التصوير القرآني للقيم الخلقية والتشريعية
التصوير القرآني للقيم الخلقية والتشريعية
Mai Buga Littafi
المكتبة الأزهرية للتراث
Nau'ikan
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ [الكهف: ١-٣]، ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: ١-٣]، ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ [الإسراء: ٨٢]، ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الإسراء: ٨٨، ٨٩]، ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٢- ١٩٥]، ﴿حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: ١-٣]، ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ
1 / 3
بَعِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٤]، ﴿حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: ١-٤]، ﴿الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: ١-٤] .
والصلاة والسلام على أفصح الخلائق أجمعين آثره ربه ﷿ بجوامع الكلم، فكان خلقه القرآن الكريم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤]، ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٦-١٩]، ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا، قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: ١٠٥- ١٠٩]، اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد ﷺ وعلى آله وصحبه- والتابعين رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه، ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ
1 / 4
هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٥]، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد ...
فهذه الآيات الكريمات وغيرها في كتاب الله ﷻ صريحة ودامغة، يقسم الله ﷿ فيها بمواقع النجوم على أن القرآن تنزيل من رب العالمين: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الواقعة: ٧٦- ٨٠]، فالكتاب والتنزيل والفرقان ﴿لَقُرْآنٌ كَرِيم﴾، ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤١- ٤٢]؛ فليس أدبًا عربيًّا، لكنه "أدب قرآني"، وليس فنًّا قصصيًّا، ولكنه "قصص قرآني"، وليس شعرًا ولا نثرًا فنيًّا، ولا سحرًا ولا كهانة، ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الحاقة: ٤٠- ٥٢]، وليس تصويرًا فنيًّا، ولا تصويرًا في القرآن، بل هو "تصوير قرآني"، وأسلوب قرآني، ونظم قرآني، وبيان قرآني، ونسق قرآني، وإيقاع قرآني، وموسيقى قرآنية، لأن صفة "القرآنية"
1 / 5
منحت الموصوف صبغة القرآن الكريم: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة: ١٣٨]؛ فتردّ كل احتمال يمسّ قداسة القرآن: كلام الله المقدس ﷻ، وآثرت أن يكون الإعجاز في "التصوير القرآني" عنوانًا لكتابي هذا، لا "النظم القرآني" ولا "الأسلوب القرآني" إلى آخر ما ذكرناه؛ لأن "التصوير القرآني" للقيم الخلقية والتشريعية يشمل كل ما سبق، وأكثر منه، فهو حقًّا "الإعجاز"، وضحت ذلك في الفصل الأول مناقشًا هذه القضية، مبينًا ما تتركه التعبيرات الأخرى للنقاد من احتمالات لا تتفق مع قداسة القرآن الكريم بالتصريح الواضح الدامغ، حتى لا أترك منفذًا لاحتمال أو جدل أو مناقشة؛ لأنه "تصوير قرآني" مدعمًا ذلك بالدراسة لكثير من الصور القرآنية، القائمة على التحليل والتطبيق؛ لبيان الإعجاز في "التصوير القرآني" للقيم الخلقية والتشريعية، ثم انتقلت من الفصل الأول إلى عرض قضايا كبرى في "التصوير القرآني"؛ فتناولت في الفصل الثاني "التصوير القرآني" لليل والنهار، وفي الفصل الثالث "التصوير القرآني" للصيام والصوم، وفي الفصل الرابع "التصوير القرآني" لأدب النشء وتربيته في القرآن الكريم والسنة الشريفة، وفي الفصل الخامس القيم الخلقية والتشريعية في المعاملات الإسلامية في القرآن الكريم والسنة الشريفة.
وهذا الكتاب يتخذ منهجًا واضحًا في بلاغة التصوير القرآني، التي وصلت إلى حد إعجاز البشر على أن يأتوا بآية من مثله. ودلالته على القيم الروحية والخلقية والتشريعية في الصور القرآنية المعروضة، فإذا تعرضت لبعض الحقائق الكونية والإنسانية من آيات تقترب من ألف آية، بالتنبيه على إشارات عامة تفتح المجال للعلماء والمتخصصون على أن
1 / 6
يفسّروا هذه الحقائق الثابتة -لا المفترضة- من خلال إشارات التصوير القرآني إلى طليعة التقدم العلمي في كل عصر، بما لا يتعارض مع تفسيرات السابقين ولا اللاحقين؛ لأن هذه الإشارات والتأويلات يجب ألا تقصر القرآن الكريم عليها فقط؛ فلا يتعدَّاه إلى غيرها، ولا تطلق الأحكام إطلاقًا عامًّا على سبيل الجزم واليقين، بحيث لا يتجاوزه إلى حقائق أخرى تتجدَّد مع الزمان والمكان والأجيال، كالشأن في القرآن الكريم الكتاب المقدس الخالد.
