وليس ڤولتير في قصة كانديد بأقل ازدراء للتاريخ والجغرافيا والحقائق المادية الواقعة منه في هذه القصة التي أشرت إليها آنفا، فالمهم عنده إذن ليس اتساق القصة طبقا للمألوف من حقائق الحياة ولا طبقا للمألوف من هذا الخيال الذي لا يريد أن يمعن في الغرابة ولا أن يغرق في الاختراع، وإنما يصور الوقائع للناس تصويرا تألفه عقولهم وتطمئن إليه أذواقهم على نحو ما عودهم القصاص في العصر الحديث على أقل تقدير، فڤولتير إذن يذهب بقصصه مذهب الشرقيين في ألف ليلة وليلة وفي كليلة ودمنة، وفي هذا القصص الذي يمتلئ بالأعاجيب ويفعم بالخوارق، والذي يكثر فيه الجن وتتكلم فيه الطير، والذي يتخذ هذا كله مع ذلك وسيلة إلى النقد والإصلاح وتصوير الحياة الاجتماعية المعاصرة بما فيها من خير وشر، فلا غرابة إذن في أن تكون عناية ڤولتير بحقائق الأشخاص في قصصه ضئيلة لا تكاد تكون شيئا ذا خطر.
ومع ذلك فهؤلاء الأشخاص يختلفون في حظهم من عناية ڤولتير اختلافا شديدا، فمنهم الأشخاص الأساسيون والأشخاص الإضافيون، إن صح هذا التعبير، ومنهم الرجال والنساء، ومنهم الشباب والكهول والشيوخ، ولكل أولئك خصال يتمايزون بها فيما بينهم، فأين تقع المرأة من هؤلاء الأشخاص جميعا في قصص ڤولتير؟
هذا هو السؤال الذي كنت ألقيه على نفسي وأنا أقرأ قصصه الطوال وأقاصيصه القصار، ويخيل إلي أن في الوقوف عند هذه النماذج التي يقدمها لنا ڤولتير من النساء والفتيات في قصصه شيئا لا أقول من الفائدة العلمية الخطيرة، ولا أقول من المتعة الأدبية الرائعة، ولكن أقول من الفكاهة والغناء اللذين قد يرغبان بعض الباحثين المتعمقين في البحث في أن يحصوا ويستقصوا، وفي أن يحللوا ويعللوا، وفي أن يوافقوا ويفارقوا، لعلهم أن يخرجوا لنا من هذا كله كتابا قيما يشتمل على صور رائعة في الفن والأدب.
فقصة واحدة مثلا من قصص ڤولتير وهي قصة «زاديج» تعرض علينا صورا من المرأة مختلفة أشد الاختلاف، متفقة مع ذلك أشد الاتفاق، فقد هم زاديج وهو فتى حازم حصيف قد منح طبيعة خصبة وبصيرة نافذة، وذكاء بعيدا وثقافة واسعة، هم زاديج أن يتزوج، فخطب فتاة أحبها كل الحب، وفتنت به كل الفتون، وهي سمير، وقد خرج ذات يوم معها يتروضان في ظاهر المدينة، وكان لها عاشق من الأمراء هم أن يخطفها فأبلى زاديج في الدفاع عنها بلاء حسنا حتى استنقذها، ولكن سهما أصابه قريبا من إحدى عينيه، فلما أيأس الأطباء سمير من شفائه صدت عنه، وقالت: إنها لا تحب العور، ثم تسلى عنها زاديج وتزوج من فتاة أخرى فتنت به أشد الفتنة وكونت لنفسها في الحب رأيا صارما حازما ، وأقبلت ذات يوم على زوجها ساخطة أشد السخط، فلما سألها عن ذلك أنبأته بأنها ذهبت تعزي إحدى صديقاتها عن موت زوجها، وكانت هذه الصديقة مشغوفة بزوجها قد نذرت الوفاء لحبه ما دام الجدول المجاور لقبره يمضي في مجراه، وقد أقامت على قبره لا تريد أن تفارقه، ولكن صاحبتنا رأتها تصنع شيئا عجيبا، رأتها تحول الجدول عن مجراه لتخلص من هذا النذر الثقيل.
