فمضيت معه إلى الباب فعالجناه، فإذا هو لا يزال موصدا، فرحت أقول في سكينة مجاهدة مصطنعة وإن كان فؤادي خافقا واجما: أخشى أن تكون مريضة، فيحسن أن نقتحم عليها الباب.
وأنت أيها القارئ فلتسم إحساسي في تلك اللحظة نبوءة الوجدان، أو فلتدعه هاتفا من هواتف النفس: أيا ما تدعوه؟ فقد شعرت بما نحن عما قليل واجداه خلف الباب الموصد.
كانت عيناها مغمضتين كأنها في نوم هادئ، وكان وجهها ساكنا وإن لم يخل من أثر الضنى والجهد الأليم، فكأنه نوم النائم الحزين يلتمس في الغمض بلسم النسيان.
وبهت الفتى مما رأى وغشي الخطب القادح على لبه، فلم يصدق عينيه.
وقضيت طيلة هذا النهار بجانبه أواسيه وهو ينتحب ويرسل حشاشة نفسه دمعا سخينا على هذه الكارثة المباغتة الداهمة.
وفي أصيل ذلك اليوم جاءته الفتاة تشاطره الأسى، ولكن عناقاتها وكلمات الرثاء اللينة العذبة من فمها لم تذهب بحزنه، ولا وقعت في ذلك المجلس موقعها الماضي من حبة فؤاده، وقضى اليوم يلهج بذكر فضل أمه الراحلة، ويرسل في مديحها كلمات حارة لطالما كانت في الحياة تتوق لسماع طرف منها، وقد أدهشني من الفتى إدراكه فضل تلك الأم الرؤوم عليه، وعرفانه تضحياتها وحبها العميم المكين له ... ولكنه راح يسأل نفسه ويسألني سحابة ذلك اليوم المحزن الأليم: ليت شعري لماذا فعلت ذلك؟ لماذا فعلته؟ لماذا ختمت الحياة على هذا النحو؟
وكان الجواب يحترق في حنايا فؤادي، ويزدحم في خاطري يريد خروجا، ولكني أمسكت فلم أقل شيئا ...
وبذلك الحنان الذي أبدته تلك الأم في الحياة قد القت في يد ابنها بموتها تعويضا عن خسارته ... خمسة الآف من الجنيهات، فذلك هو القدر الذي كانت مؤمنة به على حياتها، فقضت لكي يكون هذا المال من بعدها حقه ينعم به.
وضرب الدهر بيننا، فرأيته بعد بضعة أعوام فإذا هو لا يزال في ريع الشباب، ولكن عينيه السوداوين قد أنطفأ منهما ذلك البريق السني، الذي كان يشع منهما قديما في نظرات بريئة صراح، وبدت على وجهه الناحل أثر الشهوة المسرفة على نفسها المتحاربة من ميادينها الفسيحة المترامية، فقد بدد ذلك المال كله ومضى يختلط بأهل الشر، ويركب للشهوات كل مركب ...
إن أمه بتلك التضحية المجنونة الجسور قد أبعدت إلى الأبد من منال يده أمله الأكبر، ذلك الأمل الذي بذلت من أجله حياتها وعصارة نفسها؛ إذ لم تكد توسد الثرى حتى أخذت ألسنة السوء تشيع في المدينة أنها قد ضحت بنفسها ليصيب ابنها بموتها مبلغ التأمين على حياتها، ويصيب مع التأمين الهناءة والرغد. وسمعت الفتاة تلك بالقالة، فكأنما نهض بينها وبينه منذ ذلك اليوم جدار شاهق، وسد منيع لن يزول إلى الأبد.
Shafi da ba'a sani ba