على أننا نجد في «كانديد» نماذج أخرى للمرأة كلها غربي، اثنان منهما ألمانيان والثالث إيطالي، فأما النموذج الأول لهؤلاء النساء فكونيجوند عشيقة كانديد تلك التي نشأت في إقليم ألماني في بيت متهدم كان الناس يرونه قصرا عظيما، بين أب سخيف كان الناس يرونه ذكيا، وأم بدينة كان الناس يرونها رشيقة، ومرب أحمق كان الناس يرونه فيلسوفا، وقد نشأ كانديد في نفس القصر الذي نشأت فيه كونيجوند، وقد أحبها وأحبته، والتقيا ذات يوم فأسقطت كونيجوند منديلها والتقطه كانديد فرده إليها، ثم التقت الشفاه واضطرمت الأعين واصطكت الركب وضلت الأيدي، ومر البارون في أثناء ذلك فوكز كانديد وطرده من القصر وخرت كونيجوند مغمى عليها.
ومنذ ذلك الوقت بدأت محنة كانديد، ووضعت أمامه المسألة الهائلة التي وضعت أمام الإنسانية كلها فلم تستطع لها - ولن تستطيع لها - حلا: أقام أمر العالم على الخير أم قام أمر العالم على الشر؟ فأما المربي الفيلسوف فقد كان يرى رأي ليبنتز وهو أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأما ڤولتير فقد كان يشك في هذا كل الشك، وقد اتخذ كانديد وكونيجوند والمربي بونجلوس وغيرهم موضوعا للمحن المتتابعة، يثبت بذلك أن العالم لم يقم على الخير المحض، وأن الذين يقولون: ليس في الإمكان أبدع مما كان، إنما يقولون باطلا من القول وزورا، وإذا كانت كونيجوند تمتاز بشيء فإنما تمتاز بأن شخصيتها سلبية بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها؛ فهي تحب كانديد لأنها رأت المربي يحب خادما من خادمات الدار، ويغمى عليها حين ترى أباها يطرد كانديد، وتتلقى اللطمة من أمها حين تفيق من إغمائها، وتخضع لاستحياء البلغار حين يغيرون على المدينة، وتخدم ضابطا بلغاريا، ثم تباع فيشتريها يهودي يحملها إلى لشبونة، وهناك تصبح شركة بين هذا اليهودي وبين رجل من رجال الدين يرأس محكمة التفتيش، وقد مرت محن أخرى بكانديد انتهت به هو أيضا إلى لشبونة، ولكنه في أثناء هذه المحن الهائلة لم يكن يفكر إلا في شيئين اثنين: حبه لكونيجوند، وإعجابه بأستاذه بونجلوس. وقد لقي كونيجوند وسعد بهذا اللقاء وسعدت هي أيضا بهذا اللقاء، واستنقذها من اليهودي والمسيحي وفر بها إلى أمريكا، وأراد أن يتزوجها هناك ولكنها راقت الحاكم الإسباني فاغتصبها واضطر كانديد إلى الفرار.
وقد طوف كانديد في أمريكا ما طوف، وطوف في أوروبا كذلك ما طوف، لا يفكر إلا في كونيجوند ولا يحيا إلا لكونيجوند، ثم يلقاها آخر الأمر بعد خطوب كثيرة، وإذا هي قد فقدت جمالها وأصبحت امرأة متهدمة قبيحة المنظر سيئة الخلق، ولكنها على ذلك تعتقد أنها ما زالت نضرة الشباب، ولو استطاع كانديد لانصرف عنها، ولكنه رجل شريف فيجب أن يبر بالوعد، وأن يتخذها لنفسه زوجا، فكونيجوند هي صورة المرأة الغافلة التي لا توجد لنفسها ولا تحس وجودها إلا بمقدار.