وقد ارتاب زاديج بقدرة المرأة على الوفاء وبسخط امرأته على صديقتها، فاحتال مع صاحب له وفي ليعلم علم امرأته، فأظهر المرض وتكلف الموت ودفن في حديقة الدار، وأقبل صاحبه على الأرملة يواسيها فكان الحديث حزينا أول الأمر ثم جعل يرق شيئا فشيئا ويعذب قليلا قليلا، حتى انتهى إلى ما يشبه الحب، ثم أظهر الصديق أن نوبة شديدة من المرض قد نابته، فتعطف عليه الأرملة وتريد أن تطب له، ولكنه ينبئها بأن الطب له مستحيل، فليس إلى علاجه من سبيل إلا أن يوضع على موضع الطحال منه أنف مجدوع، فتشك غير قليل ثم تقول لنفسها: وأي بأس على زوجي الفقيد إن لقي الآلهة بأنفه كاملا أو منقوصا! ثم تهبط إلى القبر وفي يدها حديدة تريد أن تجدع بها أنف زوجها الفقيد لتشفي به طحال عاشقها الجديد، فيهب زاديج وقد تبين أن زوجه التي همت أن تجدع أنفه أشد غدرا من تلك التي لم تستطع صبرا على ما نذرت من الوفاء.
فهؤلاء نساء ثلاث يعرضهن علينا ڤولتير في الفصلين الأولين من هذه القصة: إحداهن ضحت بالحب لأنها لا تطيق عشرة العور، والأخرى همت أن تحول الجدول عن مجراه لأنها لم تستطع صبرا عن الرجال، والثالثة همت أن تجدع أنف فقيدها ولما يمض على موته إلا أقصر وقت لأنها وجدت عشيقا جديدا.
وقد استيأس زاديج من حب النساء وذهب في حياته مذاهب مختلفة لم يجن منها كلها إلا شرا. هم أن يعيش عيشة الأغنياء فوشي به في القصر، وهم أن يعيش عيشة العلماء فوشي به عند رجال الدين وتعرض للمحنة المنكرة، ثم استبانت براءته بعد خطوب، فاختاره الملك لنفسه وزيرا، ولم تكن وزارته أقل شرا من غيرها من ألوان الحياة التي بلاها؛ فقد كثر الطالبون، وكثر الحاسدون، وكثر الماكرون، وثاب النساء إليه من كل وجه يلححن عليه بالإغراء حينا والإطماع حينا آخر، وهو يمتنع ويرتفع ولكنه وقع في شرك الملكة ووقعت الملكة في شركه، ونبه الملك إلى الأمر فهم أن يقتل العاشقين، وإن لم يصارح أحدهما صاحبه بعشق أو غرام، وقد أتيح للعاشقين من ينجيهما من هذا الكيد، فأما زاديج فمضى نحو مصر، وأما الملكة إستارتيه فأخفيت في بابل نفسها، وقد طوف زاديج بالآفاق وخضع لمحن كثيرة، ولكنه لقي في هذه المحن امرأتين أخريين، فأما إحداهما فجرت عليه شرا كثيرا، وأما الأخرى فجرت له خيرا كثيرا. أولاهما لقيها عند الحدود المصرية تصيح وتستغيث لأن رفيقها كان يلح عليها بالضرب والعذاب، فأسرع زاديج لمعونتها وكان الشر بينه وبين ذلك الرفيق فقتله زاديج، وإذا المرأة التي كانت تستعينه وتستغيث به قد أصبحت له عدوا تلعنه وتستعدي عليه، وقد أقبل المصريون فأخذوه وحاكموه، فلما تبينوا أنه لم يقتل إلا دفاعا عن نفسه أبقوا على حياته، ولكنهم باعوه من تاجر عربي كان يقيم بينهم، وهذه المرأة التي استعانت واستغاثت أول الأمر، ثم لعنت واستعدت آخر الأمر لم تلبث أن ترى قوما من أهل بابل قد أقبلوا يجدون، فلما رأوها لم يشكوا في أنها الملكة الهاربة فاقتادوها إلى بابل، وهناك جعلت تمكر وتكيد حتى استأثرت بعقل الملك، وما زالت به حتى انتهى إلى الجنون.
