شكر وتقدير
تمهيد
1 - هل كان أسلافنا من سلالة النياندرتال؟
2 - من شيد ستونهنج؟
3 - لماذا بنى الفراعنة الأهرامات؟
4 - من كان ثيسيوس؟
5 - أوقعت حرب طروادة بالفعل؟
6 - هل صلب المسيح؟
7 - ما هي خطوط نازكا؟
8 - من هو الملك آرثر؟
9 - لماذا انهارت الحضارة المايانية؟
10 - من شيد التماثيل على جزيرة الفصح؟
11 - ماذا كانت «علامة» جان دارك؟
12 - من مخترع الطباعة؟
13 - هل قتل ريتشارد الثالث أميري البرج؟
14 - هل كان كولومبوس يقصد اكتشاف أمريكا؟
15 - هل عاد مارتن جير؟
16 - هل قتلت ملكة اسكتلندا زوجها؟
17 - من كتب مسرحيات شكسبير؟
18 - هل كان كابتن كيد قرصانا؟
19 - هل مات موتسارت مسموما؟
20 - لماذا تخلى فرويد عن نظرية الإغواء؟
21 - هل كان من الممكن إنقاذ تيتانيك؟
22 - هل نجا أي من عائلة رومانوف؟
23 - هل قتل هتلر ابنة أخته؟
24 - لماذا طار هس إلى اسكتلندا؟
25 - هل كان جورباتشوف جزءا من انقلاب أغسطس؟
شكر وتقدير
تمهيد
1 - هل كان أسلافنا من سلالة النياندرتال؟
2 - من شيد ستونهنج؟
3 - لماذا بنى الفراعنة الأهرامات؟
4 - من كان ثيسيوس؟
5 - أوقعت حرب طروادة بالفعل؟
6 - هل صلب المسيح؟
7 - ما هي خطوط نازكا؟
8 - من هو الملك آرثر؟
9 - لماذا انهارت الحضارة المايانية؟
10 - من شيد التماثيل على جزيرة الفصح؟
11 - ماذا كانت «علامة» جان دارك؟
12 - من مخترع الطباعة؟
13 - هل قتل ريتشارد الثالث أميري البرج؟
14 - هل كان كولومبوس يقصد اكتشاف أمريكا؟
15 - هل عاد مارتن جير؟
16 - هل قتلت ملكة اسكتلندا زوجها؟
17 - من كتب مسرحيات شكسبير؟
18 - هل كان كابتن كيد قرصانا؟
19 - هل مات موتسارت مسموما؟
20 - لماذا تخلى فرويد عن نظرية الإغواء؟
21 - هل كان من الممكن إنقاذ تيتانيك؟
22 - هل نجا أي من عائلة رومانوف؟
23 - هل قتل هتلر ابنة أخته؟
24 - لماذا طار هس إلى اسكتلندا؟
25 - هل كان جورباتشوف جزءا من انقلاب أغسطس؟
ألغاز تاريخية محيرة
ألغاز تاريخية محيرة
بحث
مثير في أكثر الأحداث غموضا على مر الزمن
تأليف
بول أرون
ترجمة
شيماء طه الريدي
مراجعة
إيمان عبد الغني نجم
شكر وتقدير
أتوجه بالشكر لمحرري في فيرجينيا جازيت، دبليو سي أودونوفان وراستي كارتر، لسماحهما لي بالعمل بدوام جزئي حتى أتمكن من تأليف هذا الكتاب. والشكر أيضا لزملائي آنذاك - تراسي بليفينز، وبراين رافيرتي، وبل تولبرت، وآمي ويليامز - لقيامهم بعملي خلال تلك الفترة.
كما أتوجه بالشكر إلى ستيفن أرون، وروبرت تومبسون، ودبليو سي أودونوفان، ومونيكا بوتكاي، ووكيلي جون ثورنتون؛ على أفكارهم المفيدة.
وأتقدم بخالص الشكر لمحرري كريس جاكسون لقراءته الدقيقة للنسخة اليدوية، وما بذله من جهود لضمان وضوح الكتاب في كل صفحاته. كما أتوجه بالشكر إلى جون سيمكو وديانا مادريجال بدار وايلي للنشر.
وقبل كل شيء، أتوجه بالشكر لزوجتي، باولا بلانك، لتحليلاتها الثاقبة للكتاب ومؤلفه.
تمهيد
في قصة جوزفين تاي البوليسية الكلاسيكية «ابنة الزمن»، يرقد آلان جرانت - شرطي في جهاز سكوتلاند يارد - في المستشفى بعد سقوطه عبر باب خفي. وفي غمرة إحباطه وملله، يأخذ على عاتقه حل لغز قضية قديمة عمرها خمسمائة عام؛ قضية اغتيال «أميري البرج».
كان المشتبه فيه الأساسي في القضية - بل النموذج الأساسي لتجسيد الشر، حسبما يتراءى لك من مسرحية شكسبير، ومن قبله تاريخ توماس مور - هو الملك ريتشارد الثالث. اتهم هذا الرجل باغتيال ملكين، والزواج من أرملة أحد ضحاياه «ثم تسميمها»، وإغراق أخيه في حوض من النبيذ. ومن ثم بدا قتل ابني أخيه الصغيرين - اللذين كان كل منهما يقف حائلا بينه وبين العرش - متسقا تماما مع شخصيته.
غير أن جرانت لديه شكوكه. وأثناء استلقائه على فراشه عاجزا عن الحركة، ظل محملقا في لوحة لريتشارد يظهر فيها أرق بكثير من أن يكون قد ارتكب أي شيء بهذه الشناعة. فجند زائريه للتقصي والتحقيق، ليكتشف أن مور كان مصدرا غير موثوق به بالمرة؛ ما يسبب له الصدمة ويثير استياءه؛ فعلى الرغم من أن السير توماس مور كان قد أصبح قديسا بمعنى الكلمة بعد تطويبه في عام 1935، فقد نشأ في منزل الكاردينال جون مورتون، الذي كان عدوا لدودا لريتشارد. بعبارة أخرى، كان مور متربصا بريتشارد ويقصد إيذاءه.
ويخلص جرانت إلى أن الأشرار الحقيقيين هم: مور الذي لفق له هذا الاتهام، والمؤرخون الذين اتبعوه في ظنه، وكانوا أكسل من أن يلاحظوا الحقيقة.
ما الدرس المستفاد هنا؟ أن المخبرين الخياليين محققون أفضل من المؤرخين المحترفين ؟
إطلاقا.
وكما يعترف جرانت على مضض، فإن معظم «اكتشافاته» بشأن ريتشارد كانت قد اكتشفت قبل ذلك بسنوات - بل وقرون في بعض الحالات - على أيدي أفراد من نفس المهنة التي يكن لها هذا الاحتقار. فقد كان المؤرخون هم من حللوا مصادر مور ودوافعه، وكشفوا النقاب عن رواية حول موت الأميرين كتبت قبل رواية مور، وضغطوا على دير ويستمينستر لفتح المقبرة المفترض أن يكون رفات الأميرين قد دفن فيها.
لم يكن بمقدور أي من مخبري سكوتلاند يارد طلب تحقيق أقوى من ذلك.
إن ما توضحه قصة تاي أن أفضل الكتابات البوليسية تشترك في سمات كثيرة مع أفضل الكتابات التاريخية. فالأحداث في كل منهما لا تكون دائما كما تبدو في البداية؛ وفي كليهما، تكتظ رحلة البحث عن حل للألغاز بالمفاجآت والتحديات والإثارة.
لذا، إليك الافتراض المنطقي الذي يقوم عليه هذا الكتاب: المؤرخون يصلحون مخبرين رائعين، والتاريخ مليء بالقصص البوليسية العظيمة.
أما بالنسبة إلى الأميرين، فقد فتحت مقبرة الدير التي دفن فيها رفاتهما عام 1933، وفحص الجمجمتين موظف أرشيف ويستمينستر ورئيس جمعية بريطانيا العظمى للتشريح. وأظهرت الأدلة الجنائية أن ...
من قواعد القصص البوليسية الرائعة: لا تفش النهاية.
الفصل الأول
هل كان أسلافنا من سلالة النياندرتال؟
في أحد أيام شهر أغسطس عام 1856، في وادي النياندرتال في شمال غرب ألمانيا، اكتشف عامل في محجر جيري عظام دب كهفي؛ حسب ظنه. فوضعها جانبا ليريها ليوهان فولروت، وهو مدرس محلي ومؤرخ طبيعي متحمس.
أدرك فولروت في الحال أنه شيء أهم بكثير من أن يكون عظام دب؛ فقد كان الرأس في نفس حجم رأس الإنسان تقريبا، ولكن كان شكله مختلفا؛ إذ كانت الجبهة قصيرة، إلى جانب وجود نتوءات عظمية فوق العينين، وأنف كبير بارز، وأسنان أمامية كبيرة، وانتفاخ بارز من الخلف. ومن واقع العظام التي اكتشفت، لا بد أن الجسم كان يشبه جسم الإنسان أيضا، وإن كان أقصر وأكثر امتلاء - وأكثر قوة بكثير - من أي إنسان عادي. وأدرك فولروت أن ما أضفى على هذه العظام مزيدا من الأهمية أنها قد وجدت وسط رواسب جيولوجية من عصور سحيقة.
اتصل المدرس بهيرمان شافلهاوزن، أستاذ التشريح بجامعة بون القريبة، الذي أدرك هو الآخر أن العظام غريبة واستثنائية، ووصفها لاحقا بأنها: «تكوين طبيعي لم يعرف بوجوده حتى هذه اللحظة.» وكان شافلهاوزن يعتقد بالفعل أن ما اكتشفه العامل كان نوعا جديدا - أو بالأحرى بالغ القدم إلى أقصى الحدود - من البشر، وهو نوع اصطلح على تسميته بعد ذلك بإنسان نياندرتال، بل إن شافلهاوزن ربما يكون قد ظن أيضا أن النياندرتال كانوا أسلافا قدماء للإنسان الحديث.
لو توقع الأستاذ الجامعي والمدرس من المؤسسة العلمية الاحتفاء باكتشافهما، لمنيا بخيبة أمل مريرة؛ فقد كان لا يزال متبقيا من الوقت ثلاث سنوات على نشر نظرية تشارلز داروين عن التطور، كما تم التوضيح في كتاب «أصل الأنواع»، حيث نشرت عام 1859. وكانت فكرة تطور البشر من أي أنواع أخرى - فضلا عن نوع تمثله تلك العظام - تبدو فكرة ساذجة ومنافية للعقل تماما من وجهة نظر معظم العلماء. كما قام رودولف فيرشوف، عالم الباثولوجيا الرائد في هذا الوقت، بفحص العظام وأعلن أنها تخص إنسانا عاديا، وإن كانت لشخص يعاني من مرض غير معروف، وحذا خبراء آخرون حذوه.
غير أنه بنهاية القرن التاسع عشر، انتشرت الداروينية في معظم الدوائر العلمية. فألقى بعض العلماء، أمثال جابرييل دي مورتييه في فرنسا، نظرة أخرى على العظام وذهبوا إلى أن الإنسان الحديث تطور من النياندرتال. وساهم اكتشاف المزيد من بقايا النياندرتال - في فرنسا وبلجيكا وألمانيا - في تدعيم حجتهم. كان تاريخ هذه الحفريات يعود إلى ما بين 110000 و35000 عام مضى؛ ما جعل من المستحيل رفضها باعتبارها بقايا شخص مريض أو حديث.
ولكن غالبية العلماء، بقيادة فرنسي آخر يدعى مارسيلين بول، ظلوا رافضين بشكل متعنت للنياندرتال كأسلاف للبشر. وسلم بول بأن الهياكل العظمية ربما كانت عتيقة، ولكنها لا تمت بصلة للإنسان. وذهب بول إلى أن هذا النياندرتال ذا الركبة المنحنية والعنق القصير والعمود الفقري المقوس هو أقرب إلى القردة منه إلى الإنسان. وأشار إلى أنه إذا كان للإنسان الحديث أية صلة به ، فقد تقتصر فقط على أنه ربما يكون أسلافنا البشر «الحقيقيون»، أيا ما كانوا، قد محوا هذا «النوع المتدهور».
وعلى مدى معظم القرن العشرين، لم يحدث شيء سوى اتساع الصدع العلمي. فعلى أحد الجانبين، وقف أتباع مورتييه الذين اعتبروا النياندرتال أسلافنا المباشرين، وإن كانوا بدائيين. وعلى الجانب الآخر، وقف أمثال بول الذين اعتبروا النياندرتال - على أقصى تقدير - أبناء عمومتنا من بعيد، وطريقا تطوريا مسدودا قدر أن يحل الإنسان الحديث محله. وفقط في السنوات القليلة الماضية بدأ العلماء، على نحو متردد للغاية، في بناء جسر لرأب هذا الصدع.
هل يوجد أي نياندرتال في العائلة؟ من اليسار نجد إنسان بلتداون، يليه إنسان نياندرتال، ثم إنسان كرومانيون (الحديث). (قسم خدمات المكتبة المجاني، المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي.) •••
من الأسباب الكامنة وراء قدرة أتباع بول على رفض النياندرتال، خلال القرن العشرين، أنهم استطاعوا تقديم مرشحهم الخاص، والأكثر شهرة بكثير، على نحو مطمئن ليكون سلف الإنسان. كان هذا هو إنسان بلتداون الذي اكتشف عام 1912 ولم يحظ بالكثير من الشهرة. فقد وجد صائد حفريات هاو يدعى تشارلز داوسون عظام البلتداون في حديقة عامة تحمل هذا الاسم في ساسيكس بإنجلترا، وكانت حادثة مثيرة. فعلى عكس جمجمة النياندرتال، بدت جمجمة البلتداون - على معظم الأصعدة - كجمجمة إنسان حديث. وفقط الفك - الذي كان أشبه بفك القرد - هو ما بدا بدائيا، ولكن الأسنان المسطحة من أعلى أضافت لمسة بشرية. وهذا سلف كان بول سيسعد بانتمائه إليه.
المشكلة تكمن في أن البلتداون كان خدعة؛ فقد قام أحد الأشخاص، ربما داوسون، بدمج أجزاء من جمجمة إنسان حديث مع فك إنسان الغاب، ثم دهنها بشيء يغير لونها لتبدو أقدم. أما الأسنان، فقد تم بردها لتضليل الباحثين. حتى عام 1953، لم يكن العلماء قد فكروا في فحص الأسنان تحت ميكروسكوب، وهي المرحلة التي ظهرت فيها آثار البرد واضحة بشكل تام.
حينئذ تحول الزخم العلمي ليساند أن سلالة النياندرتال هم أسلاف للبشر. وبدلا من التأكيد على مدى اختلافهم عنا، بدأ العلماء في التركيز على أوجه التشابه. وفي عام 1957، ألقى عالما التشريح الأمريكيان - ويليام شتراوس وإيه جيه إي كيف - نظرة جديدة على نفس الحفرية التي شكلت أساس وصف بول لسلالة النياندرتال على أنهم كائنات وحشية لا بشرية. وكانت تلك هي حفرية لا-شابيل-أو-سانت، التي عثر عليها في أحد الكهوف في جنوب فرنسا عام 1908.
كان أول ما لاحظه شتراوس كيف أن إنسان لا-شابيل-أو-سانت كان يعاني من التهاب المفاصل. وقد استرعى ذلك انتباه بول أيضا، ولكنه تجاهل تداعيات ذلك. فقد كان التهاب المفاصل في رأي شتراوس يفسر قامة النياندرتال المنحنية، وفجأة رأى كلاهما أن بقية جسم إنسان نياندرتال لم يبد شديد الاختلاف عن الإنسان الحديث. وخلص عالما التشريح إلى أنه إذا كان إنسان نياندرتال «يمكن استنساخه ووضعه في أحد أنفاق نيويورك - شريطة أن يتم تحميمه وحلق ذقنه وإلباسه ملابس عصرية - فإنه ليس من المؤكد إن كان سيجذب أي قدر من الانتباه يفوق بعض الناس الآخرين المترددين على المكان.»
شهدت فترة ما بعد البلتداون إعادة تقييم لسلوك النياندرتال وشكله أيضا. ففي ستينيات القرن العشرين، مهد عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي سي لورينج براس الطريق بدراسات جديدة حول أدوات النياندرتال، وتقنياته، وترتيبات معيشته. فمن نمط الرماد الذي خلفه وراءه، على سبيل المثال، استنتج براس أن أفراد سلالة النياندرتال كانوا يخبزون طعامهم في حفر ضحلة لا تختلف كثيرا عن تلك الخاصة بأنواع البشر اللاحقين. ولاحظ آخرون أن الكثير من بقايا النياندرتال بدت وكأنها دفنت عمدا؛ وهو ما يعد من الممارسات البشرية بلا شك. كذلك بدا ترتيب عظام الحيوانات بعناية في العديد من مواقع النياندرتال دلالة على وجود نوع ما من الذبح الطقسي، وكانت عظام النياندرتال في موقع كرابينا اليوغسلافي محطمة بطريقة تشير إلى وجود أكل للحوم البشر. وقد كانت تلك طقوسا بشرية بحتة مهما كانت مروعة ومفزعة.
وصل إجلال سلالة النياندرتال أوجه عام 1971، مع نشر عمل رالف سوليكي حول كهف عراقي يعرف بكهف شاندر. فقد عثر في عينات التربة التي أخذت من إحدى مقابر النياندرتال على قدر كبير للغاية من لقاح الورد البري؛ أكبر بكثير مما كان يمكن أن تجلبه الرياح أو تحمله أقدام الحيوانات. واستنتج سوليكي أن أفراد سلالة النياندرتال الذين عاشوا في شاندر قد وضعوا قرابين من الورد على مواقع دفنهم؛ ولذا أطلق على كتابه «شعب الورد الأول». وكدليل إضافي على بشريتهم، لاحظ سوليكي أن بقايا أحد الرجال المسنين هناك تشير إلى أنه كان يعاني من ضعف في ذراعه اليمنى وأنه كان ضريرا. وهاتان الحالتان كانتا بالتأكيد ستؤديان به إلى موته المبكر؛ إن لم يكن أفراد عائلته أو قبيلته قد اعتنوا به.
وبكتاب سوليكي، اكتمل تحول سلالة النياندرتال؛ فلم يعد أفرادها الوحوش الشبيهة بالقرود - كما تخيلهم بول - بل صاروا كنسخة بدائية من الهيبز؛ شعبا أكثر آدمية من الإنسان الحديث في أوجه عدة. وكانت هذه هي نقطة الذروة لما صار معروفا بنظرية «الاستمرارية الإقليمية»، التي تقضي بأن الإنسان الحديث قد تطور من النياندرتال في أوروبا والشرق الأوسط، ومن شعب آخر على نفس الدرجة من القدم في مناطق أخرى. ولكن صورة النياندرتال (ومعها نظرية الاستمرارية الإقليمية) كانت على وشك المعاناة من تحول آخر، وهذه المرة لم تأت الهجمة من علماء الآثار أو علماء الإنسان، ولكن من علماء البيولوجيا الجزيئية. •••
كان علماء البيولوجيا على قدر قليل من المعرفة بالحفريات، وعلى قدر أقل من المعرفة بعلم الآثار والأنثروبولوجيا، ولكنهم كانوا يعرفون الكثير عن جزء صغير من المادة الجينية المعروفة باسم الحمض النووي للمتقدرات، أو الميتوكوندريا. فقد قام فريق من علماء البيولوجيا بجامعة بيركلي - ريبيكا كان، ومارك ستونكينج، وآلان ويلسون - بحساب معدل حدوث الطفرة في الحمض النووي للمتقدرات لدى الإنسان، وفي عام 1987 توصلوا إلى تقدير جديد للأصول البشرية بلغ قرابة مائتي ألف عام.
وقد سميت الأم الافتراضية للجنس البشري باسم ملائم هو حواء.
وهكذا صار هناك سلف جديد للبشر، ولم يكن خدعة على عكس البلتداون. فلو كان علماء البيولوجيا على صواب، وكانت حواء قد عاشت منذ ما يقرب من مائتي ألف عام، لظهر الإنسان الحديث على الساحة قبل أكثر من مائة ألف عام من تقدير العلماء السابق لتاريخ نشأتهم المحتمل. وكان هذا يعني أن البشر الأوائل بصورتهم الحديثة قد تواجدوا قبل اختفاء النياندرتال؛ الذي كان لا يزال على قيد الحياة استنتاجا من الحفريات التي وجدت على شبه جزيرة أيبيريا قبل ثمانية وعشرين ألف عام.
وبذلك وقع أنصار فكرة أن أسلافنا كانوا من سلالة النياندرتال في حالة من التخبط والبلبلة؛ ففي النهاية، لو أن بعض أفراد هذه السلالة قد عاشوا في فترة متأخرة أكثر من الإنسان الحديث، فإن ذلك يقلل بكثير من احتمال تطور النياندرتال إلى الإنسان الحديث. ولو أن الإنسان الحديث عاش قبل حتى أن ينشأ النياندرتال، كما بدا محتملا آنذاك، فإن التطور كان مستحيلا بمعنى الكلمة.
وفرت الأساليب الحديثة لتأريخ البقايا القديمة مزيدا من الأدلة على أن الإنسان الحديث يعود تاريخه لزمن النياندرتال، إن لم يكن أبعد. فقد قدر العلماء أن سلالة النياندرتال كانت منتشرة في مواقع متعددة في الشرق الأوسط، منذ زهاء ستين ألف عام مضت؛ أي في النطاق الذي قدروه من قبل. ولكن التواريخ الجديدة الخاصة بوجود الإنسان الحديث كانت مفزعة حقا؛ فقد اتضح أنهم تواجدوا في المنطقة قبل قرابة تسعين ألف عام؛ أي قبل ما كان يعتقد من قبل بكثير.
في تلك الأثناء، كان علماء الآثار أيضا يعيدون تأريخ المواقع في أفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث وجدوا دليلا على وجود الإنسان الحديث منذ ما يقرب من مائة ألف عام، وببعض الحسابات وصلت إلى مائتي ألف عام. وتضافر هذا مع النتائج التي توصل إليها علماء البيولوجيا عن أن وطن حواء - أي جنتها - كان في أفريقيا. ووجد كان وستونكينج وويلسون أن الحمض النووي للمتقدرات للأفارقة من السلالة الحديثة قد أظهر تنوعا أكبر بكثير من الأجناس الأخرى. وفسروا ذلك بأن الأفارقة كان لديهم مزيد من الوقت للتطور؛ ومن ثم لا بد أن الإنسان الأصلي كان أفريقيا.
وهكذا، ووفقا لما عرف بعد ذلك بنظرية «الخروج من أفريقيا»، يكون الجنس البشري قد ظهر أول ما ظهر في أفريقيا، ثم انتقل إلى الشرق الأوسط، ليصل في النهاية إلى أوروبا. وفي القارتين الأخيرتين، التقى بإنسان نياندرتال الأكثر بدائية، وانتهى الحال بالنياندرتال - كما هو الحال مع عدد كبير للغاية من الأنواع الأخرى التي احتكت بالبشر - بالانقراض. وبحلول بداية تسعينيات القرن العشرين، حل سيناريو الخروج من أفريقيا محل نظرية الاستمرارية الإقليمية ليصبح هو النظرية السائدة.
وجاءت أحدث الضربات الموجهة لنظرية الاستمرارية الإقليمية وآخرها في عام 1997، من علماء البيولوجيا الجزيئية مرة أخرى. فقد تمكن ماتياس كرينجز وزملاؤه بجامعة ميونيخ من استخلاص قدر ضئيل من الحمض النووي للمتقدرات من عظمة ذراع نياندرتال حقيقي؛ في الواقع من إنسان نياندرتال الأصلي الذي اكتشفه فولروت. بعد ذلك، قاموا بمقارنة الحمض النووي للمتقدرات في النياندرتال مع الحمض النووي للمتقدرات في البشر الذين على قيد الحياة، واكتشفوا أنهم اختلفوا في 27 من ال 379 موضعا التي قاموا بفحصها. (في المقابل، اختلفت عينات الحمض النووي للمتقدرات في الإنسان الأفريقي - التي أظهرت تنوعا أكبر من الحمض النووي للمتقدرات في أي إنسان حديث - في 8 مواضع فقط.) وخلص كرينجز إلى أن المسافة الجينية بين النياندرتال والإنسان الحديث جعلت من المستبعد تماما أن يكون أجدادنا من سلالة النياندرتال. •••
لم يرتض أنصار نظرية الاستمرارية الإقليمية أن يمر أي من هذا دون رد. فقاموا بالتشكيك في صحة الدليل الجيني والدليل التأريخي، وفي عام 1999 جاء ردهم باكتشاف مثير. فعلى بعد قرابة تسعين ميلا شمال لشبونة، اكتشف علماء آثار برتغاليون هيكلا عظميا لصبي يبلغ من العمر 24500 عام، بدا نصفه كإنسان ونصفه كنياندرتال. فقد كان وجه الصبي وجه إنسان حديث من حيث الصفة التشريحية، ولكن جسده وساقيه كانا لنياندرتال. وبدا أن عملية التأريخ، التي أرجعت الصبي إلى زمن ما بعد انقراض النياندرتال الخالص، تشير إلى أن الطفل كان منحدرا من أجيال مهجنة اختلط فيها النياندرتال مع الإنسان الحديث.
وسارع أنصار الاستمرارية الإقليمية إلى الإشارة إلى أنه لو كان قد حدث تزاوج بين النياندرتال والإنسان الحديث، لكان من الصعب اختلاف أحدهما عن الآخر، والذي ذهب إليه مؤيدو نظرية الخروج من أفريقيا.
استطاع الاكتشاف البرتغالي أن يزيد من الانقسام داخل المجال ، تاركا كلا الطرفين يدافع عن أدلة ونظريات بدت متناقضة. وقد حدث هذا إلى حد ما؛ فقد احتشد المدافعون عن كلتا النظريتين للتهليل للاكتشاف الجديد أو لرفضه لفترة زمنية طويلة. ولكن بلاغتهم الخطابية بدت خافتة أكثر مما كانت بعد الاكتشافات السابقة؛ ربما لأن محور النقاش كان يتغير. فبدلا من الجدال بشأن كون النياندرتال أو غيره من البشر القدماء قد تطوروا إلى إنسان حديث، كان تركيز العلماء ينصب بشكل متزايد على المسألة الخاصة بكيفية تفاعل النياندرتال والإنسان الحديث مع بعضهما البعض.
هل نشبت معارك بينهما؟ هل تعلم أحدهما من الآخر؟ هل تحاورا، أو تزاوجا، أو ربما تجاهل كل منهما الآخر؟
ربما سيستطيع علماء الآثار أو علماء البيولوجيا المجهرية - أو ممارسو فرع معرفي مختلف تماما - الإجابة عن هذه الأسئلة. أما الآن، فالإجابات حدسية للغاية، وإن كانت مثيرة. فقد طرح عالم الأنثروبولوجيا الألماني جونتر براور، على سبيل المثال، نسخة أكثر اعتدالا من سيناريو نظرية الخروج من أفريقيا. فوفقا لبراور، خرج الإنسان الحديث بالفعل من أفريقيا، ثم مضى من هناك إلى بقية العالم. ولكن على الرغم من أنه كان مختلفا في أوجه عدة عن النياندرتال الذي التقاه في الشرق الأوسط وأوروبا، فإنهما لم يكونا بهذا القدر من الاختلاف لدرجة أنهما لم يتمكنا من التزاوج. وعلى ذلك، اقترح براور أن الإنسان الحديث ربما كان له أسلاف من سلالة النياندرتال، حتى لو كانت جينات النياندرتال لا تمثل سوى جزء متناهي الصغر من بنيتنا.
على الجانب الآخر، سلم بسهولة بعض أنصار نظرية الاستمرارية الإقليمية - أمثال عالم الأنثروبولوجيا فريد سميث؛ من ولاية تينيسي - بأن ثمة تغيرا جينيا أساسيا في بنية الإنسان قد حدث في أفريقيا. ولكن سميث ذهب إلى أن النياندرتال الأوروبي والشرق أوسطي قد حصلا على هذا التغيير ودمجا معه مميزاتهما الجينية؛ إذ كانا أقوى من أن يجتاحهما الوافدون الجدد ويحلوا محلهما.