أما النموذج الآخر فهي هذه العجوز التي لقيها كانديد في لشبونة خادما لكونيجوند، وهي امرأة شيخة ضئيلة ضعيفة، ولكنها ذكية ماهرة ماكرة نفاذة من المشكلات، مذعنة لأحداث الزمان، قد اكتسبت ذكاءها وإذعانها من المحن التي اختلفت عليها؛ فهي إيطالية قد نشأت نشأة عز وكرامة، ثم اختلفت عليها الخطوب، فأسرها لصوص البحر وحملت إلى مراكش ثم إلى الجزائر ثم إلى تركيا ثم وقعت لهذا اليهودي فاتخذها خادما لكونيجوند، وأقامت معها تدبر أمرها وتنصح لها حين تبهظها الحوادث وتسليها حين تضيق عليها الحياة.
وأما النموذج الثالث فهي هذه الخادم باكيت تلك الألمانية التي ألقت أول درس في الحب على كونيجوند، والتي لعبت بها الأحداث هذا اللعب الشائع المعروف فباعت جسمها لتعيش، وما زالت هذه التجارة المنكرة تحملها من بلد إلى بلد ومن بيئة إلى بيئة، حتى ضمها كانديد إلى كونيجوند حين انتهى به وبأصحابه المطاف إلى حديقته تلك التي فرغ للعناية بها على ساحل البحر الأسود.
على أن قصة كانديد لم تخل من نموذج فرنسي باريسي ولكنه بالطبع نموذج سيئ رديء، فليس في هذه القصة أو لا يكاد يكون فيها إلا ما هو سيئ رديء، وهذا النموذج الفرنسي الباريسي هو هذه المرأة التي اتخذت لنفسها لقبا أرستقراطيا، وأقامت في الحي الأرستقراطي، ولكنها في حقيقة الأمر مضطربة بين طبقة الأشراف وطبقة السوقة، فهي تستقبل أخلاطا من الناس فيهم النقي الممتاز، وفيهم الدنس المريب، فيهم الجاهل المغرور، وفيهم العالم المتواضع، وهم يجتمعون إلى مائدتها، فيطعمون ويشربون ويلعبون، ويقيمون حياتهم على ما يفيدون من هذا اللعب كما تقيم هي حياتها على ما تفيد من هذا الاستقبال، وآية ذلك أن كانديد لم يكد يدخل دارها حتى أجلس إلى مائدة اللعب فخسر مبلغا ضخما، ثم استمع لألوان من الأدب والنقد، ثم دعي إلى الغرفة الخاصة، وهناك مكرت به هذه السيدة مكرا يكاد يخلو حتى من الرفق، ولم يخرج كانديد من هذه الدار حتى فقد وفاءه لكونيجوند، وفقد مع هذا الوفاء خاتما ثمينا، وكره باريس وفكر في الفرار منها إلى البندقية.
وقصة أخرى من قصص ڤولتير تعرض علينا من المرأة نماذج أخرى تخالف هذه النماذج التي رأيناها، وهذه القصة هي قصة «البريء» -
I’ingénu - ونماذجها كلها فرنسية لأن القصة تبدأ في بريتانيا السفلى وتنتهي في باريس، وهي هجاء لرجال الدين ولليسوعيين منهم خاصة، فالبيئة إذن بيئة قسس، ونحن نجد في أول القصة قسيسين، يعيش كل منهما مع أخته، فأما أحدهما كركابون فأخته قد تقدمت بها السن حتى استيأست من الزواج على كره منها لذلك شديد، وأما الآخر فأخته سانت إيف في نضرة الشباب، تبسم لها الحياة وتبسم هي للحياة، وفي ذات يوم أقبلت سفينة إنجليزية، فألقت مراسيها ونزل أصحابها فباعوا واشتروا، ونزل معهم فتى غريب الأطوار، ساذج إلى أقصى حدود السذاجة، ظريف إلى أبعد غايات الظرف، جميل الطلعة، رائع المنظر، حسن الموقع من القلوب، ولم يكد يتصل بالقس كركابون وأخته حتى أحبهما وأحباه، ثم