هذا المنهج يفتح المجال للتفكير والبحث والتقدم العلمي القائم على القيم الروحية والخلقية في كل عصر إلى يوم القيامة، وهو ما حثّ عليه القرآن الكريم والسنة الشريفة، لأن حقائق القرآن ثابتة لا تخضع لنظرية علمية أو تفسير كوني أو إنساني يختلف من عصر إلى عصر، وعلى سبيل المثال ما قبل في تفسير إشارة التصوير القرآني لحركة الشمس في مجرة فلكها في قوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: ٣٨]، فهذا التأويل لإشارة الآية مقبول في عصرنا، ولايتعارض مع الحقيقة العامة في القرآن الكريم، ولا مع جميع مراحل تفسيرها قديمًا وحديثًا، ولا تقصر الآية عليها؛ فلا تتعدَّاه في المستقبل إلى غيرها من الإشارات والتأويلات، التي سيصل إليها التقدم العلمي في المستقبل، حين يفسر العلماء جريان الشمس في مجرة فلكها تفسيرًا علميًّا آخر، لا يتعارض مع ما سبقه من إشارات وتأويلات، وهكذا في غيرها من الحقائق الكونية، التي يشير إليها التصوير القرآني المعجز، لتقدم العقل البشري وعلومه في كل عصر، ولا تتعارض مع نص قرآني مطلقًا.
1 / 7
هذا المنهج قد أشار إليه التصوير القرآني في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: ٣٩]، ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ٧]، ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٩]، ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج:؛ ٥٤]، ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ٥٢] ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٦٧]، ﴿نُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٣]، وغيرها من الآيات التي جاءت صريحة في هذا المنهج الرباني مما لا يحتاج إلى شرح أو تعقيب على ما ذكرناه.
وقد فسر ابن كثير "م ٧٧٤هـ" قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ فقال: "أي ستظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقًّا منزلًا من عند الله ﷿ على رسوله ﷺ بدلائله خارجية في الآفاق من الفتوحات، وأن هذه الآية تشير إلى
1 / 8
بعض الحقائق في علوم الأحياء والتشريح، وجاء في تفسير الطبري "٢٥/ ٥" أن ابن زيد السلفي قال: آفاق السماوات نجومها وشمسها وقمرها اللائي يجرين، وآيات في أنفسهم".
وينكر الداعية الإسلامي الشيخ محمد متولي الشعراوي على الذين يحاولون ربط القرآن الكريم بنظريات علمية مكتشفة: "ويحاولون إثبات القرآن الكريم بالعلم، والقرآن ليس في حاجة إلى العلم ليثبت؛ فالقرآن ليس كتاب علم، ولكنه كتاب عادة ومنهج، ولكن الله ﷾ علَّم أنه بعد عدة قرون من نزول القرآن الكريم سيأتي عدد من الناس ويقول: انتهى عصر الإيمان، وبدأ عصر العلم، والعلم الذي يتحدَّثون عنه قد بينه القرآن الكريم كحقائق كونية منذ أربعة عشر قرنًا" "معجزة القرآن -الجزء الأول- مؤسسة أخبار اليوم مصر ١٩٩٣م"، ويقول