لم يتم الأخذ بالحل الوسط الذي قدمه براور أو سميث بشكل تام، ولا يمكن القول بأن هناك أي إجماع ولو قريب على موقع النياندرتال فيما قبل التاريخ الإنساني. ولكن ثمة أغلبية من العلماء يتفقون في الرأي الآن على أنه أيا كانت العلاقة بين النياندرتال والإنسان الحديث، فقد حدث تداخل بين الاثنين في الزمان، وربما في المكان أيضا. وعليه، فإن هذين النوعين من البشر - اللذين يتجاوز الاختلاف بينهما الاختلاف بين أي من أجناس اليوم، مع امتلاك كل منهما بعض السمات البشرية التي تميزه - قد التقيا لأول مرة في مكان ما، أغلب الظن في الشرق الأوسط في البداية ثم في أوروبا.
ولا أحد يعرف يقينا ماذا حدث بعد ذلك.
لمزيد من البحث
Richard Leakey and Roger Lewin,
Origins Reconsidered (New York: Doubleday, 1992). Leakey, who is best known for his discoveries of fossils much older than those relevant to the above discussion, is nonetheless insightful and provocative on the Neandertal question. He started off believing in regional continuity, partly because he found appealing the apparent inevitability of the emergence of modern humans from all sorts of archaic peoples around the globe. But he gradually came to lean toward “out of Africa,” with its even more appealing implication that all the races of today’s world are one people .
Erik Trinkaus and Pat Shipman,
The Neandertals (New York: Alfred A. Knopf, 1993). A comprehensive history of the Neandertal controversies. Trinkaus, an anthropologist, is one of the leading proponents of regional continuity, but his historiography is admirably unbiased. The book’s only flaw is the authors’ tendency to interject thumbnail sketches of the leading scientists, whose lives-at least as described here-were not, in general, as interesting as their discoveries or ideas .
Christopher Stringer and Clive Gamble,
In Search of the Neanderthals (New York: Thames & Hudson, 1993). Stringer is the leading proponent of the “out-of-Africa” theory, but like Trinkaus, he’s fair to both sides. British authors such as Stringer, by the way, have stuck with the traditional “Neanderthal” spelling; most others now spell it “tal.”
James Shreeve,
The Neandertal Enigma (New York: William Morrow, 1995). A popular science writer’s clear and often elegant account of the ongoing debate .
The Neanderthal Legacy (Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1996). A technical but useful overview of Neandertal behavior, especially how they may have organized their communities .
Matthias Krings, Anne Stone, Ralf Schmitz, Heike Krainitzi, Mark Stoneking, and Svante Paabo, “Neandertal DNA Sequences and the Origin of Modern Humans,”
Cell 90 (July 11, 1997). The mtDNA analysis of the 1856 Neandertal specimen .
Ryk Ward and Christopher Stringer, “A Molecular Handle on the Neanderthals,”
Nature 388 (July 17, 1997). A less technical summary of Krings’s findings .
Cidalia Duarte, Joan Mauricio, Paul Pettitt, Pedro Souto, Erik Trinkaus, Hans van der Plicht, and João Zilhão, “The Early Upper Paleolithic Human Skeleton from the Abrigo do Lagar Velho (Portugal) and Modern Human Emergence in Iberia,”
(June 1999). The discovery of a Neandertal-modern human hybrid .
الفصل الثاني
من شيد ستونهنج؟
الأهرامات المصرية، معبد بارثينون اليوناني، الكولسيوم الروماني؛ كلها آثار تستحضر في الذهن صورا لحضارات عظيمة، للفراعنة والفلاسفة، للأباطرة والملحمات.
أما ستونهنج، فليس كذلك.
إن الأطلال الحجرية الضخمة الكائنة بسهل ساليسبري ليست محاطة بمدن قديمة، ولكن بطرق سريعة حديثة تتجه شرقا صوب لندن. لا وجود لكتابات هيروغليفية لفك شفرتها هناك، ولا حوارات سقراطية لتأويلها. وقد قام الناس أيضا في العصر الحجري والعصر البرونزي - الذين شيدوا ستونهنج - ببناء آثار حجرية أقل حجما؛ أطلالها مبعثرة في أنحاء الريف. ولكنهم لم يتركوا أي شيء لتوضيح كيف أو لماذا تمكنوا من تشييد إنجاز هندسي فذ وإعجازي كستونهنج. وقد اتضح أن سكان سهل ساليسبري القدماء كان لديهم على مستويات أخرى ثقافة كادت تتجاوز مستوى البقاء والاستمرار، وحتى مرحلة متأخرة من القرن العشرين لم يكن لدى المؤرخين أي شيء يؤنب ضميرهم بشأن وصف هؤلاء الناس ب «البربر».
لا غرابة إذن أن بدأ هؤلاء الذين كانوا يدرسون هذه الدائرة القديمة من الأحجار - من العصور الوسطى فصاعدا - في تجاوز سهل ساليسبري لتوضيح ماهية من بناه. فنسب الكاهن الويلزي جيفري المنموثي - الذي عاش في القرن الثاني عشر - ستونهنج إلى ميرلين ساحر بلاط الملك آرثر. ووفقا لكتاب جيفري «تاريخ ملوك بريطانيا»، كان من أمر ببناء الأثر هو عم آرثر، أورليوس أمبروسيوس؛ إذ كان يبحث عن طريقة تذكارية مهيبة لإحياء ذكرى انتصار عظيم على الغزاة الأنجلوساكسونيين. فاقترح ميرلين أن يأخذوا مجموعة دائرية من الأحجار من مكان يسمى كيلاروس في أيرلندا، ثم رتب لنقل الأثر المصنوع مسبقا عبر البحر إلى بريطانيا.
وفي القرن السابع عشر، انبهر الملك جيمس الأول أيما انبهار بستونهنج، حتى إنه كلف المهندس المعماري ببلاطه - إينيجو جونز - بالبحث والتحري عنه. وبعد دراسة الأثر، لم يسع جونز سوى أن يتفق في الرأي مع جيفري المنموثي في أن سكان المنطقة في العصر الحجري أو البرونزي لم يكن بمقدورهم بناؤه على الأرجح. وبرر جونز ذلك بقوله: «إذا كانوا يفتقرون إلى المعرفة حتى لإلباس أنفسهم، فما كان لديهم إذن أي قدر منها يمكنهم من تشييد بنايات مهيبة، أو أعمال رائعة مثل ستونهنج.»
وخلص جونز إلى أن «بناية بتلك الروعة» لا يمكن أن تكون إلا من صنع الرومان، وأنها كانت معبدا لإله روماني غير معروف.
شهدت السنوات اللاحقة جهودا متواصلة لنسب ستونهنج إلى بناة من مكان ما - أي مكان تقريبا - بجوار بريطانيا. وكان للدنماركيين والبلجيكيين والأنجلوساكسونيين من يناصرهم، مثلما كان الحال مع الكهنة الكلتيين القدماء المعروفين باسم كهنة الدرويد.
كانت المشكلة مع كل تلك النظريات واحدة. فعلى الرغم من أن التأريخ بالكربون المشع لم يكن اخترع حتى القرن العشرين، فقد أشارت طرق التأريخ الأكثر بساطة لعلماء الآثار الأوائل إلى أن ستونهنج ربما يكون قد شيد قبل عام 1500 قبل الميلاد. كذلك أدرك معظم الباحثين أن كهنة الدرويد لم يصلوا قبل عام 500 قبل الميلاد، بينما وصل الرومان بعد ذلك التاريخ. وكان هذا يعني أن ستونهنج قد شيد قبل أكثر من ألف عام من وصول كليهما.
ومن ثم ظل السؤال قائما حتى القرن العشرين: من شيد ستونهنج؟ •••
أشار اكتشاف عثر عليه بمحض المصادفة أحد علماء الآثار عام 1953 إلى حل لهذا السؤال. في العاشر من يوليو، وكجزء من دراسته المسحية للموقع، كان ريتشارد أتكينسون يعد لالتقاط صور فوتوغرافية لبعض رسوم الجرافيتي التي تعود إلى القرن السابع عشر، على حجر يقع بجوار ما يعرف بالتريليثون العظيم. انتظر حتى نهاية ما بعد الظهيرة، على أمل ظهور تباين أكثر حدة للضوء والظل. وبينما كان ينظر عبر الكاميرا، لاحظ أتكينسون وجود نقوش أخرى أسفل النقش الذي يعود للقرن السابع عشر. كان أحدها عبارة عن خنجر يتجه إلى الأرض، وبالقرب منه أربع فئوس من نوع كان يوجد في إنجلترا في نفس توقيت تشييد ستونهنج تقريبا.
كان الخنجر الوحيد، وليست الفئوس، هو أكثر ما أثار أتكينسون؛ إذ لم يعثر على شيء كهذا في إنجلترا، أو في أي مكان في شمال أوروبا. وكان الأثر الأقرب له هو ذلك الذي جاء من المقابر الملكية لقلعة مسينا باليونان.
وهنا - أخيرا - ظهرت الصلة بحضارة أكثر تقدما؛ حضارة كان من المتوقع لها بشكل منطقي أن تكون قد بنت شيئا مثل ستونهنج. والأفضل من ذلك أن الخناجر التي عثر عليها في مسينا عاد تاريخها إلى قرابة عام 1500 قبل الميلاد، وهو نفس توقيت تشييد ستونهنج تقريبا، وفقا لمعظم خبراء خمسينيات القرن العشرين. وعلى عكس الرومان أو كهنة الدرويد، كان للصلة المسينية منطق زمني مقنع.
توصل أتكينسون إلى نظرية مدروسة مفادها أن ستونهنج قد صمم على يد مهندس معماري زائر من منطقة البحر الأبيض المتوسط الأكثر تحضرا ورقيا. وخمن أنه ربما كان هناك أيضا أمير مسيني مدفون في سهل ساليسبري. وقد تقبل العالم الأثري هذه النظرية بعد أن شعر بالارتياح لعثوره أخيرا على حل لإشكالية ستونهنج.
ولكن مثلما تكون الإجماع سريعا على الصلة المسينية، تمزق وانهار سريعا أيضا. فقد حملت ستينيات القرن العشرين ظهور شكل جديد من التأريخ بالكربون المشع، وفجأة وجد علماء الآثار أنفسهم في مواجهة دليل قوي ودامغ على أن ستونهنج أقدم بكثير مما كان يعتقد في السابق، وأقدم بكثير من الحضارة المسينية. فقد أكدت التواريخ التي تم التوصل إليها بالكربون المشع أن القلعة في مسينا بنيت فيما بين عامي 1600 و1500 قبل الميلاد، ولكنها دفعت بأصول ستونهنج إلى ما قبل ذلك، قبل إمكانية استشعار أي تأثيرات لشعوب البحر الأبيض المتوسط.
وبهذا التقدير الأخير، يكون بناء التجاويف والخندق الخارجي لدائرة ستونهنج قد بدأ في قرابة عام 2950 قبل الميلاد. وأضيفت بعض المباني الخشبية داخل الدائرة بين عامي 2900 و2400 قبل الميلاد، لتستبدل بعد ذلك بالبناء الحجري المعروف في وقت ما بعد ذلك بفترة قصيرة.
لم تضعف التواريخ الجديدة النظرية المسينية فحسب، بل أيضا العقلية «الانتشارية» الكاملة التي قادت إليها. فقد كان ستونهنج ببساطة أقدم من أن يكون قد بني على يد أي من الحضارات الأوروبية العظيمة، بينما كانت الحضارات غير الأوروبية بعيدة للغاية. ولأول مرة، اضطر معظم الباحثين لتقبل فكرة أن بناة ستونهنج هم أناس عاشوا بالقرب من ستونهنج، وأنهم قد فعلوا ذلك دون مساعدة خارجية. وهؤلاء الأناس البدائيون قاموا فيما يبدو - بطريقة ما - ببناء واحد من أكثر آثار العالم استمرارية. •••
الأدهى من ذلك أن بناة ستونهنج جعلوا مهمتهم أصعب بشكل مذهل - كأن ما سبق لم يكن مبهرا بالقدر الكافي - باستخدامهم أحجارا جيء بها من على بعد 150 ميلا، من جبال بريسيلي بجنوب غرب ويلز.
تم تتبع تلك «الأحجار الزرقاء» (التي كانت في الواقع أقرب للرمادي الملطخ) لمصدرها على يد الجيولوجي إتش إتش توماس عام 1932، وتبين أن أنواع الصخور الثلاث في الأحجار الزرقاء لا تشبه أي صخرة وجدت بالقرب من ستونهنج. إلا أن توماس وجد أن نفس الصخور الثلاث يمكن أن تكون قد استخرجت من البروزات الصخرية الطبيعية بين قمم جبال كارنمينين وفويل تريجارن في ويلز.
ولكن كيف نقل أهل سهل ساليسبري هذه الأحجار التي يزن بعضها خمسة أطنان من ويلز إلى إنجلترا؟
قاد اكتشاف توماس البعض إلى النظر من جديد إلى قصة جيفري المنموثي عن سحر ميرلين؛ فأشار عالم الآثار ستيوارت بيجوت إلى أنه ربما كان هناك بعض التقاليد الحقيقية المنقولة شفاهة، مجسدة في الفولكلور. فرغم كل شيء، كان جيفري قد كتب عن حصول ميرلين على الأحجار من الغرب (وإن كان من أيرلندا، وليس من ويلز)، كذلك كتب عن نقل الأحجار إلى ستونهنج عن طريق البحر، وهو ما قد يكون علق بالذاكرة الشعبية المتعلقة بنقلها عبر البحر الأيرلندي. بل ربما يكون جيفري قد قدم تلميحا عن أسباب تحمل بناة ستونهنج قطع كل تلك المسافات لجلب الأحجار من بعيد ، في الوقت الذي كان هناك الكثير من أنواع الصخور الأخرى حول سهل ساليسبري مباشرة: ربما كان بناة ستونهنج، مثل ميرلين في قصة جيفري، يعتقدون أن هذه الصخور لها خصائص سحرية.
كان معظم المؤرخين يرون اقتراحات بيجوت بعيدة الاحتمال بعض الشيء، لا سيما في ضوء نسخة جيفري التاريخية المشوهة. ولكن ظل هذا لا يحمل إجابة للسؤال الخاص بكيفية انتقال ما لا يقل عن خمسة وثمانين حجرا - وربما أكثر - من جبال بريسيلي إلى سهل ساليسبري.
ذهب البعض، وأبرزهم الجيولوجي جي إيه كيلاوي، إلى أن الأحجار الزرقاء حملت بواسطة الأنهار الجليدية، وليس عن طريق الناس. ولكن معظم الخبراء وقفوا صفا واحدا ضده، لعدم اعتقادهم أن أحدث التغطيات الجليدية امتدت إلى أقصى الجنوب حتى بريسيلي أو ساليسبري. حتى لو كان كذلك، وامتد الجليد إلى هذين المكانين، فمن المستبعد إلى حد كبير أن تكون الأنهار الجليدية قد جمعت الأحجار الزرقاء من منطقة صغيرة في ويلز وأودعتها منطقة صغيرة أخرى في إنجلترا، بدلا من بعثرتها في كل مكان. ولعل غياب أي أحجار زرقاء أخرى في جنوب أو شرق قناة بريستول (مع الاستثناء المحتمل الخاص بوجود أحدها في متحف ساليسبري الآن، ولكن تاريخها لا يزال محل جدل) قد شكل حجة قوية ضد النظرية الجليدية.
ومن ثم، فقد كان التفسير الأكثر شيوعا - رغم استبعاده يوما ما - هو أن أهالي منطقة سهل ساليسبري قد ربطوا بعض الزوارق معا وحملوا الأحجار الزرقاء عبر البحر الأيرلندي. وكانت الرحلة بمنزلة دليل آخر على أن أهل سهل ساليسبري كانوا يتمتعون بخبرة تقنية مدهشة وغير عادية. •••
وفي ظل حالة التشوش والبلبلة لدى أنصار نظرية الانتشار، شهدت ستينيات القرن العشرين مزيدا من الادعاءات الجديرة بالملاحظة التي وضعت نيابة عن أهل سهل ساليسبري. ولم تجئ هذه المرة من علماء الآثار أو الجيولوجيين، بل من الفلكيين.
لم تكن حقبة الستينيات هي المرة الأولى التي يظهر فيها علم الفلك على الساحة. فقديما في القرن الثامن عشر، لاحظ ويليام ستوكلي أن مركز ستونهنج يقع «بالقرب من موضع شروق الشمس تقريبا، حين تكون الأيام أطول ما يكون.» واكتشف كثيرون آخرون ممن درسوا الأثر طرقا أخرى وجد بها أنه يتجه نحو الشمس، أو القمر، أو النجوم. غير أن أيا من تلك الدراسات لم يثر ضجة تشبه تلك التي أثيرت على يد عالم الفلك بجامعة بوسطن جيرالد هوكينز، الذي نشر كتابه ذا العنوان الواثق «فك شفرة ستونهنج» عام 1965، فأصبح من أكثر الكتب مبيعا على المستوى الدولي.
وجد هوكينز أن المحاذاة التي توجد فيما بين 165 نقطة رئيسية في الأثر اقترنت اقترانا شديدا مع مواضع شروق وغروب الشمس وظهور واختفاء القمر. والأكثر إثارة للجدل أنه ذهب إلى أن دائرة من الحفر في ستونهنج تعرف باسم «فتحات أوبري» قد استخدمت للتنبؤ بخسوف القمر؛ فأطلق هوكينز على ستونهنج اسم «كمبيوتر العصر الحجري الحديث».
وجاء رد أتكينسون، الذي لم يزل صاحب السلطة الأولى على ستونهنج منذ اكتشافه للنقوش «المسينية»، بمقال وضع له عنوانا لاذعا بنفس القدر هو «سطوع القمر على ستونهنج». ذهب أتكينسون فيه إلى أن هناك احتمالا كبيرا أن تكون المحاذاة السماوية قد حدثت بمحض المصادفة. أما بالنسبة إلى فتحات أوبري كنذير بالخسوف، فقد أوضح أتكينسون أنها استخدمت كحفر لإحراق جثث الموتى، وسرعان ما تم ردمها بعد حفرها.
ظهرت السماء بشكل بارز وواضح في لوحة جون كونستابل التي رسمها لستونهنج عام 1835 ... وفي العديد من نظريات القرن العشرين كان ستونهنج يوما ما مرصدا فلكيا. (حقوق الطبع محفوظة للمتحف البريطاني.)
أثار النقاش الذي أعقب ذلك الفلكيين ضد علماء الآثار إلى حد ما، في ظل مواجهة ممارسي كل مجال من المجالين صعوبة كبيرة بشكل دائم في فهم الحجج التقنية للآخر. وتوصل الفلكيون إلى مجموعة من الطرق الأخرى التي يمكن أن يكون ستونهنج قد استخدم بها كمرصد فلكي، البعض منها كان رفضه أقل سهولة من طرق هوكينز. ولكن كان لدى الفلكيين نزعة للتأكيد على كيفية محاذاة النقاط المختلفة مع الشمس أو القمر، بينما يتجاهلون أن واحدة من هذه النقاط المفترض محاذاتها ربما تكون قد بنيت بعد الأخرى بمئات أو حتى ألف عام. وسارع علماء الآثار إلى إيجاد عيوب في معظم هذه النظريات.
بنهاية الألفية الثانية، ورغم استمرار الجدل، كانت هناك دلالات على ظهور إجماع واتفاق في الرأي. لقد تعرضت أكثر النظريات جموحا، مثل نظرية هوكينز، للتشويه والوصم، حتى بين الفلكيين، إلا أن جميع علماء الآثار تقريبا (بما فيهم أتكينسون) أقروا بأن القليل من نقاط المحاذاة السماوية على الأقل، خاصة المحاذاة مع الشمس، كانت أكثر من مجرد مصادفة. وأغلب الظن، وأكثر الآراء المتفق عليها، أن الأثر لم يستخدم كمرصد، على الأقل بالمعنى الحديث، ولكن سكان منطقة ستونهنج رصدوا الشمس من هناك على الأرجح، ربما كجزء من أحد طقوس ما قبل التاريخ.
غير أنه حتى هذه المعرفة الفلكية غير الدقيقة أشارت إلى أن سكان سهل ساليسبري قد درسوا السماء، وكان لديهم منظومة نوعا ما لمتابعة نتائجهم. ومن الواضح أن بناة ستونهنج، بغض النظر عن مدى بدائيتهم في بعض النواحي، كانوا على قدر ملحوظ من التطور في نواح أخرى. وفي هذا الإطار، ساهمت أيضا أحدث الاكتشافات في زيادة الغموض المحيط ببناة ستونهنج، رغم إسهامها في تعميق فهمنا له.
لمزيد من البحث
Geoffrey of Monmouth,
The History of the Kings of Britain,
trans. Lewis Thorpe (London: The Folio Society, 1966). Just as it was when Geoffrey finished it in 1138, the
History
is still entertaining, intriguing ... and ultimately unreliable .
Gerald Hawkins,
Stonehenge Decoded (Garden City, N.Y.: Doubleday, 1965). In spite of his flaws, Hawkins had a flair for drama, and the book still makes for exciting reading .
Richard Atkinson, “Moonshine on Stonehenge,”
Antiquity
40, no. 159 (September 1966). The leading archaeologist’s response to Hawkins .
Jacquetta Hawkes, “God in the Machine,”
Antiquity
41, no. 163 (September 1967). Hawkes is rightly famous for saying that “every age gets the Stonehenge it desires, or deserves.” Her words could just as appropriately be applied to just about every mystery of history in this book .
Christopher Chippindale,
Stonehenge Complete (Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, 1983). Though “complete” can only be an overstatement when the subject is Stonehenge, the book is a very thorough historiography that includes just about “everything important, interesting, or odd that has been written or painted, discovered or felt, about the most extraordinary of all ancient buildings.”
Rodney Castleden,
The Making of Stonehenge (London: Routledge, 1993). A close look at each phase in the monument’s rise and fall .
R. M. Cleal, K. Walker, and R. Montague,
Stonehenge in Its Landscape (London: English Heritage, 1995). A fat technical report that brings together all of the results of all of the twentieth century’s crucial excavations .
John North,
Stonehenge (New York: The Free Press, 1996). The latest and most thorough presentation of the astronomical thesis. North’s thesis, which impressed many but convinced fewer, is that Stonehenge embodied many significant alignments, but that previous astronomers have failed to recognize them since they looked at the sun from the center of the monument, when they should have been doing so from outside the circle .
David Souden,
Stonehenge (London: Collins & Brown, 1997). Commissioned by English Heritage, the quasi- independent agency that controls the monument, this is a clear exposition of the orthodox position, accepting some (but rejecting most) astronomical theories .
Barry Cunliffe and Colin Renfrew, eds.,
Science and Stonehenge (Oxford: Oxford University Press, 1997). A collection of essays that grew out of a conference held after the appearance of
Stonehenge in Its Landscape ; includes the latest entries in the bluestone and astronomy debates .
الفصل الثالث
لماذا بنى الفراعنة الأهرامات؟
في قرابة عام 450 قبل الميلاد، روى هيرودوت قصة عن خوفو؛ وهو فرعون في غاية الخبث والشر الذي دفعه، حين أضاع كل ثروته، إلى إرسال ابنته إلى أحد بيوت البغاء ومعها أوامر بتدبير مبلغ معين له. ولأنها ابنة مخلصة وطائعة، فعلت ما أمرها به. ولكن أملا منها في أن تذكر بشيء آخر بجانب عدد الرجال الذين مارست معهم الرذيلة، كانت تطلب من كل رجل ضاجعها حجرا على سبيل الهدية. وبهذه الأحجار قامت ببناء واحد من الأهرامات الضخمة التي لا تزال قائمة على هضبة الجيزة بالقرب من نهر النيل.
في الوقت الذي كان هيرودوت يكتب فيه عن الأهرامات، كان عمر الأهرامات ألفي عام. غير أنه في الألفي عام الأخرى التي مرت منذ ذلك الوقت، لم يتوقف سيل النظريات المعتوهة عن أصول الأهرامات.
كان بعض كتاب العصور الوسطى يعتقدون أنها الصوامع المذكورة في التوراة، والتي كان يوسف يستخدمها لتخزين الذرة خلال سنوات الوفرة والرخاء في مصر. وفي مرحلة أقرب، وصفت الأهرامات كساعات شمسية وروزنامات، ومراصد فلكية، وأدوات استطلاعية، ومراس للسفن الفضائية.
غير أنه حتى هيرودوت كان يعلم أن النظرية الأكثر قبولا هي أن الأهرامات كانت مقابر للفراعنة. ولا يزال أشهر علماء المصريات يعتقدون ذلك، ولسبب وجيه؛ فالأهرامات تمتد على طول الضفة الغربية للنيل، والتي تربطها الخرافات المصرية القديمة بكل من غروب الشمس والرحلة إلى العالم الآخر. واكتشف علماء الآثار بجوار الأهرامات المراكب الجنائزية الطقسية التي كان من المفترض أن يبحر الفراعنة بها إلى العالم الآخر. كما يحيط بالأهرامات مقابر أخرى، يفترض أنها خاصة بأفراد البلاط الملكي للفراعنة.
ولعل أقوى الشواهد جميعا أن العديد من الأهرامات كانت تحوي نواويس حجرية أو توابيت. وبحلول القرن التاسع عشر، تم تحديد أن بعض النقوش الهيروغليفية على النواويس - أو بالقرب منها - تمثل تعاويذ سحرية لمساعدة الفراعنة على المرور من عالم إلى العالم الذي يليه.
غير أن نظرية المقابر كان ينقصها دليل في غاية الأهمية؛ وهو وجود جثة. فخلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، دخل المستكشفون ومن بعدهم علماء الآثار هرما تلو الآخر. (فهناك ما يزيد على ثمانين هرما في محافظات عديدة على طول وادي النيل، وربما يكون هناك أهرامات أخرى مدفونة تحت رمال الصحراء.) وكانوا يجدون ما كان يبدو أنه تابوت فرعوني، ويفتحونه - حابسين أنفاسهم - ليجدوه خاويا مرارا وتكرارا. •••
طالما كانت أكثر التفسيرات شيوعا للمقابر الخاوية أن الأهرامات قد نهبت. وبالطبع كان معظم اللصوص أكثر اهتماما بالعثور على كنوز الفراعنة من اهتمامهم بجثثهم، إلا أنه ليس من المحتمل بالتأكيد أن يكونوا قد استغرقوا أي قدر من الوقت في التأكد من أن الجثث كانت محفوظة بطريقة ملائمة. ومن غير المحتمل أيضا أن يكونوا قد تركوا وراءهم أي مومياء مغطاة بالذهب الخالص.
وعلى الأرجح أن أول لصوص القبور هم المصريون القدماء أنفسهم، استنتاجا من الجهود المضنية لإحباط محاولات السرقة. ففي هرم أمنمحات الثالث في هوارة ، على سبيل المثال، يؤدي المدخل إلى حجرة صغيرة خاوية تؤدي إلى ممر ضيق لا يوصل إلى أي مكان. في سقف هذا الممر، كان هناك حجر ضخم يزن أكثر من اثنين وعشرين طنا. حين زحزح إلى الجنب، ظهر رواق علوي لم يؤد فيما يبدو إلى أي مكان أيضا. وكان هناك باب خفي من الطوب في أحد الجدران يؤدي إلى ممر ثالث، ثم كان هناك حجران آخران في السقف قبل الوصول إلى غرفة صغيرة تؤدي أخيرا إلى غرفة الدفن.
غير أن كل ذلك ذهب سدى؛ فلم يعق لصوص المقابر المصريين عن السرقة. ولم يؤد عزم الفراعنة وإصرارهم إلى إحباط علماء الآثار فحسب، بل إلى إحباط صائدي الكنوز فيما بعد، مثل الحاكم العربي عبد الله المأمون في القرن التاسع. وكان قد ترك تقريرا مفصلا عما كان يظنها أول بعثة استكشافية لهرم خوفو الأكبر. فبعد أن قاد زمرته عبر سلسلة من الممرات الكاذبة والمداخل المسدودة، وصل أخيرا إلى غرفة الدفن؛ حيث لم يجد أي شيء سوى تابوت حجري فارغ.
