الماتريدية د. عبد المجيد بن محمد الوعلان

1 / 1

المقدمة الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا بحث مختصر عن الماتريدية (^١)، ويشمل تمهيد خمسة فصول: التمهيد وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: التعريف بالماتريدية ومؤسسها. المطلب الثاني: نشأتها. المطلب الثالث: أسباب انتشار الماتريدية. الفصل الأول: مصدر التلقي ومنهج الاستدلال عند الماتريدية، وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: الاعتماد على العقل. المبحث الثاني: ترك الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقائد. المبحث الثالث: القول بالمجاز. المبحث الرابع: التأويل والتفويض. المبحث الخامس: القول بالتحسين والتقبيح العقليين. الفصل الثاني: الإيمان بالله، وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: معرفة الله واجبة عندهم بالعقل قبل ورود السمع. المبحث الثاني: إيمان المقلد. المبحث الثالث: توحيد الربوبية. المبحث الرابع: توحيد الألوهية المبحث الخامس: توحيد الأسماء والصفات.

(^١) مستفاد من: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للأفغاني، والماتريدية دراسة وتقويما لأحمد الحربي، والماتريدية لمحمد الخميس، مع بعض الإضافات اليسيرة.

1 / 2

الفصل الثالث: بقية أركان الإيمان، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الإيمان بالرسل، وفيه مطلبان. المطلب الأول: بما تثبت النبوة. المطلب الثاني: المعجزة والكرامة. المبحث الثاني: الإيمان باليوم الآخر. المبحث الثالث: الإيمان بالقضاء والقدر، وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: مراتب الإيمان بالقضاء والقدر. المطلب الثاني: أفعال العباد. المطلب الثالث: القدرة والاستطاعة. المطلب الرابع: التكليف بما لا يطاق الفصل الرابع: مسائل الإيمان، وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: معنى الإيمان. المبحث الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه. المبحث الثالث: الاستثناء في الإيمان. المبحث الرابع: العلاقة بين الإيمان والإسلام. المبحث الخامس: حكم مرتكب الكبيرة. الفصل الخامس: الموازنة بين الماتريدية والأشاعرة، وفيه مبحثان: المبحث الأول: المسائل الخلافية بينهما حقيقة. المبحث الثاني: المسائل الخلافية بينهما لفظا. الخاتمة: وفيها أهم النتائج. أسأل الله ﷿ أن يجعله خالصا لوجه الكريم. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد. عبد المجيد بن محمد الوعلان awalaan@gmail.com

1 / 3

تمهيد المطلب الأول: التعريف بالماتريدية: الماتريدية: فرقة كلامية بدعية، تنسب إلى أبي منصور الماتريدي، قامت على استخدام البراهين والدلائل العقلية والكلامية في محاججة خصومها، من المعتزلة والجهمية وغيرهم، لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية (^١). التعريف بأبي منصور الماتريدي ١ - نسبه وحياته: هو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود بن محمد الماتريدي (^٢) السمرقندي الحنفي، المتكلم، ولم تذكر المصادر القديمة تاريخ ولادته، وقد ذكر بعض المعاصرين أن تاريخ ولادته تقريبا سنة ٢٣٨ هـ والله أعلم (^٣)، وذكر بعضهم أن ولادته كانت سنة ٢٥٨ هـ. وأما وفاته فاتفق المترجمون للماتريدي أنه توفي سنة (٣٣٣ هـ) (^٤). تلقى علوم الفقه الحنفي والكلام على علماء ذلك العصر، ومنهم نصر بن يحيى البلخي المتوفى سنة ٢٦٨ هـ-، وغيره من كبار علماء الأحناف، كأبي نصر العياضي وأبي بكر أحمد الجوزجاني وأبي سليمان الجوزجاني، حتى أصبح من كبار علماء الأحناف وقد تتلمذ عليه بعض المشاهير في علم الكلام. وقد كان لأبي منصور - وفق عقيدته- مناظرات ومجادلات عديدة مع المعتزلة في الأمور التي خالفهم فيها، وله مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون.

(^١) الموسوعة الميسرة: ١/ ٢٩. (^٢) نسبة إلى "ماتريد "بفتح الميم وسكون الألف وضم التاء الفوقانية المثناة، وكسر الراء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، ودال مهملة، أو "ماتريت "بدل الدال المهملة تاء فوقها نقطتان، والأول أشهر وهي محلة من مدينة سمرقند. انظر: الأنساب: ١٢/ ٢، الفوائد البهية: ١٩٥. (^٣) انظر: عقيدة الإسلام لأبي الخير: ٢٦٥، مقدمة فتح الله لكتاب التوحيد للماتريدي: ٢، مقدمة إبراهيم عوضين والسيد عوضين لتأويلات أهل السنة للماتريدي: ١٠. (^٤) انظر: مقدمة فتح الله لكتاب التوحيد: ٣، إمام أهل السنة لعلي المغربي: ١٤، الماتريدية للأفغاني: ١/ ٢١٠ - ٢١٤.