الأستاذ عبد الرزاق نوفل: "أثبت التقدم الفكري في العصر الحديث أن القرآن كتاب علمي جمع أصول كل العلوم والحكمة ... وكل مستحدث في العلم نجد أن القرآن قد وجه إليه النظر أو أشار إليه" "القرآن والعلم الحديث -مؤسسة دار الشعب بالقاهرة ١٩٨٢م"، ويشير الدكتور محمد ناظم نسيمي إلى أن العلوم الكونية من صناعة وزراعة وطب وغيرها، ليست نصوصًا مفصلة في القرآن الكريم، فإذا أشار إليها القرآن، يريد أن يوجه الإنسان إلى الإيمان بالخالق، مبدع هذه الكائنات، وما فيها من خواص الطبيعة وقواعد العلم؛ فيحيا في عقيدة صحيحة، وتفكير سديد، وسلوك قويم "مع الطب في القرآن الكريم -مؤسَّسة القرآن بدمشق- الطبعة الأولى ١٩٨٤م"، ويقول الدكتور مصطفى محمود: "إن القرآن كلام الله الذي لا نهاية لمعانيه، وهو كتاب جامع ... ولهذا فإنه احتمل أكثر من من منهج في التفسير؛ فهناك التفسير
1 / 9
البياني ... والتفسير العلمي الذي يركز على الآيات الكونية في الفلك والطب والأجنة، وعلى معطيات الموضوعية العلمية، وهناك التفسير الإشاري ... إلى آخره، ولكل منهج من هذه المناهج مكانة، وكلها مكملة لبعضها البعض، والاجتهاد فيها لا ينتهي، ونظرًا لكثرة المعلومات المتاحة في العصر العلمي الذي نعيشه، أخذ التفسير العلمي مكان الصَّدارة؛ إذ وجدنا آيات القرآن تتوافق مع كل ما يجد من معارف ثابتة. وهو يرد على المعترضين بحجة العلم وعدم ثباته" "التفسير العلمي للقرآن بين المؤيدين والمعارضين -تحقيق بمجلة المسلمين ١٤٠٢هـ- ١٩٨١م"، والشيخ عبد المجيد الزنداني أمين عام هيئة الإعجاز العلمي للقرآن والسنة، له كتب عديدة في مجال الإشارات العلمية للقرآن الكريم، وبحوث منشورة في مؤتمراتها بمكة المكرمة.
وعندنا في مصر جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة، أشهرت برقم ٩٢٤ عام ١٩٨٨م، اتخذت لها منهجًا في التفسير العلمي للقرآن الكريم، يقوم على ضوابط هي بإيجاز:
١- تجميع الآيات التي تعالج قضية واحدة.
٢- مراعاة تعدد معاني الألفاظ.
٣- خضوع التفسير لدلالات اللغة العربية وقواعدها.
٤- عدم العدول عن حقيقة اللفظ إلى مجازه كلما توفر.
٥- الاستعانة بالتفاسير السابقة مع استبعاد الخرافات والإسرائيليات الموجودة في بعضها.
٦- عدم تعارض التفسير المقترح مع نصِّ قرآني.
1 / 10
٧- التثبت من حقائق العلم قبل استخدامها في التفسير وعدم إقحامها في غير موضعها.
٨- القرآن الكريم هو الذي يحكم على صحة أو بطلان النظريات العلمية.
٩- الاستعانة بتفسير القرآن للقرآن.
١٠- استحالة التعارض بين آيات القرآن مع بعضها، أو بين آيات القرآن وصحيح الحديث الشريف، أو بين القرآن والحقائق الكونية المثبتة "كتاب الإعجاز في القرآن والسنة ص٩، صدَّ عن جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة بجمهورية مصر العربية، عدد١ عام ١٩٩٧ برقم إيداع ٣٩٤٧".