كان المستكشفون الأوروبيون الذين وصلوا إلى مصر بعد غزو نابليون مهتمين بالحجر المنقوش أكثر من اهتمامهم بالمجوهرات، ولكنهم لم يحترموا الآثار الفرعونية بدرجة أكبر بكثير من سابقيهم المصريين والعرب. ففي عام 1818، استخدم جيوفاني بلزوني، وهو لاعب سيرك إيطالي قوي البنية تحول إلى مستكشف، آلات حربية تسمى الكبش لاختراق جدران هرم خفرع؛ ابن خوفو. ورغم أن بلزوني كان مشغولا بتأمين مخزون كاف من المعروضات لمعرضه القادم في لندن، فإنه توقف لفترة طويلة كافية لفحص الجثث فيما بدا أنها غرفة الدفن. وكانت العظام الوحيدة التي وجدت هناك لثور، ولعلها كانت نوعا من القرابين ألقيت داخل التابوت الحجري من قبل بعض المتطفلين الأوائل الذين فروا بجثة الفرعون.
أثمر البحث - عن الكنوز والجثث - عام 1923 حين عثر عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر على مقبرة توت عنخ آمون. ويعتبر الملك توت عنخ آمون الآن أشهر الفراعنة على الأرجح، وهو يستحق ذلك، بالنظر إلى الكنز الرائع الذي لم يمسه أحد وعثر عليه كارتر، واشتمل على تابوت صلب من الذهب، وقناع ذهبي على جسد الفرعون.
ولكن للأسف، لم يثبت الاكتشاف أي شيء بشأن الأهرامات؛ إذ لم يكن توت عنخ آمون مدفونا في أحدها، فقد حفرت مقبرته في صخور وادي الملوك بمصر مباشرة.
كان الشيء الأكثر تكديرا لطاقم عمل كارتر هو وفاة إيرل كارنارفون، وهو عالم آثار هاو وثري كان يمول البعثة. فبعد وصول الفريق وادي الملوك مباشرة، وجد كارنارفون ميتا في القاهرة. وتوفي اثنان آخران دخلا المقبرة بعدها بفترة وجيزة؛ كان أولهما رئيس قسم الآثار المصرية بمتحف اللوفر، ثم لحق به الأمين المساعد للآثار المصرية بمتحف ميتروبوليتان للفنون بنيويورك.
وأدى هذا حتما إلى ظهور كل أنواع التخمينات الساذجة بشأن وجود لعنة. فورد بأحد التقارير أن كارتر قد عثر على لوح في المقبرة نقش عليه: «سوف يضرب الموت بجناحيه كل من يعكر صفو الفرعون الذي يرقد بسلام.» •••
تواصل البحث بغض النظر عن وجود لعنة أم لا.
إذا كانت الأهرامات قد بنيت كمقابر للفراعنة، فإنها بالتأكيد كانت باهظة التكلفة. وكما كتب الشاعر روديارد كبلنج: «من سيشكك في السر المخفي أسفل هرم خوفو؛ هل من بناه هو أحد المقاولين لخوفو من بين ملايين؟» الصورة هنا لهرم خوفو الأكبر. (مكتبة الكونجرس.)
في عام 1925، وبعد عامين فقط من اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، كان فريق من علماء الآثار الأمريكيين - تحت قيادة جورج أندرو رايزنر - يعمل بالقرب من قاعدة هرم خوفو الأكبر. وبالمصادفة، بينما كان مصور يحاول نصب حامل آلة التصوير خاصته، نزع جزءا من الجص عن فتحة سرية حفرت في الصخر، ليكشف عن جزء من دهليز ممتد بعمق مائة قدم، وممتلئ بأحجار البناء من القمة إلى القاع، واستغرق الوصول إلى القاع أسبوعين.
وهناك عثر رايزنر على تابوت الملكة حتب حرس؛ أم خوفو. ولما كانت المقبرة مخبأة بشكل محكم للغاية، تمنى رايزنر أن يجد مقبرتها سليمة لم تمس، ولكن التابوت الحجري كان خاويا. وفقط، بعد أن تغلب فريق علماء الآثار على خيبة أملهم، لاحظوا مساحة مغطاة بالجص على جدار الغرفة وجدوا خلفها خزانة صغيرة، وبداخل تلك الخزانة عثروا على أحشاء الملكة المحنطة.
كان تخمين رايزنر - وقد اعترف أنه مجرد تخمين - أن الملكة كانت مدفونة بلا شك في وقت ما في مكان آخر. بعد ذلك، وبعد أن تخلص اللصوص من جثتها للوصول إلى المجوهرات القابعة أسفل اللفافات المحيطة بها، أعيد دفن رفاتها بالضرورة بالقرب من زوجها وابنها.
تجدد الأمل في العثور على مقبرة سليمة لم يمسها اللصوص عام 1951، حين اكتشف عالم المصريات المصري زكريا غنيم بقايا هرم لم يكن معروفا من قبل في سقارة على بعد قرابة ستة أميال من جنوب الجيزة. لم يلاحظ هذا الهرم من قبل مطلقا؛ إذ لم يتجاوز بناته مرحلة الأساس، وقد غطته رمال الصحراء بعد ذلك. وفي البداية، اعتقد غنيم أن هرما غير مكتمل البناء من غير المحتمل أن يحمل الكثير من الأهمية، فضلا عن حمل رفات فرعون. ولكن ارتفع سقف توقعاته حين تتبع خندقا ضحلا يؤدي إلى نفق، وعندما قام بالحفر عبر ثلاثة جدران حجرية، ازداد حماسه للأمر؛ فعلى أي حال، لم يكن من المحتمل أن يكون أحد اللصوص قد استغرق وقتا في إعادة سد مقبرة وهو في طريقه للخروج. وبدت المجوهرات التي عثر عليها في الهرم دلالة أخرى على وجود مقبرة - أخيرا - لم يعثر عليها اللصوص مطلقا.
وأخيرا وصل غنيم إلى غرفة الدفن التي قرر أنها الحجرة الخاصة بسخم خت، وهو فرعون لم يكن يعرف عنه الكثير، لكنه كان فرعونا على أي حال. وحين عثر غنيم على تابوت من الذهب، أخذ هو وزملاؤه يرقصون ويبكون فرحا ويتعانقون. وبعد بضعة أيام، وأمام حشد من الباحثين والمراسلين الصحفيين، أمر غنيم بفتح التابوت.
ولصدمته، وجد خاويا. •••
كان الفشل في العثور على فرعون في مقبرته هو نقطة الانطلاق لظهور العديد من النظريات التي بني الكثير منها على النظامية الرياضية التي رآها علماء المصريات في الأهرامات. ففي القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، اكتشف الفلكي الاسكتلندي تشارلز بيازي سميث أن الهرم الأكبر كان به قدر كاف من البوصات الهرمية التي تجعله نموذجا مصغرا لمحيط الأرض. ولسوء الحظ، كانت حسابات بيازي سميث الدقيقة قائمة على قياسات أخذت حين كانت الأكداس الضخمة من الحطام والأنقاض لا تزال تغطي قاعدة الهرم.
وفي عام 1974، زعم الفيزيائي كورت مندلسون أن الأهرامات كانت عبارة عن مشروعات عمل عامة وليست مقابر، وأن الهدف منها كان خلق هوية مصرية قومية للقبائل المشتتة آنذاك. ولم تفسر نظرية مندلسون عدم وجود الجثث فحسب، بل فسرت أيضا مشكلة أخرى مزعجة شابت نظرية المقابر، وهي تحديدا أن العديد من الفراعنة اتضح أنهم بنوا أكثر من مقبرة. على سبيل المثال، كان للملك سنفرو - والد خوفو - ثلاثة أهرامات، ومن الصعب تخيل أنه كان ينوي تقسيم رفاته بينها. وكان لخوفو نفسه هرم واحد فقط، إلا أنه كان يضم ثلاث غرف يبدو أنها صممت كغرف دفن.
ثمة نظرية أخرى اكتسبت العديد من الأتباع والمؤيدين، وهي أن الأهرامات كانت أضرحة تذكارية؛ أي آثارا شيدت تكريما للفراعنة المتوفين ولكنها ليست مقابرهم الفعلية، التي كانت مخبأة في مكان آخر للحفاظ عليها من اللصوص. وكان هذا سيفسر لم كانت مليئة بالسمات الجنائزية ولكن دون وجود جثث.
غير أن غالبية علماء المصريات لا يزالون على اعتقادهم بأن الأهرامات قد بنيت في الأساس كمقابر، حتى لو كانت قد خدمت بعض الأغراض الأخرى. فهي محاطة بمقابر أخرى، وإن كانت لرجال دولة أقل مكانة. حتى لو كان اللصوص القدماء وغير القدماء قد استولوا على كل أثر لها، فقد كانت جثث الفراعين راقدة هناك يوما ما.
ويمكن فهم الأهرامات، من منظور ما أجمع عليه العلماء، على النحو الأفضل كجزء من تدرج معماري بدأ بمقابر مستطيلة ذات قمم مسطحة بنيت من الطوب اللبن، والتي يطلق عليها الآن «مصاطب» (وهي تلك التي عثر فيها على الجثامين). وبعدها بدأ المهندسون المعماريون في وضع هيكل ذي قمة مسطحة فوق الآخر، لينشئوا ما أصبح معروفا ب «الأهرامات المدرجة»، التي لا يزال أشهرها موجودا في جنوب القاهرة بمنطقة سقارة. وفي النهاية، واتت أحدهم فكرة ملء المدرجات ، لينتج المنحدر المعروف للهرم ربما عند منطقة ميدوم، على بعد قرابة أربعين ميلا جنوب سقارة.
وقد تزامن التطور المعماري مع التغييرات اللاهوتية، فتشير النصوص التي وجدت على المصاطب إلى وجود اعتقاد بأن الفراعنة سوف يصعدون إلى السماء على درجاتها. وتعكس نصوص لاحقة من فترة الأهرامات الحقيقية وجود عبادة إله الشمس، وتصف الفراعنة وهم يرتفعون للسماء على أشعة الشمس. وكانت الجوانب المنحدرة للهرم، التي تشبه شكل أشعة الشمس وهي تشرق من السماء، هي الطريق الجديد للسماء.
هل ألهمت عبادة الشمس المعماريين المصريين لتصميم الأهرامات؟ يبدو من النظرة الأولى أنه من غير المحتمل أن يكون كل هذا العدد الكبير الإضافي من أطنان الأحجار قد استخرج - لزاما - من المحجر ونقل وجر لموقع البناء، فقط لمجرد أن السلم لم يعد يعتبر وسيلة فعالة للوصول إلى السماء. ولكن بقدر صعوبة استيعاب الأمر علينا بعد مرور أربعة آلاف وخمسمائة عام، كان المصريون يعتبرونه أمرا يستحق الجهد. (وعلى الرغم من المفهوم الخاطئ الشائع أن العبيد اليهود قد بنوا الأهرامات، فإن المصريين هم من بنوها.)
إن كل شيء تقريبا تبقى من الحضارة المصرية يرتبط بالموت؛ فيبدو أنه كان القوة المميزة في عقيدتهم الدينية، وأدبهم، وفنهم. فقد كانت الحياة الآخرة بالنسبة إلى الفراعنة هدفا حقيقيا للغاية، سواء بواسطة درجات السلم أم أشعة الشمس؛ لذا فمن الصواب تماما أن تكون الآثار التي تعرف حضارتهم للأجيال القادمة مصممة أيضا، بشكل شبه مؤكد، لتؤوي موتاهم.
لمزيد من البحث
Herodotus,
The Histories,
trans. Aubrey de Selincourt (Middlesex, Eng.: Penguin, 1954). He’s been called both the “father of history” and the “father of lies”; either way, his tales still rank among the most entertaining ever .
Richard Proctor,
The Great Pyramid (London: Chatto & Windus, 1883). Khufu’s pyramid as an astronomical observatory .
Howard Carter,
The Tomb of Tutankhamen (New York: E. P. Dutton, 1954). How does it feel to find yourself face to face with a pharaoh from three thousand years ago? Carter captures the awe and excitement of his history-making discovery. Originally published in 1924 .
I. E. S. Edwards,
The Pyramids of Egypt (Middlesex, Eng.: Viking, 1947). Still the classic history of the pyramids and their cultural and religious significance .
Secrets of the Great
(New York: Harper & Row, 1971). A fascinating but too uncritical compendium of alternative explanations for Khufu’s tomb .
Kurt Mendelssohn,
The Riddle of the
(New York: Praeger, 1974). The pyramids as a political statement .
Brian Fagan,
The Rape of the Nile (New York: Charles Scribner’s Sons, 1975). Tomb robbers, tourists, and archaeologists in Egypt through the ages, with a special focus on Belzoni: “the greatest plunderer of them all.”
The Civilization of Ancient Egypt (New York, Athenaeum, 1978). Its rise and fall, in one fact- and opinion-packed volume .
Robert Bauval and Adrian Gilbert,
The Orion Mystery (New York: Crown, 1994). The latest case for an astronomical explanation; specifically, that the Giza pyramids were positioned to represent the three stars of Orion’s belt .
Mark Lehner,
The Complete Pyramids (London: Thames & Hudson, 1997). Pyramid by pyramid, everything you wanted to know about each .
الفصل الرابع
من كان ثيسيوس؟
كانت مآثر وإنجازات ثيسيوس ضخمة؛ فقد جلب الديمقراطية إلى أثينا، وانضم إلى جيسون وبحارة الأرجو في سعيهم لجلب الصوف الذهبي، وحارب المحاربات الشرسات المعروفات باسم بنات الأمازون (وهي الحرب التي انتهت بلا نصر أو هزيمة). ولكن كل هذا خبا رونقه أمام إنجازه الأعظم، وهو ذبح المينوتور. دارت القصة التي رواها بلوتارخ بالكامل في القرن الأول الميلادي، ولكنها كانت معروفة بالطبع قبل ذلك، على النحو التالي:
تزوج الملك القوي مينوس - الذي كان يحكم اليونان من قصره في كريت - من باسيفايي ، التي وقعت في غرام ثور جميل. طلبت باسيفايي من المخترع ديدالوس أن يبني لها بقرة من الخشب حتى تستطيع الاختباء بها ومعاشرة الثور. وأنجبت بعد ذلك المينوتور الرهيب، الذي كان نصفه إنسانا ونصفه ثورا، وكان مغرما بلحم البشر لسوء الحظ.
توجه مينوس إلى ديدالوس، الذي قام بدوره ببناء متاهة لاحتجاز المينوتور، وفيها كان الملك كل تسعة أعوام يرسل أربعة عشر شابا أثينيا ليأكلهم المينوتور، وفي الوقت نفسه للانتقام لموت ابن مينوس، أندروجيوس، على أيدي الأثينيين. لم يكن أحد من الشباب يعود مطلقا؛ على الأقل حتى تطوع ثيسيوس - ابن الملك الأثيني أيجيوس - للذهاب. وكان قد وعد والده بأن يعود رافعا شراعا أبيض احتفالا بنجاحه.
قبل حدوث ذلك، وفي كريت، كانت أريادنه - ابنة مينوس - قد وقعت في حب الشاب الشجاع وأعطته كرة خيط. وعندما ذبح ثيسيوس المينوتور، اتبع الخيط المفكوك للخروج من المتاهة. وهكذا انتهت التضحية القاسية بشباب أثينا، وانتهت معها سيطرة كريت على أثينا.
لم تكن تلك نهاية سعيدة بالنسبة إلى أريادنه، التي هجرها ثيسيوس في طريق عودته إلى أثينا، أو بالنسبة إلى أيجيوس، الذي ألقى بنفسه من أعلى جرف حين وجد سفينة ابنه ولا يزال عليها الشراع الأسود (حيث كان ثيسيوس قد نسي تغيير الأشرعة). ولكن ميزة ذلك على الأقل أنه قد سرع باعتلاء ثيسيوس العرش.
بالطبع تنتمي رواية بلوتارخ، المليئة بالعناصر الخارقة للطبيعة، لعالم الخرافات. ولكن تساءل المؤرخون الأوائل عن احتمالية حفظ الخرافة ذكرى حية عن أي إمبراطورية كريتية حكمت بلاد الإغريق في أحد عصور ما قبل التاريخ. وفي عام 1900، وصل آرثر إيفانز، مدير المتحف الأشمولي بأكسفورد، إلى كريت وأقنعه ما رآه - مثلما أقنع كثيرين آخرين - بأن كريت لم تكن فقط مركزا لإمبراطورية عظيمة، بل بأن قصة ثيسيوس لم تكن بالروعة التي بدت عليها حينها. •••
كان إيفانز مناسبا على نحو مثالي للتنقيب في كريت؛ فباعتباره أكاديميا من الجيل الثالث، كان خبيرا بالكتابة القديمة، التي جاء إلى كريت بحثا عنها في المقام الأول. كما كان مؤيدا لاستقلال كريت؛ ما عاد عليه بنفع عظيم بعد أن تحررت كريت من الحكم التركي عام 1899. والأفضل من كل ذلك أن إيفانز قد ورث ثروة من تجارة أبيه في الورق؛ ما أتاح له تجاوز المفاوضات الشائكة المعتادة وشراء الأرض التي أراد التنقيب فيها ببساطة. وكانت الرواية المحلية واضحة بشأن موقع قصر كنوسوس، وهو قصر مينوس، في وادي كايراتوس، وكانت تلك هي النقطة التي بدأ فيها إيفانز الحفر.
وفي غضون أسابيع، كان واضحا أن هذا الموقع موقع استثنائي. فلحسن الحظ لم يبن عليه في العصور الإغريقية أو الرومانية؛ ومن ثم تمكن العمال سريعا من الوصول إلى أطلال قصر يعود للعصر البرونزي. ويا له من قصر! فقد كان يمتد على عدة أفدنة، وسرعان ما استدعى إلى الذهن صورة متاهة، بغرفه وممراته المتعددة المظلمة. ولم يسع إيفانز سوى أن يتخيل الزوار الأثينيين القدماء وقد عادوا إلى ديارهم ويروون حكايات عن وقوعهم في متاهة بدت بلا نهاية. وفي منتصف القصر كان هناك بهو كبير، فتساءل إيفانز: هل يمكن أن يكون هذا هو مأوى ذلك المخلوق الذي وصف في الخرافة مينوتور؟ «الثور في كل مكان»، هكذا كتب آرثر إيفانز عن اكتشافاته في كنوسوس. وكان أشهر هذه الاكتشافات وأكثرها تميزا هذه اللوحة الجصية (الفريسكو) التي جسدت رجلا يقفز فوق ثور هائج، وأدت بعلماء الآثار للتساؤل عن وجود قدر من الحقيقة في قصة ذبح ثيسيوس للمينوتور. (حقوق الطبع محفوظة لولفجانج كايلر/كوربيس.)
ولكن جاء عام 1900 ليشهد أكثر اكتشافات إيفانز إثارة بين جميع اكتشافاته؛ لوحة تجسد شابا يقوم بحركات بهلوانية على ظهر الثور، في حين وقفت شابتان بجانبه، على ما يبدو أنهما إما كانتا تبحثان عن رفقتهما أو في انتظار دورهما. وسرعان ما تم العثور على مزيد من الصور لثيران ومصارعين يقفزون فوقها، بعضها على أختام منقوشة وبعضها في شكل تماثيل صغيرة من البرونز أو العاج.
تشاور إيفانز الذي تملكه الذهول والدهشة مع الخبراء البديهيين في هذا الموقف؛ وهم مصارعو الثيران الإسبان. فسألهم إذا كان هذا النوع من القفز على الثيران المجسد في الفن الكريتي ممكنا . وأجاب مصارعو الثيران بأنه لا يمكن القيام به، على الأقل إذا كان القافزون على الثيران يتمنون النجاة والبقاء أحياء. ولكن الدليل كان دامغا على أن شكلا من القفز على الثيران كان يحدث هناك. وأيا ما كانت الرخصة الفنية التي ربما يكون الفنانون الكريتيون والقاصون الأثينيون قد حصلوا عليها، فمن الواضح أن الثيران كانت جزءا لا يتجزأ من هذه الثقافة. وربما كان الشباب الذين تم تصويرهم أسرى يونانيين تم تدريبهم من أجل حلبة المصارعة مثل مصارعي روما القديمة.
أطلق إيفانز على هذه الثقافة اسم «المينوسية» تيمنا بملكها الأسطوري (أو ربما لم يكن أسطوريا للدرجة). وكان مقتنعا أن المينوسيين، كما حكت قصة ثيسيوس، حكموا بلاد الإغريق يوما ما، فارضين سيطرتهم على البر الرئيسي سياسيا وفنيا. وكان إيفانز يعتقد أن المينوسيين هم من وضعوا الأسس التي بنيت عليها الإنجازات اللاحقة لليونانيين القدماء: فشعر هوميروس، وفلسفة أفلاطون، وتحفة البارثينون المعمارية، كلها إنجازات أشير إليها في الثقافة المينوسية.
كان مما عزز ثقة إيفانز في أفكاره هو اكتشافه لعدد من الألواح الطينية في كنوسوس. ولعلك ستتذكر أن البحث عن الكتابات القديمة كان الباعث الأول لإيفانز للذهاب إلى كريت. ومن الواضح أن الألواح، التي كتبت بحروف أبجدية عرفت بعد ذلك بالكتابة الخطية «أ» والكتابة الخطية «ب»، قد عززت اعتقاد إيفانز بأن المينوسيين لم يكونوا فنانين فحسب، بل ومثقفين أيضا.
وللحفاظ على أمجاد الحضارة المينوسية، بدأ إيفانز عام 1901 في ترميم القصر في كنوسوس. فأعاد بناء الجدران والأعمدة العلوية التي تلاشت منذ زمن، وكذلك جزء من سقف القصر. واستعان بفنان سويسري، يدعى إميل جيليرون، لإحياء وتجديد اللوحات الجصية. وكانت النتيجة موقعا أثريا مختلفا تماما عن أي موقع أثري في عصره أو عصرنا؛ فبدلا من النظر إلى مجرد أطلال عالية، صار بإمكان الجميع حتى السياح الذين لا يملكون أي خلفية تاريخية أن يكونوا إدراكا واضحا للمدى والعظمة الكاملين للفن والمعمار المينوسي.
واجه إيفانز اتهاما من منتقديه بخلق نسخة للتاريخ أشبه ببطاقة بريدية. فقد جادلوا بأنه عاد غير ممكن تحديد قدر ما اكتشفه من الحضارة المينوسية وقدر ما ابتكره. وبالمعايير الأثرية اللاحقة، كان منتقدو إيفانز على حق بلا شك؛ فما من عالم آثار اليوم كان ليسمح بأية عمليات ترميم على الموقع الفعلي لأي تنقيب. ولكن إنصافا لإيفانز، ينبغي أن نضيف أنه كان أكثر حرصا بكثير بشأن الحفاظ على سجل دقيق ومصور لما وجده مقارنة بالعديد من معاصريه. ورغم ما قد يلقاه المنتقدون من غضاضة في الاعتراف بهذا، فإنه قام أيضا بخلق موقع غاية في الإثارة، حتى إن الزائرين منذ ذلك الحين لم يعد يسعهم سوى مشاركته شغفه بالمينوسيين. •••
برزت مشكلة أكثر جوهرية بالنسبة إلى رؤية إيفانز للتاريخ اليوناني عندما قام علماء آثار آخرون - على رأسهم آلان ويس في عشرينيات القرن العشرين، وكارل بليجن في الثلاثينيات من القرن نفسه - بالتنقيب عن مواقع على البر الرئيسي اليوناني. وهناك وجدوا دليلا على وجود ثقافة كانت في طور الازدهار في نفس وقت حكم المينوسيين لكريت. كانت هذه الحضارة «المسينية» مستقلة بشكل واضح عن المينوسيين، ولها على الأقل نفس القدر من القوة والنفوذ، إن لم تكن بنفس القدر من الرقي كجاراتها في الجنوب. وذهب ويس وبليجن إلى أن المسينيين ربما يكونون بالفعل قد هزموا المينوسيين وتولوا زمام كنوسوس، على الأرجح بعد عام 1500 قبل الميلاد.
وبشكل ما، بدا ذلك تأكيدا إضافيا على وجود بعض الأساس لأسطورة ثيسيوس في التاريخ. فقد كان الأثينيون، شأنهم شأن المسينيين، يونانيين؛ ومن ثم يمكن أن يكون انتصار ثيسيوس رمزا لمعركة فعلية ما أو سلسلة من المعارك التي انتصر خلالها اليونانيون المسينيون على الكريتيين المستبدين. غير أن إيفانز لم يكن ليقتنع بأي من ذلك. فقد كان على قناعة شديدة بتفوق وأفضلية المينوسيين، لدرجة أنه أصر على أن الكوارث الطبيعية فحسب - ربما زلزالا - هي القادرة على إنهاء حكمهم. ولو أن بعضا من مثل هذه الكوارث مكنت المسينيين من إزاحة المينوسيين من كنوسوس، لظل إيفانز متأكدا من أن القوة العسكرية للمسينيين، وليس ثقافتهم، هي التي كان لها اليد العليا.
بات موقف إيفانز يواجه صعوبة متزايدة بعد عام 1939، حين اكتشف بليجن، الذي كان لا يزال ينقب على البر الرئيسي، المزيد من الألواح الطينية المكتوبة بالكتابة الخطية «ب»، وهي نفس الأبجدية التي وجدها إيفانز في كنوسوس. صحيح أن الاكتشاف ربما يكون قد فسر ليعني أن المينوسيين قد جلبوا كتابتهم إلى الشمال وقدموها لليونانيين، ولكنه أيضا زاد من احتمالية أن تكون الكتابة الخطية «ب» - والكتابة بشكل عام - اختراعا مسينيا وليس مينوسيا.
توفي إيفانز عام 1941 دون أن يعرف مطلقا ما كان مكتوبا على ألواحه الثمينة. وبعد أحد عشر عاما، تمكن أخيرا مايكل ونتريس - وهو عالم هاو في فك الشفرة يستخدم التقنيات التي اخترعت خلال الحرب العالمية الثانية - من فك الشفرة. كانت الكلمات المكتوبة على اللوح تصيب بخيبة أمل أو إحباط؛ فلم تكن شعرا عظيما أو فلسفة رائعة، بل كانت في أغلبها قوائم من السلع التي كانت مخزنة في كنوسوس وأماكن أخرى. ولكن اكتشاف ونتريس كان في غاية الأهمية؛ إذ اتضح أن الكتابة الخطية «ب» كانت نظاما لكتابة اللغة اليونانية؛ وبالطبع كانت يونانية قديمة وصعبة، ولكنها يونانية على أي حال.
كان هذا يعني أن الكتابة جاءت إلى كريت من اليونان وليس العكس، كما كان إيفانز يدعي دائما. ويظل قائما احتمال أن المينوسيين كانت لهم كتابتهم الخاصة؛ إذ لعله يتضح أن الكتابة الخطية «أ» - التي لم تحل شفرتها - مينوسية. ولكن بعد اكتشاف ونتريس الخارق بات من المستحيل تصوير مسينا كمجرد مركز عسكري للحضارة الكريتية؛ بل على العكس، فقد كان واضحا أن اليونانيين المسينيين كان لديهم حضارة قوية خاصة بهم. وفي مرحلة ما، أبعد بكثير مما اعتقد إيفانز - وربما حتى تحت قيادة أمير يدعى ثيسيوس - جاء هؤلاء اليونانيون إلى كريت وفتحوها. •••
لم تضع الكتابة الخطية «ب»، بأي حال، نهاية للمجادلات المحيطة بالمينوسيين. فبحلول ستينيات القرن الماضي، كان معظم علماء الآثار قد أجمعوا على أن المسينيين قد فتحوا كريت، ولكن لم يكن هناك إجماع على الكيفية التي فعلوا بها ذلك. وظل بعض علماء الآثار، وأبرزهم سبيريدون ماريناتوس، مقتنعين بأن ثمة كارثة طبيعية قد أضعفت المينوسيين إلى حد فتح الباب أمام المسينيين.
كان ماريناتوس يعتقد أن تلك الكارثة تمثلت في اندلاع بركان على جزيرة تيرا، التي تقع على بعد قرابة سبعين ميلا شمال كريت. وفي عام 1967، ذهب ماريناتوس إلى تيرا بحثا عن دليل، وسرعان ما اكتشف أكثر مما كان يرجوه: بلدة كاملة تعود للعصر البرونزي محفوظة أسفل طبقة من الرماد البركاني. لم يكن هناك حاجة هنا للإصلاح والترميم على طريقة إيفانز؛ فقد كانت هذه المنازل لا تزال كما هي لم تمس بطريقة لافتة للنظر، والكثير منها مزخرفا بالفن والتحف الفنية على الطريقة المينوسية؛ مما يشير إلى أن تلك المنطقة كانت مستعمرة كريتية. وكان الشيء الوحيد المفقود هو الناس، كان لديهم فيما يبدو ما يكفي من الوقت للفرار قبل انفجار البركان.
