Almaniya Naziyya
ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)
Nau'ikan
ولما كان من شرائط نجاح «الدعاوة» أن تظل الآراء والأقوال الموحى بها والمنقولة إلى الجماعات من نوع واحد وعلى وتيرة واحدة، فقد أصبح ضروريا أن تحاط هذه الجماعة بسياج قوي يعزلها عن غيرها من الجماعات، فلا تجد الآراء والأقوال المغايرة طريقا تنفذ من هذا السياج إليها. ولذلك أنشئت «الرقابة» وصارت مهمتها في الدول الديكاتورية - وفي ألمانيا بطبيعة الحال - السهر على أن يكون الكتاب والناشرون والقصيصون والمهيمنون على التعليم وتربية النشء، ومن إليهم، كالرسامين، ومديري المسارح، ومخرجي الصور المتحركة وشركات النشر والتوزيع من طراز معين. ذلك بأن هؤلاء جميعا من أصحاب العلم والرأي، وينبغي لذلك أن يسير تفكيرهم في مجرى واحد، فلا يترك الفكر حتى يخرج عن هذا الطريق المرسوم أو يطغو على جوانب هذا المجرى، ولما كانت عدوى الرأي والفكر أخطر من غيرها على النظم القائمة وكانت الصحف السيارة بفضل ما تنشره من أخبار أو تعده من بحوث مبسطة تقرب المعاني وما تشاء من آراء إلى أذهان الجماهير، وتوحي إليها بما تريد أن توحي به أعظم أداة إلى جانب الراديو لإذاعة ما يبغي أصحابها وكتابها إذاعته، وضع النازيون مراسلي الصحف على وجه الخصوص تحت رقابة شديدة، ثم صار الرقيب لا ينشر رسائلهم إذا اشتملت على خبر أو رأي من شأنه أن يفتح أذهان القوم، أو يجعل الشك من ناحية ما يعيشون فيه يتسرب إلى نفوسهم.
ولذلك لم تكد الدعاية النازية تبدأ في نشر الدعوة إلى النظام الجديد من أواسط عام 1940 تقريبا حتى طبق النازيون «الرقابة» الصارمة في البلاد المفتوحة، فسيطروا على الصحافة وعلى «الراديو»، وكانت لهم في ذلك أساليب وطرائق منوعة، الغرض منها جميعا تنظيم نشر الأخبار وإذاعة الآراء التي يوافق النازيون على نشرها وذيوعها. ومن بين تلك الأساليب والطرائق أن يحدث نشر الخبر في البلدان المفتوحة في وقت واحد، على شريطة أن يدرج الخبر أو يدبج المقال في صفحة معينة وفي مكان معين في جميع الصحف وفي جميع المدن، وإذا كان الغرض ترويج فكرة معينة والإيحاء برأي من الآراء لخدمة مآربهم، أفرغوا هذه الفكرة وهذا الرأي في قوالب منوعة تستسيغها أفهام الجماهير والشعوب التي يراد نقل الخبر إليها أو نشر الرأي المعين بين ظهرانيها، والغاية من ذلك ألا يتسرب خبر أو يذيع رأي لا يرغب النازيون فيه، وأن يكون النشر مقصورا على ما يريدون أن يعرفه سواد الناس وخاصتهم، وفي الصيغة التي تروقهم.
ولهذا التصرف في نظر النازيين عدة مزايا، أولها: تهيئة الفكر حتى يقبل تفسير حادث معين سبق أن دبر النازيون وقوعه منذ مدة، مثال ذلك: الحملة العنيفة التي أثارها النازيون ضد بولندة بدعوى أن البولنديين يسيئون إلى الأقلية البولندية التي تنتمي إلى أصل ألماني
Volks genosse
في بلادهم شر إساءة، ولا يتورعون عن ارتكاب كل جرم من أجل إفناء هذه الأقلية؛ وذلك حتى يشعلوا نيران الحقد والكراهية في نفوس الألمان ضدد الشعب البولندي، وحتى يستنكر الرأي العام الأوروبي أعمال البولنديين الإجرامية المزعومة، فلا تجد بولندة من يعطف عليها حينما تنزل بها الكارثة، ويجتاح الألمان أرضها.
والمزية الثانية: هي أن يألف أهل الريخ أنفسهم، بسبب ما تغمرهم به الدعاوة النازية من أخبار وآراء متلاحقة وعلى وتيرة واحدة - السكون إلى ما يتلقونه من زعمائهم والرضى بما يلقى في روعهم - فينصرفون عن إعمال الفكر والروية، اطمئنانا إلى أن قادتهم إنما يقومون بمهمة التفكير وإعمال الرأي بدلا عنهم، فيصبحون في الحقيقة شبه آلات مسيرة يحركها الزعماء ويوجهونها حسبما يريدون.
ولزيادة أحكام هذا الجهد التوجيهي المنظم - أو كما يسميه النازيون
Gleichschaltung - عني النازيون بكل صغيرة وكبيرة من مسائل النشر، فأصدروا أوامر عدة تقيد الصحف فيما تنشر، وترغمها على اتباع أنظمة خاصة في تدوين الأخبار. ولما خشوا أن تتسرب إلى الصحف آراء مغايرة لآرائهم على الرغم مما قد يتخذونه من احتياطات، حرص النازيون على أن يكون محررو الصحف والكتاب من الأفراد الذين يثقون بهم كل الثقة، ويطمئنون إلى ميولهم ونوع تفكيرهم، ومن ثم أخذوا يبعدون عن إدارات الصحف في جميع البلدان المحتلة، الكتاب والمحررين المشكوك في إخلاصهم، والذين يعتبرونهم من أعداء النظام الجديد، وأحلوا مكانهم أفرادا من الذين يقبلون التعاون معهم. ثم لم يلبث أن دعاهم الحرص إلى إنشاء صحف محلية تكتب باللغة الألمانية في عواصم البلدان المفتوحة، حتى يضمنوا تنفيذ التعليمات التي تصدرها مراكز الدعاوة الألمانية الرئيسية في الريخ، على علاتها ومن غير تعديل أو تحوير يذهب - ولا شك - بقيمتها وأثرها، مهما كان التعديل أو التحوير طفيفا في ظاهره. ومن ثم أصدر النازيون في باريس صحيفة
Zeitung
الألمانية، وفي وارسو
Shafi da ba'a sani ba