Almaniya Naziyya
ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)
Nau'ikan
للغناء ذات مساء، وحدث مثل ذلك أيضا في بلدة
Esbjerg
حيث احتشد عشرون ألفا من سكانها البالغين 36 ألفا للغرض نفسه، وكذلك في «هازل
Hasle »، ووقع ذلك كله في وقت واحد وفي يوم واحد، حتى يعبر الدانمركيون عما يشعرون به نحو الوطن. وفي الواقع كان شهر سبتمبر من ذلك العام شهرا تاريخيا في قصة الدانمرك الوطنية؛ إذ قرر الشباب في أنحاء الدانمرك تأسيس جماعة «الشباب الدانمركي العامل» برئاسة «هال كوش
Hal Coch » أحد الأساتذة المعروفين. ثم تأسست في طول البلاد وعرضها «أندية تشرشل» تحت أنوف الجستابو وأنصارهم، وغنى الدانمركيون النشيد القومي الإنجليزي بعد أن وضعوا له معنى جديدا: «سوف يكسب تشرشل الحرب لا محالة!» حتى سمى النازيون تلك الحماسة الدافقة «بالمرض الإنجليزي»!
وفي هذه الظروف لم يكن من العسير على أصحاب الدعاوة المضادة أن يروجوا ما يشاءون من أقوال وأقاصيص من أجل إضعاف شوكة النازيين والسخر بهم. ومن النوادر التي انتشرت في هذه البلاد أن أحد بائعي السمك اعتاد المناداة على سمكة في أسواق كوبنهاجن: «سمك من الطراز الأول، وسمين كالماريشال جورنج!» فألقي القبض عليه وحبس مدة أسبوعين، ولكن لم يكد يطلق سراحه حتى استأنف المناداة على بضاعته قائلا: «سمك من الطراز الأول: ما يزال سمينا كما كان منذ أسبوعين!» وكذلك ظل الدانمركيون زمنا يجدون في موقف ملكهم كريستيان مثالا يحتذى في مقاومة الألمان، وحرصت الدعاية الخفية على إذاعة واقعة من وقائع هذا الملك مع السادة الألمان، وهي أنه كان من عادة الملك كريستيان أن يخرج كل صباح على حصانه للتجول في شوارع كوبنهاجن، فحدث ذات مرة أن مر ببناء من الأبنية العامة، فوجد الصليب المعقوف مرفوعا على أعلى البناء، فطلب إليه ضابطا ألمانيا وأخبره بمخالفة هذا العمل لنصوص الاتفاق القائم وقتذاك بين الدانمرك وألمانيا، فلما أجاب الضابط بأن العلم النازي قد رفع على هذا البناء بمقتضى أمر صادر من برلين، أعلن كريستيان نيته على إرسال جندي دانمركي لإنزال العلم النازي إذا ظل العلم مرفوعا إلى وقت الظهر. وفي الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخامسة والخمسين كان العلم ما يزال مرفوعا، فظهر الملك وقال إن أحد الجند الدنمركيين سوف ينتزع العلم من موضعه في الساعة الثالثة عشرة تماما. فهدد الضابط بإطلاق الرصاص على ذلك الجندي، فأجاب الملك: «إذن يمكنك إطلاق الرصاص علي؛ لأني أنا هذا الجندي!» فاضطر الألمان إلى إنزال العلم بعد دقيقة واحدة.
وهكذا تنوعت الأمثلة وتعددت في كل بلد من بلدان أوروبا المحتلة. على أنه كان أيضا من أهم أساليب نشر الدعاية الخفية استخدام ما يعرف باسم «الخطابات المسلسلة»، وذلك أنه لما كان من المتعذر في كثير من الأحايين الحديث علانية في موضوع يهم الوطنيين تحت رقابة الجستابو وعيونهم، فقد كان ناقل الخبر يعمد إلى كتابة ما يريد إذاعته في رقعة صغيرة يضعها في كفه، حتى إذا صافح أحد الوطنيين ترك هذه الرقعة في يد ذلك الوطني الذي يعمد بدوره إلى نسخ عدة رقاع منها يوزعها على أصدقائه ومعارفه الذين يثق بهم، فيقوم هؤلاء بتوزيعها على آخرين بعد أن ينسخوا منها أعدادا أخرى وهكذا. وتتضمن هذه الرقعة عادة، خبر هزيمة لحقت بالنازيين، أو ذكر حادث تخريب أو تدمير، أو أمر تدبير مظاهرة كبيرة، أو مجرد تحذير الجمهور من بعض حيل النازيين الجديدة لسلب أموال الأهلين أو مواشيهم أو أغذيتهم، وكثيرا ما كانت هذه الرقاع تنقل بعض الأقاصيص التي يقصد من إذاعتها الترويح عن النفس والزراية بالسادة النازيين والسخر بهم وتقوية الروح المعنوية، وشد أزر المقاومة عند سلطات الاحتلال الألماني بجميع الطرق الممكنة. ومن ذلك ما يذكرونه في النرويج حيث أراد النازيون في بداية الاحتلال أن يجتذبوا النرويجيين بالتودد إليهم، ووجدوا «فيدكون كويسلنج» وأنصاره مقبلين على التعاون معهم، وكان من واجب أصحاب الدعاوة المضادة أن يبذلوا