1 / 4

وكان يلقب فيما وراء النهر بإمام السنة وبإمام الهدى - عند الماتريدية- (^١)، وقد وقف في وجه المعتزلة الذين كانوا فيما وراء النهر إلا أنه كان قريبا منهم في النظر إلى العقل، ولم يغل فيه غلوهم، بل اعتبره مصدرا آخر إضافة إلى المصدر الأساسي وهو النقل، مع تقديم النقل على العقل عند الخلاف بينهما، إلا أنه يعتبر معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع، وإن الله يعاقبه على عدم هذه المعرفة (^٢). قال عبد الله المرائي في كتاب (الفتح المبين) في طبقات الأصوليين: "كان أبو منصور قوي الحجة، فحما في الخصومة، دافع عن عقائد المسلمين- يعني الماتريدية-، ورد شبهات الملحدين" (^٣). ٢ - مصنفاته: للماتريدي مؤلفات كثيرة منها: ١ - التفسير المعروف باسم (تأويلات أهل السنة) أو (تأويلات القرآن)، وهو معروف ومشهور عند الماتريدية ولا يوازيه عندهم أي تفسير آخر لا قبله ولا بعده. ٢ - كتاب (التوحيد)، ويعد من أهم مؤلفاته الكلامية؛ وذلك لأنه قد قرر فيه نظرياته الكلامية، وبين فيه معتقده في أهم المسائل الاعتقادية. ٣ - رسالة في الإيمان. ٤ - المقالات، ويعد من أقدم كتب المقالات؛ وذلك لتقدم مؤلفه ولكن الكتاب مفقود. ٥ - بيان وهم المعتزلة. ٦ - رد تهذيب الجدل. ٧ - رد وعيد الفساق. ٨ - رد أوائل الأدلة. ٩ - رد الأصول الخمسة لأبي محمد الباهلي. ١٠ - الرد على القرامطة. ١١ - رد الإمامة، وهو رد على بعض الروافض. ١٢ - مأخذ الشرائع. ١٣ - الجدل (^٤).

(^١) انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية: ١/ ١٩٧. (^٢) فرق معاصرة لغالب عواجي: ٣/ ١٢٢٨. (^٣) ١/ ١٩٣، ١٩٤. (^٤) انظر: الماتريدية للحربي: ١٠٩ - ١١٤.

1 / 5

٣ - شيوخه وتلاميذه: أولا: شيوخه: ١ - محمد بن مقاتل الرازي، حدث عن وكيع وطبقته، تكلم فيه، ولم يترك. مات سنة ثمان وأربعين ومائتين، وله تصانيف منها المدعي والمدعى عليه (^١). ٢ - أبو نصر العياضي أحمد بن العباس بن الحسين بن جبلة السمرقندي، وكان من أهل العلم والجهاد، وليس له رواية ولا حديثا، أسره الكفار فقتلوه صبرا في بلاد الترك في أيام نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أسد بن سامان. ٣ - أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني، وكان من الجامعين بين علم الأصول وعلم الفروع، وكان في أنواع العلوم في الدرجة العالية، وله كتاب (الفرق والتمييز) وكتاب (التوبة) وغيرهما. ٤ - نصير بن يحيى البلخي، وقيل نصر، كان بارعا في الفقه الحنفي والكلام توفي سنة ٢٦٨ هـ (^٢). ثانيا: تلاميذه: ١ - أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن زيد القاضي الحكيم السمرقندي، أخذ الفقه والكلام عن الماتريدي، ويعد من أشهر تلاميذه. وذكر أبو المعين أنه توفي سنة ٣٣٥ هـ، وقيل سنة ٣٤٢ هـ. ٢ - أبو الحسن علي بن سعيد الرستغفني، نسبة إلى رستغفن، وهي قرية من قرى سمرقند، وقد وصف الرستغفني من ترجم له بأنه من كبار مشايخ سمرقند، ومن أصحاب الماتريدي الكبار، وله ذكر في الفقه والأصول في كتب الحنفية. ٣ - أبو محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى الفقيه البزدوي، تفقه على أبي منصور الماتريدي وسمع وحدث، وقد برع في الفقه خاصة. قال القرشي ذكر في تاريخ نسف أنه مات سنة ٣٩٠ هـ في رمضان. ٤ - أبو أحمد بن أبي نصر أحمد بن العباس العياضي، وهو ابن أبي نصر العياضي شيخ الماتريدي. ٥ - أبو عبد الرحمن بن أبي الليث البخاري، أخذ عن أبي منصور الماتريدي الكلام والفقه، وهو صاحب أبي القاسم الحكيم السمرقندي (^٣). ٦ - أبو اليسر البزدوي (٤٩٣ هـ).

(^١) ميزان الاعتدال: ٤/ ٤٧. (^٢) الماتريدية للحربي: ١٠٠ - ١٠٣. (^٣) الماتريدية للحربي: ١٠٤ - ١٠٨.

