سأشكر ما أوليت من حسن نعمة
ومثلي بشكر المنعمين حقيق
وانتهى شاعرنا إلى الشام فأمر أن يقيم في الشام حيث شاء وألا يعرض لآل زياد بمكروه، وأحسن الخليفة صلته تعزية له عما لقي من الشر، ووقفت قصته هنا مع آل زياد ولكنها لم تنته، فلم يكن له بد من أن يذعن لأمير المؤمنين، ولكن شاعرنا لم يكن مبغضا فحسب، وإنما كان محبا أيضا، ولعل حبه هو الذي جشمه كل هذه الأهوال.
كان يحب أناهيد فتاة فارسية، كان أبوها دهقانا في الأهواز، وكانت رائعة الجمال فتانة الحسن جريئة على الرجال لعوبا بعقول الناس، وقد لعبت بعقله فأسرفت في اللعب وكلفته من أمره شططا، وقد أقام في الشام ما شاء الله أن يقيم، ولكنه لقي رجلا من أهل الأهواز فسأله عن أناهيد قال الرجل: صاحبة يزيد بن مفرغ؟ قال يزيد: نعم. قال الرجل: ما يرقأ دمعها بكاء على يزيد، فضرب يزيد وجه فرسه وأقسم لا يستقر حتى يرى أناهيد، ومضى مخالفا أمر الخليفة جاحدا نعمة الذين أجاروه وآووه حتى انتهى إلى الأهواز، وجعل يتردد بينها وبين البصرة، ثم دخل على عبيد الله بن زياد، فخيره بين أن يقتله أو يعفو عنه، فعفا عنه عبيد الله ، ولكن إقامته في البصرة لم تطل؛ فقد كانت أناهيد تكلفه مالا كثيرا، وكان يستدين، وكان الدين يثقل عليه، وكان الأشراف من أهل العراق يؤدون عنه دينه، ولكنه شاعر لا تنقضي حاجاته، والأمراء يتنافسون فيه، فما يمنعه من الرحلة والاكتساب ليغني نفسه ويرضي أناهيد، ويذيع البهجة والغبطة من حوله؛ وقد فعل، فرحل إلى عبيد الله بن أبي بكرة ورجع من عنده بمال كثير دفعه كله إلى أناهيد، وما زال يتردد بين البصرة والأهواز ينعم ويشرك أترابه في النعيم، حتى مات يزيد بن معاوية، وكانت الفتنة في البصرة وهرب عبيد الله بن زياد، فاستأنف قصته مع آل زياد من حيث وقفت في الشام، وجعل يهجو زيادا وبنيه، ويعير عبيد الله بفراره عن أمه ويحرض على آل زياد بشعره وحديثه. حتى إذا قتل عبيد الله يوم الزاب بيد أصحاب المختار لم يستطع شاعرنا أن يخفي شماتته، فتغنى هذه الشماتة في شعر كثير، وظل مترددا بين أناهيد في الأهواز ومجالس لهوه في البصرة، حتى قتله الطاعون أيام مصعب بن الزبير.
وقد قال يزيد شعرا كثيرا جدا، وحفظت لنا كتب الأدب شيئا قليلا جدا من هذا الشعر، ولكنه على قلته يبين لنا أن هذا الفتى المغمور قد كان شاعر الخوف والحب والحرية حقا، ما أعرف أن أحدا من شعراء القرن الأول للهجرة بلغ من تصوير هذه الخصال ما بلغ، ومع ذلك فما أكثر ما عرف ذلك العصر من المبغضين والمحبين، ومن الخائفين والأحرار، ومن الذين أتيحت لهم براعة فنية لم تتح ليزيد! ولكن يزيد أحب بقلبه كله، وأبغض بقلبه كله، وخاف بقلبه كله أيضا، وجلى قلبه المحب المبغض الخائف الحر في شعره دون أن يتكلف في ذلك أو يتصنع أو يتخذ بين الناس وبين قلبه حجابا.
