فإذا هي تخيط ثوبا صغيرا لوليد.
ومضيت أتشفع لهذه الفكرة بيني وبين نفسي بأنها قد ظلمتني بعض الظلم وأساءت إلي ناحية من الإساءة؛ إذ غررت بي وأوهمتني أنها الفتاة العفة الجديدة لم تمس، وأنه ينبغي لي أن أدفع الظلم بظلم مثله، وحسبتني في ذلك الحين قد كرهتها، وأنني واجد اللذة والمتعة في إيذائها، وأن ما كنت أظنه حبا في النفس لها لم يكن في الحق شيئا غير النزوة والشهوة، ولكن لعلك قائل لعمرك كيف تجتمع الكراهية والشهوة، ولكن كذلك كان يومئذ رأيي في مشاعري من ناحية تلك المرأة. وكذلك مضيت أغريها بأنني لا أزال على حبي لها وأقنعها بقوة ذلك الحب أن لا بأس ولا ضير من أن نعيش معا فترة من الدهر حتى يتواتى لنا أمر الزواج ... ولم أكتم عنها نبأ زواجي الأول، ولكن نبأتها أنني عما قليل سأطلق زوجتي ولم أحفل بشيء في سبيل التغرير بها كما غررت بي، فاستأجرت طبقة وسط في المدينة ففرشتها برياش بسيط وانتقلنا إليها، وكانت النية في ذلك ألا أهبها شيئا صالحا ولا أدعها تنعم بعيش مونق جميل، اعتقادا مني أنها لا تستأهل ذلك، واعتزاما من ناحيتي أن لا أطيل معها مكثا. ولاح لي أنها لم تلحظ حقارة الرياش، بل فرحت بالبيت وما فيه، وأكببت على عملي النهار كله ولم ألق بالا إلى شؤون البيت ومطالبه، ولكني ما لبثت أن دهشت لذلك التغيير العجيب الذي بدا لعيني؛ إذ جعلت كلما عدت إلى الدار بالعشي أرى الرعاية تامة والبيت نظيفا والأفق فرحا يملأ النفس رضى ومسرة ... ولم أكن أعطيها من المال غير النزر اليسير، ولكنها بذلك القليل قنعت، وحشدت في البيت من كل طيب وبديع وبهيج ... وكان سرورها الأكبر أن تتحفني كل عشاء بلون جديد من الطعام ومبتكر طريف من المأكل والألوان.
وكذلك كانت ربة بيت صناع ماهرة، وسيدة في الدار أريبة حذقة، وأذكرتني حالها بحال طفلة تتخذ من لعبتها الجميلة بيتا، وتجد في تنسيقه نهاية الفرح والجذل.
واها للمسكينة! لقد كان ذلك أمنية فؤادها الأولى التي حرمتها ولم تتهيأ لها، ولعل ذلك سر ابتهاجها بتوفير أسباب الهناءة في جوه وتجميله بما في مكنتها أن تجمله. ومضت الحال كذلك ردحا، ولا زال في نفسي الرغب في الثأر منها، بل لقد كنت أقسى من ذلك شعورا. فحدثتني النفس أن أستطيل في إمساكها حتى تطمئن إلى أن العيش قد استتب والدار قد استقامت، ثم أنثني فأحطم كل ذلك بكلمة واحدة إغراقا في التشفي، ومبالغة في الأذى، وإن لم يكن ذلك بمانعي إذا عدت في المساء من تناولها في أحضاني وطبع قبلاتي على صفحة محياها ... والتمتع بما أعدت لي من جديد ومبتكر.
ففي ذات مساء راحت تسألني متى إذن يكون زواج.
فاستضحكت وقلت: لا تكوني بلهاء، وأنت تعرفين أنني ما فكرت قط في الزواج بك.
فأمسكت عن الكلام ولم تعمد إلى توسل ولا فزعت إلى شكاة أو عتب أو رجاء.
ولكني لن أنسى ما حييت تلك النظرة المسكينة التي أطلت علي من عينيها في ذلك المساء، وا أسفاه! لم تكن تلك النظرة حدجة مسمومة ولا جحظة غاضبة، ولم تلح على عينها سريعا، ولم تخطف كالتماعة البرق، وإنما كانت رنوة ألم ساكن ونظرة إنكار حائر، لاحت رويدا رويدا منبثقة انبثاق الفجر، يبدو بياضه في سواد الليل خيطا بعد خيط، وكأنما كان المسيء إنسانا غيري، فجاءت تلتمس بنظرتها تلك عندي المؤاساة والعطف والرثاء.
ولست أدري كيف رحت وحشا أعمى! فاسترسلت بعد ذلك في مسلكي القاسي الأليم.
ولقد كنت ولا ريب أرتقب من وراء هذه القسوة أن أحملها على النفور من هذا العيش، والتمرد على تلك الحياة، وكنت أنتظر أن أعود ليلة فلا أجدها في البيت.
Shafi da ba'a sani ba