1 / 6

المطلب الثاني: نشأة الماتريدية بدأت نشأة الماتريدية في نهاية القرن الثالث على يد أبي منصور الماتريدي، واتسمت بشدة المناظرات مع المعتزلة وغيرهم، فكانت له جولاته ضد المعتزلة وغيرهم، ولكن بمنهج غير منهج الأشعري، وإن التقيا في كثير من النتائج غير أن المصادر التاريخية لا تثبت لهما لقاء أو مراسلات بينهما، أو إطلاع على كتب بعضهما. ثم بعد ذلك أصبح لأبي منصور تلاميذ عملوا على نشر أفكار شيخهم وإمامهم، ودافعوا عنها، وصنفوا التصانيف متبعين مذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع (الأحكام)، فكان ذلك سببا لرواج العقيدة الماتريدية في سمر قند. ثم بعد انتشار الماتريدية نشط اتباعها بالتأليف، فصنفوا المؤلفات في بيان عقيدة الماتريدية والتأسيس لها. وكان من أشهر من صنف أبو المعين النسفي (٤٣٨ - ٥٠٨ هـ): وهو ميمون بن محمد بن معتمد النسفي المكحولي، ويعد من أشهر علماء الماتريدية، ومن أكبر من قام بنصرة مذهب الماتريدي، وهو بين الماتريدية كالباقلاني والغزالي بين الأشاعرة، ومن أهم كتبه (تبصرة الأدلة)، ويعد من أهم المراجع في معرفة عقيدة الماتريدية بعد كتاب (التوحيد) للماتريدي، بل هو أوسع مرجع في عقيدة الماتريدية على الإطلاق، وقد اختصره في كتابه (التمهيد)، وله أيضا كتاب (بحر الكلام)، وهو من الكتب المختصرة التي تناول فيها أهم القضايا الكلامية. ومنهم أيضا نجم الدين عمر النسفي (٤٦٢ - ٥٣٧ هـ)، كان من المكثرين من الشيوخ، وأخذ عنه خلق كثير، وله مؤلفات بلغت المائة، منها: (مجمع العلوم)، (التيسير في تفسير القرآن)، (النجاح في شرح كتاب أخبار الصحاح في شرح البخاري) وكتاب العقائد المشهورة بـ (العقائد النسفية)، والذي يعد من أهم المتون في العقيدة الماتريدية وهو عبارة عن مختصر (لتبصرة الأدلة) لأبي المعين النسفي. ثم لا يزال الأمر في الاتساع والانتشار وكثرة التأليف للكتب الماتريدية من: المتون، والشروح، والشروح على الشروح، والحواشي على الشروح. المدارس التي تتبنى الدعوة للماتريدية، وخصوصا في شبه القارة الهندية كالمدرسة الديوبندية، والمدرسة البريلوية وغيرها (^١).

(^١) الموسوعة الميسرة: ١/ ٩٩.

1 / 7

المطلب الثالث: أسباب انتشار الماتريدية انتشرت الماتريدية في أماكن متعددة لأسباب أهمها ما يلي: ١ - السبب الرئيس، بل أهم الأسباب، اعتناق السلاطين والملوك للمذهب الحنفي، فبسبب ذلك انتشر المذهب الحنفي في شرق الأرض وغربها، وعربها، وعجمها، وفارسها ورومها، وبانتشار الحنفية ونفوذ سلطانهم انتشرت الماتريدية، لأن الماتريدية كانوا يمثلون المذهب الحنفي في الفروع (الأحكام). ومن المعروف في التاريخ عبر القرون أن أية دولة إذا كانت تميل إلى مذهب ما فإنها تسهل وتوفر لعلمائها مناصب القضاء والإفتاء، والرئاسة والخطابة، والتأليف والتدريس؛ فيجدون أسبابا كثيرة وطرقا ميسورة لبسط سلطانهم، ونفوذ تأثيرهم على الشعوب والأوطان، وتشجعهم الدولة أيضا بإنشاء المدارس والجوامع، وبذلك تنشر أفكارهم ويزداد نشاطهم (^١). وهكذا انتشرت الماتريدية وعقائدهم في بلاد ما وراء النهر، والترك، والأفغان، والهند، والصين وما والاها. وقوى هذا السبب لنشر العقيدة الماتريدية في الهند وما جاورها، أن العلماء والمشايخ الذين وردوا الهند في عهود الملوك المسلمين: كان جلهم من علماء ما وراء النهر الذي كان معظم اعتمادهم على كتب المتأخرين من فقهاء الحنفية وكانت عنايتهم بكتب السنة ضعيفة وكانوا متأثرين بعلوم اليونان. ٢ - مدارس الماتريدية، ونشاطهم الدراسي والتدريسي: لمدارس الماتريدية دور عظيم في نشر عقيدتهم، وفي تاريخ الدولة العثمانية خدمت الحنفية والماتريدية في آن واحد، فكان سلطان الماتريدية يتسع حسب اتساع سلطان الدولة العثمانية، وكان جل القضاة والمفتين وخطباء الجوامع ورؤساء المدارس حنفية الفروع ماتريدية العقيدة. ٣ - نشاط الماتريدية في ميدان التأليف: للماتريدية نشاط بالغ وسعي متواصل في ميدان التصنيف في علم الكلام، وانتشرت هذه الكتب، وبانتشارها وتدريسها انتشرت العقيدة الماتريدية (^٢). ٤ - أمور أخرى تكون بمجموعها سببا قويا لانتشارهم وتأثر الناس بهم، وهي ما يلي: أ- تظاهرهم بمظهر أهل السنة بل دعواهم: أنهم والأشعرية يمثلون أهل السنة. ب- اتهامهم لأهل السنة المحضة وأصحاب الحديث بالتجسيم والتشبيه ونحو ذلك. ج- انتسابهم إلى السلف ولاسيما إلى الأئمة: "أبي حنيفة "و"الشافعي ". د- كثرة الحق الذي عندهم بالنسبة للباطل الذي عند غيرهم من أهل البدع. هـ- ردهم على الفرق الباطلة كالجهمية الأولى والمعتزلة والخوارج والروافض وغيرهم. و- ضعف بعض أهل السنة المحضة وأهل الحديث في نشر عقيدة السلف وبيان الحق والرد على المخالف (^٣).