جزى الله تعالى عني وعن الإسلام وعن القرآن الكريم أستاذي الجليل الأستاذ الدكتور: محمد نايل أحمد، عميد كلية اللغة العربية، فقد عرضت عليه بعض الموضوعات لتسجيلها بحثًا للعالمية "الدكتوراه" عام ١٩٦٩م، وكان من بينها موضوع: "الصورة الأدبية في القرآن الكريم" وإذا به ينزعج، فينض قائمًا وهو يقول: أنت أنت تكتب في هذا الموضوع، قطعنا شوطًا طويلًا من حياتنا وكنا نخشى أن نقدم على مثل هذه الموضوعات في القرآن الكريم، ولما هدأت أنفاسه وضع يده اليمنى على منكبي، وهو يحدثني في هدوء: أترك هذا الموضوع الآن لوقت لاحق، وفكر في موضوع آخر، وليكن "الصورة الأدبية في شعر أبي تمام أو المتنبي أو ابن الرومي"، وتحوَّلت عن ذلك، واخترت: الصورة الأدبية في شعر ابن الرومي بحثًا "للدكتوراه"، وحمدت الله
1 / 11
﷿ على هذا الموقف الذي أرشد مجرى التفكير في حياتي العلمية؛ فقد أفادني كثيرًا في بحثي في "الصورة الأدبية في شعر ابن الرومي" بصفة عامة، فنشرت أكثر من كتاب، وبدأت اتحرى الكتابة في القرآن الكريم من هذا التاريخ والموقف الرشيد، حتى خرج هذا الكتاب بعد أن نشرت بحوثًا كثيرة في هذا الشأن، منها بحث نشر بعنوان: "التصوير القرآني" لا الأدبي في القرآن الكريم١، ثم رقيت به مع بحوث أخرى إلى درجة "أستاذ" في الأدب والنقد عام "١٩٨٣م"، ثم توالت البحوث على هذا النحو، وكلما أقدمت على نشر هذا الكتاب، راجعت نفسي فيما كتبت مرات ومرات، وأخيرًا استخرت الله ﷿ فأقدمت على نشره في رمضان المباكر عام "١٤٢١ هـ" داعيًا الله ﷿ أن يجنبنا الزلل، وأنا أردِّد قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٨٦]، وداعيًا الله ﷿ أن ينفع به، وأن يكون لي ولوالدي ولأساتذتي ولأهلي في ميزان حسناتنا، وأن يكون القرآن الكريم لنا شفيعًا يتآزر مع شفاعة سيدنا محمد ﷺ في الدين والدنيا والآخرة، إنه نعم المولى ونعم النصير، فهو القائل وقوله الحق: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: ١٨٦] .
_________
١ مجلَّة الوعي الإسلامي: عدد ٢٠٣ في ذي القعدة عام ١٤٠١هـ/ سبتمر ١٩٨١م بالكويت، ص٨٢ وما بعدها.
1 / 12
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد ﷺ خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين -رضي الله عنهم ورضوا عنه. هذا وبالله تعالى التوفيق.
في ليلة السبت: ٢١٧ من رمضان المبارك ١٤٢١هـ
الموافق: ٢٣ من ديسمبر ٢٠٠٠م
علي علي صبح
الأستاذ في كلية اللغة العربية بالقاهرة رئيس قسم الأدب والنقد والعميد الأسبق جامعة الأزهر الشريف
1 / 13
الفصل الأول: معالم التصوير القرآني
القرآن: المعجزة الخالدة
فضل الله ﷿ أمة محمد ﷺ خير الأمم بمعجزة خالدة، تؤيّد رسالته إلى يوم القيامة، وهي القرآن الكريم، بينما غيرها من المعجزات له وللأنبياء السابقين ﵈ أيدت نبوتهم ورسالتهم إلى أقوامهم ساعة حدوثها، لكي يؤمنوا، دون استمرار ودوام، فلا يبقى لها أثر بعد نبيهم لقومه أو لأقوام غيرهم، مثل معجزات نجاة إبراهيم من النار، وقلب عصا موسى حية، وإحياء الموتى لعيسى ﵈، وانشقاق القمر وتسبيح الحصى لسيدنا محمد ﷺ، قد أدت دورها تأييدًا للرسالة ساعة حدوثها، ثم انتهى دورها إلى الأبد من غير أثر خالد لا كمعجزة القرآن الكريم الخالدة.
أما مظاهر الاختلاف بين معجزة القرآن الكريم وغيرها فهي كثيرة، فالقرآن الكريم لم يكن لقوم معينين دون غيرهم، بل كان تشريعًا للعالمين كافة، وللناس جميعًا، فلا زال عطاؤه كاملًا ومتجددًا، وسيظل إلى الأبد يعطي لكل جيل، وزمان عطاء يختلف باختلاف الأجيال والأزمان، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٣]، تكفَّل الله تعالى بحفظه وتقديره حتى من العاصي والكافر، كما تكفل باستمرار العمل به حفظًا ومنهجًا وتشريعًا وسلوكًا إلى قيام الساعة: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] .
والقرآن الكريم كلام الله المقدس، وكتاب الحق الخالد، شرح الله تعالى به الصدور، وأحيا به القلوب، وأيقظ العقول، وأرشد عباده من الضلال إلى الهدى، وأخرجهم من الظلمات إلى النور:
1 / 17
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: ١٥، ١٦]، وعن علي بن أبي طالب ﵁ أنه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: "ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ عنه الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرَّدّ، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".