كل جهد حتى يعرف سواد الشعب أنه كان هناك أناس ما يزالون يشيدون بذكر الملك والوطن ويرفضون في قرارة نفوسهم العيش الذليل في ظل الاحتلال الألماني، هذا إلى ضرورة التمسك بأهداب الأمل والرجاء دائما. ومن الوقائع التي أذاعت أنباءها الدعاية الخفية ما حدث في «أوسلو»؛ إذ دخل أحد النازيين محلا تجاريا، ثم رفع يده محييا بالتحية الهتلرية وسأل البائعة أن ترشده إلى مكان بيع ملابس الرجال، وكان هذا النازي ينتظر أن تجيبه الفتاة بالتحية النازية ولكنها أبت ذلك، فأجابته على الفور: «يحيا الملك! خلفك إلى الشمال». وفي أبريل 1941 حدث أن استفسر رجال الاحتلال الألماني من أحد وكلاء الكنائس النرويجيين «تليفونيا»، عن مكان في كنيسته يتسع لإيواء مائة جندي ألماني، فأجاب الرجل: «بكل تأكيد! في استطاعتنا أن نجد مكانا يتسع لإيوائهم في فناء الكنيسة المخصص لدفن الموتى.» •••
غير أن الدعاية الخفية سرعان ما وجدت في «الراديو» و«الصحف السرية» أكبر أدواتها الفعالة في نشر دعاوتها ضد النازيين ونظامهم الجديد في أوروبا. ودل استخدام الراديو في الحقيقة على مهارة كبيرة وجرأة عظيمة من جانب أنصار المقاومة في أوروبا النازية، والسبب في هذا، أنه كان من مقتضيات التنظيم الألماني «الرقابة» الصارمة التي أنشئوها من أجل ترويج دعاوتهم للنظام الجديد من جانب، ومن أجل إخماد أية دعاوة مضادة من جانب آخر، أن يجري النازيون تفتيشا دقيقا لمصادرة جميع أجهزة الراديو ذات الموجات القصيرة خصوصا، وإصدار العقوبات القاسية على كل من يضبط متلبسا بجريمة الاستماع للإذاعات الحرة الأجنبية، وفي مقدمة هذه الإذاعات المرسلة من محطة لندن المشهورة
B. B. C. ، وزيادة على ذلك قام النازيون من جهة أخرى بتوزيع أجهزة للراديو ذات موجات معينة تمكن صاحبها من الاستماع للإذاعات النازية المحلية فحسب، هذا إلى أنهم دققوا على وجه الخصوص في التنقيب عن كل أجهزة الإرسال في حوزة الأفراد، وكان غرض النازيين من ذلك كله ألا يستمع الأهلون في البلدان المقهورة إلى أنباء لا يريد النازيون ذيوعها بينهم، وأن يتعذر على الوطنيين الذين رفضوا التعاون معهم، وكان ما يزال لديهم بقية من أمل في الخلاص من سلطانهم أن يقف بعضهم على حقيقة ما يفعله البعض الآخر ويقوم به من ضروب المقاومة ويأتيه من حوادث التخريب والتدمير، أو أن يستطيعوا إنشاء صلة تؤدي إلى جمع الكلمة وتوحيد الصفوف في وجه سلطات الاحتلال الألمانية.
ومع هذا فقد نجح كثيرون من أهل الشعوب المقهورة في الاحتفاظ بأجهزة الراديو ذات الموجات القصيرة، واتخذوا التدابير لإخفاء هذه الأجهزة، ورتبوا الاجتماعات «السرية» في أوقات الإذاعة الأجنبية للاستماع إلى ما يقوله أنصار الحرية في الأمم الديموقراطية. ثم عظم الإقبال على استخدام الراديو عندما صارت محطة الإذاعة البريطانية تنظم برامج باللغات الأجنبية، وقد بلغ عدد اللغات التي كانت تذيع بها هذه المحطة سبعا وأربعين، وتحتل الإذاعة البريطانية مكانا ظاهرا في تاريخ الدعاية الخفية والدعاوة المضادة بسبب ما كانت تنشره من أنباء وتعليقات على هذه الأنباء، ولم يكن يقصد من إذاعتها أن تقف الشعوب المقهورة على حقيقة ما يقع من حوادث وتطورات في أرجاء العالم من أجل القضاء على الطغيان النازي فحسب؛ بل كانت تبغي إلى جانب ذلك إحياء الأمل والرجاء في صدور الأهلين وشد عزيمتهم بفضل ما تنشره من أخبار القوات المحاربة الحرة إلى جانب جيوش البريطانيين والأمريكيين في ميادين القتال المتعددة، ثم بفضل ما كانت تنقله إليهم من أقوال الزعماء الأحرار الذين كانوا يتولون قيادة هذا النضال إلى جانب أقطاب الديموقراطية المعروفين في العالم، وكانت تظهر لهم بين وقت وآخر طرفا من الأساليب التي كان يتبعها النازيون لدعم أركان نظامهم الجديد في أوروبا وبسط سيطرتهم العالمية. وأخيرا صارت الإذاعة البريطانية إلى جانب ذلك كله تعنى أيضا بجمع كلمة الوطنيين الذين آلوا على أنفسهم مقاومة الاحتلال الألماني في بلادهم.
Shafi da ba'a sani ba