استكشفا بعد خطوب كثيرة أنه ابن أخ لهما كان قد ذهب محاربا إلى كندا ثم انقطعت أخباره وأخبار امرأته، وأكبر الظن أنهما قتلا وتركا هذا الصبي فنشئ في بيئة غير متحضرة، وأقبل وقد بلغ الرشد، ولكنه ما زال على فطرته الأولى، وقد أقام إذن مع عمه وعمته، وأحبه أهل القرية حبا شديدا، وجعل عمه يثقفه الثقافة المسيحية حتى استطاع أن يعمده في حفل عظيم، وقد فتن بالآنسة سانت إيف كما فتنت هي به، وعاقت عوائق دون زواجهما، فهو يكلف عميه عناء عظيما ليحقق هذا الزواج، وإنه لفي ذلك وإذا الأسطول الإنجليزي يقبل مغيرا على الإقليم، ويبلي الفتى في رد هذا الأسطول بلاء حسنا، يزيد إعجاب الناس به وإكبارهم له، فيرسله عمه إلى فرسايل ومعه الشهادة بحسن بلائه ليقدم هناك إلى وزير الحرب، ويظفر من الملك بالمكافأة على ما أبلى في الدفاع عن الوطن، ولعله أن يضم إلى الجيش، ولكنه يصل إلى فرسايل ولا يكاد يتصل بوزارة الحرب حتى يكون الكيد قد سبقه إلى القصر فيقبض عليه ويرسل إلى سجن الباستيل، ويلقى في حجرة من حجراته مع رجل تقي عالم من رجال الدين، فلندعه في سجنه يتعلم على هذا القس، ويقرأ ما شاء الله له أن يقرأ من الكتب في فنون العلم والأدب والفلسفة ، ولنعد إلى الآنسة سانت إيف.
فقد طالت غيبة البريء على أهل القرية وانقطعت عنهم أخباره فصبروا وأجملوا الصبر، وانتظروا وأطالوا الانتظار، فلما كاد اليأس يبلغ منهم، سافر عمه وعمته إلى باريس ليتحسسا من هذا الفتى الضائع أو المضاع، وكذلك فعلت الآنسة فخرجت مستخفية من القرية وسلكت طرقا ملتوية حتى انتهت إلى فرسايل، وأخوها وآخرون من أهل القرية في أثرها، يريدون أن يردوها إلى القرية، ولكنها سبقتهم وانتهت إلى القصر، وابتغت وسائلها من رجال الدين وغير رجال الدين حتى علمت أن حبيبها في السجن، فجدت في إنقاذه مفتنة في الجد حتى انتهت إلى رجل خطير من رجال وزارة الحرب، ولم تكد تقص عليه أمرها حتى رق لها وعطف عليها، ولكنه فتن بها فتنة شديدة، وإذا هو يساومها في إطلاق حبيبها من السجن مساومة منكرة، وإذا الفتاة بين أمرين أحلاهما مر؛ فإما أن تحرص على الشرف فتفقد حبيبها إلى آخر الدهر وتعرضه للعذاب المقيم في أعماق السجن، وإما أن تبذل هذا الشرف فتخسر نفسها أولا، وتخون حبيبها ثانيا، ولكن الموظف الخطير يساوم ويغلو في المساومة ويطمع ويسرف في الإطماع، والفتاة مضطربة أشد الاضطراب، مترددة بين الشرف والهوان، وبين الوفاء والخيانة، وقد عادت إلى الدار التي أوت إليها وعرضت قصتها على صاحبة الدار وهي سيدة وجيهة، فرفقت بها السيدة وعطفت عليها، ولم ترد أن تشير عليها أول الأمر، وإنما نصحت لها بأن تستشير قسيسا يسوعيا، وقد عرضت أمرها على القسيس، فسخط على الموظف الكبير أشد السخط، ولكنه لم يكد يعرف اسمه حتى أظهر حزنا ثم ترددا، ثم جعل يغري ولا يغري، ويرغب ولا يرغب، ولكنه أطمع الفتاة في المغفرة آخر الأمر، وضرب لها المثل بما امتحن به بعض القديسات في الزمان القديم، وعادت