وسيظل الكتاب الخالد الذي لا تنفد كلماته إلى الأبد: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: ١٠٩]؛ فكتاب الله المقدس هو القيم على الخلق بشيرًا ونذيرًا، متمسكون به، ماكثين عليه في استقامته بلا عوج إلى الأبد، قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا
1 / 18
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ [الكهف: ١-٣] .
وهذه المعجزة الكبرى الأبدية، تحدَّى بها الرسول ﷺ المعاندين من الإنس والجن، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة، بعد أن انتهت إليهم صولتها، وجولتها، فبلغوا فيها القمة حتى تميَّزوا بها بين الشعوب والأجناس، لكنهم عجزوا عن التحدِّي والمجاراة مبهورين ببلاغته وسحره، وظلوا كفارًا معاندين مكابرين، يهذون في لجاجة وعناد، كما صورهم القرآن الكريم: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥]، بل بلغوا في الخصومة والجدل أنهم ادعوا افتراء أن يأتوا بمثله: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: ٣١]، وقالوا أيضًا: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ [الأنبياء: ٥]، وتحدَّى الإنس والجن على أن يأتوا بمثله فعجزوا: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨]، ولما عجزوا تحدَّاهم على أن يأتوا بعشر سور مفتريات: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: ١٣]، بل ترخص لهم في أن ياتوا بسورة واحدة: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣]، بل أقر أبلغ بلغائهم بالتسليم والاعتراف بأنه ليس من كلامهم ولا من شعرهم ولا من خطبهم، ولا من كلام الإنس ولا الجن، لأنه هزَّ أعماق نفوسهم
1 / 19
وغيَّر حياتهم وعقيدتهم، فقد أسلم عمر بن الخطاب وهو من أشدهم عنادًا وحربًا على الإسلام، كما في قصته المعروفة مع أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد، بعد أن سمع خبابًا ﵁ يتلو عليهما القرآن من سورة طه؛ فاقشعرَّ جسده، واطمأن قلبه بذكر الله، فأعلن إسلامه بعد أن قال: "ما أحسن هذا الكلام وأكرمه"، وهذا أبلغ الكفار المعاندين الوليد ابن المغيرة، أرسله قومه ليتحدَّى الرسول ﷺ في بلاغة أقواله؛ فيعود إليهم مدحورًا بعد أن سمع القرآن الكريم يقول لهم: "فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي نقول شيئًا من هذا"، وفي رواية: "والله لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه يعلو ولا يعلى...... ما يقول هذا بشر"١.
ومثل هذا قول عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن الكريم: يا قوم لقد علمتم أني لم أترك شيئًا إلا وقد علمته وقرأته وقلته، والله لقد سمعت قولًا، والله ما سمعت مثله قط، ما هو بالشعر ولا بالسحر ولابالكهانة"٢.
وبعد عنادهم وإخراجهم المسلمين من مكة وعدوانهم عليهم، ندموا على ذلك، وآمنوا به وصدقوه، وأصبحوا جند الله تعالى في الأرض شرقًا وغربًا، يدافعون عنه ويقاتلون في سبيله؛ لأنه كتاب الله المقدس، ومعجزته الخالدة.
_________
١ سيرة ابن هشام: والشفاء للقاضي عياض، والإتقان للسيوطي.
٢ الشفاء للقاضي عياض ١/ ٢٣٢.
1 / 20
وجوه الإعجاز
اهتمَّ العلماء قديمًا وحديثًا بالتعرُّف على وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وسمو بلاغته المعجزة، وأخرجوا في ذلك مؤلفات وبحوثًا كثيرة، اختصت به، ومن أشهرها: "إعجاز القرآن" لأبي عبيدة "م ٢٠٧هـ"، وكتاب "نظم القرآن" للجاحظ "م ٢٥٥هـ"، وكتاب "إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه" لأبي عبد الله محمد بن يزيد الواسطي "م ٣٠٦هـ"، وشرحه عبد القاهر الجرجاني في كتابه "المعتضد"، وكتاب "نظم القرآن" لابن الإخشيد، وكتاب "نظم القرآ،" لابن أبي داود "م ٣١٦هـ"، وكتاب "إعجاز القرآن" للرماني "م ٣٨٣هـ"، وللإمام الخطابي "م ٣٨٨هـ"، وللقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني "م ٤٠٣هـ"، وكتاب "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني "م ٤٧١هـ".
