ومضت بي الحال كذلك أربعة أعوام، نشالا أوضع في السرقة وتمادى في الجريمة، وسدر في غلواء الشر والإثم، وكانت العصابة التي أنا منها تدعو نفسها «جماعة أبناء الشوارع» وقد أخذت وشيكا تشتهر في المدينة، ويتسامع الناس بأفانين سرقاتها.
ولم نكن إلى ذلك العهد قد أتينا عملا كبيرا من أعمال السرقة؛ إذ كان شعارنا «الصيد السهل والفرار المضمون»، وكانت حلقات الميسر منتجعنا، وأندية القمار المرتاد الذي نروح إليه ونغدو.
وكان لنا ناد يضم أفرادنا، وهو حجرة استأجرناها فوق حانوت بدال، نتلاقى عندها ونتواعد إليها، لنختط الخطط، ونقرأ من الكتب وأسفار الأدب وقصص أبطال اللصوص ونوابغهم.
وكان منا فتية اشتهروا بتعاطي العقاقير، وأدمنوا الشميم، ذلك السم الذي اصطلح بغاته والمولعون به على تسميته «الجليد الأبيض»، ففي جلسة لنا وقد طاف الشميم، قال قوم منا إنهم قد علموا أن حلقة من لاعبي البوكر ستنتظم في ذلك المساء بالذات، في إحدى قاعات فندق كبير في المدينة، وسيحتدم اللعب ويشتد الجزاف بالرميات الضخمة؛ لأن القوم جميعا من الأغنياء والسادات. فاقترح الجمع أن نذهب إلى ذلك الفندق، ونتغفل اللاعبين حتى تواتينا الفرصة فنشهر عليهم المسدسات ونختطف ما بين أيديهم من ركام الأموال، ونلوذ بأذيال الفرار آمنين.
ومضينا نرسم الخطة، وندبر التدابير، واتفقنا على أن يكون لقاؤنا إذا انتصف الليل، بمكان قريب من الفندق، فإذا توافينا افترقنا، ودخلنا وحدانا من باب الخدم، بواسطة مفتاح مصطنع. ولقد كانت هذه الخطة فكرتي المبتكرة الرائعة، ولا فخر، وقد نجحت هي وأخفقت أنا واقتنصت؛ إذ بينما كنت مسرعا في الطريق وقد ألممت على المكان الذي ضربناه للملتقى، داخل الريب أحد الشرطة فمشى نحوي وأوقفني عن المضي في طريقي حتى يفتشني، وكنت أحمل مسدسي، فزاده ذلك ريبة بأمري واستاقني إلى المخفر. وخرجت العصابة من تلك الغارة موفقة، ولما كان الشرطي قد قبضني وأنا قريب من الفندق، وقد حملت سلاحا دسسته بين أثوابي، راح الشرطة والمحققون يجمعون من ذلك ما شاء لهم من القرائن والبينات، ودفعوني إلى القاضي فحكم علي بالسجن عامين.
وقضيت المدة في عذاب وألم، وحاولت العصابة مساعدتي على التماس الهرب، ولكني لم أجد له سبيلا. وزادني عذاب المحبس على الدنيا نقمة، ورأى أصحاب السجن بوادر التمرد مني والثورة ... فشددوا على الرقابة، حتى أتممت المدة كلها غير منقوصة شيئا لحسن السلوك.
ولما رأيتني بعد ذلك حرا طليق سراح، شعرت كأن حجرا ثقيلا قد أزيح عن صدري. ولكني كنت على الإنسانية ساخطا، فأقسمت لأثأرن لنفسي من المجتمع، وأرين العالم كيف تكون ترتي وشري وضري ...
عامان ... ذلك والله دهر طوال، ولكنه في غيابة السجن هو الأبد وقد عرتني منه في أول مقامي به نوبات سآمة وغضب، ثم ما لبث أن أخذت في قراءة الكتب، وانتهى بي هذا التلهي إلى حبه وإلى الشغف بالمطالعة. ومنذ ذلك الحين، جعلت أقضي ساعات الفراغ في السجن قارئا مكبا على الكتب، ووجدتني تعلمت الشيء الكثير، وأصبت قسطا من العلم، فأخذت في بعض الأحيان أسائل نفسي: ألم يجد علي هذان العامان أحسن الجدوى، ويردا علي خير مرد، وقد نفعني السجن من حيث لم أحتسب ولم أرتقب؟ ولكني كنت لا ألبث أن أنفي هذا الخاطر من ذهني، وأنقي هذه الفكرة جانبا، فلا عجب بعد ذلك إذا أنا رحت بعد إطلاق سراحي، أنتجع نجعاتي الماضية، وأعود إلى الصنعة القديمة!
وكانت العصابة قد تغيرت وتحولت، وأصبح أفرادها في ذلك العهد ضحايا المخدرات، وفرائس لذلك الشميم الأبيض، وأمعنت في البغي والعدوان، وأضحت لا تتورع من القتل في سبيل السرقة، وكان لهم محام يجزلون له العطاء في سبيل المرافعة عنهم أمام القضاء، وأحسبه كان بتلك الأموال التي راحوا يغدقونها عليه خليقا حريا، لأنه لم يدع أحدا يذهب إلى السجن بقوة خطابته، وغريب دفاعه. وهو عالم عالم بأمرهم، لا تخفى عليه خافيتهم.
وما كادت تنفرط عشرة أيام على يوم سراحي، حتى ركبنا سيارة ضخمة نقصد بها إلى بلدة صغيرة على مسيرة ثلاثين ميلا من المدينة، وبدأنا السير في الحادية عشرة منتوين أن نبلغ البلدة ظهرا، ونحن معتزمون أن نهاجم مصرفا هناك فنسلب أمواله.
Shafi da ba'a sani ba