الفتاة إلى مثواها بائسة، ولكن هذه السيدة الوجيهة اجترأت آخر الأمر وشجعت الفتاة تصريحا على ما شجعها عليه القس تلميحا، وبينت لها أن الأمور لا تقضى في فرسايل إلا بمثل هذا الثمن البشع الشنيع، وقد زلت الفتاة آخر الأمر وظفرت بحرية حبيبها وبحرية رفيقه في السجن، بل ظفرت لحبيبها بالمكافأة والمنصب والمستقبل السعيد، واجتمع المتفرقون كلهم، ورضي بعضهم عن بعض إلا هذه الفتاة فلم تكن راضية عن نفسها، ولم تكن ترى نفسها خليقة بهذا الفتى البريء الكريم، ولكنها أنجته من السجن آخر الأمر، وكان من الممكن أن تجتهد في كتمان خطيئتها وأن تستأنف حياة نقية سعيدة لولا أن الدهر لم يرد لها حتى هذه الحياة النادمة؛ فقد أحبها الموظف الخطير، ولم يقنع منها بما أعطته وإنما أراد أن يستزيد، فأرسل إليها الرسل والهدايا، وكاد القوم أن يفطنوا، وأحست هي أن أمرها قد افتضح، فأخذتها العلة، ولم تكد تأوي إلى سريرها حتى أخذتها الحمى، ثم اشتد عليها المرض واستيقنت الموت فاعترفت لحبيبها وأخيها بخطيئتها، وماتت ضحية للحب إن شئت، وللوفاء إن أحببت، وللندم على فقدان الشرف إن أردت، ولهذا كله ولفساد الحياة الاجتماعية كما أراد ڤولتير، فهذا النموذج الرائع يكاد ينفرد بين نماذج المرأة في قصص فولتير كلها، فالفتاة هنا عاملة لا مستسلمة، وجريئة نشيطة لا تعرف ضعفا ولا فتورا، ومصممة لا تعرف ترددا ولا نكولا، ومغامرة لا تخاف الحوادث ولا تهاب الخطوب، ثم هي بعد ذلك شريفة وفية، سقطت بين الشرف والوفاء، وأدت حياتها ثمنا لهذه السقطة، وأنقذت بعد ذلك رجلين كريمين من عذاب متصل مقيم.
وفي هذه القصة نموذجان آخران من نماذج المرأة الفرنسية كما صورها ڤولتير؛ أحدهما هذه الآنسة كركابون شقيقة القس وعمة البريء، تلك التي تقدمت بها السن وأكرهت على حياة فيها كثير جدا من الخشونة والضيق، وحرمت لذة الزواج ولذة الأمومة فقبلت هذا الحرمان راضية كارهة، إن صح هذا التعبير. راضية لأنها لم تثر ولم تصطنع الحيلة، لتظفر بما حرم عليها، ولم تتورط في الخطيئة لا عن عمد ولا عن غفلة، وإنما احتفظت بالطهر والنقاء، وكارهة لأنها لم تر الشباب إلا ذكرت شبابها الضائع، ولم تسمع ذكر الحب والزواج إلا أسفت في تجمل؛ لأنها لم تأخذ بحظها منهما، ولم تكد ترى الفتى البريء حتى غمرته بما كان مكظوما في قلبها من عواطف الأمومة، والنموذج الآخر هو هذه السيدة الباريسية الوجيهة التي آوت الآنسة سانت إيف، والتي لم تجرؤ على أن تشير عليها إلا بعد أن أشار القسيس، ثم تشجعت فنصحت للفتاة بأن تقبل الحياة كما هي، وبأن تسير سيرة غيرها من النساء حين يحتجن إلى الاتصال بأصحاب الجاه. هذه السيدة تصور المرأة العملية في الحياة الفرنسية العامة أثناء القرن الثامن عشر، فهي لا تتهالك على الإثم راغبة فيه، ولكنها مع ذلك لا تتحرج من الإثم حين تدعو إليه المنفعة، وهي على ذلك تحتفظ بما ينبغي للمرأة الكريمة من مظاهر الوقار والارتفاع عن الدنيات.
Shafi da ba'a sani ba