وكذلك ألف في إعجازه: فخر الدين الرازي "م ٦٠٦هـ"، وابن الإصبع "م ٦٥٣هـ"، والزملكاني "م ٧٢٧هـ"، والقاضي عياض في كتابه "الشفاء"، والسيوطي في كتابه "الإتقان"، ومصطفى صادق الرافعي في كتب وبحوث منها "إعجاز القرآن" "م ١٩٣٧م"، والدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه "النبأ العظيم" "١٨٩٤- ١٩٥٨م"، والشيخ محمد متولي الشعراوي في كتابه "معجزة القرآن"، والأستاذ سيد قطب في كتابيه "التصوير الفني في القرآن"، و"في ظلال القرآن الكريم"، والأستاذ عبد الرزاق نوفل في كتبه "والله والعلم الحديث"، و"الإسلام والعلم الحديث"، و"القرآن والعلم الحديث"، و"الإعجاز العددي في القرآن الكريم" عدة أجزاء، والأستاذ بديع
1 / 21
الزمان سعيد النورسي التركي "م ١٩٦٠م" في كتابه: "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز"، والدكتور محمود ناظم نسيمي السوري في كتابه: "مع الطب في القرآن الكريم"، والشيخ عبد المجيد الزنداني في بحثه: "المعجزة العلمية في القرآن والسنة"، وكتابه: "توحيد الخالق"، والدكتور مصطفى محمود في كتابه: "القرآن محاولة لفهم عصري"، والدكتور منصور حسب النبي في كتابه" الكون والإعجاز العلمي للقرآن"، وكتاب "القرآن الكريم والعلم الحديث"، وكتاب "الإشارات القرآنية للسرعة القصوى والنسبية"، وله أيضًا: "موسوعة المعارف الكونية في ضوء القرآن -للفتيان"، والدكتور عبد الله عبد الرزاق سعود في كتابه "العسل من الإعجاز الطبي في القرآن"، والدكتور عبد الغني الراجحي في كتابه: "الأرض والشمس في منظور الفكر الإسلامي"، والدكتور محمد أحمد الغمراوي في كتابيه: "الإسلام في عصر العلم"، و"سنن الله الكونية"، وصلاح الدين خشبة في رسالته: "العلم والإيمان"، ومحمد محمد إبراهيم في رسالته "إعجاز القرآن في علم طبقات الأرض"، وعلي عبد العظيم في كتابه: "في ملكوت السماوات والأرض"، وحنفي أحمد في كتابيه: "التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن" و"معجزة القرآن في وصف الكائنات"، والدكتور محمد صدقي في كتابه: "علم الفلك والقرآن"، والشيخ محمد بخيت المطيعي في كتابه: "تنبيه العقول الإنسانية لما في آيات القرآن من العلوم الكونية والعمرانية"، والدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه: "الإسلام والطب الحديث"، وعبد الله فكري باشا في كتابه: "القرآن ينبوع العلم والعرفان"، والغازي أحمد مختار باشا في كتابه "سرائر القرآن"، ومحمد عفيفي الشيخ في كتابه: "القرآن
1 / 22
الكريم وعلوم الغلاف الجوي"، ومحمد توفيق صدقي في كتابه: "دروس سنن الكائنات"، وعمربن أحمد الملباري في كتابه: "إعجاز القرآن في مسألة اللؤلؤ والمرجان"، ومحمد بن أحمد الإسكندراني في كتابيه: "كشف الأسرار النورانية في النبات والمعادن والخواص الحيوانية"، و"البراهين البينات في بيان حقائق الحيوانات"، والدكتور عبد الله شحاته في كتابه: "تفسير الآيات الكونية"، والعلامة وحيد الدين خان في كتابه: "الإسلام يتحدى"، ومصطفى الدباغ في كتابه: "وجوه الإعجاز"، والدكتور محمد جمال الدين القندي في كتابه: "الله والكون"، ومحمد عبد القادر الفقي في كتابه: "القرآن الكريم وتلوث البيئة"، والدكتور محمد يوسف حسن في كتابه: "قصة السماوات والأرض"، والدكتور عبد الحميد محمد عبد العزيز في كتابه: "الإنسان بين الحقائق القرآنية والمعارف الطبية"، والدكتور عبد العليم عبد الرحمن