كان ذلك اكتشافا غير عادي؛ نسخة كريتية من مدينة بومبي الرومانية ولكن أقدم مرتين. ولكن هل يمكن لانفجار بركاني على جزيرة تيرا أن يكون قد أجهز على الحضارة الكريتية؟ هكذا اعتقد ماريناتوس. فقد ذهب إلى أن البركان ربما يكون قد ثار بفعل الزلازل، التي بدورها تسببت في أعاصير تسونامي التي دمرت كريت. وزعم أن الزلازل والأعاصير، على أقل تقدير، قد ألحقت دمارا كان كفيلا بمنح المسينيين نقطة انطلاقهم. ولو كان إيفانز على قيد الحياة، لشعر أن حجج ماريناتوس قد ثأرت له بالتأكيد.
غير أن معظم علماء الآثار وعلماء الفروع المعرفية الأخرى لم يقتنعوا بذلك. فمن ناحية كانت التواريخ غير متطابقة؛ فقد حدد معظم علماء البراكين تاريخ انفجار بركان تيرا ما بين عام 1600 و1700 قبل الميلاد؛ أي قبل التاريخ التقديري لانهيار الحضارة المينوسية بأكثر من مائة عام. علاوة على ذلك، على الرغم من الدمار البركاني الواضح في تيرا، لم يكن هناك أي ترسبات مهولة للرماد على كريت، ولم يكن هناك أيضا دليل على أن الماء المتدفق من أعاصير تسونامي قد وصل إلى كنوسوس، فضلا عن تدميرها، بل إن الأدلة الأثرية الكائنة على كريت بدت تشير إلى أن النار، وليس الرماد أو الماء ، قد أحدثت الكثير من الدمار هناك.
ومن ثم، أنكر معظم العلماء - ولكن ليس جميعهم بأي حال - وجود دور مهم لبركان تيرا في انهيار الحضارة المينوسية.
هل هذا يعني أن ثيسيوس قد لعب هذا الدور بدلا منه؟ أن ثيسيوس (أو اليونانيين الذين جاء لتمثيلهم) قد ذبح المينوتور (أو بالأحرى المينوسيين الذين يمثلهم الوحش)؟ تلك أسئلة لا يمكن إيجاد إجابات كاملة لها، بالنظر إلى القرون التي تفصلنا عن زمن بلوتارخ، وتلك التي تفصل بلوتارخ عن عصر ثيسيوس. ولكن هذا لا يعني بالتأكيد أنه لم يتحقق أي تقدم في طريق الإجابة عليها؛ على العكس، فاكتشافات المائة عام المنصرمة استوفت بعض التفاصيل المعقولة بشأن ما كان يبدو يوما ما قصة خيالية بحتة.
لمزيد من البحث
Arthur Evans,
The Palace of Minos (London: Macmillan, 1921-1936). Evans’s own account of the discoveries at Knossos, in four volumes .
Anne Ward, ed.,
The Quest for Theseus (New York: Praeger, 1970). Essays on how the Theseus legend originated and developed in art and literature, from the classical era to the present .
Hans Wunderlich,
The Secret of Crete,
trans. from German by Richard Winston (New York: Macmillan, 1974). Wunderlich argues, provocatively but ultimately unconvincingly, that Knossos was never lived in, but was, like the Egyptian pyramids, a royal tomb .
Sylvia Horwitz,
The Find of a Lifetime (New York: Viking, 1981). A readable biography of Evans, with a balanced presentation of the controversies until its publication .
D. A. Hardy et al.,
Thera and the Aegean World III (London: Thera Foundation, 1990). These proceedings of a major international conference, held in Thera in 1989, include more than a hundred papers by archaeologists and other scientists. The clear consensus was that the Theran eruption was
not
responsible for the end of Minoan civilization .
J. Lesley Fitton,
The Discovery of the Greek Bronze Age (Cambridge, Mass.: Harvard, University Press, 1996). An authoritative account of the excavations at Troy, Mycenae, Knossos, Thera, and other Greek Bronze Age sites .
Rodney Castleden,
Atlantis Destroyed (New York: Routledge, 1998). Other Greek legends besides Theseus’s may be rooted in Minoan Crete. Of these, the best known is undoubtedly that of Atlantis, which Plato (writing in the fifth century B.C.) described as a great island civilization that, following earthquakes and floods, was swallowed up by the sea. Many writers have speculated that Crete was Atlantis, destroyed by the Thera volcano and accompanying earthquakes and floods. This is an argument that faces many obstacles, and not just those cited in this chapter. For example, Plato described Atlantis as having been in the Atlantic, though Crete is clearly in the Mediterranean. And Plato put the destruction nine thousand years before his time, while the actual span was closer to nine hundred years. Castleden is the latest to make the case for Crete as Atlantis, and he’s also one of the most reasonable, but it remains an unlikely scenario. Sometimes myths are just myths .
الفصل الخامس
أوقعت حرب طروادة بالفعل؟
على بعد بضعة أميال فقط من الدردنيل، على الجانب الآسيوي من المضيق الذي يفصل اليونان عن تركيا، يقف تل صغير يعرف بحصارليك.
كان هذا - وفقا لهيرودوت، وزينوفون، وبلوتارخ، والعديد من الكتاب الإغريق والرومانيين الكلاسيكيين - هو موقع طروادة، طروادة الإلياذة والأوديسة لهوميروس. لم يكن الإغريق القدماء واثقين من كون هوميروس قد شاهد طروادة فعليا، ولكن لم يكن لديهم شك في أن المعارك التي وصفها قد وقعت بالفعل، ولم يكن لديهم شك أيضا في أنها قد وقعت في حصارليك.
في عالم كان البشر فيه كالآلهة (وكانت الآلهة أيضا بشرا)، تصادم أعاظم هاتين الفئتين معا. كانت طروادة هي المدينة التي أحضر إليها باريس - ابن بريام ملك طروادة - هيلين، أجمل امرأة في العالم، بعد أن اختطفها من وطنها الإغريقي. وكانت طروادة هي الوجهة التي قاد إليها الملك الإغريقي أجاممنون قواته لاستعادتها. وكانت طروادة هي المكان الذي شهد ذبح أخيل، أعظم المحاربين الإغريق، لهيكتور شقيق باريس. وفي المشهد الأخير من الإلياذة، التقى بريام بأخيل للتفاوض على عودة جثمان ابنه، وعقد هدنة بين الإغريق والطرواديين.
ولكن، كما يعلم قراء الأوديسة، لم تنته القصة عند هذا الحد. فبضربة مميتة لعقب أخيل، ثأر باريس لمقتل أخيه. وبمساعدة حصان خشبي عملاق، تسلل الإغريق إلى داخل الأسوار الطروادية ودمروا المدينة تدميرا. وهكذا انتهى العصر الذهبي لطروادة، وانتهى من بعده العصر الذهبي لبلاد الإغريق أيضا بفترة ليست بطويلة.
جذب الاعتقاد بأن كل هذا حدث بالفعل - في حصارليك - فاتحين لاحقين إلى الموقع. ففي عام 480 قبل الميلاد، ضحى الملك الفارسي خشايارشا بألف ثور كقربان بالقرب من حصارليك قبيل عبور الدردنيل ودخول بلاد الإغريق. وبعد قرن ونصف قرن، حين قاد الإسكندر الأكبر قوات جيشه في الاتجاه المعاكس، قام بتكريم أخيل بقرابين بالقرب من نفس المكان. وعلى مدى العصور الوسطى وعصر النهضة، استمر الرحالة في زيارة حصارليك مقتنعين بأنها طروادة.
غير أنه بدءا من القرن الثامن عشر، بدأ الباحثون في اتخاذ منهج أكثر تشككا. فقد تشكك الكثيرون في وقوع حرب في طروادة، فضلا عن النزاع الضخم في ملحمتي هوميروس، بل إن البعض تشكك في وجود هوميروس، أو على الأقل في وجود رجل واحد وليس مجموعة من الشعراء. فقد لاحظوا أن هناك - على أية حال - مئات الأعوام التي تفصل هيرودوت عن هوميروس، ومئات أكثر تقف بين الشاعر والعصر الذهبي المزعوم.
وبحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت أقلية فقط من الباحثين هي التي تعتقد أن الإلياذة والأوديسة تسترجعان أحداثا وقعت بالفعل، وعدد أقل يعتقد أن طروادة - إن وجدت من الأساس - كانت تقع في حصارليك. فقد كانت الإلياذة والأوديسة، في نظر الغالبية، أدبا عظيما وليس تاريخا.
رجل واحد هو من ظل مقتنعا بوجود طروادة هو فرانك كالفرت؛ القنصل الأمريكي في المنطقة، وعالم آثار هاو. ففي منتصف ستينيات القرن التاسع عشر، قام كالفرت ببعض التنقيبات التحضيرية في حصارليك، كاشفا النقاب عن أطلال معبد من العصور الكلاسيكية وسور من عصر الإسكندر. وكان هذا أمرا مشجعا، ولكنه أقنع كالفرت كذلك بوجود العديد من طبقات التاريخ أسفل حصارليك، وأن نمط التنقيب المطلوب سوف يتطلب أموالا أكثر مما كان يمتلك.
بعد ذلك، وفي عام 1868، قام كالفرت بدعوة هاينريش شليمان - وهو مليونير ألماني زائر كان مولعا بهوميروس - على العشاء. وبات شليمان هو الآخر مقتنعا بأن حصارليك هي طروادة. وعلى عكس كالفرت، كان شليمان يملك المال للقيام بشيء حيال ذلك.
وفي عام 1870، بدأ هو وفريقه عملية الحفر. •••
كان شليمان يعتقد أن طروادة هوميروس بالغة القدم، حتى إنه لا يمكن العثور عليها إلا بالتنقيب بعمق في حصارليك. وعلى ذلك، قام بفتح مساحة هائلة من التل، ليصل مباشرة إلى الطبقة السفلية الصلبة. وأثناء الحفر، انزعج لعثوره على مقتنيات متعددة من العصر الحجري؛ إذ كان يفترض منطقيا أن يتم العثور على هذه الأشياء أسفل المدينة التي تعود للعصر البرونزي أو العصر الحديدي التي وصفها هوميروس. وفي مايو 1872، اعترف شليمان في يومياته أنه قد «وقع في حيرة»، إلا أنه استمر في الحفر.
بعدها، في مايو من عام 1873، اصطدم بالذهب بالمعنى الحرفي للكلمة. وبحسب روايته للقصة فيما بعد، كان شليمان يخشى رد فعل عماله تجاه مشهد الذهب. فأخبرهم أنه قد تذكر للتو أن اليوم هو يوم عيد ميلاده، وأن عليهم أن ينالوا جميعا فترة راحة، ثم اتصل بزوجته صوفيا، التي قامت بدورها بنقل الذهب سرا في شالها. ولم يتفحص الزوجان كنزهما إلا لاحقا، وكان يتجاوز كل أحلام شليمان. فكانت هناك مشغولات ذهبية ونحاسية رائعة، من بينها تاجان ذهبيان صنعا من آلاف القطع الصغيرة من خيوط الذهب، و60 قرطا و8750 خاتما من الذهب.
استنتج شليمان أن هذا الكنز - بما فيه مجوهرات هيلين - كان بالضرورة للملك بريام. وخمن لاحقا أن أحد أفراد العائلة المالكة قد أفرغ خزانة الكنز تزامنا مع نهب الإغريق للمدينة، ثم دفن الطروادي تعيس الحظ أسفل الأنقاض واحترقت المدينة. كما خمن أن المفتاح النحاسي الذي وجد بالقرب من الجواهر كان المفتاح الذي فتحت به الخزانة في وقت ما.
كان شليمان لا يزال قلقا بشأن سلامة الكنز؛ ما دفعه لتهريبه عبر الحدود إلى اليونان. ولكن لم تتقبل السلطات التركية هذا الأمر، فاقتادته إلى المحكمة. وفي عام 1875، وافق شليمان على دفع خمسين ألف فرنك للحكومة التركية، وفي المقابل أقر الأتراك بأنه الآن صاحب كنز فريد وقيم بلا جدال.
ولكن هل كان هذا هو «كنز بريام»، كما سارع شليمان بتسميته؟ اعترف شليمان سرا بأن لديه بعض الشكوك. فعلى الرغم من ضخامة الكنز، فإن ذلك لم يفسر غياب الأدلة الأخرى على أن حصارليك هي طروادة هوميروس. لقد وجد شليمان أطلال مستعمرة صغيرة تعود لعصر ما قبل التاريخ، ولكنه لم يجد أيا من الشوارع الواسعة أو الأبراج أو البوابات التي قادته القصائد لتوقع وجودها.
كان شليمان عازما على التوسع في الحفر، إلا أن الأتراك - الذين كانوا لا يزالون مشتاطين غضبا من تهريبه الكنز خارج بلادهم - رفضوا منحه تصريحا بذلك. ولأنه لم يكن بالرجل الذي يتنحى عن العمل، قرر أن يواصل بحثه عن حرب طروادة في مكان آخر.
صوفيا شليمان مرتدية بعض مجوهرات الكنز الطروادي الذي تم تهريبه - بحسب رواية زوجها - من تركيا في شالها. (مكتبة جيناديوس، المدرسة الأمريكية للدراسات الكلاسيكية.)
قرر شليمان أنه إذا كان لم يستطع الوصول إلى مملكة بريام، فسوف يتجه إلى مملكة أجاممنون بدلا منها. وهنا أيضا وجهه الكتاب الكلاسيكيون، ولكن إلى مسينا هذه المرة، وكانت تقع أسفل مدينة كورنث على شبه جزيرة أرجوليس باليونان. وكان يعتقد منذ زمن طويل أن مسينا هي مدفن الملوك الإغريق القدماء، وعلى عكس حصارليك، كانت تتباهى بوجود بعض الأطلال الواضحة والمبهرة.
كانت فكرة شليمان الملهمة تتلخص في الحفر خارج أسوار مسينا، حيث لم يبحث أحد من قبل. وكانت النتائج أكثر إبهارا من النتائج في حصارليك. فقد وجد خمس مقابر تحوي رفات تسعة عشر رجلا وامرأة وطفلين رضيعين، وجميعهم مغطون بالذهب. كذلك احتوت المقابر على سيوف برونزية وخناجر بزخارف من الذهب والفضة، وأكوابا وصناديق من الذهب والفضة، ومئات القطع الذهبية المزخرفة. وكانت وجوه الرجال مغطاة بأقنعة ذهبية مميزة بدت كلوحات فنية. وأعلن شليمان، بميله التقليدي لكل ما هو مسرحي، أنه قد حملق في وجه أجاممنون نفسه.
كان شليمان آنذاك أكثر اقتناعا من أي وقت مضى بأن هوميروس قد وصف أشخاصا حقيقيين ومعارك حقيقية. ولكن المقبرة الفخمة في مسينا جعلت البلدة الصغيرة في حصارليك تبدو أقل جلالا وعظمة ، وكانت المقارنة بينهما تلح على ذهن شليمان. وفي النهاية، في عام 1890، وفي مقابل مبلغ كبير من المال، منح الأتراك شليمان تصريحا بمواصلة تنقيبه في حصارليك.
في هذه المرة، حفر شليمان بالقرب من الحد الغربي للتل، على بعد قرابة خمس وعشرين ياردة خارج المدينة حيث عثر على كنز بريام. وهناك اكتشف أطلال مبنى كبير؛ وكان - في النهاية - بناية تليق بأبطال هوميروس؛ بل وظن شليمان أنه ربما كان قصر بريام. والأفضل من ذلك أن العمال قد عثروا داخل جدران المبنى على بقايا أوان فخارية بأشكال وزخارف مسينية واضحة. وقد قدم ذلك لشليمان حلقة الوصل التي كان يبحث عنها بين مسينا وطروادة. فلو كانا لم يتحاربا معا، فلا بد على الأقل أنه كان هناك تبادل تجاري بينهما.
وللمفارقة، أكدت اكتشافات عام 1890 أيضا أسوأ مخاوف شليمان؛ إذ كانت الاكتشافات الجديدة قد عثر عليها في مكان أقرب كثيرا للسطح عن البلدة التي نقب فيها شليمان في سبعينيات القرن التاسع عشر. وكانت تلك إشارة إلى أن طروادة هوميروس قد بنيت بعد قرون من بناء المستوطنة الصغيرة التي وجد شليمان الكنز فيها، وعليه فلا يمكن أن يكون الكنز خاصا ببريام، أو أي شخصية من الإلياذة. والأسوأ أن ذلك كان يعني أن شليمان، في غمرة لهفته للوصول إلى قاع التل سريعا، قد حفر عبر أطلال طروادة هوميروس مباشرة. وبقيامه بذلك، يكون - بشكل شبه مؤكد - قد دمر بعض أطلال المدينة التي رغب باستماتة في العثور عليها. •••
توفي شليمان عام 1890؛ ومن ثم تركت مهمة مواصلة التنقيبات لمساعده فلهلم دوبفلد. افترض دوبفلد أن المنزل الكبير - المكتشف في وقت سابق من ذلك العام - كان جزءا من مدينة العصر البرونزي التي كان شليمان يبحث عنها، وواصل الحفر إلى غرب وجنوب البلدة الأصلية. وعلى مدار عامي 1893 و1894، عثر على مزيد من المنازل الكبيرة، وبرج مراقبة، وثلاثمائة ياردة من سور المدينة، وعثر كذلك على المزيد من الفخاريات المسينية.
وخلص دوبفلد إلى أن «هذه» المدينة هي طروادة هوميروس. والحق أن البرج، والمنازل الكبيرة، والشوارع الفسيحة؛ كانت أكثر تماشيا بكثير مع توصيفات الشاعر مقارنة بأي من المباني التي اكتشفها شليمان. وقاد تحليل دوبفلد للطبقات في حصارليك إلى استنتاج أن مستعمرة شليمان الصغيرة كانت ثاني ما بني في حصارليك، وأن تاريخها يعود إلى قرابة عام 2500 قبل الميلاد. أما طروادة دوبفلد، فكانت سادس مدينة بنيت على نفس المكان، وشيدت فيما بين عامي 1500 و1000 قبل الميلاد. وعلى الرغم من عدم دقة التأريخ، فقد وضع اكتشافات دوبفلد على مسافة قريبة بما يكفي للتاريخ التقليدي لحرب طروادة - قرابة عام 1200 قبل الميلاد - ليعمق ذلك من قناعته بأنه عثر على طروادة هوميروس.
سادت آراء دوبفلد لقرابة أربعين عاما، حتى وصلت بعثة استكشافية أمريكية تحت قيادة كارل بليجن إلى حصارليك. فقد أشارت عمليات الحفر بقيادة بليجن، التي استمرت من 1932 إلى 1938، إلى بعض المشكلات الخطيرة بفرضية دوبفلد. فقد أصر بليجن على أن تدمير طروادة السادسة لا يمكن أن يكون نتيجة غزو يوناني. فعند أحد أجزاء السور، تزحزح الأساس، في حين بدت الأجزاء الأخرى وقد انهارت كلية. وكان بليجن يعتقد أن نوع الدمار لا يمكن أن يكون من صنع الإنسان - حتى على يد الرجال ذوي السمات الأشبه بسمات الآلهة - وأرجعها إلى زلزال.
وفقا لبليجن، كانت المستعمرة التالية في حصارليك - والسابعة بشكل عام - هي طروادة هوميروس. فبعد الزلزال، أعاد الطرواديون بناء مدينتهم، ولكن بطرق مختلفة اختلافا شاسعا. فقد قسمت بيوت طروادة السادسة الكبيرة إلى غرف صغيرة، واكتظت الشوارع الفسيحة ببيوت صغيرة للغاية، لكل منها أوعية تخزين كبيرة في عمق أرضياتها. وكانت دلالة كل هذا لبليجن هو وجود مدينة تحت الحصار؛ فمع وجود الإغريق على أبواب طروادة، كان لزاما أن تملأ كل مساحة متاحة باللاجئين وبضائعهم. وخلص بليجن إلى أن المدينة السابعة سقطت سريعا بعد السادسة؛ ومن ثم تظل متوافقة مع التاريخ التقليدي المتعارف عليه لحرب طروادة. •••
كان علماء الآثار الثلاثة، بداية من شليمان، ثم دوبفلد، ومن بعده بليجن، يعتقدون أنهم عثروا على طروادة هوميروس في حصارليك، وإن كان على مستويات مختلفة.
وقد عزز عمل الباحثين وعلماء الآثار اللاحقين رأي الثلاثة، وجاء بعض من أكثر الأدلة إثارة من أطلال الحضارة الحيثية التي ازدهرت في تركيا حتى وقت ما بعد عام 1200 قبل الميلاد. فخلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، قام الباحثون بفك شفرة الألواح الطينية التي عثر عليها هناك، وكان بعضها يدرج أسماء الملوك والدبلوماسيين الأجانب الذين تعامل معهم الحيثيون. وأشار بعض هؤلاء الباحثين إلى وجود الترجمة الحيثية لاسمي بريام وباريس ضمن تلك الأسماء.
وبالعودة إلى حصارليك، في منتصف تسعينيات القرن العشرين، استخدم عالم الآثار الألماني مانفريد كورفمان تكنولوجيا جديدة للاستشعار عن بعد لتتبع أثر أسوار مدينة دوبفلد- بليجن فيما وراء الحدود القديمة. وكانت طروادة كورفمان، ربما أكثر من طروادة سابقيه، تتمثل في قلعة تليق بأبطال هوميروس. وأشار تحليل كورفمان أيضا إلى أن الأسوار الطروادية ظلت مرئية في القرن الثامن قبل الميلاد، حين كان هوميروس على الأرجح يزور الموقع.
غير أن غالبية الباحثين اليوم يتملكهم الحذر من القفز إلى أي استنتاجات؛ أو على الأقل القفز إلى استنتاجات مثيرة كاستنتاجات شليمان، أو دوبفلد، أو بليجن. فقد أكدوا على أن الألواح الحيثية تخضع لمجموعة متنوعة من التأويلات، وبالتأكيد لا تشكل دليلا على وجود ما يسمى ببريام أو باريس يوما ما، فضلا عن هيكتور أو هيلين، أو أخيل أو أجاممنون.
ويعترف معظم الباحثين بأنهم لا يستطيعون الجزم بوقوع الحرب الطروادية من الأساس. فقد كانت الإلياذة والأوديسة نتاج حنين لعصر ذهبي ولى منذ زمن بعيد، وكذا خيال شاعر في غاية الخصوبة؛ ومن ثم لا يمكن اعتبارهما بالتأكيد من الروايات التاريخية التي يعول عليها. ولكن، مثلما اعتقد شليمان، لم يعد بالإمكان الشك في أن التل في حصارليك كان مدينة عظيمة يوما ما، وكذلك الحال بالنسبة إلى قلعة مسينا. وعلى الرغم من أن المؤرخين لا يمكنهم التأكد من أسماء أو إنجازات الشعب الذي عاش في كلتيهما، فإنهم يعتبرون احتمال معرفة كل من الشعبين الكثير عن الآخر احتمالا مرجحا.
لقد كان أهل طروادة وأهل مسينا يتحدثون معا، ويمارسون التجارة معا، ومن الجائز للغاية أن يكون كل منهما قد حارب الآخر؛ وعلى الأقل إلى هذا الحد، كان شليمان - وهوميروس - على حق.
لمزيد من البحث
Heinrich Schliemann,
Troy and Its Remains (London: John Murray, 1875). Schliemann’s own account of his 1871-1873 excavation, including the discovery of Priam’s treasure .
Carl Blegen,
Troy and the Trojans (New York: Praeger, 1963). Blegen’s version, based on his 1932-1938 excavations .
John M. Cook,
The Troad (Oxford: The Clarendon Press, 1973). A study of the archaeology in and around Hisarlik, including a comprehensive survey of pre-Schliemann theories. Many of these theories located Troy near the Turkish village of Pinarbasi, and Schliemann himself dug there before turning to Hisarlik .
Michael Wood,
In Search of the Trojan War (New York: Facts On File, 1985). A companion to a BBC program, this provides a good introduction to Troy historiography, along with an intriguing and provocative look at the Hittite evidence .
William Calder III and David Traill,
Myth, Scandal, and History (Detroit: Wayne State University Press, 1986). A collection of essays portraying Schliemann as a pathological liar, a thesis more fully developed in Traill’s 1995 biography .
David Traill,
Schliemann of Troy (New York: St. Martin’s Press, 1995). An extremely controversial, all-out attack on Schliemann, accusing him of-among other things-cheating his business partners; lying to gain American citizenship; failing to give credit to Frank Calvert; and, most devastating of all, making up the story of how and where he found Priam’s treasure. According to Traill, Schliemann lied about hiding the treasure in his wife’s shawl to conceal the fact that he’d actually gathered the objects in the treasure from a variety of places in and around Hisarlik, then bunched them together so he could pretend he’d made a dramatic discovery. Traill’s damning evidence includes the indisputable fact that Schliemann’s wife was in Athens at the time of the discovery. Traill’s critics argue that it would have been impossible for Schliemann to bring together so many objects, all of which were later shown to come from the same period. They also point out that the vast majority of his archaeological notes have turned out to be largely accurate. But Traill’s defenders (and other Schliemann detractors) counter that the evidence of Schliemann’s lying in his other business and personal dealings is overwhelming. Schliemann, they contend, couldn’t be a Dr. Jekyll at Hisarlik while being a Mr. Hyde elsewhere. The book is well worth reading, but don’t lose sight of the fact that the questions raised are largely irrelevant to the larger question of what happened at Troy. After all, even Schliemann eventually conceded that the part of Troy he first excavated dated back to well before the Trojan War and that Priam’s treasure could not, therefore, have belonged to Priam or any of his contemporaries .
Caroline Moorehead,
Lost and Found (New York: Viking, 1996). As riveting as the history of Troy is the mysterious fate of Priam’s treasure, entertainingly revealed in Moorehead’s book. Schliemann left the treasure to the German government, which displayed it at Berlin’s Museum for Prehistory. In 1945 the treasure disappeared, apparently lost forever. Then, in 1991, a Russian art historian and a curator at the Pushkin Museum in Moscow broke the story that the entire treasure was buried in the museum’s vaults, having been seized by Soviet troops at the end of World War II .
Vladimir Tolstikov and Mikhail Treister,
The Gold of Troy,
trans. from the Russian by Christina Sever and Mila Bonnichsen (New York: Abrams, 1996). In 1994 the Russians admitted they had the treasure and agreed to make it available to scholars and the public. This is the catalog of the first public exhibition in almost fifty years. It includes essays defending Schliemann (and the treasure) against Traill’s accusations .
Susan Allen,
Finding the Walls of Troy (Berkeley: University of California Press, 1999). Schliemann, who didn’t want to share the spotlight, later minimized Calvert’s contribution; here Allen moves Calvert out of the more famous man’s shadow .
الفصل السادس
هل صلب المسيح؟
إنه لغز كلاسيكي معجز.
رجل يعدم، ويصلب، ثم يغرز رمح في صدره للتأكد من موته، ويوارى جثمانه في التراب، ويقوم على حراسته - بحسب بعض الروايات - قادة مخضرمون لوحدات المائة لدى الرومان.
وبعد يومين، يختفي الجثمان. ولكن الأمر الأكثر غموضا هو أن الأشخاص الذين كانوا على معرفة وثيقة بالرجل يفيدون بأنهم قد رأوه وتحدثوا إليه. في البداية، يظنون أن ذلك نوع من الأحلام أو الهلاوس، ولكنهم يلمسونه ويأكلون معه. وفي النهاية يخلصون إلى أن الرجل عاد للحياة.
هذا الرجل بالطبع هو يسوع الناصري، وبعثه للحياة من جديد لا يشكل فقط أساس المسيحية، ولكنه يشكل أيضا لغزا استحوذ على اهتمام المؤرخين على مدى قرابة ألفي عام. •••
مقارنة بمعظم الناس في عصره، كان ليسوع حياة موثقة أيما توثيق.
فقد ذكر المؤرخ الروماني تاسيتس، الذي كان يكتب في أوائل القرن الثاني، أن «المسيح» حكم عليه بالإعدام من قبل الحاكم الروماني بيلاطس البنطي. وأضاف تاسيتس أن موته لم يوقف «الخرافات الخبيثة» التي نشرها أتباعه.
