على أن دالمبير إن انفرد بحب الفتاة فهو لم ينفرد بإكبارها والكلف بحديثها، وإنما شاركه في ذلك جماعة من الذين كانوا يختلفون إلى الدار، يقدمون موعد زيارتهم، ويصعدون إلى حيث كانت الفتاة تقيم، فيتحدثون إليها ويسمعون منها، حتى إذا كان موعد الاستقبال عند مدام دي ديفان في الساعة السادسة من المساء هبطوا إليها، وقد عرفت صاحبة الدار هذا الأمر، فسخطت له أشد السخط ونفت عن دارها مدموازيل دي لسبيناس كما نفت عن دارها أثيرها دالمبير.
وأثيرت حرب شعواء بين السيدة والفتاة، وانقسم الناس في أمرهما انقساما عظيما، كانت له آثار في الأدب الفرنسي، والمهم هو أن أصدقاء الفتاة من الرجال والنساء منحوها كثيرا من العطف والود، واتخذوا لها دارا غير بعيدة من دار مدام دي ديفان، فأقامت فيها وجعلت تستقبل أصدقاءها، وما هي إلا مدة قصيرة حتى أصبح صالونها ممتازا في باريس ينافس صالون مدام دي ديفان منافسة خطيرة حقا.
أقامت في الدار وحدها أول الأمر، ولكن الظروف كانت تريد أن تجمع بينها وبين دالمبير في دار واحدة، وقد كان دالمبير يعيش عند مرضعه في بيتها الحقير، لم يخطر له أن يفارقها، ولكنه مرض مرضا شديدا فقامت على تمريضه مدموازيل دي لسبيناس ولم تفارقه حتى أتيح له الشفاء.
ثم مرضت مدموازيل دي لسبيناس نفسها، أصابها الجدري حتى عرض حياتها للخطر، وقام على تمريضها دالمبير حتى أتيح لها الشفاء.
وكذلك قضت الظروف أن يعيش الصديقان في دار واحدة: تعيش الفتاة في الطابق الأدنى، ويعيش الرجل في الطابق الأعلى، وألف الناس منهما ذلك، فلم ينكروه ولم يضيقوا به، والواقع أن هذا الأمر لم يكن فيه ما يدعو إلى ضيق أو إنكار؛ فقد تحاب الصديقان ولكن في غير ريبة، ومع أن الألسنة لم تمتنع عن التعريض والتلميح في أول الأمر، فقد تبين أن الحب بين الصديقين لم ينزل قط عن مكان الحب الأفلاطوني النقي البريء.
ومنذ ذلك الوقت أصبحت مدموازيل دي لسبيناس علما من أعلام الحياة العقلية الفرنسية، وأصبح صالونها مركزا من مراكز الثقافة العليا في الأدب والفلسفة والفن والسياسة والاجتماع. يختلف إليه مرات في كل أسبوع زعماء الحياة العقلية في باريس، فيحاورون ويجادلون ويقررون أيضا، ويختلف إليه في الوقت نفسه أعلام الأجانب الذين يمرون بباريس أو يقيمون فيها إقامة متصلة.
من هؤلاء الأجانب أدباء وساسة وفلاسفة ممتازون، من الإنجليز، والإيطاليين، والإسبانيين، والألمانيين أيضا، ثم كانت مدموازيل دي لسبيناس وصديقها دالمبير يغشيان الصالونات المختلفة في باريس عند مدام جوفران ومدام دي شوازل ومدام نيكر ومدام هلڤسيوس ومدام دي لكسسبورج، وعند طائفة أخرى من السيدات اللاتي كن يتخذن هذه الصالونات مراكز للحياة العقلية القوية الخصبة.
في هذا الوقت لقيت مدموازيل دي لسبيناس في أحد هذه الصالونات فتى إسبانيا ممتازا امتيازا أجمعت عليه الصفوة الباريسية كلها، وهو مسيو دي مورا. كان ضابطا في الجيش الإسباني، وكان أبوه سفيرا في باريس. لم تكد مدموازيل دي لسبيناس تلقى هذا الفتى حتى صبت إليه، ولم يكد هذا اللقاء يتكرر حتى وقع حبه في قلبها كما وقع حبها في قلبه، ولم يكن هذا الحب عابرا ولا سطحيا، وإنما كان من هذا الحب الذي لا يكاد يبلغ القلوب حتى يستقر فيها ويستأثر بها ويملك عليها كل شيء، ويصبح فتنة لا تجد النفوس عنه منصرفا، ومحنة لا تجد القلوب إلى التخلص منه سبيلا، وقد كان هذا الحب محنة بأدق معاني هذه الكلمة، سعد به العاشقان سعادة تعجز النفوس عن احتمالها وتقصر الألسنة عن وصفها، وشقي به العاشقان شقاء كان سبيلهما إلى الموت.
كان حبا نقيا ممعنا في النقاء، ولكنه على ذلك لم يكتف بنقائه الأفلاطوني وإنما حاول أن يسلك طريقه الشرعية إلى الرضا، فهم العاشقان أن يقترنا، وقامت دون أمنيتهما هذه أهوال ثقال. أهوال مختلفة، بعضها جاء من اختلاف الطبقة، فقد كان الفتى من أرفع الأسر الإسبانية منزلة وأعلاها مكانة، وأعرقها نسبا، وأعظمها ثروة، وأوسعها جاها ونفوذا، وكانت مدموازيل دي لسبيناس كما علمت لا أسرة لها وليس لها نسب إلا هذا الذي يعتز به المتنبي في كثير من شعره، والذي لا يرجع إلى الأسرة وما يكون لها من مجد قديم، وإنما يرجع إلى الشخص وما يستحدث لنفسه من المجد.
فليس غريبا أن تضيق الأسرة الإسبانية بفكرة الزواج هذه وتراها ضلالا وانحرافا عن الجادة، وتقيم في سبيلها العقاب التي لا يمكن تذليلها.
Shafi da ba'a sani ba