ثم تمضي الأحداث في يسر يسير على هذا النحو، حتى يعود الطبيب ذات يوم، فإذا البواب يعترف بكثرة الجرذان التي تموت، ثم يعود ذات يوم فإذا البواب نفسه عليل؛ فيحاول علاجه؛ حتى إذا ثقل نقله إلى المستشفى، فمات في أثناء الطريق، كل هذا يصور ابتداء رائعا لكتاب يريد أن يصف إلمام الطاعون بمدينة من المدن، وأمر هذا الطبيب والبواب ليس إلا مثلا؛ ففي المدينة قوم آخرون يمرون بالجرذان الميتة، فينكرون ثم يرتابون ثم يذعرون، والحكومة تتنبه شيئا فشيئا، فتنكر وترتاب وتذعر، وتحاول أن تهدئ الشعب، ثم ترى نفسها أمام الحقيقة الواقعة، فتأخذ الشعب بالقوة والحزم.
وهذا كله يذكر القارئ بما كان من نذر الحرب الأخيرة حين كانت الأحداث اليسيرة تحدث فيلتفت إليها أصحاب الأنظار البعيدة، ويعرض عنها أصحاب الأنظار القصيرة، وتكون الحكومات بين هؤلاء، ولكن الأحداث الصغيرة تكثر وتنتشر، كما تكثر الجرذان الميتة وتنتشر، فيكون الشك، ثم يكون الخوف، ثم يكون الذعر، ثم تكون مواجهة الحقيقة الواقعة البشعة.
ولو أن الكاتب مضى في سائر كتابه على النحو الذي مضى عليه في أوله لأهدى إلينا كتابا رائعا، ولكنه لم يلبث أن تعثر في التفصيلات والدقائق الخاصة، فأفسد الكتاب على نفسه وعلينا جميعا .
وأخرى لا بد من تسجيلها رعاية لما ينبغي من الإنصاف؛ فقد صور الكاتب جماعة من أشخاص الكتاب تصويرا دقيقا صادقا حقا، فهذا الطبيب الذي رأى الجرذ الميت، وسبق إلى الإنذار بوباء الطاعون، واستقبل الجهاد في ثبات وأناة، وتضحية وتواضع لا ينتظر أجرا، ولا يريد إلا أن يقهر الوباء وينقذ الحياة من شره، وهذا الصحفي الذي فجأه الوباء في المدينة، وهم أن يخرج منها ليلحق بمن يحب، واحتال في هذا الخروج وبذل فيه الممكن وغير الممكن من الجهد، فلما استيأس من ترك المدينة أقبل على الطبيب، فتطوع للجهاد وأبلى فيه أحسن البلاء.
وهذا الشاب الطموح إلى المثل العليا ذو الآمال البعيدة والأماني العراض، والذي أقبل متطوعا فأشاع الحماسة من حوله، ونظم الجهاد فأحسن تنظيمه، ومضى بعد الانتصار ضحية أخيرة للوباء، وهذا الموظف المتواضع الذي يداعب الغرور الفني، ويحاول في سذاجة أن يكون كاتبا يضع قصة غرامية يتعزى بها عما أصابه من المحن، ويتقنها حتى يرقى بها إلى أرفع منازل الفن، والذي يترك هذه القصة في يسر وفي غير تكلف ليعنى بالجهاد حتى يبلي فيه أحسن البلاء، لا يشعر بأنه يجاهد، ولا بأنه يضحي، ولا بأنه يتعرض للخطر، وإنما يشعر بأنه يؤدي واجب التضامن الاجتماعي في أيسر اليسر. كل هؤلاء الأشخاص وأشخاص آخرون قد صورهم الكاتب فأجاد تصويرهم وبرع فيه، ولكنهم يظهرون في أثناء هذا الكتاب، كأنهم الواحة التي يرتاح إليها القارئ بين حين وحين، وكأن القصة من حولهم طريق وعرة مضنية، لا يمضي القارئ فيها إلا متكرها يحتاج إلى أن يستريح.
هذه هي الناحية الأدبية لهذا الكتاب، وهي أيسر الناحيتين بالقياس إلى الكاتب من جهة، وإلى القارئ من جهة أخرى، وإلى التفكير الفلسفي من جهة خاصة، فقد يمكن أن يقال: إن الكاتب لم يرد إلى إنشاء قصة بالمعنى الذي ألفه الناس، وقد يمكن أن يقال: إن القراء جميعا ليسوا من العسر بحيث يحاسبون الكاتب حسابا يسيرا أو عسيرا، على ما أتيح له وما لم يتح له من التوفيق.
فأما الناحية الفلسفية فهي الغاية التي من أجلها كتب الكتاب، وهي لا تحتمل تسامحا ولا تهاونا ولا تفريطا، فالدقة فيها هي الأصل، واستقامة التفكير شرط أساسي لكل فلسفة، وقد قدمت أني لست مقتنعا، بل إني بعيد كل البعد عن الاقتناع بالمذهب الفلسفي العام لألبير كامو، وهو مذهب العبث.
ويخيل إلي بعد ذلك أنه لم يوفق في عرض مذهبه في هذا الكتاب، وأحب قبل كل شيء أن ألاحظ شيئا من التحكم دفع الكاتب إليه حين أراد أن يبين موقف الإنسان بين العقل والدين؛ فهو قد أنشأ شخصا جعله حبرا من أحبار اليسوعيين، وأنطقه بما ظن أنه يصور مذهب أصحاب الديانات فيما يلم بالإنسان من الشر، ثم مضى بعد ذلك ينكر ما قاله هذا الحبر اليسوعي، مخيلا أو معتقدا أنه بالرد على هذا الحبر يرد على أصحاب الديانات جميعا.
وهذا الحبر اليسوعي قد أنشأه ألبير كامو نفسه بالطبع، وأنطقه بما أراد أن ينطقه به، وأكاد أعتقد أنه لم يخلص من بعض الظلم حين صنع حبره على هذا النحو، وحين أنطقه بما أنطقه به من القول، وآية ذلك أن أحبار المسيحيين أنفسهم ينكرون هذا الحبر الذي صنعه ألبير كامو، ويراه بعضهم مسرفا على الدين، ويراه بعضهم خارجا على الدين.
وخلاصة ما يقوله الحبر للمؤمنين الذين أقبلوا يستمعون إليه في الكنيسة، أنهم يمتحنون بكارثة خطيرة كبيرة، وأنهم أهل لما ألم بهم من هذه الكارثة؛ لأنهم أسرفوا على أنفسهم بمعصية الله والخلاف عن أمره، فهو يعاقبهم بما يصب عليهم من الهول، ويجب عليهم أن يتلقوا هذا العقاب راضين به مذعنين له مطمئنين إليه، تائبين إلى الله مما أسرفوا على أنفسهم في الخطايا والموبقات.
Shafi da ba'a sani ba