كانت المصادر اليهودية على نفس القدر من الاقتضاب، باستثناء مؤرخ القرن الأول يوسيفوس؛ فقد روى كيف أن يسوع، بعد أن حكم عليه بيلاطس بالصلب، قد «ظهر ... وأعيد للحياة؛ إذ كان أنبياء الله قد تنبئوا بما حدث وغيره من الأشياء المذهلة التي لا حصر لها بشأنه.» وكانت الصياغة صياغة شخص مؤمن إيمانا واضحا؛ ما دفع معظم المؤرخين لاستنتاج أن نساخا مسيحيا قد أضاف هذه التفاصيل فيما بعد حتما. غير أن معظمهم أيضا اعتقدوا أن نص يوسيفوس الأصلي لا بد وأن يكون قد أورد ذكرا لموت يسوع.
قدمت المصادر الرومانية واليهودية مجرد إشارات عابرة لموته. ولمعرفة المزيد عن «آلام» يسوع أو معاناته، لجأ المؤرخون إلى العهد الجديد، لا سيما أناجيل مرقس ومتى ولوقا ويوحنا. ويعود تاريخ أولى النسخ الموجودة حاليا من الأناجيل إلى القرن الرابع، ولكن معظم المؤرخين يعتقدون أن النسخ الأصلية قد كتبت بعد البعث بما يتراوح بين 70 و110 أعوام، أو بين 40 و80 عاما. وهم يروون نفس القصة الأساسية، بما في ذلك العشاء الأخير مع تلاميذه، وخيانة أحدهم له - وهو يهوذا الإسخريوطي - والقبض عليه، ومحاكمته، وصلبه، وبعثه للحياة مرة أخرى.
وفيما وراء ذلك تكمن شتى أنواع التناقضات. ففي إنجيل مرقس، الذي يعتقد معظم المؤرخين أنه أول الأناجيل، تجد ثلاث نساء شابا في رداء أبيض في إحدى المقابر، يتضح أنه رسول أرسل ليخبرهم بأن يسوع بعث من الموت. وبعدها بعقد أو نحو ذلك، يضيف متى وقوع زلزال، وضوء ساطع، وظهور فعلي ليسوع للنساء؛ وبعدها يظهر يسوع، على جبل في الجليل، لتلاميذه الأحد عشر (إذ كان التلميذ الثاني عشر، يهوذا، قد شنق نفسه). وفي إنجيل لوقا - الذي كتب في نفس توقيت كتابة إنجيل متى - لم يحدد عدد النساء في القبر، حيث يظهر ملكان. كما لم يكن الظهور الأول ليسوع المبعوث حيا للنساء، وإنما لشخصين على الطريق إلى عمواس. وفي إنجيل يوحنا، تذهب امرأة واحدة إلى القبر، ويظهر يسوع عدة مرات.
لماذا لا يستطيع كتاب الأناجيل تدوين قصصهم بشكل صحيح؟ إنهم يختلفون فيما بينهم على عدد مرات الظهور، والأشخاص الذين ظهر لهم يسوع، وأوقات وأماكن الظهور، إلى جانب تفاصيل أخرى.
كانت هذه التناقضات في نظر الكثيرين سببا كافيا لتكذيب الأناجيل تماما كوثائق تاريخية. والشيء الأهم أن جميع قصص البعث - شأنها شأن قصص معجزات يسوع الأخرى - قد تحدت الاعتقاد المنطقي. ففي بداية القرن الثاني، وصف الفيلسوف سيلسوس البعث بأنه خرافة من خرافات تلاميذ يسوع الذين كانوا «يعتصرهم الحزن من هذا الفشل، حتى إنهم أخذوا يهذون بأنه قد بعث من الموت.»
بحلول القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومع إحلال العقلانية محل الاعتقاد الديني فيما بين معظم الغربيين المثقفين، سادت تنويعات لرؤية سيلسوس، خاصة فيما بين الليبراليين الذين شغلوا أقسام اللاهوت البارزة بالجامعات الألمانية. ففي عام 1782، على سبيل المثال، توصل كارل فريدريش بارت إلى نظرية «المسمارين» الخاصة بالصلب: فخلص إلى أن يدي يسوع لا قدميه قد ثبتتا على الصليب بمسمارين؛ مما ساعده على المشي بعد إنزاله. وخمن بارت أن أتباع يسوع قد زودوه بالعقاقير المخدرة لتخفيف الألم وإحداث غيبوبة أشبه بالموت، بعدها أخفوا معلمهم واعتنوا به حتى استرد عافيته. وفي عام 1835، استنكر ديفيد فريدريش شتراوس كل قصة من قصص الأناجيل باعتبارها خرافة. وفسر شتراوس البعث كهستيريا جماعية.
وسادت العقلانية في أمريكا أيضا. ففي عام 1804، قرر توماس جفرسون أن يستخلص من الأناجيل ما هو حقيقي فقط، وكان ما تبقى في «أناجيل جفرسون» هو الكثير من الأقوال والحكايات الرمزية ومجرد هياكل للقصص الأصلية؛ لا معجزات، ولا أقوال عن «ألوهية» يسوع، وبالتأكيد لا بعث.
كل ذلك بدا منطقيا على أي حال في «عصر العقل». وبحلول القرن العشرين، ارتضى الجميع حتى المسيحيون المتدينون أن يتركوا تاريخ يسوع للمؤرخين العقلانيين. وكانت النتيجة حدوث نوع من الهدنة؛ فقد استطاع المسيحيون أن يشغلوا أنفسهم بالإيمان، والمؤرخين بالتاريخ. كان هناك المسيح بالنسبة إلى الطرف الأول، ويسوع للطرف الآخر. ولم يضطر أي منهما أن يولي الكثير من الانتباه للآخر.
وظلت الهدنة قائمة حتى النصف الثاني من القرن العشرين. •••
ثمة عدد من العوامل التي أحيت عملية البحث عن يسوع التاريخي. فبدأ الباحثون التوراتيون في التحول من الحلقات الدراسية والكليات الكنسية إلى المعاهد العلمانية؛ حيث توافرت لهم الحرية لإلقاء نظرة جديدة على يسوع. وصار الباحثون من الفروع الأخرى، خاصة الأنثروبولوجيا الثقافية والعلوم الاجتماعية، مهتمين بتاريخ الدين. ولكن كان أهم شيء في كل ذلك هو اكتشاف مجموعة من المخطوطات القديمة، التي كانت ستحدث تغييرا مذهلا في كيفية رؤية المؤرخين لحياة يسوع وموته.
ففي ديسمبر من عام 1945، وفي إحدى مناطق صعيد مصر تدعى نجع حمادي، كان هناك قروي عربي اسمه محمد علي السمان، يبحث عن تربة ناعمة لتخصيب محاصيله. وأثناء بحثه تعثر في جرة فخارية حمراء. وعندما كسرها ليفتحها، وجد ثلاثة عشر مجلدا من البردي ملفوفة في قطعة من الجلد، إلى جانب بعض أوراق البردي المنفردة. وقد استخدم بعضا من هذه الأوراق ذات اللون الأصفر الباهت في إشعال النار، إلا أن بقيتها وجدت طريقها في النهاية إلى المتحف القبطي بالقاهرة.
كان من بين المخطوطات التي عثر عليها محمد علي السمان مخطوطة بعنوان «الإنجيل وفقا لتوما». وكانت المخطوطات الكنسية الأولى قد ذكرت إنجيل توما (بازدراء في الأغلب)، ولكن المؤرخين كانوا يعتقدون أنه فقد للأبد. ولكن ها هو قد ظهر في كامل صورته ومحفوظا بطريقة مثالية من هواء الصحراء المصرية الجاف. وقد أرخ الكربون المشع أوراق البردي ليقع تاريخها بين عامي 350 و400. إلا أن بعض الباحثين، على أثر ملاحظتهم أن إنجيل توما قد تألف بشكل شبه كامل من كلمات يسوع ذاته، كانوا يعتقدون أنه كتب في زمن أقرب لزمن يسوع نفسه، ربما في العقد السادس من القرن الأول. وهذا من شأنه أن يجعل توما أقدم من مرقس، ومتى، ولوقا، ويوحنا.
ماذا كان في جعبة توما لقوله بشأن بعث يسوع من الموت؟
لا شيء البتة.
من الصعب أن تمثل عودة جسد ميت إلى الحياة مجرد تفصيلة تافهة من تفاصيل سيرة ذاتية. ومن الصعب تخيل أن توما لم يكن قد سمع بالأمر، أو نسي ذكره؛ لذا خلص الكثير من المؤرخين إلى أن البعث كان تلفيقا من قبل المسيحيين اللاحقين، ربما مرقس، وليس من يسوع أو تلاميذه.
وجه توما أنظار الباحثين المعاصرين إلى جدل أثير فيما يبدو على مدى القرنين الأولين بعد موت يسوع. على أحد طرفيه وقف المسيحيون الأرثوذكس الذين كانوا يصرون (ومعهم مرقس، ومتى، ولوقا، ويوحنا) على أن يسوع قد بعث من الموت. وليس ذلك فقط، بل قام بجسده؛ وأسهبت الأناجيل المطابقة للشرع الكنسي لتؤكد على أن يسوع المبعوث من الموت لم يظهر فقط لأتباعه، بل تحدث إليهم، وتناول الطعام معهم، وحثهم على ملامسته، وأخبرهم صراحة (في إنجيل لوقا) أنه «ليس شبحا».
وقف ضد هذه الرؤية الأرثوذكسية «الغنوصيون» الذين يمثل توما أحد طوائفهم. كانوا هم أيضا يعتقدون أن يسوع قد عاد للحياة؛ ولكن ليس بالمعنى الحرفي. فقد كان الغنوصيون يرون أن يسوع ظهر في تجليات روحانية، وفي الرؤى والأحلام. وعلى غرار مارتن لوثر الذي جاء بعد أكثر من ألف عام أو العديد من الجماعات الخمسينية اليوم، اعتقد الغنوصيون أن بإمكان يسوع الإيحاء لأي فرد في أي زمان.
تم اكتشاف إنجيل خامس - هو إنجيل توما - في عام 1945. لم يذكر توما البعث؛ ما أدى ببعض الباحثين إلى تخمين أنه كان من تلفيق المسيحيين اللاحقين. (الصورة بعدسة جون دوريس، بتصريح من معهد الآثار والمسيحية.)
لماذا أصر المسيحيون الأرثوذكس على رؤية حرفية للبعث؟ ولماذا رفضوا الغنوصية رفضا عنيفا بوصفها هرطقة؟
أشارت واحدة من الباحثين الغنوصيين البارزين، وهي إلين باجلز، إلى أن الإجابة تتعلق بالسياسة أكثر من تعلقها بالدين. فقد ذهبت إلى أن البعث قد عمل على إضفاء شرعية على سلطة الرجال الذين ورثوا قيادة الكنيسة من التلاميذ الذين شاهدوا المسيح وقد قام من الموت. ولو كان بوسع أي شخص رؤية المسيح بمفرده، فإن ذلك من شأنه أن يضعف سلطتهم تماما؛ لذا فبحسب باجلز، كان من الأهمية بمكان لقادة الكنيسة التشديد (مثلما فعل لوقا) على أن الرب المبعوث من الموت قد مكث على الأرض لمدة أربعين يوما، ثم صعد إلى السماء. وأي مشاهدات ليسوع «بعد» تلك الأيام الأربعين لم يكن لها أي قيمة. •••
بحلول ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، حل إجماع جديد وأكثر تحررا بكثير محل الرؤية التي كانت سائدة فيما مضى بشأن يسوع. فمع اختزال البعث إلى خدعة سياسية (وإن كانت ذكية)، استشعر علماء اللاهوت الحرية في التركيز على أقوال يسوع بدلا من التركيز على موته. فمع التحرر من صورته بوصفه المسيح المخلص، ظهر يسوع في اللوحات في مجموعة متنوعة من الهيئات: في صورة قروي، وحكيم، وحاخام، وبوذي، وثوري، بل حتى ممثل هزلي يلقي الدعابات.
وقد تجمع الكثيرون ممن رسموا تلك اللوحات في عام 1985 في «ندوة يسوع». وفي هذه الندوة، لم يناقش الأعضاء أو يتجادلوا بشأن تاريخية الأناجيل فحسب، بل كانوا يصوتون عليها أيضا. ومن خلال اللعب على تقليد طباعة كلمات يسوع بالحبر الأحمر، كان الباحثون يتناوبون إلقاء حبات الخرز في حاوية. وكانت الخرزة الحمراء تعني أن هذا المقطع من الإنجيل «أصلي»، في حين كانت الوردية تعني «ربما يكون أصليا »، والرمادية «ليس أصليا على الأرجح»، أما السوداء فكانت تعني «ليس أصليا بالمرة».
كان التصويت يضمن العلنية، وكذلك يضمن وجود قدر من الدعابة. وكان الأعضاء يرحبون بالاهتمام بالموضوع؛ فقد كان لتاريخية يسوع بالنسبة إلى كثيرين أكثر من مجرد أهمية أكاديمية. وكان المؤسس روبرت فنك يرى أن ندوة يسوع تحد مباشر ومتعمد لليمين المسيحي، ومحاولة لنزع زمام السيطرة على الخطاب الديني من أتباع بات روبرتسون وجيري فالويل.
غير أن فنك وأتباعه، على عكس روبرتسون وفالويل، كانوا باحثين جادين، وهو ما وضع أمامهم مشكلة فكرية. فقد كان هناك الكثير من الأدلة في الأناجيل على رؤيتهم ليسوع كحكيم يتجول عبر الريف؛ أسبه بسقراط يهودي. غير أنهم لم يستطيعوا اقتباس أقواله وحكاياته الرمزية ثم تجاهل كل شيء في الأناجيل، بما في ذلك كلماته، عن موته وبعثه.
ومن ثم سلكوا مجموعة متنوعة من الطرق. فذهب البعض، مثل برتون ماك من معهد الآثار والمسيحية بكاليفورنيا، إلى أن آلام المسيح لم تكن سوى تلفيق من الأرثوذكسية اللاحقة؛ فلم يكن هناك واقعة في المعبد، ولم يكن هناك عشاء أخير، بل على الأرجح أن يسوع لم يمت على صليب. وسلم جون دومينيك كروسان، وهو قس سابق تحول إلى أستاذ بجامعة دي بول بشيكاغو، بأنه كان هناك عشاء أخير ولكنه سخر قائلا إن «كل شخص لديه عشاء أخير؛ والبراعة أن نعلم بشأنه مسبقا.» وخلص كروسان إلى أنه من غير المحتمل أن يكون جسد يسوع المصلوب قد فر من مصير الأجساد المصلوبة الأخرى، وهو نهشها من قبل الكلاب البرية.
ولا غرابة في أن ندوة يسوع قد أحدثت حراكا مضادا، مع اتهام الباحثين المحافظين لها بتضليل القراء ودفعهم للاعتقاد بأن التحليل الأدبي أو التاريخي للأناجيل استطاع أن يظهر يسوع الحقيقي. فقد شدد الكثير من الباحثين المحافظين على مدى تشبع الأناجيل بإشارات الصلب والبعث، إلا أن هذه الإشارات في نظر الليبراليين كانت مجرد أمثلة أخرى على تلفيق كتاب الأناجيل.
وبوجه عام، ما زال هناك تنوع في الإجماع الليبرالي في الدوائر الأكاديمية، حيث أقحم يسوع في قضايا مثل قضايا المرأة والشذوذ. وعلى غرار مارتن لوثر، أخذ روبرت فنك مؤسس ندوة يسوع أطروحاته وقام بتعليقها بمسمار - أو ربما لصقها - على باب الكنيسة. وستكشف الأيام إن كانت ستصمد أم لا.
لمزيد من البحث
The New Testament.
A best-seller for almost two millennia. While you’re at it, you might want to read the Old Testament, too .
James Robinson, ed.,
The Nag Hammadi Library in English (San Francisco: Harper & Row, 1988). Translations from the Coptic, including the Gospel of Thomas .
David Freidrich Strauss,
Life of Jesus Critically Examined (Philadelphia: Fortress Press, 1972). Originally published in German in 1835 and still a classic of rationalism .
Albert Schweitzer,
The Quest of the Historical Jesus (New York: Macmillan, 1955). Originally published in German in 1906, Schweitzer’s book offered a thorough historiography up to then. Schweitzer devoted his life to practicing medicine on the disease-beset coast of Africa, convincing many that he had much in common with the subject of his book .
Edmund Wilson,
The Dead Sea Scrolls (New York: Oxford University Press, 1969). The 1947 discovery of these documents near the shore of the Dead Sea created even more furor than the Nag Hammadi find. Many, including Wilson, believed the texts would change our view of Christian origins by shedding light on a sect that had much in common with Jesus’ early followers. Scandalously long delays in publishing the scrolls convinced many, again including Wilson, that church leaders were suppressing evidence because it challenged the uniqueness of Christianity. In the 1990s, after Wilson’s death, the scrolls were finally opened to all scholars, and most concluded that they confirmed his basic claim that Christianity grew out of first-century Judaism. They’ve been a disappointment, however, to those who hoped to find a direct connection to Jesus. The first part of Wilson’s book was originally published in 1955 .
Hugh Schonfield,
The Passover Plot (Dorset, Eng.: Element, 1965). Paints Jesus as a political revolutionary who deliberately provoked the authorities, then arranged to be taken down from the cross alive so he could “rise” again .
Elaine Pagels,
The Gnostic Gospels (New York: Random House, 1979). The politics of early Christianity as revealed through the Nag Hammadi documents .
John Dominic Crossan,
The Historical Jesus (San Francisco: HarperCollins, 1991). Jesus as Jewish peasant. Crossan writes clearly and passionately, making his later, more pop distillations of this work (of which the most notable is his 1995 book
Jesus: A Revolutionary Biography ) largely unnecessary .
Barbara Thiering,
Jesus and the Riddle of the Dead Sea Scrolls (San Francisco: HarperCollins, 1992). A dissident scholar’s view of the Dead Sea Scrolls as cryptograms about Jesus that reveal that he did not die on the cross but was later revived and traveled around the Mediterranean in the company of Peter and
.
A. N. Wilson,
Jesus: A Life (New York: W. W. Norton, 1992). Wilson’s theory is that the man who appeared as the resurrected Jesus was one of his brothers, probably James, who took the opportunity to seize control over Jesus’ movement .
Robert Funk, Roy Hoover, and the Jesus Seminar,
The Five Gospels (New York: Macmillan, 1993). When the votes were in, only 18 percent of the words ascribed to Jesus in the gospels passed as authentic; postpublication votes moved on from his words to his deeds and, not surprisingly, the resurrection lost the election .
E. P. Sanders,
The Historical Figure of Jesus (London: Allen Lane, 1993). Jesus as a Jewish prophet who believed the world was about to end .
John Shelby Spong,
Resurrection: Myth or Reality? (San Francisco: HarperCollins, 1994). An Episcopal bishop’s intellectual journey from a literal to a more symbolic belief in Easter .
Burton Mack,
Who Wrote the New Testament? (San Francisco: HarperCollins, 1995). Mack goes farther than most modern scholars, even secular ones, in exposing how the gospels were fictional mythologies only distantly related to the historical Jesus .
Robert Funk,
Honest to Jesus (San Francisco: HarperCollins, 1996). The latest work from the founder of the Jesus Seminar; as always, he’s provocative and readable .
Luke Timothy Johnson,
The Real Jesus (San Francisco: HarperCollins, 1996). A sharp attack on the Jesus Seminar and the “misguided” quest for the historical Jesus .
Russell Shorto,
Gospel Truth (New York: Riverhead Books, 1997). A journalist’s entertaining survey of the most recent searchers for the historical Jesus, in particular the members of the Jesus Seminar .
Charlotte Allen,
The Human Christ (New York: The Free Press, 1998). A thorough account of the search for the historical Jesus, though sometimes colored by Allen’s Catholicism .
الفصل السابع
ما هي خطوط نازكا؟
في سبتمبر من عام 1926، تسلق اثنان من علماء الآثار - البيروفي توريبيو ميخيا والأمريكي ألفريد كروبر - المنحدرات الصخرية الواقعة بالقرب من بلدة نازكا في جنوب غرب بيرو، وكانا يعتزمان فحص جبانة قريبة. بعد ذلك، عندما توقفا للحظات ونظرا إلى الصحراء الحصوية المنبسطة من أعلى، لاحظا وجود سلسلة من الخطوط الطويلة المستقيمة تمتد عبر الأفق. واعتقد كلا الباحثين أن تلك الخطوط هي نظام للري من نوع ما، ولم يولها أي منهما الكثير من التفكير بخلاف ذلك.
وحتى ثلاثينيات القرن العشرين، حين بدأت خطوط الطيران التجارية في التحليق فوق الصحراء، لم يدرك الطيارون والمسافرون أن هناك المزيد والمزيد من هذه الخطوط، بل والمزيد فيما يتعلق بأصولها. فقد استطاعوا من فوق السحاب رؤية المئات من الخطوط، التي يتجه الكثير منها إلى الخارج من نقاط مركزية، والبعض منها يمتد لأميال باستقامة تامة. كذلك كانت هناك أشكال أخرى تراوحت بين مثلثات ومستطيلات، وأشباه منحرف، وحلزونات، والعديد من أشكال الحيوانات. وبحسب ما كتبه عالم الأنثروبولوجيا أنتوني أفيني، فإن المشهد من السماء كان أشبه بسبورة لم يمح ما عليها في نهاية حصة هندسة مليئة بالشرح والتوضيح.
عند نزول عالمي الآثار إلى الأرض، أقبلا على فحص الخطوط والأشكال ورأيا أنها قد نقشت عن طريق إزاحة الحصى الذي يغطي الصحراء جانبا. وأسفل هذا الحصى كانت هناك رمال فاتحة برزت واضحة وسط بقية الرمال؛ لأن الحصى الأدكن كان قد كون حدا بمحاذاة الخطوط والأشكال. وقد أدرك عالما الآثار كذلك أن هذه الرسومات بمجرد رسمها استطاعت أن تبقى على حالتها الأصلية لأجل غير مسمى؛ فقد كانت الصحراء حول نازكا في غاية الجفاف (إذ تتلقى قرابة عشرين «دقيقة» من الأمطار في السنة)، كما لم تهب عليها الرياح؛ حتى إن هذه الخطوط قد يصل عمرها إلى قرون أو حتى آلاف السنين. وبالفعل، فإن بقايا الفخاريات التي وجدت بمحاذاة بعض الخطوط بدت تشير إلى أن بعضها قد تكون منذ أكثر من ألفي عام.
تساءل العلماء: ما الذي يمكن أن يكون قد أوحى لفناني تلك الفترة باختيار مثل هذه الرسومات الصعبة؟ ولماذا رسموا نقوشا بهذه الضخامة، حتى إنه لم يكن بالإمكان التعرف عليها من مستوى أرضي؟ خمن البعض أن سكان نازكا القدماء ربما يكونون قد عرفوا كيفية الطيران، باستخدام نوع من الطائرات الشراعية البدائية أو مناطيد الهواء الساخن. أو ربما، وفقا لأشهر التفسيرات لوجود الخطوط والأشكال، لم يكن سكان نازكا هم من رسموها، وإنما زائرون من الفضاء الخارجي؛ وبحسب هذه النظرية، فقد كانت الخطوط عبارة عن مهابط لمركبات الفضاء الخارجي، والأشكال مواقع هبوط لها.
كانت نظرية الفضاء الخارجي، التي تسبب في شهرتها الكتاب الأكثر مبيعا «مركبات الآلهة؟» لمؤلفه إيريك فون دانيكن، خيالا محضا. فلم تقم على أكثر من تشابه سطحي للغاية بين جزء صغير من النقوش الصحراوية وأحد المطارات الحديثة. ولكن كتاب فون دانيكن، شأنه شأن نظرية أن سكان نازكا القدماء كان بمقدورهم الطيران، قدم على الأقل تفسيرا من نوع ما للنقوش الضخمة والغامضة.
كيف استطاع العلماء أيضا تفسير هذه الخطوط التي نقشت في الرمال؛ ولكن لم يكن بالإمكان رؤيتها إلا من السماء؟ •••
جاءت أولى الدراسات الجادة لخطوط نازكا في عام 1941، حين قام مؤرخ أمريكي يدعى بول كوسوك بزيارة الصحراء. كان كوسوك أيضا يبحث عن حل اللغز بالنظر إلى السماء. وجاءته لحظة الإلهام في حين كان يشاهد غروب الشمس، فإذا به فجأة يلاحظ أنها تغرب فوق نهاية أحد الخطوط الطويلة بالضبط. وبعد لحظة، أدرك أن اليوم هو 22 يونيو، أقصر يوم في السنة واليوم الذي تغرب فيه الشمس في أقصى الشمال الغربي.
لما لم يكن بالإمكان رؤية خطوط نازكا - مثل طائر الطنان الضخم هذا - إلا من أعلى، فقد خمن بعض العلماء أن البيروفيين القدماء ربما كانوا يعرفون كيفية الطيران. (حقوق الطبع محفوظة لبيتمان/كوربيس.)
يسترجع كوسوك الأمر لاحقا بقوله: «أدركنا في الحال بسعادة جمة أننا قد وجدنا، فيما يبدو، مفتاح حل اللغز! فلا شك أن سكان نازكا القدماء قد نقشوا هذا الخط لتمييز الانقلاب الشتوي. وإذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح للغاية أن تكون العلامات الأخرى مرتبطة بطريقة ما بأنشطة فلكية وأخرى ذات صلة.»
اضطر كوسوك لمغادرة الصحراء قبل أن يتسنى له إجراء دراسة أكثر شمولا؛ لذا استعان بمساعدة ماريا رايشي؛ وهي معلمة رياضيات في ليما، ألمانية المولد. وبنهاية العام، كانت رايشي قد اكتشفت أن اثني عشر خطا آخر قد أدت إما للانقلاب الشتوي أو الانقلاب الصيفي. وخلص كوسوك ورايشي إلى أن الصحراء كانت «أكبر كتاب فلك في العالم». وبتمييز المواقع الفلكية المهمة في الأفق، عملت أيضا الخطوط كتقويم ضخم.
ذهب منتقدو كوسوك ورايشي إلى أنه مع امتداد هذا العدد الضخم من الخطوط في هذا العدد الضخم من الاتجاهات المختلفة، فإنها مجرد مصادفة أن يكون البعض منها في محاذاة مع الشمس. وصارت هناك حاجة لمقاربة أكثر منهجية.
كان هذا بالضبط ما عزم جيرالد هوكينز - حين وصل إلى بيرو في عام 1968 - على تقديمه؛ وبدا الرجل المناسب تماما لتلك المهمة. فقد كان فلكيا وليس عالم آثار، وكان تحليله الذي توصل إليه بمساعدة الكمبيوتر للمحاذاة السماوية في ستونهنج قد أقنعه بأن تلك الأطلال كانت يوما ما مرصدا فلكيا. فبدأ هوكينز مهمته بتخصيص فريق للتحليق فوق الصحراء والتقاط مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي استخدمت لوضع خريطة دقيقة للخطوط، ثم قام بتغذية الكمبيوتر بمواقع الشمس والقمر والنجوم المختلفة عبر الأفق، مع تعديلها بحيث يأخذ في الاعتبار التغيرات التي حدثت تدريجيا على مدار الألفي عام المنصرمة. وفي النهاية، وقع اختياره على 186 خطا من قسم معين من الصحراء.
وجد هوكينز أن 39 خطا من ال 186 قد تطابق كل منها مع أحد المواقع الفلكية. قد يبدو ذلك رائعا، ولكن مع كثرة المواقع الفلكية الموجودة للاختيار من بينها، كان ذلك فعليا خيبة أمل ضخمة . فقد أمكن التنبؤ بأن قرابة 19 خطا وافق المحاذاة مع المواقع الفلكية من منطلق المصادفة وحدها، والكثير من التوافقات الأخرى كانت في الواقع «مزدوجة»؛ حيث أدى خط واحد إلى انقلاب شتوي في اتجاه، وانقلاب صيفي في الاتجاه الآخر. أضف إلى ذلك أن أكثر من 80 بالمائة من الخطوط المختارة كانت تسير في اتجاهات عشوائية تماما.
ومن ثم خلص هوكينز، المؤيد الأكبر لوجود تفسير فلكي لستونهنج، إلى أن «نظرية تقويم الشمس والقمر والنجوم قد قضي عليها بواسطة الكمبيوتر» في نازكا. •••
في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، قامت عالمة الآثار الكندية برسيس كلاركسون بجمع شظايا الفخار الموجودة بمحاذاة الخطوط، ثم قارنتها بالفخار المعروف مصدره من حقب متعددة من عصر ما قبل التاريخ البيروفي. وكان الاستنتاج المدهش الذي توصلت إليه هو أن بعض الشظايا (خاصة تلك القريبة من رسوم الحيوانات) يرجع تاريخها إلى ما بين عامي 200 قبل الميلاد و200 ميلاديا، في حين تطابقت الأخرى مع طراز فني ساد بعدها بألف عام تقريبا.