(^١) النافع الكبير مقدمة الجامع الصغير للإمام محمد بن الحسن الشيباني ٧، الروضة البهية: ٤. (^٢) عقيدة الإسلام والإمام الماتريدي: ٤٨٠. (^٣) الماتريدية للأفغاني: ١/ ٢٩٤ - ٣٠١.

1 / 8

الفصل الأول: مصدر التلقي ومنهج الاستدلال عند الماتريدية، وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: الاعتماد على العقل. المبحث الثاني: ترك الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقائد. المبحث الثالث: القول بالمجاز. المبحث الرابع: التأويل والتفويض. المبحث الخامس: القول بالتحسين والتقبيح العقليين.

1 / 9

المبحث الأول: الاعتماد على العقل قسم الماتريدية أصول الدين إلى "عقليات" و"سمعيات"، وبنوا على ذلك موقفهم من النقل في باب ما يسمونه "العقليات"، فأي نقل خالف عقولهم في "العقليات" إن كان من أخبار الآحاد ردوه، وإن كان من المتواترات حرفوه أو أولوه بشتى التأويلات الفاسدة، وأما ما يتعلق بالمعاد فلا يؤولونه (^١). فمصدر الماتريدية في التلقي هو العقل يقول أبو منصور الماتريدي: "إن العلم بالله وبأمره عرض لا يدرك إلا بالاستدلال" (^٢). أي: بالمعرفة الاستدلالية القائمة على النظر العقلي. وقال في تفسيره لقوله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٦٥]: "حقيقة الحجة لكل ذلك إنما يكون في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها السمع لا العقل فلا يكون، وأما الدين فإن سبيل لزومه بالعقل فلا يكون لهم في ذلك على الله حجة" (^٣). كما جعلت الماتريدية معظم مباحث الإلهيات "عقليات"، فجعلوا "السمع" تابعا للعقل فيها، ومن هذه العقليات تلك الصفات الثمان التي يسمونها صفات عقلية ثبوتية، كما يسمونها (صفات المعاني) أيضا. ويعتمدون في إثباتها على الحجج العقلية التي يرونها قطعية، أما النصوص الشريعة فيذكرونها للاعتضاد لا للاعتماد (^٤). أما مباحث المعاد والنبوات فجعلوها سمعية، ويعبرون عن السمعيات بالشرعيات أيضا. وعرفوا الشرعيات بأنها أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتا ونفيا، ولا طريق للعقل إليها، وأما العقليات فهي ما ليس كذلك (^٥). وقد جعل بعضهم مباحث النبوات من قبيل العقليات (^٦).

(^١) الماتريدية للأفغاني: ١/ ٥٣٧ - ٥٤٠. (^٢) التوحيد: ٤ - ٦، ٣، ١٢٩، ١٣٧، وانظر: النبراس: ٣١٦ - ٣١٧. (^٣) انظر: التوحيد ١٨٥: ٢٢٤، التمهيد: ١٩، بحر الكلام: ٥، ٦، ١٤. (^٤) منهاج السنة: ٧/ ٣٧، وشرح الطحاوية: ٢٣٧. (^٥) شرح المواقف: ٢/ ٣٠٩. (^٦) انظر: المسايرة مع شرحها لقاسم بن قطلوبغا: ٢١٦ - ٢٤٢.

1 / 10

والماتريدية لا تقول بالقدرة المطلقة للعقل إذ إن العقل عندهم يدرك ظواهر الأشياء ولا يدرك ماهيتها وحقائقها، يقول الماتريدي موضحا هذا: "إن العقول أنشئت متناهية تقصر عن الإحاطة بكلية الأشياء والأفهام متقاصرة عن بلوغ غاية الأمر" (^١)، وهم بذلك يحاولون أن يصلوا إلى غايتهم وهي محاولة التوسط بين العقل والنقل، وهذا دفعهم إلى تقسيم العقائد إلى: إلهيات ونبوات يستقل العقل بإثباتها، وإلى سمعيات لا يستقل العقل بإثباتها ولا تدرك إلا بالسمع (^٢). وهذا المنهج الذي تحاول به الماتريدية التوسط بين العقل والنقل قائم أساسا على فكرة باطلة وهي أن نصوص الوحي متعارضة مع أحكام العقل، وهذا التعارض المزعوم إنما هو في الواقع مسلك الفلاسفة في الأصل الذين لا يثبتون النبوات ولا يرون أن إرسال الرسل وما جاءوا به حقائق ثابتة فمصدرهم في الاستدلال على إثبات الأمور هو العقل وما أثبته العقل فهو الثابت وما نفاه هو المنفي. قال الإمام أبو المظفر السمعاني ﵀: " اعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل؛ فإنهم أسسوا دينهم على المعقول وجعلوا الاتباع والمأثور تبعا للمعقول، وأما أهل السنة قالوا: الأصل في الدين الاتباع والعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء صلوات الله عليهم ولبطل معنى الأمر والنهي ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول وجب أن لا يجوز للمؤمنين أن يقبلوا أشياء حتى يعقلوا. ونحن إذا تدبرنا عامة ما جاء في أمر الدين من ذكر صفات الله ﷿ وما تعبد الناس (باعتقاده) وكذلك ما ظهر بين المسلمين وتداولوه بينهم ونقلوه عن سلفهم إلى أن أسندوه إلى رسول الله ﷺ من ذكر عذاب القبر وسؤال الملكين والحوض والميزان والصراط وصفات النار وتخليد الفريقين فيهما أمور لا تدرك حقائقها بعقولنا وإنما ورد الأمر بقبولها والإيمان بها، فإذا سمعنا شيئًا من أمور الدين وعقلناه وفهمناه فلله الحمد في ذلك والشكر ومنه التوفيق، وما لم يمكنا إدراكه وفهمه ولم تبلغه عقولنا آمنا به وصدقنا واعتقدنا أن هذا من قبل ربوبيته وقدرته واكتفينا في ذلك بعلمه ومشيئته، وقال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥]، وقال تعالى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاء﴾ [البقرة: ٢٥٥] ". ثم قال ﵀: " وإنمَّا علينا أن نقبل ما عقلناه إيمانًا وتصديقًا، وما لم نعقله قبلناه تسليمًا واستسلامًا، وهذا معنى قول القائل من أهل السنة: إن الإسلام قنطرة لا تعبر إلا بالتسليم" (^٣).