كنت أود لو استطعت أن أروي لك أطرافا من شعره، ولكن كتاب الأغاني قريب منك فاقرأ فيه أخبار يزيد بن مفرغ، فسترى فيه عجبا من العجب وسترى أن لحية ضخمة قد عبثت بها الريح ذات يوم فأضحكت شاعرا وأطلقت لسانه ببيت من الشعر، وكانت من أجل ذلك مصدر محنة مروعة اتصلت أعواما وشقي بها شاعر وشقيت به أسرة من أشراف العرب، ولكنها تركت لنا أدبا فيه المتاع كل المتاع.
صور من المرأة في قصص ڤولتير
موضوع غريب فيما ترى وفيما أرى أنا أيضا، ولكني دفعت إلى أن أتحدث إليك فيه، وقد تسألني: لماذا اخترته دون غيره من الموضوعات التي يمكن أن يساق فيها الحديث؟ فأجيبك في غير تكلف ولا تردد بأني لا أفكر في القارئ حين أريد التحدث إليه، أو بعبارة أدق لا أفكر فيما يحب أو لا يحب، وفيما يلائمه أو لا يلائمه لأني لا أتملق القارئ ولا أترضاه ولا أبتغي إليه الوسيلة، وإنما أعطيه ما عندي، وأتحدث إليه بما يخطر لي، وأسير معه سيرتي مع ذوي خاصتي الذين ألقاهم مصبحا وممسيا، والذين لا أسألهم فيما يريدون أن أتحدث إليهم ولا يسألونني فيما أريد أن يتحدثوا إلي، وإنما هي الحياة تجري بينهم وبيني سهلة سمحة يسيرة، تضطرنا إلى أن نحياها كما تضطرنا إلى أن نتبادل فيها الرأي وندير فيها الحديث.
وقد كان ڤولتير جزءا من حياتي العقلية منذ شهر سبتمبر الماضي، كما كان ديديرو جزءا من حياتي العقلية قبل الصيف، ولو أن مجلة الكاتب المصري ظهرت في يونيو أو يوليو لتحدثت إلى قرائها عن ديديرو كما أتحدث إليهم الآن عن ڤولتير، ولكنها ظهرت في أكتوبر حين كنت أغرق نفسي في الأدب العربي وجه النهار وفي أدب ڤولتير آخر النهار، ومن أجل ذلك تحدثت إلى القراء عن الأدب العربي في السفرين الماضيين، وأنا أتحدث إليهم عن لون من أدب ڤولتير في هذا السفر، والله يعلم عما أتحدث إليهم في السفر المقبل، فالقارئ يرى أني أجري الأمر بينه وبيني على إذلاله لا أتكلف له شيئا ولا أحب أن يتكلف لي شيئا.
ولست أدري لماذا اخترت هذا اللون بعينه من هذه الألوان الأدبية التي يقدمها إلينا ڤولتير، ولكني أعلم أني كنت أسأل نفسي وأنا أقرأ قصص ڤولتير عما يمكن أن يكون حظ هذا الرجل العظيم من التحليل النفسي ومن تعليل ما يحدث أشخاصه من الأحداث وما يعرض لهم من الخطوب، وكنت أحاول أن أضعه في طبقة من طبقات الكتاب هذه التي نعتمدها في العصر الحديث أساسا للتقسيم والتصنيف، فمن الكتاب من يستغرق همه كله في تحليل دقائق النفس حين تفكر وحين تشعر وحين تعمل، ومن الكتاب من يفرغ همه في تحليل الصلات بين الناس فيتجه إلى الناحية الاجتماعية من الحياة الإنسانية، ومنهم من يعنى بغير هاتين الناحيتين من نواحي الفن الذي يصدر عنه الكتاب ويقصدون إليه فيما يكتبون.
Shafi da ba'a sani ba