كانت النتائج بالنسبة إلى أولئك الساعين لإيجاد تفسير للخطوط مثيرة؛ فإذا كانت الرسوم والخطوط قد نقشت على مدار تلك الفترة الطويلة، وإذا كانت قد مثلت أعمال أناس من حقب مختلفة تماما، إذن فقد تكون أيضا قد خدمت مجموعة متنوعة من الأهداف. بعبارة أخرى، هناك أكثر من تفسير قد ينطبق على الخطوط، أو بالعودة إلى استعارة أفيني، لعل السبورة كانت مغطاة بأعمال لم تمح، ليس لحصة واحدة، بل للعديد من حصص الهندسة المختلفة.
كان للتفسيرات التالية التي ظهرت في أواخر ثمانينيات القرن العشرين صلة دائمة بالماء؛ ولا غرابة في ذلك بالنظر إلى ندرته في الصحراء. فقد ذهب عالم الأنثروبولوجيا يوهان راينهارد إلى أن بعض الخطوط ربما تكون قد ربطت نقاطا معينة في منظومة الري بأماكن العبادة، ربما كجزء من أحد طقوس الخصوبة. واتخذت تصاميم الطيور العديدة مدلولا جديدا، لا سيما أن مزارعي نازكا في العصر الحديث يفسرون رؤية طيور البلشون، أو البجع، أو الكوندور كدلالات لنزول المطر؛ وربما كان رسم الطيور والحيوانات الأخرى طلبا لهطول المطر.
لاحظ عالما أنثروبولوجيا آخران، هما أفيني وهيلين سيلفرمان، أن الخطوط تتلازم مع العديد من المواقع الجغرافية. فقد كانت معظم الخطوط مصممة في نفس الاتجاه الذي تدفق فيه الماء بعد العاصفة الممطرة الصحراوية النادرة، والعديد منها كان له نفس اتجاه المجاري المائية القريبة حيث كانت المياه تجري يوما ما. لم يكن أفيني وسيلفرمان يعتقدان أن الخطوط كانت مصارف ري - إذ كانت من الضحالة مما يتعذر معها أن تكون مصارف - ولكنهما اتفقا في الرأي مع راينهارد في وجود صلة شعائرية من نوع ما بين الخطوط والماء.
كذلك تعاون أفيني مع عالم آخر في الأنثروبولوجيا، هو توم زوداما - وهو خبير في شعب الإنكا الذين حكموا جزءا كبيرا من بيرو حين وصل الإسبان. أدرك زوداما أن كوزكو، عاصمة إمبراطورية الإنكا، صممت كشبكة من الخطوط المستقيمة التي تنطلق كشعاع من معبد الشمس، في منتصف المدينة. وكان للتصميم الشعاعي مدلول ديني واجتماعي للإنكا، وفقا للمؤرخين الإسبان الأوائل. وخلص زوداما وأفيني إلى أن التصميم الشعاعي للعديد من الخطوط الصحراوية قد أشار إلى أن سكان نازكا كانت لهم معتقدات مماثلة.
بحث عالم آخر في الأنثروبولوجيا، هو جاري أورتون، عن أشياء موازية في ممارسات السكان المعاصرين للقرى الجبلية بالقرب من كوزكو. فراح أورتون يصف كيف شارك أهل قرية باكاريكتامبو، أثناء احتفالات معينة، في طقس يتمثل في كنس الطرقات الطويلة الرفيعة للساحة العامة. ومن ثم لم يبد بعيدا عن مخيلة أورتون أن يتصور سكان نازكا القدماء وهم يؤدون طقسا مماثلا على الخطوط الصحراوية. •••
في تلك الأثناء، واصلت ماريا رايشي الحياة في نازكا، ليس فقط كخبيرة في الخطوط، بل أيضا كحارسة لها. وبعد أن حولت أعمال فون دانيكن نازكا إلى وجهة سياحية، استخدمت رايشي مواردها المالية المحدودة لجلب حراس أمن. حتى بعد أن صارت سيدة عجوزا، كانت تجوب الصحراء على كرسيها المتحرك، وتقوم بطرد السياح إذا خشيت أن يلحقوا ضررا بالخطوط. فكانت في نازكا بطلة قومية.
في بداية تسعينيات القرن العشرين، أصبحت ماريا رايشي وشقيقتها - ريناته رايشي - في غاية اليقظة والانتباه، على الأقل وفقا لبعض الباحثين. فقد قام حراس ماريا رايشي بمنع كل من كلاركسون وأورتون من العمل في الصحراء مؤقتا، متهمين الأولى بسرقة قطع خزف مكسورة والأخير بتعمد الإضرار بالسهول. فربما كانت ماريا رايشي، حسبما أشار منتقدوها، تحاول الحفاظ على نظريتها الفلكية وكذا خطوطها.
وإذا كان الأمر كذلك، فقد تكون ماريا رايشي، التي توفيت عام 1998 عن عمر يناهز الخامسة والتسعين، قد استمدت بعض السلوى من أحدث التحليلات الفلكية التي أجراها أفيني وفلكي بريطاني يدعى كلايف راجلز. فشأنهما شأن هوكينز، وجدا - أفيني وراجلز - أن المحاذاة السماوية لا يمكن أن تبرر غالبية خطوط نازكا. غير أنهما قد خلصا، على عكس هوكينز، إلى أنه كانت هناك العديد من حالات المحاذاة مع المواقع الفلكية لدرجة تجعل من المستحيل أن تكون جميعها مجرد مصادفة. لاحظ أفيني كذلك أن بعضا من الخطوط الشعاعية في كوزكو قد كانت في محاذاة مع مواقع للشمس والقمر والنجوم؛ ما أدى به إلى استنتاج أن علم الفلك كان له دور ما في نازكا، وإن كان دورا أصغر كثيرا مما تخيله كوسوك أو رايشي.
كان قراء فون دانيكن أيضا سيصابون بخيبة أمل بلا شك بفعل أحدث ما تم التوصل إليه من التفكير بشأن الخطوط. فنطاق النظريات المتداخلة - الفلكية، والزراعية، والدينية - لا يوفر الرضا نفسه الذي كان سيتوافر في وجود تفسير واحد. ولكن للأسف، فمن المستبعد تماما أنه قد كان هناك تفسير واحد استطاع أن يبرر وجود كل الخطوط والرسوم.
غير أن هناك الكثير من الأمور المشتركة فيما بين النتائج الأخيرة لأفيني وسيلفرمان وأورتون وزوداما، وآخرين غيرهم، أكثر مما يبدو الحال للوهلة الأولى. فقد بدأ كل من هؤلاء الباحثين بالبحث عن صلات بين سكان نازكا والثقافات البيروفية الأخرى، سواء أكانت قديمة أم حديثة. وكل من هذه الصلات ساعد في فهم خطوط نازكا.
لقد أطلق على الخطوط «إحدى عجائب العالم القديم»؛ مما يوحي بأنها كانت لافتة للنظر، لدرجة تجعل من الصعب فهمها في سياق أي شيء آخر معروف عن آثار أمريكا الجنوبية. ولكن العكس صحيح من وجهة نظر أحدث علماء الآثار والأنثروبولوجيا، ومؤرخي نازكا: فإذا كنا سنفهم الخطوط على الإطلاق، فلا يمكن لذلك أن يتحقق إلا في سياق عالمها.
لمزيد من البحث
Natural History (May 1947). The astronomical thesis, with which everyone who came after had to (and still has to) contend .
Erich von Däniken,
Chariots of the Gods? (New York: G. P. Putnam’s Sons, 1969). The Nazca lines make up just one element of von Daniken’s case that aliens once visited Earth; his other “proof” includes the Easter Island statues and the pyramids of Egypt .
Gerald Hawkins,
Beyond Stonehenge (New York: Harper & Row, 1973). In spite of his negative conclusions about Nazca, Hawkins makes a strong case for the astronomical sophistication of ancient humans .
Tony Morrison,
The Mystery of the Nasca Lines (Suffolk, Eng.: Nonesuch Expeditions, 1987). A fine popular survey, though with a great deal of not particularly interesting biographical information about key researchers (especially Reiche). Superb photos .
Evan Hadingham,
Lines to the Mountain Gods (New York: Random House, 1987). An excellent summary of others’ theories, leading up to Hadingham’s own speculation that the drawings were directed at the gods on whom the Nazcans depended for water .
Anthony Aveni, ed.,
The Lines of Nazca (Philadelphia: American Philosophical Society, 1990). A collection of essays by the leading researchers, including Clarkson, Urton, Silverman, Ruggles, and Aveni himself, all offering a pan-Andean approach to the lines .
الفصل الثامن
من هو الملك آرثر؟
من السهل تتبع أصول أسطورة الملك آرثر؛ على العكس تماما من تتبع أصول الرجل الحقيقي. ويرجع الكثير من الفضل في ذلك إلى كاهن ويلزي غامض يدعى جيفري المنموثي، الذي كان يدرس في أكسفورد خلال النصف الأول من القرن الثاني عشر. وفي قرابة عام 1138، أخرج جيفري كتابه «تاريخ ملوك بريطانيا» إلى النور.
تصل القصة، كما يرويها جيفري، إلى ذروتها في القرن الخامس؛ إذ يقوم الساكسونيون الوثنيون، بقيادة الأخوين هنجيست وهورسا، بغزو وتدمير قطاع كبير من البلاد، ويظهر ساحر شاب، يدعى ميرلين، في المشهد بتنبؤات عن ملك سوف ينقذ بريطانيا.
في تلك الأثناء، يقع الملك أوثر في حب إيجرنا بلا أمل؛ فلسوء الحظ هي متزوجة بالفعل - من جورلويس دوق كورنوول. فيتدخل ميرلين للمساعدة، فيحول أوثر إلى نسخة طبق الأصل من جورلويس، بحيث يتمكن الملك من مغافلة حرس الدوق، وممارسة الحب مع إيجرنا، وكان هذا ما أتى بآرثر إلى الحياة.
تمر قرابة خمسة عشر عاما سريعا حين يعتلي آرثر الشاب العرش، فيهزم الساكسونيين شر هزيمة، ويحصرهم في جزء صغير من بريطانيا. وفيما بعد يقهر البيكتس، والاسكتلنديين، والأيرلنديين، والأيسلنديين، من بين آخرين كثيرين. وحين يطالبه السفراء الرومان بأن يعرب عن إجلاله وتقديره للإمبراطور، يعبر آرثر القنال الإنجليزي ويهزم جيوشهم في فرنسا.
وبينما كان آرثر بالخارج، نصب ابن أخيه موردرد نفسه ملكا، ووقع في الرذيلة مع مليكة آرثر جنيفر. وحين يعود آرثر ويذبح الخائن، يصاب بجرح خطير، ليشاهد آخر مرة وهو ينقل إلى «جزيرة أفالون».
هكذا سارت القصة كما رواها جيفري المنموثي. كان انتصار آرثر مؤقتا فقط؛ إذ هزم الأنجلوساكسونيون مواطني آرثر البريتانيين (لتتحول بريطانيا إلى أنجل لاند (التي تعني بالعربية أرض الأنجل) أو إنجلاند (التي تعني بالعربية إنجلترا)). ولكن ذلك لم يضف سوى جاذبية للقصة لدى البريتانيين الذين كانوا يشعرون بحنين إلى عصر ذهبي حكموا فيه الأرض؛ فآرثر بالنسبة إليهم لم يمت، بل كان في انتظار اللحظة المناسبة للعودة من أفالون.
بات هذا العصر الذهبي الذي يتوقون إليه أكثر ذهبية في خيالات كتاب العصور الوسطى اللاحقين، الذين قاموا بتعزيز أسطورة جيفري. فأدخل الكاتب الفرنسي روبرت ويس «المائدة المستديرة»؛ ومن ثم استطاع فرسان آرثر الجلوس كأنداد. وقام فرنسي آخر، يدعى كريتيان دي تروا، بإبراز لانسلوت، فارس آرثر المخلص (ومعشوق جنيفر الحميم). وأضاف الألماني، فولفرام فون إشنباخ، الفارس برسيفال. وبنهاية حقبة العصور الوسطى، تحول جنود آرثر الذين كانوا مشاة في القرن الخامس إلى فرسان على أحصنة؛ وتحولت تلاله الحصينة إلى قلاع ضخمة؛ وتحول بلاطه الملكي إلى قلعة كاميلوت؛ يوتوبيا الفروسية.
اجتمعت كل هذه العناصر على يد رجل إنجليزي، هو توماس مالوري، في روايته «موت آرثر» في القرن الخامس عشر، مانحا بها أبناء جلدته رواية خرافية توازي رواية أي أمة عن آرثر. وكان هناك مفارقة معينة في ذلك؛ إذ إن القصة الأصلية جعلت مواطني آرثر البريتانيين في حرب ضد أسلاف الإنجليز الأنجلوساكسونيين، ولكن تلك هي طبيعة الخرافات الكلاسيكية. فبوسعها أن تتجاوز أي حدود من أي نوع؛ لك أن تشاهد إعادة إحياء الأسطورة في القرن العشرين في أشكال مختلفة ومتنوعة تراوحت ما بين الأدب النسائي (وأبرزها في روايات ماريون زيمر برادلي) والمسرح الغنائي (بطولة ريتشارد برتون في نسخة برودواي).
يبدو أن الحنين لعودة عصر ذهبي هو حنين أبدي؛ فحين أشار الصحفي ثيودور إتش وايت إلى سنوات عهد كينيدي بأنها «لحظة قصيرة مضيئة»، مستشهدا بالمسرحية الغنائية، سرعان ما أطلق على إدارة الرئيس «كاميلوت».
ولكن آرثر نفسه كان ضائعا وسط أسطورته. حتى في حياة جيفري المنموثي، كان واضحا أن كتابه «تاريخ ملوك بريطانيا» لا يمكن أن يكون تعبيرا عن التاريخ. وفي قرابة عام 1197، أطلق المؤرخ ويليام - من نيوبرج - على كتاب جيفري «شبكة مضحكة من الأحداث الخيالية»، وقدر أنه لم يكن هناك الكثير من الممالك في العالم كتلك التي جعل جيفري آرثر يقوم بغزوها.
ومنذ ذلك الحين، والمؤرخون الذين حذوا حذو ويليام يحاولون أن يستخلصوا من الأسطورة شخصية آرثر «التاريخية»؛ إن كان له وجود حقا. •••
وفوق كل هذا، كان هذا يعني التحول إلى المصادر (القليلة جدا) التي سبقت جيفري المنموثي؛ ومن ثم كانت أقرب لزمن آرثر، واحتمالات تحريفها بفعل الأساطير اللاحقة أقل. وكانت هذه المصادر في أغلبها كتابات ويلزية؛ إذ كان الويلزيون هم من انحدروا من سلالة البريتانيين الأوائل.
صعد هؤلاء البريتانيون إلى السلطة بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية في أوائل القرن الخامس؛ فقد حازوا قدرا كبيرا من النفوذ والسلطة تحت حكم الإمبراطورية؛ ومن ثم بدا طبيعيا (بالنسبة إليهم) أن يتولوا دفة الحكم بعد رحيل جيوش الرومان. وكان هذا على عكس ما حدث في أجزاء أخرى من الإمبراطورية السابقة؛ حيث استولى الغزاة الذين قاموا بطرد الرومان على الحكم. ولذلك كانت بريطانيا المستقلة لا تزال رومانية في نواح عدة؛ وكان البريتانيون، أو على الأقل الطبقة العليا منهم، يرون أنفسهم ورثة كل من الحضارة الرومانية وثقافتها.
ولسوء حظهم، فقد ورثوا أيضا أعداء الرومان. فسرعان ما وجد البريتانيون أنفسهم عرضة لهجوم من جماعات كانوا يعتبرونهم من البربر: فكان الأيرلنديون من الغرب، والبيكتس من الشمال، والأنجلوساكسونيون من ناحية بحر الشمال. ولم يجد الغزاة مبررا للانسحاب لمجرد أن البريتانيين قد حلوا محل الرومان.
كان الموقف حسب وصف الشعراء الملحميين الويلزيين ميئوسا منه؛ مثل ذلك الذي واجهه البريطانيون في رواية جيفري المنموثي. ولكن إذا كان بمقدورنا تصديق راهب ويلزي يدعى جيلداس، فإنه في قرابة عام 500، أحرز البريتانيون انتصارا عظيما في منطقة تسمى جبل بادون. وقد وصف جيلداس في كتاب «انهيار بريطانيا»، الذي تم تأليفه بعد ذلك بقرابة خمسين عاما فقط، المعركة والجيلين التاليين اللذين عمهما رخاء وسلام نسبيين.
هل كانت هذه الفترة من خلو العرش التي وصفها جيلداس هي لحظة الكاميلوت القصيرة المضيئة؟ ربما، ولكن مثلما بادر المشككون في الإشارة، لم يذكر جيلداس اسم آرثر في أي موضع. والشيء المحبط أن جيلداس لم يذكر مطلقا من كان يحكم البريتانيين.
ترك هذا الأمر لننيوس ، وهو رجل دين ويلزي آخر. ففي كتاب «تاريخ البريتانيين» الذي قام ننيوس بتجميعه في وقت ما في بداية القرن التاسع، ما من شك بشأن هوية البطل: «المحارب آرثر». وبحسب ننيوس، ألحق آرثر الهزيمة بالساكسونيين في اثنتي عشرة معركة، وفي مرحلة ما ذبح 960 فردا من جيوش العدو وحده.
ولكن هل يمكن الوثوق بننيوس؟ إن مثل هذه الأفعال المستحيلة بشكل واضح - مثل قتل 960 من جيش العدو منفردا دون مساعدة - تنتمي بوضوح لروايات الشعر الملحمي، وليس التاريخ. ولم تجد مادته - المعروفة بفوضويتها - نفعا أيضا؛ فقد وصف رجل الدين نفسه منهجه بأنه «تجميع كومة واحدة» من كل ما اكتشفه. ووجد المؤرخون بعض العزاء في ذلك، مجادلين بأن شخصا عجز عن تنظيم أي شيء فلن يتمكن في الغالب أيضا من تلفيق أي شيء، إلا أن آخرين وجدوا ذلك أمرا محبطا.
نسب الكتاب الويلزيون، الذين حذوا حذو ننيوس، لآرثر الانتصار الذي تحقق في معركة جبل بادون أيضا، ولكنهم جميعا بدءوا الكتابة بعد الأحداث الفعلية بثلاثمائة عام على الأقل، شأنهم شأن ننيوس. وكان من المستحيل تحديد كون الرواية الشفهية التي رووها تعبر عن التاريخ الفعلي لبريطانيا في القرن الخامس.
من الواضح أن الكتابات الويلزية وحدها لم تكن لتقنع المشككين. فما كان مطلوبا هو دليل أكثر قوة على وجود آرثر، وفيما يبدو أن ذلك قد تبلور بشكل مادي في عام 1191 (أو 1192 وفقا للبعض). كان ذلك حين أعلن رهبان دير جلاستونبري أنهم قد اكتشفوا جثتي آرثر وجنيفر. •••
قام بوصف الاكتشاف شخص يدعى جيرالد من ويلز، ولم يكتب عنه إلا بعد عامين فقط. حكى جيرالد كيف وجدت الجثتان في جلاستونبري «في أعماق الأرض في بلوط مجوف». وأضاف أن صليبا من الرصاص قد وجد «أسفل حجر، وليس فوقه، كما هو متبع اليوم.»
وكانت الكلمات المنقوشة على الصليب تقول: «هنا يرقد الملك الشهير آرثروس وزوجته الثانية وينيفيريا في جزيرة أفالونيا.»
هل كانت جلاستونبري هي جزيرة أفالون؟
دير جلاستونبري، حيث زعم رهبان القرن الثاني عشر أنهم قد وجدوا جثتي آرثر وجنيفر. (مكتبة الكونجرس .)
لا يوجد إجماع واضح بين المؤرخين على ذلك، إلا أن الغالبية يميلون إلى عدم تصديق أن العظام التي وجدت كانت لآرثر وجنيفر. ولعل من أسباب ذلك أن بلدة جلاستونبري، الواقعة في سومرست، محاطة بشكل شبه كامل بالمروج الخضراء. وربما كانت هذه المروج في وقت من الأوقات مستنقعات، ولكن يظل من المبالغة بعض الشيء أن نتخيل أنها «جزيرة» أفالون.
انتبه المشككون أيضا إلى أن النقش المرسوم على الصليب الرصاصي قد كتب بنمط من الحروف شاع في القرن العاشر أو الحادي عشر، وليس في القرن الخامس أو السادس؛ وهي الفترة التي يفترض أن يكون آرثر قد مات فيها. وبدا أن ذلك دلالة على وجود نوع من الاحتيال.
الأسوأ من ذلك أن الرهبان كان لديهم دافع محدد لتلفيق الاكتشاف. فقد كان جزء كبير من الدير قد احترق مؤخرا، وكان موقع قبر آرثر سيجذب الكثير من الحجاج إليه (وهو ما حدث بالفعل). وقد أحضر معهم الحجاج الأموال التي كان الرهبان في أشد الحاجة إليها من أجل عملية الترميم.
في المقابل، رد أنصار الدير على ذلك بأن الرهبان لو أرادوا تزييف نقش، فقد كانوا على دراية كافية لاختيار نقش قديم وملائم. وجادلوا بأن جثمان آرثر قد عثر عليه لأول مرة في السنوات اللاحقة لعام 945، حين قام الدير بهدم ضريح كبير كان مقاما على الأرض. وخمنوا أنه لا بد أن يكون قد أعيد دفن آرثر في هذه البقعة، ومعه صليب جديد بحروف القرن العاشر المعاصرة وقتئذ.
وجاء عالم الآثار سي إيه رالي رادفورد ليعزز قصة الرهبان بعض الشيء في عامي 1962 و1963، حين عثر على دلالات بأن أحدا قد حفر بالفعل في الموقع الذي قال الرهبان إنهم قد حفروا فيه. ولكن ذلك لم يثبت شيئا بشأن ما عثروا عليه، وعولت فرضية إعادة الدفن على تصديق سلسلة كاملة من الأحداث، لم يكن هناك ما يثبت أي جزء منها.
وهكذا، باستثناء اكتشاف أثري مثير وجديد، يبدو مستبعدا أن تقدم جلاستونبري أي إجابات قاطعة عن آرثر. ولا يمكن كذلك إخضاع العظام أو الصليب لأي تحليل علمي حديث؛ فقد اختفت العظام في وقت ما خلال القرن السادس عشر، والصليب في وقت لاحق. •••
بعد الانتهاء من بحثه عن المكان الذي دفن فيه آرثر، اتجه رادفورد إلى محل ميلاده. كان جيفري قد قال إن قلعة تينتاجل على الساحل الكورنوولي هي التي شهدت العلاقة التي أثمرت عن آرثر بين أوثر وإيجرنا، فكانت هي وجهة الحفر التالية لرادفورد. وغمرته السعادة حين وجد - أسفل القلعة التي يرجع تاريخها لأواخر العصور الوسطى - بقايا فخار مستورد من القرن الخامس أو السادس. وبالطبع لم يثبت ذلك شيئا بشأن أوثر أو إيجرنا، إلا أنه أوحى بأن أناسا على قدر كبير من الثراء قد عاشوا هناك في نفس الوقت تقريبا.
كان الأمر الأكثر إثارة هو نتائج البحث عن قلعة كاميلوت الأسطورية، المقر الرئيسي لآرثر. كانت قلعة كادبوري، التي تقع على مسافة قصيرة من جلاستونبري، قد ارتبطت في الأساطير الشعبية بكاميلوت منذ القرن السادس عشر على الأقل. وفيما بين عامي 1966 و1970، شرع علماء الآثار بتوجيه من ليسلي ألكوك في الحفر بحثا عن أدلة.
وتحت الأرض العالية المعروفة محليا ب «قصر آرثر»، اكتشف ألكوك أساسات ردهة كبيرة مبنية من الخشب تظهر حرفية بارعة. كذلك عثر ألكوك على بقايا سور حجري غير مملط يطوق جزءا من التل، وبرج بوابة.
كل هذا أشار إلى وجود حصن كبير يعود تاريخه لقرابة عام 500. وكتب ألكوك في نشوة فرحه أنه «لدينا ما يبرر أننا نستطيع أن نتخيل آرثر وقواته يلهون ويعربدون ... في ردهة مماثلة لتلك الموجودة في كادبوري، ويخرجون للمعركة على خيولهم عبر برج بوابة كذلك الموجود في المدخل الجنوبي الغربي.»
بالطبع، لم يثبت ذلك أن قلعة كادبوري هي كاميلوت، مثلما أقر ألكوك دون تردد. فقد كان هذا تلا منيعا أكثر من أي حصن حقيقي، فضلا عن قلعة غراميات العصور الوسطى. علاوة على ذلك، لم يتم العثور على شيء في كادبوري يربط الحصن باسم آرثر؛ فلعلها كانت المقر الرئيسي لأي قائد جيش من القرن السادس.
صاغ رادفورد وألكوك نتائجهما بدقة، مشددين على أنهما قد أفشيا عن بريطانيا في عهد آرثر أكثر مما أفشياه عن آرثر نفسه. غير أن اكتشافاتهما وضعت آرثر لا محالة في المشهد الرئيسي، وسارعت بعض التقارير الإعلامية عنها إلى مساواة كادبوري بكاميلوت.
وقد أثار ذلك بدوره رد فعل عنيفا بين الأكاديميين، الذين أعادوا سرد كل مواطن قصور المصادر الويلزية وكذلك الاكتشافات الأثرية. ولا يزال الشك هو السائد بين غالبية الأكاديميين، حتى إن أحدهم قد وصف الحجة المؤيدة لوجود آرثر بأنها لا تعدو أكثر من القول بأنه لا يوجد دخان بلا نار.
والدخان كان موجودا. فبوسعنا أن نثق تماما بأنه في وقت ما في القرن الخامس أو السادس، كان هناك انتعاش ونهضة قصيرة للبريتانيين. وفي مكان ما يسمى جبل بادون، قاد أحدهم البريتانيين إلى النصر. وقد أطلق الشعراء الملحميون الويلزيون، الذين كانوا يكتبون في وقت أقرب للأحداث الفعلية من أي مؤرخين جاءوا لاحقا، على قائد البريتانيين آرثر.
ومن ثم يمكننا أن نحذو حذوهم.
لمزيد من البحث
Richard White, ed.,
King Arthur in Legend and History (New York: Routledge, 1997). A handy collection of excerpts from the early sources, including Gildas, Nennius, Geoffrey of Monmouth, William of Newburgh, and Wace .
E. K. Chambers,
Arthur of Britain (New York: Barnes & Noble, 1927). This thorough study initiated the modern quest for the historical Arthur; quite reasonably, Chambers remained an agnostic on the subject of Arthur’s existence .
Robin G. Collingwood,
Roman Britain and the English Settlements (Oxford: Clarendon Press, 1937). Arthur as a wide-ranging general and cavalry leader .
Kenneth Hurlstone Jackson, “The Arthur of History,” in
Arthurian Literature in the Middle Ages
ed. Roger Sherman Loomis (Oxford: Clarendon Press, 1959). Responding to arguments that Arthur couldn’t have been a major figure because all his battles were in the North, Jackson’s linguistic analysis of place names attempted to show he could have fought in southern Britain as well .
Geoffrey Ashe, ed.,
The Quest for Arthur’s Britain (New York: Praeger, 1968). Includes archaeological reports from Radford at Tintagel and Glastonbury, and Alcock at Cadbury .
Leslie Alcock,
Arthur’s Britain (Middlesex, Eng.: Penguin, 1971). The case for Arthur as a genuine historical figure and a great soldier .
Leslie Alcock, “By South Cadbury Is That Camelot” (London: Thames & Hudson, 1972). The excavations of Cadbury Castle between 1966 and 1970 .
John Morris,
The Age of Arthur (New York: Charles Scribner’s Sons, 1973). A history of the British Isles from 350 to 650, notable for its breadth of scholarship and its acceptance of Arthur as a historical figure .