أما المرأة الثانية فعربية جميلة مات عنها زوجها، وكان العرب قد ورثوا عن الهند أن تحرق المرأة نفسها لتلحق بزوجها الفقيد، ولكن زاديج ما زال بالمرأة حتى صرفها عن هذا الإثم وحبب إليها الحياة دون أن يحب هو الحياة ودون أن يحب هذه المرأة لأنه لم يكن يحب إلا الملكة إستارتيه، ومع ذلك فقد غضب الكهان على زاديج وقضوا عليه بالموت، ولكن المرأة العربية عرفت له الصنيعة وأزمعت إنقاذه، فما زالت تمكر بالكهان واحدا واحدا، تطمعهم في نفسها ولا تتقاضاهم على ذلك إلا براءة هذا العبد، فلما ظفرت بهذه البراءة منهم منفردين ضربت لهم جميعا موعدا واحدا، فذهبوا إليها وكلهم مستيقن أنها ستخلص له، ولكنهم التقوا جميعا عندها، فعادوا بالخزي ونجا العبد زاديج بنفسه وما كاد ينجو.
وما زال يطوف في الأرض في الهند وفي سيلان وفي البصرة وفي الشام، وتعرض له الخطوب الكثيرة حتى لقي فيما لقي من الناس جماعة من النساء يبحثن في مرج من المروج عن حيوان غريب، وهن رائعات الحسن بارعات الجمال، فلما سألهن عن أمرهن علم أنهن إماء لصاحب هذا القصر العظيم، وأن سيدهن مريض، وقد وصف الطبيب له هذا الحيوان الخرافي الغريب على أن تجده امرأة، وعلى أن يطبخ له في ماء الورد، فأرسل إماءه للبحث عنه ووعد أيتهن ظفرت به أن تكون له زوجا، فهن مغرقات في البحث متهالكات في إرضاء سيدهن، إلا واحدة قد انتحت ناحية وجلست على شاطئ النهر حزينة كئيبة تخط بعود في الأرض، وينظر زاديج فيما تخط فإذا هي تكتب اسمه، فيأخذه الدهش ثم يسألها، ولا يكاد يسمع صوتها حتى يعرف فيها إستارتيه ملكته وصاحبة قلبه، وقد تبين منها أن زوجها الملك قد قتل في بعض الحروب وأنها وقعت أسيرة في يد المنتصر مع تلك المرأة المصرية وأنها احتالت حتى نجت من أسرها ذاك ولكنها وقعت في أسر جديد، وكلفت مع الجواري أن تبحث عن هذا الحيوان الغريب، فلم تبحث ولم تحفل لأنها لا تريد أن تكون زوجا لأحد، فقد امتلأ قلبها وعقلها بحب زاديج، فهذه هي المرأة الوحيدة التي عرفت الحب الصادق ووفت له واحتملت في سبيله ألوان الهول فصبرت وجاهدت واجتهدت، كما صبر زاديج وجاهد واجتهد، وأعانتهما المصادفات والخطوب التي لا تعنينا الآن حتى اجتمع شملهما، فأصبح زاديج ملك بابل وعادت إستارتيه إلى عرشها ولكن مع من تحب.
هذه نماذج للمرأة في قصة واحدة من قصص ڤولتير، وفي هذه النماذج شيء من الشرق؛ لأن القصة نفسها شرقية قد ترجمت، فيما يقول ڤولتير، لمدام دي بومبادور إلى العربية مع ألف ليلة وليلة ونقلها هو إلى الفرنسية، ولكن هذه النماذج ليس لها من الشرق إلا أيسر المظاهر، فالنساء اللاتي يعرضهن ڤولتير في هذه القصة سواء منهن من ذكرنا ومن لم نذكر غربيات السيرة والتفكير يعشن جميعا في القرن الثامن عشر الفرنسي، وأكبر الظن أن كل واحدة منهن ترمز من بعيد أو من قريب لامرأة عرفها ڤولتير أو عرف من أمرها القليل أو الكثير.
Shafi da ba'a sani ba