وأحسبها كانت الملوم على نزعة الغيرة الجنونية التي تمكنت من نفس زوجي، فلقد كانت كبيرة السلطان على نفسه، تسيطر على جميع فعاله، وكان هو ضعيفا أمامها لا يجرؤ على عصيان أمرها.
وأدركت بعد قليل أنه لم يكن الرجل المدقق في عمله الذي سمعنا عنه في القرية، وإنما كانت لديه فضلة من المال أودعها مصنعا صغيرا لصناعة الثياب، ولكنها لم تدر عليه خيرا، فما لبثت حياتنا أن ساءت، وعجزنا عن الوفاء بأكثر المطالب، فمضيت أبحث عن عمل أعين بمرتبي زوجي على أمره، فأصبت عملا لقاء راتب طيب، وكان يشاطر أمه اعتقادها أن المرأة المتزوجة ينبغي أن تلزم بيتها، فلا تسعى على رزق، شح في العيش المال أم كثر؟ فضاق بخروجي إلى العمل ذرعا، وكم من حوار جرى بيننا ونضال نشب، فكان فيه أبدا يحتج على أن أعمل في محل يعمل فيه الرجال.
ووقع يوما حادث أليم؛ إذ أذنت لرجل من زملائي في المكتب أن يماشيني إلى باب البيت، وكنت لا أرى في ذلك سوءا ولا ضررا، فقد كان شيخا أشيب الفودين محبوبا من كل عامل في المكتب، وجرى بنا الحديث في الطريق حتى ألممنا بباب بيتنا وقد آذنت السادسة، ولقينا زوجي لدى الباب فلم يدع الرجل إلى الدخول معنا ولم يحيه، بل راح يغلق الباب بعنف في وجهه.
ولما احتوتنا قاعة الجلوس انفجر يقول: ها قد بدأت تماشين الرجال، وتسايرين الزملاء، يا لها من فكرة بديعة.
قلت: لست أفهم موقفك هذا، إنه رجل مهذب ويأنس إلى حديثي، وهو شيخ حطمته السنون، فلا أرى سببا يمنعني مسايرته إلى بيتنا، ثم هو يعيش في هذا الحي بالذات، وطريقي طريقه.
وحاولت بالتلطف في الحديث أن أتحاشى الشجار معه، ولكنه انطلق يقول وهو منصرف إلى مخدعه: لقد قلت لك لا تسايري أحدا ولا تماشي مخلوقا، ولست أريد أن أكرر ذلك ثانية.
وفي ذلك العهد ونحن على أشد الخلاف، في الرأي والنظر إلى الحياة، قضى القضاء العجيب أن أرزق منه طفلة، فتركت عملي، وحاولت علاج مطالب البيت قاصدة في النفقة ما استطعت. وكانت الأشهر التي تلت ذلك عهدا موحشا في الحياة أليما، فرحت أتعزى فيه بقراءة الكتب وخياطة الأثواب، وكانت الطفلة جميلة موفورة الصحة، وراح أبوها بها مفتونا وجعل ينفق الكثير في سبيل إتحافها باللعب والدمى، ولم نكن في ميسرة حتى يتواتى لنا استخدام مرضعة في البيت ترعى الطفلة عني، وتقوم على حوائج الدار، فاضطررت إلى الإضراب في البيت لا أبرحه.
وفي العام التالي لمولدها جاءت أختي «س» من البلد لزيارتي فأقامت ردحا، وكأنما كانت رسولا من السماء لمعونتي وطرد الهم عني، فكانت تجلس إلى الوليدة تلاعبها على مطالع الأصيل تاركة لي الفرص للخروج إلى الأسواق أو التماس النزهة، وكانت «س» فتاة محببة، فما لبثت أن عرفت صاحبا في المدينة وصواحب، فجعل هؤلاء وأولئك يجيئون لزيارتنا، والسمر عندنا، وكان من بينهم غلامان مليحان ذكيان، امتلأت جعبتهما بطرائف الأدب والعلم، وكنت في لهفة عليها لأن زوجي كان أكره الناس للقراءة لا يفتح في حياته كتابا، ولا يجد في نفسه استرواحا إليها، فطاب لي الحديث مع هذين الغلامين، فجعلنا نتجاذبه في كثير من الموضوعات ونتطارح الآراء ونتساجلها.
وفي ذات ليلة جاء الغلامان لزيارتنا ولم تكن أختي في البيت، فقلت لهما إنها ستتأخر كثيرا، ولكنهما مضيا يستأذنان! هل من بأس في البقاء معي للحديث والسمر، وخشيت أن يكون المساء موحشا إذ كان زوجي قد نبأني بأنه قد يتأخر في الحضور عن الموعد الذي اعتاد أن يجيء فيه، فسرتني زيارة الشابين وطردت عن صدري ألم الوحشة.
وأنت تعلم أن الشباب مولعون بالكلام عن النساء وخاصة مع سيدة أكبر منهم، لكي يصيبوا من العلم بالمرأة ما لا يعرفون، فلا عجب إذا انطلق بنا الحديث في تلك الليلة عن أقيسة الجمال وحدوده وتعريفه. وسرى الحديث بيننا خلال الساعات وأنا منه مسرورة جذلة، وراح أحدهما يقول بسبيل ما كنا نتحدث عنه: إن «أختك» جميلة بل قد تكون أجمل منك، وإن لم تكن لها فتنتك، ولم تصب حسن قدك وجلال مظهرك، ولا شيئا من ذكائك وأدبك.
Shafi da ba'a sani ba