(^١) التأويلات: (١/ل ٦٥١) دار الكتب. (^٢) الماتريدية للحربي: ١٤٠ - ١٤٥. (^٣) الانتصار لأهل الحديث عن صون المنطق: ١٨٢ - ١٨٣.

1 / 11

المبحث الثاني: ترك الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقيدة من الأصول المنهجية لدى الماتريدية في تقرير العقيدة عدم الاحتجاج بأحاديث الآحاد في باب العقائد، فلا يحتجون إلا بالقرآن أو المتواتر من الأحاديث، ولا يثبتون العقيدة بالقرآن أو الحديث إلا إذا كان النص قطعي الدلالة (^١). وقالوا بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن ولا تفيد العلم اليقيني، وذلك لعروض الشبهة في كونها خبر الرسول، لعدم الأمن من وضع الأحاديث على النبي ﷺ (^٢). وقالوا يؤخذ بها في الأحكام الشرعية؛ وذلك حيطة في الأمر وأخذا بالحزم، وأن المتواتر لا يوجد في كل حادثة فلو رد خبر الواحد تعطلت الأحكام (^٣). وقد نص على عدم الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقائد الماتريدي في كتاب (التوحيد) وفي (التأويلات)، وذكر أن خبر الآحاد لا يوجب العلم لأنه لا يبلغ مرتبة الخبر المتواتر في إيجاب العلم والشهادة ولكنه يجب العمل به واستدل على وجوب العمل بخبر الواحد بأمر الله لمن يصلح للتفقه في الدين بالتخلف عن الجهاد لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم (^٤). والماتريدية في الحقيقة لا يحتجون بأحاديث الآحاد الصحيحة في الأحكام الشرعية العملية مطلقا بل حتى يكون الحديث مقبولا لديهم يجب أن يكون موافقا لقواعدهم وأصولهم التي قرروها وقد صرح به غير واحد منهم قال أبو زيد الدبوسي في (تأسيس النظر): " الأصل عند أصحابنا أن خبر الآحاد متى ورد مخالفًا لنفس الأصول مثل ما روي عن النبي ﵊ أنه أوجب الوضوء من مس الذكر لم يقبل أصحابنا هذا الخبر لأنه ورد مخالفا للأصول" (^٥).

(^١) انظر: شرح العقائد النسفية: ٣٤، المسامرة شرح المسايرة: ٣١، ٣٢. (^٢) النور اللامع: ل ٩٩، ١٠٠، الحواشي البهية: ١/ ٥٩. (^٣) شرح المنار لأبي البركات النسفي وحواشيه ٦٢٠، فتح الغفار شرح المنار: ٢/ ٧٩. (^٤) التوحيد: ٨، ٩، وانظر: التحرير لابن الهمام: ٣٣٤، الماتريدية للحربي: ١٧٧ - ١٨٥. (^٥) تأسيس النظر: ١٥٦. وانظر: «الأصول» لأبي الحسن الكرخي ملحقة بتأسيس النظر تحقيق مصطفى القباني: ١٦٦ - ١٧١.

1 / 12

وقول الماتريدية ومن وافقهم بعدم حجية أحاديث الآحاد في العقائد قول لا أصل له؛ بل هو مبتدع محدث، فتقسيم ما ورد عن النبي ﷺ إلى متواتر وآحاد تقسيم لم يكن معروفا في عصر الصحابة والتابعين، كما أن القول بأن خبر الواحد لا يفيد العلم قول ابتدعته القدرية والمعتزلة، وكان قصدهم منه رد الأحاديث ورفضها لأنها حجة عليهم (^١). وقد نص الإمام الشافعي ﵀ على إجماع المسلمين على حجية خبر الواحد في الرسالة حيث قال: " ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي " (^٢). وقال بعد أن نص على حجية خبر الواحد: " ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل" (^٣). والقول بحجية خبر الواحد في العقائد والأحكام هو مذهب الإمام مالك ﵀ كما ذكره عنه محمد بن أحمد المعروف بابن خويزمنداد (^٤). وهو أيضا قول الإمام أحمد ﵀، قال المروذي ﵀: "قلت لأبي عبد الله: ههنا اثنان يقولان: إن الخبر يوجب عملًا ولا يوجب علمًا فعابه، وقال: لا أدري ما هذا ... " (^٥). ولا يعرف عن أبي حنيفة ﵀ أنَّه قال بعدم إفادة خبر الواحد العلم، أو أنَّه فرق في قبوله بين العقائد والأعمال؛ بل الذي ورد عنه قبول الأحاديث بدون تفريق، فقد روي عنه أنه قال: "إذا جاء الحديث عن النبي ﷺ لم نحد عنه إلى غيره وأخذنا به" (^٦). وهو مذهب السلف وجمهور المحدثين والأصوليين.

