وبينهم إلا هذا التطور الذي لا بد منه للأحياء.
وربما كان من الطريف أن نلاحظ أن كثيرا منا يفكرون في العدل الاجتماعي، ويحسون حاجة الجماعات إليه، ولكنهم ينظرون إلى ما وراء البحر الأبيض المتوسط، ليلتمسوا في أوروبا مصادر هذا الشعور بالحاجة إلى العدل الاجتماعي، ومظاهر المطالبة به والسعي إليه، ينظرون إلى الديمقراطية المعتدلة وينظرون إلى الاشتراكية الدولية وإلى الاشتراكية الوطنية وقد ينظرون إلى الشيوعية في كثير من التردد والاستحياء، ولكنهم لا ينظرون أو لا يكادون ينظرون إلى فكرة المطالبة بالعدل الاجتماعي، كما وجدها المسلمون قبل أن ينتصف القرن الأول للهجرة، وقليل منهم بل أقل من القليل أولئك الذين يحاولون أن يتابعوا نشأة هذه الفكرة وتطورها في البيئات الإسلامية الثائرة، وما أنتجت من ألوان الأدب، قبل أن تتأثر بالثقافات الأجنبية وبعد أن تأثرت بهذه الثقافات، وما كان لها من أثر في حياتنا العقلية المعقدة في الفلسفة والكلام وفي الفقه والأصول، فضلا عن أن يفكروا في استلهام هذا اللون من ألوان الحياة الإسلامية حين يكتبون النثر أو ينظمون الشعر، ومع ذلك فقد كان للمطالبة بتحقيق العدل الاجتماعي أبطال من حقهم أن يدرسوا، ومن حقهم أن يلهموا الكتاب والشعراء، كما جرت المطالبة بالعدل الاجتماعي على المسلمين في جميع أقطار الأرض الإسلامية خطوبا هائلة من حقها أن تدرس وتجلى، ومن حقها أن تلهم الكتاب والشعراء حين يكتبون وينظمون.
وأنا بالطبع لا أريد في هذا الحديث أن أدعو إلى إحياء حركات الخوارج والزنج والقرامطة، كما أني لا أريد أن أدعو إلى أن نستعير من أوروبا هذا المذهب أو ذاك من مذاهب المطالبين بتحقيق العدل الاجتماعي، وإنما أحب أن ألفت أدباءنا إلى أن لنا في المطالبة بالعدل الاجتماعي تاريخا حافلا عظيم الغناء يستحق أن نرجع إليه بين حين وحين، فلعلنا إن فعلنا عرفنا أن المتطرفين من قدمائنا قد سبقوا إلى طائفة من الأصول في تنظيم الحياة الاجتماعية لم تستكشف في أوروبا إلا أثناء القرن التاسع عشر أو في عصر الثورة الفرنسية الكبرى.
فنحن إذن لسنا عيالا ولا يمكن أن نكون عيالا على المطالبين بتحقيق العدل والثائرين على الظلم الاجتماعي من الأوروبيين، وإنما نحن أبعد منهم عهدا وأشد منهم ممارسة لهذا النحو من محاولة الإصلاح. من قدمائنا من طلب الإصلاح الاجتماعي في رفق ولين، ومنهم من طلبه في ثورة وعنف، ومنهم من أثارها حربا شعواء على النظم القائمة فعرضها للخطر، وكاد يمحو سلطانها محوا.
والثورتان اللتان أريد أن ألم بهما في هذا الحديث تصوران لونا من ألوان السخط يستحق أن يطيل الأدباء التفكير فيه، فقد نشأت ثورة الرقيق على روما من عادة بشعة كان الرومانيون قد ألفوها، ولكنها لم تلبث أن تجاوزت مصدرها الضيق وأصبحت ثورة شاملة على النظام الاجتماعي كله في إيطاليا. هذه العادة البشعة التي أنشأت هذه الثورة هي عادة الاستمتاع بمنظر الرقيق المصطرعين، فقد ألف الرومان أن يشتروا الرقيق ويثقفوهم في فنون الصراع الذي ينتهي إلى الموت، حتى إذا برعوا في هذه الفنون عرضوهم على النظارة في الملاعب وأغروا بعضهم ببعض، وجعل النظارة يستمتعون بما يكون بينهم من كر وفر ومن إقدام وإحجام، وبما يسفك بينهم من دماء، وبما يزهق بينهم من نفوس، وكان الرومانيون يؤثرون هذه اللذة الآثمة على كل شيء، ينعمون حين يصرع الإنسان الإنسان، وينعمون حين يصرع الحيوان الحيوان، وينعمون حين يكون الصراع بين الإنسان والحيوان، وكانوا في أعقاب الجمهورية وفي أيام الإمبراطورية يطلبون إلى سادتهم وقادتهم، كما هو معروف، شيئين اثنين: الخبز واللعب.