David N. Dumville, “Sub-Roman Britain: History and Legend,”
History
62, no. 205 (June 1977). For an academic paper, this is a surprisingly savage attack on Alcock’s and Morris’s tendency to make too much of the limited evidence of Arthur’s existence. Wrote Dumville: “We must reject him from our histories and, above all, from the titles of our books.”
Geoffrey Ashe,
The Discovery of King Arthur (Garden City, N.Y.: Anchor Press, 1985). A clever if not entirely convincing attempt to prove that Arthur led an army of Britons into Gaul, where he was known to Continental sources as Riothamus .
Norma Lorre Goodrich,
King Arthur (New York: Franklin Watts, 1986). Based on a close reading of Geoffrey and other late medieval texts-an extremely dubious approach-Goodrich locates Arthur and his kingdom near what’s now the border between England and Scotland .
الفصل التاسع
لماذا انهارت الحضارة المايانية؟
«لقد كان الأمر كله لغزا؛ لغزا غامضا لا سبيل لفهمه.» هكذا كتب جون لويد ستيفنز، مؤلف أحد كتب أدب الرحلات الأكثر مبيعا، بعد عثوره على أطلال مدينة كوبان في عام 1840. كان ستيفنز قد سافر بواسطة البغال والزوارق الصغيرة، ثم قطع طريقه عبر غابة هندوراس المطيرة على أمل العثور على المدن المفقودة للمايانيين القدماء. وقد اكتشف أكثر من أربعين حطاما آخر خلال السنوات الثلاث اللاحقة، التي أمضاها في جنوب المكسيك وأمريكا الوسطى. وفي هذا المكان، وجد مجموعات ممتدة من القصور والأهرامات المختبئة وسط الغابات، إلى جانب منحوتات حجرية أثرية نقشت عليها مخطوطات هيروغليفية. وتراءى لستيفنز بوضوح أن تلك أطلال حضارة رائعة.
اتفق مع ستيفنز في الرأي علماء الآثار البارزون الذين جاءوا بعده، لا سيما أنهم قد استطاعوا فك شفرة بعض العلامات الموجودة على الآثار، والتي اتضح أنها أرقام بينت أن المايانيين كانوا خبراء محنكين في الرياضيات. فقد أنشئوا تقاويم امتدت لملايين السنين، ورسموا خرائط دقيقة لحركات فلكية معقدة. واستنبط علماء الآثار البارزون من هذا أن المايانيين، أو على الأقل حكامهم، كانوا شعبا مفكرا ومثقفا إلى حد عميق.
كما كانوا شعبا سلميا بشكل فريد، كما وصفهم سيلفانوس مورلي، الذي كتب عنهم عام 1946، وجيه إريك طومبسون في عام 1954. فقد أشار عالما الآثار البارزان هذان إلى أنه لم يكن هناك أي تحصينات مرئية حول الأطلال المايانية. وخلص مورلي وطومبسون إلى أن هذه الأطلال كانت بالضرورة أماكن مقدسة؛ حيث كان الملوك الكهنوتيون يتأملون رياضيات الكون، ولا يقاطعهم شيء سوى الزيارات العارضة من القرويين الذين كانوا يحضرون لهم طعامهم ويعتمدون عليهم لحكمتهم.
بينت الأرقام المنحوتة على الآثار كذلك متى انتهت الحضارة المايانية. فقد كان آخر تاريخ مسجل في كوبان (حسبما ترجم من التقويم الماياني) هو عام 820، وتتابعت مدن مايانية أخرى كقطع الدومينو؛ فكان آخر تاريخ بالنسبة إلى نارانخو هو 849، وكاراكول 859، وتيكال 879. ولكن ظل السؤال قائما: «لماذا» انتهت هذه الحضارة؟ على عكس الأزتيك في المكسيك أو الإنكا في بيرو، الذين لحق بهم الدمار على يد الغزاة الإسبان، هجر المايانيون مدنهم بحلول عام 900؛ أي قبل قرابة 600 عام من إبحار كولومبوس. ولم يكن هناك كذلك أي علامات على أن حضارة أمريكية أصلية - مثل أسلاف الأزتيك النزاعين للحرب - قد دمرت المدن المايانية. وبدت الحروب بين المدن ذاتها احتمالا غير وارد، على الأقل بالنسبة إلى مورلي وطومبسون، اللذين طغت صورة المايانيين المسالمين على تفكيرهما الأثري.
ومن ثم، بدا موت الحضارة المايانية، على الأقل حتى العقود القليلة الماضية، أمرا مستغلقا يستحيل فهمه تماما مثل الغابة التي كانت تحيط بها. •••
افترض العديد من الباحثين أن المشكلة كانت بيئية لا محالة. فخمن مورلي، على سبيل المثال، أن المايانيين ظلوا يجرفون الغابة من أجل إنشاء الحقول حتى نفدت منهم الأرض. وافترض آخرون أن المزارعين المايانيين قد أنهكوا التربة. غير أن آخرين أيدوا فكرة حدوث كارثة طبيعية، ربما زلزال أو إعصار أو جفاف امتد طويلا. كذلك ألقي باللوم على الملاريا والحمى الصفراء، خاصة أن المرض قطعا قد لعب دورا مدمرا بعد الغزو الإسباني.
كانت المشكلة في كل هذه النظريات تكمن في عدم وجود دليل حقيقي لدعم أي منها. ربما لم يتمكن أحد من دحضها، ولكن الكارثة البيئية التي تستطيع الإطاحة بحضارة مثل الحضارة المايانية كان ينبغي أن تترك بعض الآثار في السجل الأثري؛ ولم يكن هذا هو الموقف على ما يبدو.
الشكل المحتمل لمدينة كوبان المايانية خلال القرن الثامن. (حقوق الطبع محفوظة لمتحف بيبودي، جامعة هارفرد.)
كانت نظرية طومبسون تتمثل في أن بعض الناس الأقل تحضرا، ربما من وسط المكسيك أو من ساحل الخليج، قد نزحوا إلى المدن المايانية الواقعة أقصى الشمال على شبه جزيرة يوكاتان وأطاحوا بالحكام هناك. واعتقد طومبسون أن ذلك كان غزوا ثقافيا أكثر منه عسكريا، إلا أنه مزق النظام السياسي والديني الماياني الراسخ هناك، والنظام السائد جنوبا أيضا. وقد يكون بدوره قد أدى إلى ثورة للقرويين المايانيين، الذين كانوا سعداء تماما بخدمة نخبتهم الكهنوتية، ولكنهم ثاروا ضد إجلال دخلاء بربريين.
كان هناك على الأقل دليل ما على نظرية طومبسون؛ فقد عثر على فخار برتقالي ينتمي للطراز السائد في وسط المكسيك - والذي يعود تاريخه إلى القرن العاشر - في بعض المدن المايانية على شبه جزيرة يوكاتان، وبعدها بفترة وجيزة بدأ المعمار على طراز ساحل الخليج في الظهور هناك. كانت المشكلة أن المنطقة المايانية الحيوية الواقعة إلى الجنوب لم تظهر أي علامات لوجود أي تأثير أجنبي. أما بالنسبة إلى الفخار والمعمار، فربما يكون التأثير قد جاء بالتجارة السلمية تماما. حتى لو كان الغرباء قد شقوا طريقهم نحو الشمال عنوة، فإن تاريخ الفخار والمعمار لم يكن بالدقة الكافية لتحديد أكانا قد جاءا قبل انهيار الحضارة المايانية أم بعدها. ومن الوارد للغاية أن يكون الأجانب لم يفعلوا شيئا أكثر من مجرد ملء فراغ صنعه الحكام المايانيون بالفعل.
غير أنه في غياب أي بدائل أخرى أكثر عملية، ظلت أفكار طومبسون ومورلي هي المسيطرة على المعرفة المايانية. واستمر ذلك حتى الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، إلى أن تمكن اللغويون أخيرا من حل شفرة الكلمات وكذلك الأرقام من المخطوط الماياني القديم. وتجاوز تأثير النصوص المترجمة التشكيك في أفكار طومبسون ومورلي عن انهيار الحضارة. وفي الواقع لقد أحدثت تحولا تاما في الرؤية المعرفية للحضارة المايانية. •••
ولولا طومبسون، لربما ترجمت المخطوطات قبل ذلك بسنوات أو حتى عقود على الأرجح. فقد كان طومبسون على يقين من أنها لا تحوي سوى مفاهيم رياضية وتقاويم غامضة كتلك التي ترجمت بالفعل. وأي شخص كان يقترح أن الآثار المايانية ربما تكون منقوشة بكلمات أو حروف وكذلك أرقام أو صور؛ كان يقابل بازدراء لدرجة تدفعه للتخلي سريعا عن أي محاولة أو جهد لفك شفرة المخطوط.
وهكذا كان طومبسون مؤثرا، لدرجة أن الباحثين قد تجاهلوا إلى حد كبير أعمال دييجو دي لاندا، الذي كان تبشيريا فرانسيسكانيا تنقل عبر أطلال المدن المايانية في منتصف الخمسينيات من القرن السادس عشر؛ أي قبل وصول ستيفنز إلى بعض الأطلال نفسها بقرابة ثلاثمائة عام. قام لاندا ببعض المحاولات الأولية لمطابقة الرموز المايانية مع الحروف - على نحو خاطئ كما اتضح - ولكنه كان على المسار الصحيح. ولكن للأسف كان تبشيريا مخلصا أكثر منه باحثا؛ فبعد الجزم بأن الكتب المايانية التي جمعها لا تحوي سوى «خرافات وأكاذيب الشيطان»، قام بحرقها جميعا.
ولم ينج سوى أربعة كتب فقط من القوى المدمرة المزدوجة؛ حيث البعثات التبشيرية الإسبانية والبيئة الاستوائية المشبعة بالرطوبة، وانتهى المطاف بأحدها في مكتبة برلين القومية. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية، حين أتت النيران على المكتبة وأحرقتها، كاد هذا الكتاب أن يتحول إلى رماد هو الآخر. ولحسن الحظ، أنقذه جندي سوفييتي يدعى يوري كنوسوروف وأخذه معه إلى أرض الوطن. وهناك، وبعيدا عن استبداد طومبسون الفكري، شرع كنوسوروف في العمل، ليعلن في عام 1952 أنه قد فك الشفرة: لم يكن المخطوط الماياني كله حروفا (كما ظن لاندا)، ولم يكن كله أرقاما وصورا (كما ظن طومبسون)؛ بل كان مزيجا من المقاطع الفردية والكلمات.
وكالمتوقع، تهكم طومبسون على عمل كنوسوروف؛ إذ كتب بأسلوبه التهكمي المعتاد: «من الممكن أن يكون هذا مثالا حقيقيا على تأثيرات التعاون الحزبي الصارم ... في روسيا. ولمصلحة العالم الحر، نتمنى أن يكون الوضع كذلك على صعيد البحث العسكري.»
غير أن باحثين آخرين بدءوا بالتدريج في التشكيك في طومبسون، والبناء على آراء كنوسوروف الاستبصارية. ومع وفاة طومبسون عام 1975، كانت المبادئ العامة للقواعد اللغوية وبناء الجملة المايانية قد فهمت، واستطاع الباحثون الشروع في ترجمة الأعمال المايانية.
ولكن كان لا يزال هناك الكثير من العمل ينبغي القيام به؛ إذ على الرغم من أن أربعة كتب فقط هي التي بقيت، فقد كان هناك آلاف النصوص المايانية منحوتة أو مرسومة على الآثار الحجرية، وكذلك على الفخاريات المايانية وأسوار المباني. وحالما ترجم ما كان مكتوبا على هذه الوسائط العديدة، حطم صورة المايانيين التي قدمها طومبسون ومورلي. فعلى أثر بعد أثر، وجد المترجمون روايات تفصيلية للاستراتيجيات العسكرية، والمعارك الدموية، والتضحيات الرهيبة بأسرى العدو كقرابين. وهكذا تلاشت صورة الكهنة المثقفين المسالمين، بعد أن تبين أن الحكام المايانيين كانوا محاربين متعطشين للدماء. وقد وثق معظم ما كان مكتوبا على الآثار انتصاراتهم العسكرية.
وبعد أن تحرر علماء الآثار من قيود نظرية طومبسون-مورلي، شرعوا في اكتشاف أدلة أخرى على النزعة العسكرية لدى المايانيين. ففي تيكال، على سبيل المثال، عثر على خنادق طويلة ضيقة وأسطح مرتفعة عن الأرض؛ من الممكن أنها كانت خنادق مائية ومتاريس؛ وفي بيكان أسوار يرجح أنها كانت أسوارا دفاعية؛ وفي كاراكول كانت هناك آثار حريق على المباني وطفل لم يوار جثته الثرى على أرضية أحد الأهرامات. وفي بونامباك كانت هناك لوحات جدارية حية اعتقد أنها تصور نوعا من الطقوس أمكن الآن تمييزها كمشاهد لمعارك حقيقية.
ومع ترسخ الصورة العسكرية الجديدة للمايانيين، استطاع علماء الآثار أن يدمجوها في تفسيرات جديدة لانهيار الحضارة. فقد عثر آرلين وديان تشيس على أسلحة في أحد المواقع في بليز، وخلصا إلى أن حربا خرجت عن نطاق السيطرة بين المدن المايانية تسببت في انهيار الحضارة هناك. وعثر آرثر ديمارست على تلال من الرءوس المقطوعة أثناء عملية حفر في شمال جواتيمالا وتوصل إلى استنتاج مماثل. وقدر أنه بعد عام 820 أو نحو ذلك، انخفضت الكثافة السكانية المايانية هناك إلى 5 بالمائة فقط من مستواها السابق.
وفي هذا الشأن قال ديمارست: «يعزى الانهيار إلى حرب داخلية شبيهة بحرب البوسنة.» •••
في حين بدا علماء الآثار بصدد الوصول إلى إجماع بشأن تأثير الحروب بين المدن، ظهرت على السطح أدلة جديدة، لتحيي من جديد واحدا من التفسيرات البيئية القديمة للانهيار. ففي عام 1995، وجد مجموعة من علماء المناخ في العصور القديمة - كانوا بصدد فحص الرواسب في قاع بحيرة شيشانكانوب في وسط يوكاتان - أن الرواسب التي ترجع للفترة بين عام 800 و1000 كانت غنية بشكل خاص بكبريتات الكالسيوم، التي تميل للترسب في القاع فقط حين تكون هناك كمية ضئيلة للغاية من الماء في البحيرة؛ وهو ما يحدث عادة خلال فترات الجفاف. وذهب ديفيد هودل وزملاؤه إلى أن موجة الجفاف تلك بالذات كانت حادة للغاية حتى إنها تسببت في تلف المحاصيل، وحدوث مجاعة، وانتشار الأمراض، وكلها عوامل ساهمت في انهيار الحضارة المايانية.
هل أعاد ذلك العلماء إلى حيثما بدءوا؟
ليس كثيرا.
أحد الأسباب أن هودل لم يذهب إلى أن الجفاف كان السبب «الوحيد» للانهيار؛ بل ذهب بدلا من ذلك إلى أنه كان العامل المحفز الذي فجر سلسلة كاملة من الأزمات البيئية والثقافية. وبالمثل، قام كثيرون من هؤلاء الذين اعتقدوا في مسئولية الحرب عن الانهيار بتقديم هذه الحرب كمجرد عامل واحد من بين عوامل عديدة. ومنذ سبعينيات القرن العشرين، بدأ العلماء الذين يتدارسون جميع جوانب القضية في الانفتاح بشكل متزايد على تفسيرات تأخذ في الاعتبار مجموعة متنوعة من العوامل المترابطة؛ من ضمنها الضغوط البيئية والحرب، سواء مع عدو خارجي أو بين المدن المايانية. ومن الممكن أن تكون هناك عوامل عديدة مختلفة قد أضعفت المايانيين، تاركة إياهم عرضة بشكل متزايد لأزمة حاسمة ما. وربما تكون طبيعة هذه الأزمة الحاسمة قد اختلفت من مدينة لمدينة.
كذلك شهدت العقود القليلة الماضية قيام علماء الآثار بتوسيع بؤرة تركيزهم من المناطق الحيوية المايانية في الجنوب لتشمل مراكز شمالية للحضارة - أكثر عددا - على شبه جزيرة يوكاتان. بعض هذه المدن، على الرغم من أنها لم تكن كبيرة كتلك الجنوبية، ظلت قائمة بعد انهيار المدن المجاورة بمئات السنين، بل إن القليل منها قد بقي حتى الغزو الإسباني. ولعل ما دعم بعضا من هذه المدن الشمالية اللاجئون الذين كانوا يفرون من أي أزمة حلت على المنطقة الحيوية من مايان في الجنوب.
وأحدث التقديرات في هذا الشأن هو أن المدن المايانية المختلفة قد عانت العديد من التقلبات، وهو ما كان حتميا على الأرجح بالنظر إلى قتالها المتواصل. وربما يكون انهيار المدن الجنوبية الكبرى قبل عام 900 ميلاديا، إلى جانب ازدهار المدن الشمالية، جزءا من هذه التقلبات المستمرة، وإن كان يعتبر مثالا عليها مبالغا فيه. بل إن بعض علماء الآثار، وأبرزهم إي ويليس أندروز، قد ذهب لأبعد من ذلك مجادلا بأن الحضارة المايانية لم تنهر، ولكنها اتجهت للشمال فقط.
لم يكن غالبية علماء الآثار ليذهبوا إلى هذا الحد؛ إذ كان مدى الانهيار الجنوبي، بعد كل هذه الإنجازات المعمارية والفنية الاستثنائية، غير مسبوق في تاريخ مايان، وربما في التاريخ كله. وقد تساعد حقيقة ازدهار المدن الشمالية فيما بعد في تفسير ما حدث، ولكنها بالتأكيد لا تقدم تفسيرا كاملا لعوامل حدوثه، أو لماذا لم يتعاف المايانيون بشكل تام على الإطلاق. فهذه الأسئلة تظل لغزا، ربما ليس باللغز الغامض أو المتعذر فهمه مثلما بدا لستيفنز في عام 1840، ولكنها بالرغم من ذلك لغز.
لمزيد من البحث
Sylvanus Morley,
The Ancient Maya (Stanford, Calif.: Stanford University Press, 1956; originally published in 1946). A dated but impressively thorough survey of Mayan culture .
J. Eric Thompson,
The Rise and Fall of Maya Civilization (Norman, Okla.: University of Oklahoma Press, 1966; originally published in 1954). Many of Thompson’s ideas have been eclipsed by those of later archaeologists, but the book is still very much worth reading. If only Thompson’s successors had shared his talent for popular writing .
T. Patrick Culbert, ed.,
The Classic Maya Collapse (Albuquerque, N.M.: University of New Mexico Press, 1973). A collection of papers from a 1970 conference that was important both in reflecting and in advancing the emerging consensus according to which a series of interrelated factors caused the collapse .
Linda Schele and David Friedel,
A Forest of Kings (New York: William Morrow, 1990). Based on their translations of the writings at various Mayan centers, Schele and Friedel present the histories of a number of dynasties. The kings emerge as both sophisticated and brutal .
Michael Coe,
Breaking the Maya Code (London: Thames & Hudson, 1992). Coe turns the incredibly technical story of the deciphering into a narrative that’s understandable and dramatic, even a bit gossipy .
Jeremy Sabloff and John Henderson, eds.,
Lowland Maya Civilization in the Eighth Century (Washington, D.C.: Dumbarton Oaks Research Library, 1993). A collection of papers from a 1989 conference that included many of the leading thinkers and theories .
Gene and George Stuart,
Lost Kingdoms of the Maya (Washington, D.C.: National Geographic Society, 1993). A lavishly illustrated view of the Maya by a husband-and-wife team of archaeologists. The Stuarts’ son, David, who first visited Mesoamerica at age three, later became a leading scholar of Mayan anthropology .
David Hodell, Jason Curtis, and Mark Brenner, “Possible Role of Climate in the Collapse of Classic Maya Civilization,”
Nature (June 1995). The case for drought .
الفصل العاشر
من شيد التماثيل على جزيرة الفصح؟
يمكنك بمشقة أن تجد مكانا على سطح الأرض قريبا من جزيرة الفصح؛ وذلك نظرا لبعدها الشديد. حيث تبعد أمريكا الجنوبية عنها بأربعة آلاف وثلاثمائة ميل شرقا، في حين تبعد تاهيتي بألفين وثلاثمائة ميل غربا. غير أنه بطريقة ما، وعلى الرغم من عزلتها الظاهرة عن حضارات أكثر تقدما على الصعيد التقني، فقد نحت سكان الجزيرة مئات التماثيل الضخمة المكونة من حجر واحد على شكل بشر يتجاوز ارتفاع العديد منها ارتفاع بناية من ثلاثة طوابق. بعد ذلك قام نفس هؤلاء السكان، بطريقة ما، بنقل تماثيل «المواي» تلك برا، ونصبوا العديد منها على منصات حجرية، ووضعوا فوقها قوالب ضخمة من الحجر الأحمر.
كانت التماثيل لا تزال قائمة عام 1722 حين عثر المستكشف الهولندي ياكوب روخفين على الجزيرة في عيد الفصح (ومن هنا جاءت التسمية). وكتب روخفين: «لقد جعلتنا هذه التماثيل الحجرية نصعق من الدهشة للوهلة الأولى؛ لأننا لم نستطع أن نفهم كيف أمكن لهؤلاء الناس ... أن يقيموا مثل هذه التماثيل، التي كان ارتفاعها ثلاثين قدما كاملة وكانت ذات سمك يتناسب مع ارتفاعها.»
وبعد أكثر من اثنين وخمسين عاما بقليل، توقف الكابتن جيمس كوك لفترة وجيزة في جزيرة الفصح أثناء بحثه عن قارة، كان مشكوكا في وجودها منذ زمن (ولكن لم يكن لها وجود)، في جنوب المحيط الهادئ. وانتابت كوك الدهشة هو أيضا؛ إذ قال: «استطعنا بصعوبة أن نستوعب كيف استطاع سكان هذه الجزيرة، الذين لم يكن لديهم أية معرفة بأي طاقة ميكانيكية، أن يقيموا مثل هذه التماثيل الضخمة، وبعد ذلك يضعون أحجارا أسطوانية كبيرة على رءوسها.»
فمن الذي شيد مواي جزيرة الفصح؟ ولماذا؟
اعتقد معظم العلماء أن المهاجرين البولينيزيين - الذين وصلوا إلى الساحل بعد رحلة طويلة، ولكن ليست مستحيلة، من إحدى الجزر في الغرب، ربما في الماركيز - هم حتما من شيدوها. ولم يتعامل الكثيرون بجدية مع تور هايردال، وهو عالم نرويجي قام في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين بصياغة نظرية تنص على أن هنود أمريكا الجنوبية قد استقروا على جزيرة الفصح وشيدوا المواي.
ولإثبات صحة نظريته، قرر هايردال أن يصنع طوفا بدائيا ويعبر المحيط الهادئ بنفسه. •••
توصل هايردال لنظريته لأول مرة بعد ملاحظة أوجه تشابه بين أساطير سكان جزيرة الفصح وقدماء الإنكا في بيرو. فقد هتف سكان الجزيرة بحياة كبير آلهة أبيض البشرة يدعى تيكي بوصفه مؤسسا لجنسهم، بينما تحدث الإنكا عن كون-تيكي - كبير الآلهة أبيض البشرة - الذي طرده آباؤهم الأولون من بيرو إلى المحيط الهادئ.
تذكر هايردال أن الأوروبيين الأوائل الذين زاروا الجزيرة في القرن الثامن عشر اندهشوا من الوجود الغامض هناك لبعض السكان ذوي البشرة البيضاء الذين كانوا مميزين وسط البولينيزيين ذوي البشرة السمراء في العادة . ولا بد أن تيكي وكون-تيكي كانا واحدا، ولا بد أن السكان البيض الأصليين لجزيرة الفصح كانوا من سلالته.
وفيما يبدو، ثمة روايات شفهية أخرى متداولة على الجزيرة كانت تدعم نظرية هايردال. فقد تحدث سكان الجزيرة عن جنس ذي «آذان طويلة» كانوا يثقبونها ويضعون أحمالا ثقيلة في شحماتها إلى أن تطول بشكل مصطنع. وتروي القصة أن ذوي الآذان الطويلة ظلوا يحكمون الجزيرة إلى أن ضاق بهم ذوو الآذان القصيرة ذرعا وأطاحوا بهم. ولما كان للمواي آذان طويلة تتدلى حتى مناكبهم تقريبا، فقد افترض هايردال بطبيعة الحال أنها قد شيدت على يد ذوي الآذان الطويلة. ومن أين جاء ذوو الآذان الطويلة؟ لم تدع حكايات سكان الجزيرة مجالا للشك في هذا الشأن؛ فقد جاءوا من الشرق حيث لم يكن يوجد صوبه سوى المحيط ... وأمريكا الجنوبية.
وفكر هايردال أنه إذا كان ذوو الآذان الطويلة، وتيكي أو كون-تيكي، قد استطاعوا عبور المحيط الهادئ في طوف خشبي، فإنه يستطيع كذلك.
ومن ثم اتجه نحو الغابات الإكوادورية؛ حيث قام بصحبة فريقه بتقطيع كبرى الأشجار التي استطاعوا أن يجدوها، ثم قاموا بتقشير اللحاء، على الطريقة الهندية، وربطوا تسعة ألواح كبيرة من الخشب بواسطة حبال القنب العادية، دون استخدام مسامير أو أي شكل من أشكال المعدن. وفوق الطوف قاموا بإضافة قمرة مفتوحة من الخيزران، وصاريتين، وشراع مربع.
مواي جزيرة الفصح مولية ظهورها (دائما) إلى المحيط الهادئ. (حقوق الطبع محفوظة لولفجانج كايلر/كوربيس.)
قام الفريق بتكسير حبة من جوز الهند على مقدمة القارب الذي أسموه «كون- تيكي». وفي أبريل عام 1947، وبصحبة خمسة رجال وببغاء، أبحر هايردال من ساحل بيرو.
كانت رحلة هايردال مغامرة بحرية نافست أحداث رواية «موبي ديك»؛ فبرماح صيد الحيتان لا أكثر، قاوم فريقه قرشا حوتيا شديد الضخامة، حتى إنه عندما كان يغوص أسفل الطوف، كان رأسه يظهر على أحد الجانبين بينما يبرز ذيله بالكامل على الجانب الآخر. وصارت مياه الشرب آسنة إلى حد ما بعد شهرين، ولكن الأمطار سدت النقص في مخزونهم منها. وغالبا ما كان الإفطار يتكون من سمك البينيت والسمك الطائر الذي كان يحط على متن القارب خلال الليل.
دفعت تيارات المحيط والرياح التجارية الطوف في الاتجاه الغربي أكثر وأكثر، حتى تجاوز جزيرة الفصح بكثير. وبعد 101 يوم في البحر، اصطدم الطوف بجزيرة غير مأهولة من جزر البحر الجنوبي شرق تاهيتي. ونجا الرجال الستة من الرحلة، وإن كانت موجة ضخمة قد أطاحت بالببغاء.
كان هايردال مبتهجا؛ فقد أثبتت بعثة القارب كون-تيكي أنه يمكن لطوف بسيط أن يعبر المحيط الهادئ. ولكن إمكانية أن يحدث ذلك لم تكن تعني أنه قد حدث بالفعل. فكان هايردال بحاجة لمزيد من الأدلة لإثبات أن سكان أمريكا الجنوبية قد استقروا على جزيرة الفصح. •••
في عام 1955، انطلق هايردال مرة أخرى في رحلة إلى جزيرة الفصح، وهذه المرة على متن سفينة صيد معدلة وبرفقة طاقم من العلماء المتخصصين. والمفارقة أن العلماء الذين جاءوا في المرة الأولى بدعم من هايردال، إلى جانب أولئك الذين تبعوهم، قد انتهى بهم المطاف بتكذيب نظريته بشكل عام.