(^١) انظر: صون المنطق: ١٦١. (^٢) الرسالة: ٤٥٧. (^٣) الرسالة: ٤٥٣. (^٤) انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: ١/ ١٣٢، مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم: ٢/ ٣٦٣. (^٥) انظر: مختصر الصواعق: ٢/ ٣٦٣، إرشاد الفحول للشوكاني: ٤٨. (^٦) مناقب أبي حنيفة للموفق بن أحمد المكي: ٧١.

1 / 13

المبحث الثالث: القول بالمجاز ذهبت الماتريدية إلى القول بأن المجاز واقع في اللغة والقرآن والحديث، قال ابن الهمام: "المجاز واقع في اللغة والقرآن والحديث" (^١)، ودفعهم إلى ذلك اعتقادهم بأن حمل النصوص على معانيها الحقيقية يستلزم التجسيم والتشبيه، قال البياضي: "لما لم يكن حمل تلك النصوص على معانيها الحقيقية من الجوارح الجسمانية والتحيز والانفعالات النفسانية لمنع البراهين القطعية ولم يجز إبطال الأصل لعدم درك حقيقة الوصف بلا كيفية تحمل على المجاز من الصفات بلا كيفية" (^٢). والقول بالمجاز عند أهل السنة والجماعة قول محدث مبتدع لا أصل له فأئمة اللغة المتقدمون كالخليل بن أحمد وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء لم يتكلموا فيه، كما لا يوجد هذا التقسيم عند أئمة الفقهاء والأصوليين، فالشافعي ﵀ أول من تكلم في علم الأصول، وقد وصل إلينا أهم كتبه في هذا العلم وهو (الرسالة) ولا يوجد في كتابه هذا أدنى إشارة إلى هذا التقسيم لا من قريب ولا من بعيد، وكذلك الإمام محمد بن الحسن الشيباني في كتابه الجامع الكبير لم يتكلم فيه بلفظ الحقيقة والمجاز، كما أنه لم ينقل هذا التقسيم عن أي واحد من الأئمة كمالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وغيرهم (^٣). قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: "من قال من الأصوليين ... إنه يعرف الحقيقة من المجاز بطرق منها نص أهل اللغة على ذلك بأن يقولوا هذا حقيقة وهذا مجاز فقد تكلم بلا علم فإنه ظن أن أهل اللغة قالوا هذا ولم يقل ذلك أحد من أهل اللغة ولا من سلف الأمة وعلمائها ... " (^٤). وقال ابن القيم: " وإذا علم أن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز ليس تقسيما شرعيا ولا عقليا ولا لغويا فهو اصطلاح محض وهو اصطلاح حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة بالنص وكان منشؤه من جهة المعتزلة والجهمية ومن سلك طريقهم من المتكلمين .... " (^٥).

(^١) التحرير: ١٦٨، وانظر: تيسير التحرير لأمير بادشاه: ٢/ ٢١، التوحيد: ٦٨، ٦٩. (^٢) إشارات المرام: ١٨٧، ١٨٩. (^٣) انظر: الإيمان لابن تيمية: ٧٢. (^٤) الإيمان لابن تيمية: ٧٣. (^٥) مختص الصواعق المرسلة: ٢/ ٥. الإيمان لابن تيمية: ٧٣.

1 / 14

المبحث الرابع: التأويل أو التفويض لما كان مصدر تلقى العقيدة عند الماتريدية في العقليات هو العقل وهو حاكم وأصل، والنقل تبع له وفرع عنه؛ فإذا ورد النقل على خلاف العقل لابد من أن يرد أو يحرف بتأويله وصرفه عن ظاهره، وأما في السمعيات فمصدر تلقي العقيدة عندهم هو النقل. فالمتواترات - كنصوص القرآن الكريم، والسنة المتواترة - حكموا عليها بأنها وإن كانت قطعية الثبوت، ولكنها ظنية الدلالة؛ لأنها أدلة لفظية، وظواهر ظنية لا تفيد اليقين، وتخالف البراهين القطعية العقلية، وأن الأدلة العقلية براهين قطعية، وعند التعارض تقدم الأدلة العقلية، لأنها الأصل (^١). والأدلة السمعية إما أن تفوض، وإما أن تؤول (^٢)، وأما البراهين العقلية فتأويلها محال (^٣). واختلفوا بينهم في إيهما يقدم، فمنهم من قال في هذه الآيات - أي آيات الصفات الخبرية - إنها متشابهة نعتقد فيها أن لا وجه لإجرائها على ظواهرها، ولا نشتغل بتأويلها، ونعتقد أن ما أراد الله تعالى بها حق. ومنهم من اشتغل ببيان احتمال الآياتِ معانيَ مختلفة سوى ظاهرها، ويقولون: نعلم أن المراد بعض ما يحتمل بها الألفاظ من المعاني التي لا تكون منافية للتوحيد والقدم، ولا يقطعون على مراد الله تعالى لانعدام دليل يوجب القطع على المراد وتعيين بعض المعاني (^٤). قال في التمهيد بعد ذكره لآيات الصفات: "فإما أن نؤمن بتنزيلها ولا نشتغل بتأويلها، وإما أن تصرف إلى وجه من التأويل يوافق التوحيد" (^٥).