خضر في كتبه: "الظواهر الجغرافية بين العلم والقرآن"، "هندسة النظام الكوني في القرآن"، "الماء والحياة بين القرآن والعلم"، "المدخل الإيماني للدراسات، الكونية"، وتوفيق محمد عز الدين في كتابه: "دليل الأنفس بين القرآن والعلوم الحديثة"، واللواء المهندس أحمد عبد الوهاب في كتابيه "العلوم الذرية المدنية في التراث الإسلامي"، "خاصية النظام بين الكون والقرآن"، والدكتور كارم السيد غنيم في "رحلة مع الجراد"، "عجائب العنكبوت"، "الإشارات الكونية في القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق"، "حاشية الحليب في ضوء القرآن وسنة الحبيب"، ورءوف أبو سعدة في كتابه: "العلم الأعجمي في القرآن مفسرًا بالقرآن"، والدكتور محمد السعيد إمام في كتابه: "حديث الإسلام عن الأشجار"، والدكتور محمد البار
1 / 23
في كتبه: "خلق الإنسان بين الطب والقرآن"، "الخمر بين الطب والفقه"، "تحريم الخنزير" "دورة الأرحام" والدكتور الطاهر توفيق في كتابه: "القرآن والإعجاز في خلق الإنسان"، وعبد المنعم السيد عشري في كتابه: "تفسير الآيات الكونية في القرآن"، والدكتور توفيق علوان في كتابه: "معجزة القرآن في الوقاية من مرضى دوالي الساقين"، والدكتور محمد عثمان الخشت في كتابه: "وليس الذكر كالأنثى من منظور الإسلام والعلوم الحديثة"، وعبد الحميد محمود في كتابه: "المعجزة والإعجاز في سورة النمل"، والدكتور محمد علي البنبي في كتابه: "نحل العسل بين القرآن والطب"، وكذلك الدكتور أحمد شوقي إبراهيم، والدكتور عبد الحليم منتصر، والدكتور دسوقي الفنجري، والدكتور زغلول راغب النجار، والدكتور محمد أحمد الشهاوي، والمهندس مصطفى بدران، والدكتور أحمد حسنين القفل، والدكتور علي علي المرسي، وغيرهم كثيرون، وانتهوا جميعًا في مؤلفاتهم إلى أن جوانب الإعجاز في القرآن الكريم ووجوهه كثيرة لا تدخل تحت الحصر، وقد تظهر له وجوه أخرى في المستقبل لا يعلمها إلا الله سبحانه، لأنه يتجدد مع مقتضيات كل عصر، ويلبي احتياجات المجتمعات المتنوعة والمتجدة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، ومنها:
١- كان القرآن الكريم معجزًا لإخباره عن المغيبات للأمم السابقة في الماضي البعيد، بعد انقطاع الصلات والأخبار، فيخبرنا عن الأنبياء والرسل والصالحين، وعن أقوامهم البائدة، وعن شرائعهم وكتبهم المقدسة، وأحوالهم معهم، وعاقبة أمرهم، وعرضها وتصويرها في القرآن الكريم بطريقين عن طريق القصص القرآني، وعن طريق عرض
1 / 24
أخبارهم وتأريخها في تصوير قرآني بديع مثل قصة نوح وإبراهيم وهود وصالح وشعيب وموسى وعيسى وغيرهم ﵈، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: ١١١] .
٢- للإخبار عن المغيبات التي ستقع في المستقبل؛ فقد أخبر القرآن الكريم عن هزيمة الروم من الفرس، ثم انتصارهم عليهم، وحينئذ ينتصر المؤمنون عليهم، فقال تعالى: ﴿الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: ١- ٥]، وأخبر عن انتصارات الإسلام بعد الهجرة مباشرة في بدر، فقال تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾، وفي فتح مكة، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: ٢٧] .
٣- وكذلك ما انتهى إليه العلم الحديث من نظريات علمية مثل: دوران الأرض وكرويتها، وعلم الأجنة، والجلود مصدر الإحساس، واختلاف البصمات، وغيرها، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٤]،
1 / 25