ففي مدينة من المدن الإيطالية كان رجل من أصحاب الملاعب قد جمع طائفة من الرقيق يثقفهم هذه الثقافة البغيضة، ويعرض صراعهم على النظارة بين حين وحين، فهربت جماعة الرقيق من مدرسة هذا الرجل في مدينة كابو، وكان عددها ينيف على السبعين، وانطلقت أمامها لا تلوي على شيء، واستعان صاحبها بالشرطة فلم تقدر على ردهم، ولكنهم لم يكادوا يتقدمون في هربهم حتى انضمت إليهم أعداد أخرى من الرقيق، لم تكن تتخذ للصراع وإنما كانت تتخذ للخدمة على اختلاف ألوانها، وما هي إلا أن ينتشر النبأ ويتسامع به الناس حتى ينتشر معه هرب الرقيق وانضمامهم إلى هؤلاء الآبقين، ثم لا يقف الأمر عند الرقيق وإنما يتجاوزهم إلى أشباه الرقيق من الفقراء والبائسين الذين يعملون في الأرض والذين لا يعملون، والذين يحتملون من ألوان البؤس ما يطاق وما لا يطاق، وإذا الجماعة تضخم شيئا فشيئا حتى تصبح خطرا تحسب له الجمهورية حسابا، ثم يتجاوز الأمر هؤلاء جميعا إلى ألوان من الناس لم يكونوا رقيقا ولم يكونوا أحرارا فقراء، وإنما كانوا ساخطين على النظام الاجتماعي، يرون فيه ظلما يجب أن يرفع ويطمحون إلى مثل عليا يجب أن تتحقق. من هؤلاء من كان معنيا بالأدب والبيان ومنهم من كان معنيا بالقضاء والمحاماة، وكل هؤلاء قد نسوا مدرسة الصراع وهرب المصارعين، وأصبحوا لا يفكرون إلا في النظام الاجتماعي السيئ الذي كانوا يحاولون تغييره، ولست في حاجة إلى أن أصور سوء النظام الذي كان هؤلاء الناس يثورون به ويسخطون عليه، وإنما يكفي أن ألاحظ أن الثروة الرومانية الضخمة كانت قد انحصرت في أيدي طائفة قليلة من الناس يمكن إحصاؤهم؛ فهم الذين يملكون الأرض ويسخرون فيها الرقيق ويقصون عنها الأحرار، وهم الذين يحتكرون التجارة داخل إيطاليا من وراء البحار، وهم الذين يحتكرون الحكم في جميع أرجاء الإمبراطورية ويستغلونه لا للشعب، وهم بحكم هذه الثروة الضخمة التي صارت إليهم يستطيعون أن ينشئوا الجيوش على نفقاتهم الخاصة، ينشئونها في الأرض الإيطالية، وينشئونها في أقاليم الإمبراطورية ويستعينون بها على تحقيق ما يريدون من المآرب والآمال.
في ذلك الوقت كانت كثرة الأحرار من أهل إيطاليا متعطلة قد فقدت ما كانت تملك من الأرض وأصبحت عالة على الأغنياء، تعيش لهم وبهم، تتلقى منهم رزقها وتمنحهم أصواتها في الانتخاب، كما تمنحهم سواعدها حين يجد الجد وتثار الحرب، وفي هذا الوقت كانت الثورات في الأقاليم منتشرة عنيفة: فثورة في إسبانيا، وأمر مضطرب في آسيا، وفي هذا الوقت كان البحر ثائرا على روما، قد استبد به جماعة من القرصان فتحكموا في المواصلات كما تحكموا في التجارة، وقضوا على سلطان أساطيل الدولة قضاء يوشك أن يكون تاما، فلا غرابة أن يضطرب مجلس الشيوخ الروماني أشد الاضطراب حين يثور الرقيق وتعظم جماعة الثائرين منهم، وينضم إليهم عدد ضخم من الأحرار، ويتعرض النظام كله لهذا الخطر العظيم، وقد أرسل مجلس الشيوخ جيشا لقهر هؤلاء الثائرين وردهم إلى مواليهم، فمضى الجيش حتى ألجأ الثائرين إلى قمة جبل لاذوا بها، وحاصرهم الجيش هناك وقطع عنهم الميرة، وأقام واثقا بأنهم سينزلون على حكمه في يوم من الأيام، ولكن الثائرين احتالوا حتى انحدروا من الجبل إلى مكان أمين وداروا حول الجبل حتى أخذوا الجيش على غرة، فهزموه هزيمة منكرة وقتلوا منه مقتلة عظيمة، وغنموا ما كان في المعسكر من سلاح ومؤنة وأداة، فاشتد بذلك بأسهم وعظمت قوتهم، واشتد خوف مجلس الشيوخ في روما فأرسل إليهم جيشا آخر لم يكن حظه خيرا من حظ الجيش الأول، ثم أرسل جيشا آخر يقوده القنصلان، فلم يصنع هذا الجيش شيئا، وإنما انهزم كما انهزم الجيشان اللذان سبقاه، وكان انتصار الثائرين في كل مرة ينشر لهم الدعوة في إيطاليا نشرا هائلا، ويحرض الرقيق أن يأبقوا ليلحقوا بهم، ويحرض البؤساء على أن ينضموا إليهم، حتى كثف جمعهم، وحتى فقدت المدن الإيطالية الأمن أمام الخطر الداهم الذي يأتيها من خارج من هذا الجيش الضخم، والذي يأتيها من داخل من هؤلاء الرقيق الذين يعملون في الدور والقصور والأرض ودور التجارة؛ ولذلك اهتمت روما لهذا الأمر اهتماما خاصا، فاختارت لقتال هؤلاء الثائرين رجلا ممتازا من رجالها، ممتازا بشيئين: بالثروة الضخمة التي لم تكن ثروة أخرى تعدلها في روما، والتي أتاحت له أن يتحكم في الأغنياء والفقراء جميعا، وبالطموح الهائل الذي لم يكن يعدله إلا عجز الرجل وقصوره عن النهوض بجلائل الأعمال، وهو مع ذلك قد كان يرى أصحابه وأترابه يشغلون المناصب العليا ويدبرون شئون الدولة ويحكمون الأقاليم، وكلهم كان مدينا له بالمال القليل أو الكثير.
Shafi da ba'a sani ba