(^١) انظر شرح المقاصد: ٢/ ٥٠، وشرح العقائد السلفية: ٥، ٤٢. (^٢) انظر: شرح العقائد النسفية: ٤٢، شرح المقاصد: ٢/ ٥٠، عمدة القاري: ٢٥/ ٨٨، ٩٠، ١٠٩، ١٣٤. (^٣) نشر الطوالع: ٢٨٢. (^٤) تبصرة الأدلة: ل ١١٠، ١١١، ١١٣، وانظر: أصول الدين للبزدوي: ٢٥، ٢٦. (^٥) السواد الأعظم: ٢٧، التمهيد: ١٩، وانظر: إشارات المرام: ١٨٧، ١٨٩.

1 / 15

وقول الماتريدية وغيرهم من المتكلمين بالتأويل ظاهر الفساد، ومما يدل على فساده تناقضهم فيه، والقول المتناقض قول فاسد، لذا كان الطبيب ابن النفيس يقول: ليس إلا مذهبان: مذهب أهل الحديث أو مذهب الفلاسفة فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف (^١)، وهو بهذا "يعني أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسول وأولئك جعلوا الجميع تخييلا وتوهيما، ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة" (^٢). لهذا لم يكن لهم قانون مستقيم في التأويل فلا يستطيعون أن يفرقوا بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه، فهم كما يقول شيخ الإسلام: " يوجبون التأويل في بعض السمعيات دون بعض، وليس في المنتسبين إلى القبلة، بل ولا في غيرهم من يمكنه تأويل جميع السمعيات. وإذا كان كذلك، قيل لهم: ما الفرق بين ما جوزتم تأويله فصرفتموه عن مفهومه الظاهر ومعناه البين وبين ما أقررتموه؟ فهم بين أمرين، إما أن يقولوا ما يقوله جمهورهم: إن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه، وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه. فيقال لهم: فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء؛ فإنه لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية ... وأيضا فعدم المعارض العقلي القاطع لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي؛ فإنه على قولكم إذا جوزتم على الشارع أن يقول قولا له معنى مفهوم وهو لا يريد ذلك لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس أو لا تخطر للخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك جاز أن يريد بكلامه ما يخالف مقتضاه بدون ذلك لجواز أن يظهر في الآخرة ما يخالف ذلك أو لكون ذلك ليس معلوما بدليل عقلي ونحو ذلك؛ فإنه إذا جاز أن يكون تصديق الناس له فيما أخبر به موقوفا على مثل ذلك الشرط جاز أن يكون موقوفا على أمثاله من الشروط إذ الجميع يشترك في أن يكون الوقف على مثل هذا الشرط يوجب أن لا يستدل بشيء من أخباره على العلم بما أخبر به.

(^١) درء تعارض العقل والنقل: ١/ ٢٠٣. (^٢) درء تعارض العقل والنقل: ١/ ٢٠٣.

1 / 16

وإن قالوا بتأويل كل شيء إلا ما علم بالاضطرار أنه أراده كان ذلك أبلغ فإنه ما من نص وارد إلا ويكون الدافع له أن يقول ما يعلم بالاضطرار أنه أراد هذا. فإن كان للمثبت أن يقول أنا أعلم بالاضطرار أنه أراده كان لمن أثبت ما ينازعه فيه هذا المثبت أن يقول أيضا مثل ذلك ... فإنك إذا تأملت كلامهم لم تجد لهم قانونا فيما يتأول وما لا يتأول، بل لازم قولهم إمكان تأويل الجميع ... فعلم أن قولهم باطل ... " (^١). ثم يقال لهم: إن القول بالتأويل على اصطلاحكم شر من التشبيه والتعطيل؛ فإن التأويل " يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها؛ فإن المعطل والمؤول قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصفات، وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص وانتهاكه لحرمتها وإساءة الظن بها ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهره الضلال والإضلال، فجمعوا بين أربعة محاذير: اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله المحال الباطل، ففهموا التشبيه أولا، ثم انتقلوا إلى المحذور الثاني وهو التعطيل، فعطلوا حقائقها بناء منهم على ذلك الفهم الذي لا يليق بها ولا يليق بالرب ﷻ. المحذور الثالث نسبة المتكلم الكامل العلم الكامل البيان التام النصح إلى ضد البيان والهدى والإرشاد ... ولا ريب عند كل عاقل أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلم منه أو أفصح أو أنصح للناس. المحذور الرابع: تلاعبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها، فلو رأيتها وهم يلوكونها بأفواههم وقد حلت بها المثلات وتلاعبت بها أمواج التأويلات ونادى عليها أهل التأويل في سوق من يزيد فبذل كل واحد في ثمنها من التأويلات ما يريد فلو شاهدتها بينهم وقد قعد النفاة على صراطها المستقيم بالدفع في صدورها والأعجاز، وقالوا لا طريق لك علينا، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز، فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين، وأنت أدلة لفظية وظواهر سمعية لا تفيد العلم ولا اليقين، فلا إله إلا الله والله أكبر كم هدمت بهذه المعاول من معاقل الإيمان، وثلمت بها حصون حقائق السنة والقرآن ... " (^٢).

(^١) درء تعارض العقل والنقل: ٥/ ٣٤٣ - ٣٤٥. (^٢) الصواعق المرسلة: ١/ ٢٩٦ - ٢٩٨، مختصر الصواعق: ١/ ٤٨ - ٥٠.

1 / 17

وأما القول بالتفويض فهو من شر أقوال أهل البدع؛ وذلك لمناقضته ومعارضته نصوص التدبر للقرآن، واستلزامه تجهيل الأنبياء والمرسلين برب العالمين، فمن المعلوم " أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟ ! وأيضا فالخطاب الذي أريد به هدانا والبيان لنا وإخراجنا من الظلمات إلى النور إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر، ولم يرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك؛ فعلى التقديرين لم نخاطب بما بين فيه الحق ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر. وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا أنه لم يبين الحق ولا أوضحه مع أمره لنا أن نعتقده، وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه؛ بل دل ظاهره على الكفر والباطل، وأراد منا أن لا نفهم منه شيئا، أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه، وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد" (^١). " فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الملائكة ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه؛ بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه ... ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء؛ إذ كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته ... لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بيَّن للناس ما نزل إليهم ولا بلغ البلاغ المبين. وعلى هذا التقدير، فيقول كل ملحد ومبتدع الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم معناه أحد لا يجوز أن يستدل به ... " (^٢).

(^١) درء تعارض العقل والنقل: ١/ ٢٠٢. (^٢) درء تعارض العقل والنقل: ١/ ٢٠٤ - ٢٠٥.

1 / 18

المبحث الخامس: القول بالتحسين والتقبيح العقليين ذهبت الماتريدية إلى القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وأن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها. واختلفوا فيما بينهم في الجزم بحكم الله في الفعل بمجرد إدراك العقل للحسن والقبح فيه، فجمهورهم يذهبون إلى أن حكم الله يجزم به في بعض الأفعال دون بعض قبل ورود السمع كالإلهيات والنبوات، وأما السمعيات والشرائع فلا تدرك إلا بالسمع. وذهب بعضهم إلى أن العقل لا يقضي بما أدركه من حسن الفعل وقبحه بحكم الله تعالى فيه إلا بعد ورود الشرع. قال ابن الهمام: "قالت الحنفية قاطبة بثبوت الحسن والقبح للفعل على الوجه الذي قالته المعتزلة، ثم اتفقوا على نفي ما بنته المعتزلة على إثبات الحسن والقبح للفعل من القول بوجوب الأصلح، ووجوب الرزق والثواب على الطاعة والعوض في إيلام الأطفال والبهائم. واختلفوا هل يعلم باعتبار العلم بثبوتهما في فعل حكم الله في ذلك الفعل تكليفا، فقال الأستاذ أبو منصور وعامة مشايخ سمرقند: نعم، وجوب الإيمان بالله وتعظيمه وحرمة نسبة ما هو شنيع إليه وتصديق النبي ﷺ وهو معنى شكر المنعم. وقال أئمة بخارى منهم لا يجب إيمان ولا يحرم كفر قبل البعثة، إذ لا يمتنع أن لا يأمر الباري بالإيمان ولا يثيب عليه وإن كان حسنا، ولا ينهى سبحانه عن الكفر ولا يعاقب عليه وإن كان قبيحا، والحاصل أن لا يمتنع عدم التكليف عقلا إذ لا يحتاج سبحانه إلى الطاعة، ولا يتضرر بالمعصية" (^١). وقول الماتريدية بالتحسين والتقبيح العقليين راجع إلى أن العقل عندهم هو أصل المعرفة فلذلك كان أصلا للسمع، وكان مقدما عليه عند التعارض (^٢).

(^١) المسايرة: ١٥٤ - ١٦١، وانظر: التوحيد للماتريدي: ٢٢١، ٢٢٣، ٢٢٤، أصول الدين للبزدوي: ٩٢، التمهيد: ٤٣، ٤٤. (^٢) الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى لمحمد بن ربيع بن هادي المدخلي: ٩٤.

1 / 19

وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ الصواب في مسألة التحسين والتقبيح، فقال: "وقد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع: أحدها: أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن؛ لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسولا، وهذا خلاف النص قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: (١٥)]، وقال تعالى ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص: ٥٩]، والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة، ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح أن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم. النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا، وإذا نهى عن شيء صار قبيحا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع. النوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه، فلما أسلما وتله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح، وكذلك حديث الأبرص والأقرع والأعمى، لما بعث إليهم من سألهم الصدقة، فلما أجاب الأعمى "قال الملك: أمسك عليك مالك؛ فإنما ابتليتم، فرضي عنك وسخط على صاحبيك" (^١). فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به، وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع، وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة وهو الصواب " (^٢).

(^١) رواه البخاري: ٢٠٥٢. (^٢) الفتاوى: ٨/ ٤٣٢ - ٤٣٦.

1 / 20