كان من أسباب ذلك أن تأريخهم بالكربون المشع قد حدد القرن الخامس الميلادي تاريخا لوجود الناس على الجزيرة، في حين ارتفع أول تماثيل المواي في وقت ما فيما بين عامي 900 و1000. غير أن ثقافة التياهواناكو في مرتفعات بيرو وبوليفيا، حيث منشأ سكان الجزيرة حسب اعتقاد هايردال، لم يمتد تأثيرها إلى ساحل أمريكا الجنوبية حتى قرابة عام 1000. فكيف أمكن لسكان أمريكا الجنوبية عبور المحيط قبل أن ينزلوا من الجبال أصلا؟
علاوة على ذلك، لم تجد البعثة أي أثر على جزيرة الفصح لفخار أو أقمشة، وهما أكثر المنتجات التي كانت تميز الثقافة البيروفية. في المقابل، وجد علماء الآثار على جزر جالاباجوس - وهي سلسلة من جزر المحيط الهادئ تقع على مسافة أقرب كثيرا من أمريكا الجنوبية - العديد من بقايا الأواني الفخارية، كان واضحا أن بعضها - على أقل تقدير - من نفس النوع الذي صنعه سكان أمريكا الجنوبية الذين سبقوا الإنكا.
ساهمت دراسات في مجالات أخرى في إلحاق مزيد من الضعف بنظرية هايردال. فقد قرر علماء النبات أن قصب التوتورا الذي يوجد على الجزيرة كان بعيدا عن النوع الموجود في بيرو. أما البطاطا الحلوة، التي بالغ هايردال في اهتمامه بها بوصفها حلقة وصل بأمريكا الجنوبية، فمن الممكن أن تكون قد جاءت من مكان آخر في بولينيزيا.
أشار التحليل اللغوي كذلك بإصبعه إلى الغرب؛ فالعديد من كلمات سكان الجزيرة بدت مشابهة لنظيرتها البولينيزية، وأمكن بسهولة إرجاع الاختلافات بينهما إلى سنوات العزلة الطويلة. وقد تقرر أيضا أن كتابة رونجو رونجو تشترك في ملامح كثيرة مع الكتابة البولينيزية أكثر من البيروفية.
كذلك أظهرت قياسات الهياكل العظمية أن سكان الجزيرة كانوا مشتركين في سمات كثيرة مع سكان جنوب شرق آسيا أكثر من سكان أمريكا الجنوبية، وخلص معظم العلماء إلى أن وصف الزائرين الأوروبيين الأوائل للناس ذوي البشرة الشقراء كان مبالغة حتمية. فرغم كل شيء، لم تذكر البشرة البيضاء إلا في بعض الروايات الأولى لسكان جزيرة الفصح؛ وكتب آخرون، مثل كابتن كوك الذي اشتهر بيقظته ودقة ملاحظته، أنه «من حيث اللون والملامح واللغة، فإنهم يحملون شبها بأهل الجزر الغربية، حتى إنه لن يشك أحد في انتمائهم لنفس الأصل.»
أما بالنسبة إلى الحكايات القديمة عن تيكي وكون-تيكي، فقد كانت مجرد قصص، بحسب معظم العلماء، وكان يجب أن تؤخذ جميعا، حسب ما قال بول بان: «على أنها مبالغة.» وقد انتقد بان هايردال لاستخدامه الانتقائي للروايات الشفهية، والذي أتاح له التأكيد على تلك التي دعمت نظريته، وتجاهل القصص الأخرى؛ مثل أن هوتو ماتوا - أول ملوك الجزيرة - جاء من جزيرة تدعى هيفا - وهو اسم شائع في جزر الماركيز - التي تبعد ألفين ومائة ميل شمال غرب جزيرة الفصح.
حتى رحلة القارب كون-تيكي المثيرة لم تكن بمنأى عن التساؤلات والتحقيقات العلمية اليقظة. فقد ذهب البعض إلى أن هنود ما قبل الإنكا قد استخدموا المجادف، وليس الأشرعة، وأن الساحل الصحراوي لبيرو لم يكن به أي من الأخشاب الخفيفة اللازمة لصنع الأطواف أو الزوارق الخفيفة. علاوة على ذلك، كان القارب كون-تيكي قد سحب لمسافة خمسين ميلا بحريا بعيدا عن الشاطئ؛ ومن ثم تجنب التيارات التي كانت ستحمل هايردال إلى مكان ما باتجاه الساحل إلى بنما، وليس إلى أي مكان قريب من بولينيزيا.
أدى هجوم التحليلات العلمية الذي بدأ مع بعثة هايردال فيما بين عامي 1955-1956 إلى إجماع أقوى على أن البولينيزيين هم أول من استوطنوا جزيرة الفصح. فعلى عكس هنود أمريكا الجنوبية، كان للبولينيزيين خبرة واسعة بالبحار، واحتلوا جزرا أخرى مثل هاواي ونيوزيلندا. وذهب بعض العلماء إلى ما هو أبعد من ذلك بادعاء أن أي دليل على وجود اختلاط بين ثقافة أمريكا الجنوبية والثقافة البولينيزية (كبعض نصال الرماح المصنوعة على طراز جزيرة الفصح التي وجدت في شيلي) يمكن نسبه إلى البحارة البولينيزيين الذين ربما يكونون قد جازفوا بالإبحار إلى العالم الجديد ثم عادوا إلى ديارهم.
كان في ذلك القليل من العزاء لهايردال، الذي استمر في الادعاء بأن المكتشفين كانوا يبحرون غربا، وليس شرقا. واستمر في مقاومة الموجات التأريخية، بمعاودة زيارة الجزيرة والدفاع عن أطروحته حتى مع تضاؤل عدد المستمعين له أكثر فأكثر.
غير أن ذلك لا ينبغي أن يقلل من إنجازاته. فقد كان هايردال هو من رتب لأول بعثة علمية إلى جزيرة الفصح، وهو من أتاح للعلماء الذين رافقوه إجراء أبحاثهم بعيدا عن أي تحيز. وكانت بعثات هايردال التي حظيت بالكثير من الترويج والدعاية هي ما أوحت للعلماء الآخرين بالذهاب إلى هناك بأنفسهم ومواصلة البحث عن نحاتي المواي. •••
تقدم الرؤية المجمع عليها، والتي تقضي بأن البولينيزيين هم أول من استوطنوا جزيرة الفصح، تفسيرا جزئيا على الأقل للتماثيل الضخمة. فقد كانت عبادة الأجداد شائعة عبر أنحاء بولينيزيا؛ ومن ثم ربما كانت المواي نوعا من النصب التذكارية التي أقامتها قبائل أو عائلات الجزيرة لتكريم موتاها. ومن الممكن أن تكون قوالب الحجر الأحمر التي علت أكبر التماثيل قد نشأت من تقليد جزر الماركيز؛ حيث كانوا يضعون حجرا على تمثال المتوفى كعلامة حداد.
غير أنه كان هناك لغز آخر حول هذه المواي وقد لاحظه كوك خلال زيارته الخاطفة؛ فالعديد منها سقط من على المنصات، والبعض قطعت رءوسه عمدا فيما يبدو.
لم يقدم شعب كرس مثل هذا الجهد العظيم لتماثيله على إسقاطها عمدا هكذا؟ ما الذي حدث فيما بين زيارة روخفين عام 1722 - حين كان من الواضح أنها لا تزال قائمة - وبين وصول كوك في عام 1784؟
ألقى هايردال بالمسئولية على المهاجرين البولينيزيين، الذين قال إنهم وصلوا قبل الأوروبيين وذهبوا للحرب ضد أحفاد المستوطنين الأصليين الذين أتوا من أمريكا الجنوبية. واتجه مرة أخرى إلى روايات الجزيرة التي سردت قصة ثورة ذوي الآذان القصيرة ضد حكام الجزيرة ذوي الآذان الطويلة. وخمن أنه ربما يكون ذوو الآذان القصيرة قد أطاحوا بكل من ذوي الآذان الطويلة وتماثيلهم.
ولكن مرة أخرى، أدى غياب الدليل الأثري إلى إضعاف نظرية هايردال؛ فلا يوجد أي آثار لمعمار أو لأعمال فنية من صنع الإنسان تدل على اندفاع مفاجئ لتأثيرات ثقافية جديدة في هذه المرحلة من تاريخ جزيرة الفصح، أو في أية مرحلة أخرى.
لقد وجد علماء الآثار بالفعل كميات كبيرة من أنصال الرماح والخناجر، يعود تاريخها للفترة السابقة للاكتشاف الأوروبي؛ ما أدى بالكثيرين إلى استنتاج أن الحرب قد لعبت دورا بالضرورة في الإطاحة بالمواي والثقافة التي كانت تعبدها. ويبدو أن ظهور «الرجال الطائرين» في فن نحت الصخور في تلك الفترة يشير أيضا إلى ظهور عبادة جديدة ربما تكون قد حلت محل عبادة الأجداد.
ويعتقد معظم العلماء أن أزمة بيئية ما قد أدت بسكان الجزيرة إلى الاقتتال من أجل الموارد التي كانت تزداد ندرة؛ إذ كانت الزيادة السكانية وإزالة الأشجار مشكلات خطيرة بالفعل بحلول القرن السادس عشر، حين شيد بعض من أكبر التماثيل. وأشار بعض علماء الآثار أن الانهماك في البناء ربما كان مدفوعا برغبة مستميتة تزداد إلحاحا في التدخل الإلهي (من الأجداد). وربما يكون سكان الجزيرة قد فقدوا إيمانهم بأجدادهم حين عجزوا عن المساعدة، ودفعهم الغضب إلى إسقاط التماثيل.
وبالطبع سرعان ما جاء التدخل من الأوروبيين بدلا من أجداد أو آلهة سكان الجزيرة. فبحلول القرن التاسع عشر، كان التبشيريون وتجار العبيد قد اجتثوا فعليا ما تبقى من ثقافة جزيرة الفصح الأصليين ودينها. غير أن الأوروبيين (والأمريكيين أيضا) يستحقون الإشادة لجهودهم في الحفاظ على الثقافة الأصلية لجزيرة الفصح، وإن كانت متأخرة. ففي ستينيات القرن الماضي، أعاد العلماء - وكان من ضمنهم بعض أعضاء بعثة هايردال - العديد من المواي الساقطة إلى منصاتها الحجرية. ولا تزال موجودة هناك حتى الآن تنظر إلى سكان الجزيرة (وكذلك السياح هذه الأيام).
ومن ورائها مباشرة، كما كان دائما، يقبع المحيط الهادئ.
لمزيد من البحث
John Dos Passos,
Easter Island (Garden City, N.Y.: Doubleday, 1971). A useful anthology of excerpts from accounts of the early European visitors to the island, including Roggeveen and Cook. Dos Passos’s own visit, which concludes the book, is of much less interest .
Thor Heyerdahl,
Kon-Tiki (Chicago: Rand McNally, 1950). When it comes to adventures on the sea, Melville has nothing on Heyerdahl .
Thor Heyerdahl,
Aku-Aku (Chicago: Rand McNally, 1958). A colorful narrative of the 1955-1956 expedition, no less enjoyable because of the author’s iconoclastic views, though slightly marred by his patronizing attitude toward the islanders .
Thor Heyerdahl and Edwin Ferdon, Jr., eds.,
Archaeology of Easter Island (Chicago, Rand McNally, 1961). Reports from Heyerdahl’s team, many of whom disagreed with their leader .
Thor Heyerdahl,
Easter Island (New York: Random House, 1989). Heyerdahl’s most recent defense of his hypothesis did little to convince skeptics, but his account of how the islanders moved the statues is interesting and the volume is beautifully illustrated .
Easter Island, Earth Island (London: Thames & Hudson, 1992). The most recent and best popular account of the pro-Polynesian, anti-Heyerdahl position. The book’s only flaw is that the authors insist on treating Easter Island’s ecological crisis as a metaphor for the earth’s, an approach that makes for admirable environmentalism but potentially dubious history .
Steven Roger Fischer, ed.,
Easter Island Studies (Oxford: Oxbow, 1993). A useful if specialized collection of essays on the island’s natural history, settlement, archaeology, traditions, language, script, and arts .
Jo Anne Van Tilburg,
Easter Island (Washington, D.C.: Smithsonian Institution Press, 1994). A thorough but somewhat academic overview of the island’s archaeology, ecology, and culture .
Steven Roger Fischer,
Rongorongo (Oxford: Clarendon Press, 1997). How Fischer (sort of) cracked the code of the island’s mysterious hieroglyphiclike script .
الفصل الحادي عشر
ماذا كانت «علامة» جان دارك؟
ربما لم تكن حرب المائة عام لتستمر لهذه الفترة الطويلة لو لم تقم فتاة قروية في السابعة عشرة من عمرها بتعريف نفسها على وريث التاج الفرنسي. ففي عام 1429، حين قابلت جان دارك الملك المستقبلي شارل السابع، كانت الحروب المتقطعة بين فرنسا وإنجلترا مستمرة منذ تسعين عاما، وبدت النهاية قريبة. كان الإنجليز قد ألحقوا هزيمة منكرة بالجيش الفرنسي عند أجينكور، ثم كونوا تحالفا مع دوق برجندي؛ الأمر الذي منحهم سيطرة فعلية على نصف فرنسا. فكانت باريس في أيدي التحالف الأنجلوبرجندي، وكان البرلمان في المنفى في بواتييه، وكانت أورليان - آخر حصن فرنسي شمال نهر لوار - محاصرة من قبل القوات البريطانية.
ومما زاد الأمور سوءا أن شارل كان في غاية التبلد في مناصرته لقضيته. فبعد وفاة أبيه في عام 1422، حصل شارل على لقب ملك فرنسا، لكنه لم يتوج رسميا على الإطلاق، وظل معروفا بلقب ولي العهد. وتبرأت منه والدته الملكة إيزابو بشكل فعلي حين انضمت للجانب البرجندي. ولافتقاده للحسم، أصبح شارل حينها في حالة من العجز بسبب الشكوك حول شرعيته؛ فقد بدا غير متيقن مما لو كان ابن أبيه بحق، ومن إمكانية أن يحكم فرنسا.
ووسط هذا الموقف المحبط، دخلت منقذة فرنسا جان دارك. ظهرت الفتاة الشابة مرتدية درعا في قلعة الملك في شينون، وسرعان ما اكتسبت ثقته وحشدت قواته. وفي شهر مايو، أجبرت الإنجليز على التراجع في معركة أورليان، وبعد شهرين رافقت شارل إلى ريمس من أجل تتويجه الذي كان بطعم النصر.
كان هذا انتصارا قصير الأجل بالنسبة إلى جان؛ فقد أسرها البرجنديون، وبيعت للإنجليز، ومثلت للمحاكمة وأدينت بالهرطقة، وفي مايو عام 1431، حرقت على الخازوق. ولكنها أنقذت فرنسا؛ فعلى الرغم من أن حرب المائة عام قد امتدت حتى عام 1453 (لتستمر 116 عاما على وجه الدقة)، فلم يعاود البريطانيون التهديد باجتياح البلاد مطلقا.
ولكن كيف فعلت جان دارك ذلك؟ والأهم، ما الذي أقنع شارل الحذر بأن يضع مصيره بين يديها؛ وهي مجرد فتاة قروية في السابعة عشرة من عمرها بلا أي خبرة عسكرية، إلى جانب كونها فتاة؟ روى المعاصرون حكايات عن «علامة» أظهرتها جان دارك لولي العهد، وكانت عبارة عن شيء حظي بثقته على الفور. ومنذ ذلك الحين، عزم المؤرخون على التوصل لماهية هذه العلامة. •••
كانت العلامة موضع اهتمام مباشر في محاكمة جان عام 1431 بتهمة الهرطقة. ويشير السجل الرسمي للمحكمة - الذي بقي منه ثلاث نسخ - إلى أن المدعين والقضاة قد استجوبوها مرارا بشأنها.
رفضت جان الإجابة في البداية، قائلة إن العلامة كانت مسألة بين مليكها وبينها. ولكن هذه المحاكمة أجريت تحت رعاية محكمة التفتيش، وكان مستجوبوها يعرفون كيف ينهكونها ويزعزعون عزيمتها. وبحلول الجلسة السابعة من المحاكمة، في 10 مارس، استسلمت جان وأجابت على أسئلتهم؛ فأخبرت المحكمة بأن ملاكا أعطى العلامة للملك. ومع مزيد من الضغط، استمرت جان في مراوغة الأسئلة الخاصة بما أحضره الملاك تحديدا. وبعد يومين، أضافت أن الملاك قد أخبر الملك بأنه يجب أن يجعلها تعمل في جيشه.
في الجلسة العاشرة من المحاكمة، في 13 مارس، استجوبت جان مرة أخرى عن العلامة. فتساءلت وكأنها تحذر المحكمة من أن ما سيلي سيكون كذبا: «أتريدني أن أجازف بحلف يمين كاذبة؟» ثم انطلقت تصف على نحو أكثر تفصيلا بكثير كيف أن عددا من الملائكة - بعضهم لهم أجنحة، والبعض لهم أكاليل - قد أحضروا للملك تاجا من الذهب الخالص. وناول أحد الملائكة التاج للملك وقال: «ها هي علامتك.» وأضافت جان أن التاج الآن في خزانة الملك.
كان لدى معظم المؤرخين عزوف مبرر عن تصديق شهادة جان . فقد كانت أساليب محكمة التفتيش نادرا ما تنتزع إجابات صادقة؛ وعلى الرغم من أن جان لم تتعرض للتعذيب قط، فقد هزمت في مواجهة أكثر من سبعين كاهنا ومحاميا. وكان في تساؤل جان عن القسم بيمين كاذبة علامة على أنها قررت التوقف عن مقاومتهم وستعطيهم ما يريدون؛ وهو تحديدا الدليل على أنها كانت على اتصال بقوى خارقة للطبيعة. وبمجرد أن اعترفت جان بذلك، صار الأمر بيد مستجوبيها أن يحددوا أكان من تحدثت عنهم ملائكة أم شياطين؛ ولم يكن هناك شك أنهم سيختارون الأخيرة، وبذلك تقرر مصيرها.
بعد خمسة وعشرين عاما من موت جان، أسقطت محكمة ثانية الحكم الصادر ضدها، وبقيت هذه السجلات هي الأخرى. ومثل الحكم الأول، كان هذا الحكم محددا سلفا إلى حد كبير. فقد أمر شارل - من منطلق رغبته في تطهير سمعته من أي وصمة هرطقة - بالتحقيق في المحاكمة الأولى عام 1448. وامتدت جلسات الاستماع حتى عام 1456؛ حيث أعلنت المحكمة الثانية أن المحكمة الأولى «شابها التدليس والافتراء والخبث والتناقضات، وتجلت فيها أخطاء الواقع والقانون»، و«برئت ساحة» جان حسب قول المحكمة.
كانت هذه المحاكمة الثانية، التي صارت تعرف ب «محاكمة رد الاعتبار»، هي التي شهدت ظهور نسخة من اللقاء الأول لجان مع ولي العهد، والتي صارت شهيرة الآن. فقد تذكر اثنان من الشهود أنه عندما دخلت جان قلعة شينون، خبأ شارل نفسه وسط حاشيته. غير أن جان، برغم أنها لم يسبق لها رؤية ولي العهد من قبل، سرعان ما تعرفت عليه. بعدها راحت تتحدث على انفراد مع ولي العهد، وهو الحديث الذي بدا بعده «متهللا» بحسب الشاهدين.
لاقت قصة الملك المتخفي - التي زيفت لاحقا لتشمل رفض جان مخاطبة أحد رجال الحاشية الذي قدم نفسه بوصفه الملك - استساغة لدى المؤرخين؛ إذ كان بالإمكان تفسيرها دون اللجوء إلى أي قوة خارقة من جانب جان. وأشار العديد من المؤرخين إلى أنه حتى لو لم يكن قد سبق لجان رؤية الملك، كانت ستتمكن من تمييزه بناء على وصف شخص آخر له. كما كانت القصة تحمل مسحة مسرحية جذابة، لدرجة أن كتابا مثل شكسبير وشيلر وتوين وشو، من بين آخرين، وجدوها لا تقاوم.
من الوارد للغاية أن تكون قصة الملك المتخفي حقيقية، ولكنها تركت أسئلة لم نجد إجابات عنها. هل كان شارل سيثق بجان فقط لمجرد أنها ميزته من وسط جمع؟ ألم يكن شارل يدرك أنه كان من الممكن أن يصف أحدهم شكله لجان؟ وما الذي قالته له جان أو أطلعته عليه لجعله «يتهلل» هكذا؟
لم يكن لدى أي من الشاهدين في محاكمة رد الاعتبار إجابات لهذه الأسئلة. •••
ذهبت إحدى النظريات - التي ظهرت في كتاب لأول مرة عام 1516 - إلى أن جان قد أخبرت ولي العهد عن صلاة كان قد أداها مؤخرا. ووفقا ليوميات كتبها بيير سالا، الذي زعم أنه سمع القصة من صديق مقرب للملك شارل السابع، فقد طلب شارل من الله أن يهبه مملكته إذا كان الوريث الحقيقي لها، أو ييسر له الفرار من الموت أو السجن إن لم يكن. وحين أخبرت جان شارل أنها عرفت بصلاته - وهي صلاة لم يسر بها لأي شخص - اعتبرها «علامة» للوثوق بها.
ومثل قصة الملك المتخفي، كان من الممكن أن تكون قصة الصلاة حقيقية. وكان من الممكن أيضا أن تفسر دون اللجوء إلى سياق القوة الخارقة. فلم يكن من الضروري أن يكون لدى جان حدس خارق لتعرف أن شارل لم يكن واثقا في نسبه. فقد كان البلاط الملكي يعج بالقيل والقال عن كونه ابنا غير شرعي، لا سيما أن والدته قد تبرأت منه كجزء من تحالفها مع البرجنديين والإنجليز. ولا بد أن شارل نفسه قد سمع الشائعة التي كانت منتشرة على نطاق واسع عن أن والده الحقيقي هو شقيق شارل السادس، دوق أورليان. ومن ثم، يمكن أن تكون جان قد خمنت بسهولة أنه لجأ إلى الصلوات، وكان شارل سيشعر بالارتياح بالتأكيد لأن أحدا قد جاء لإجابة دعواته.
ولكن المشكلة في قصة الصلوات السرية هي نفس مشكلة قصة الملك المتخفي. حتى لو كانت حقيقية، هل تكفي لتفسير قرار شارل بوضع مصيره بين يدي مراهقة مجهولة؟ ربما كان شارل ضعيفا ومترددا، ولكنه لم يكن غبيا أو ساذجا. فقد كانت لديه القدرة، شأنه شأن المؤرخين اللاحقين، على إدراك أن جان ربما تكون قد عرفت شكله، أو عم كانت تدور صلواته. إن مكمن جاذبية قصتي الملك المتخفي والصلوات السرية - اللتين يمكن لمؤرخ عقلاني من العصر الحديث إيجاد تفسير لهما - هو مكمن ضعفهما أيضا؛ إذ لو كان بالإمكان التقليل من شأن علامة جان بسهولة، فلماذا أثرت في شارل كل هذا التأثير؟
كان من الواضح أن المطلوب هو علامة أكثر إثارة؛ علامة يمكنها أن تؤثر في ولي العهد ولكنها لا تحوي أفعال ملائكة ولا شياطين أو أية ظواهر أخرى خارقة. وفي عام 1805، توصل بيير كيز إلى نظرية توافق المطلوب: فكتب كيز أن جان، وليس شارل، هي من كانت الابنة غير الشرعية للملكة إيزابو ودوق أورليان. وبحسب هذه الرواية، تم تهريب جان الرضيعة من باريس لإنقاذها من أعداء أبيها. وتم تسليمها لجاك دارك الذي تولى تربيتها (وكان في هذه الرواية من قصة جان نبيلا قرويا وليس فلاحا). ومن ثم كانت العلامة التي أعطتها لشارل في شينون عبارة عن إثبات أنها أخت غير شقيقة له، ربما كان خاتما أو وثيقة أو معلومات خاصة عن عائلتهما.
حلت نظرية كيز شتى أنواع المشكلات؛ إذ فسرت لماذا وثق بها ولي العهد، وشرحت كذلك كيف دخلت جان من الأساس لكي تقابل ولي العهد، وكيف ألمت بالتكتيكات والاستراتيجيات العسكرية. فلم تكن تلك فتاة ريفية عادية؛ بل كانت أميرة ولدت كي تحكم، بما يجري في عروقها من دماء ملكية وما تملكه من علاقات ملكية. وقد لاقت النظرية رواجا وانتشارا، خاصة بين مناصري الملكية الذين لم ترق لهم قط فكرة أن فتاة ريفية قد أنقذت المملكة، وراقت كذلك لهؤلاء الذين كانت تستهويهم المؤامرات. وعاودت النظرية الظهور في أشكال متعددة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
المشكلة - التي لم يستطع كيز ولا أي من أتباعه التغلب عليها مطلقا - تكمن في أن النظرية لم تقم على أي أدلة، بل افترضت أن جزءا كبيرا من الأدلة المستمدة من محاكمتي جان قد زيفت بطريقة أو أخرى. ولم تأت الشهادة بشأن مولد جان من والديها فقط، ولكن أيضا من العديد من الأقارب والجيران الآخرين، الذين قالوا إنهم شهدوا ميلادها أو يعرفونها منذ يوم ميلادها. ولكي تكون جان أخت الملك، لا بد أن يكون كل هؤلاء الشهود - بل الكثير من بني جلدتها - قد ارتكبوا جريمة حلف اليمين الكاذبة كجزء من مؤامرة كبرى لإخفاء أصلها الملكي.
إن نظرية كيز، وإن كانت مبتكرة، ليس لها مصداقية. •••
طرح آخرون مؤامرات أقل ضخامة وأقل ارتباطا بالملكية. ففي عام 1756، أشار فولتير إلى أن وزراء ولي العهد قد عثروا على فتاة ريفية وقاموا بتدريبها، على أمل أن يكون ظهورها المثير في شينون ملهما لشارل الجبان وجنوده واهني العزيمة لرد هجوم الإنجليز. وفي عام 1908، ورط أناتول فرانس قادة الكنيسة في نفس النوع من المؤامرة، وذلك في السيرة الذاتية التي كتبها لجان دارك. وقد كانت نظريات المؤامرة تلك مستساغة للغاية لدى هؤلاء المتشككين في رجال الكنيسة أو الدولة؛ ولكن للأسف لم يكن لدى فولتير أو فرانس أي دليل يدعمهما.
ثمة طريقة أخرى لتفسير تأثير جان، وهي أنه لم يكن تأثيرا عظيما كما بدا، وكان هناك دليل على هذا الرأي. فلعل شارل قد تأثر تأثرا عميقا بعلامة جان، ولكنه لم يسلم قواته لها في التو واللحظة. وبدلا من ذلك، وبأسلوب بيروقراطي معتاد، قام بتعيين لجنة لاختبارها بشكل أكثر صرامة. واجتمع أعضاء اللجنة لثلاثة أسابيع في بواتييه. وقد فقد التقرير الذي كتبه أعضاء اللجنة، ولكن كان من الواضح أنهم صدقوا قصة جان؛ لأنها انطلقت بعدها إلى أورليان.
قلل العديد من المؤرخين أيضا من قيمة إسهامات جان العسكرية، حتى في موقعة أورليان. فوصفها أناتول فرانس، على سبيل المثال، بأنها لا تتجاوز كونها مجرد جالبة حظ للجيش الفرنسي: صحيح أنها شجاعة وملهمة، ولكنها لم تلعب دورا حقيقيا في التخطيط للمعركة أو تنفيذها. ولم تشر أي من الشهادات التي أدلي بها في محاكمتي جان إلى أنها قد تولت قيادة القوات في أورليان على الإطلاق. وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أنه لا جدوى من المجادلة بشأن كيفية قيام جان بما قامت به؛ إذ إنها لم تفعل الكثير على أي حال.
بالطبع كان لزاما أن يدخل مثل هذا الموقف الازدرائي دائما في منافسة مع أسطورة منقذة فرنسا؛ تلك الشابة التي كان موتها على الخازوق يبدو في بعض الأحيان مباريا لموت المسيح على الصليب. وعلى مر القرون، أضحت جان دارك رمز فرنسا الذي تقبله الجميع بغض النظر عن معتقداتهم السياسية أو الدينية. فقد وقفت مع الجمهوريين الثوريين والملكيين الكاثوليك وغيرهم على حد سواء. ومؤخرا، جعلها القوميون المحافظون المتشددون الموالون لجان ماري لوبان واحدة من جماعتهم.
ولا غرابة في أن هذه الجماعات جميعا كانوا أسرع في تمجيد قدراتها من تقديم أي تفسير ذي مصداقية لها. غير أن معظم المؤرخين، وإن كانوا أقل تحيزا، لم يأتوا بما هو أفضل كثيرا. فمعظمهم يعتقد، على عكس أناتول فرانس، أن جان كانت عاملا مهما في الحرب، وأنها قد أثرت تأثيرا عظيما على الملك، على الأقل لفترة. ولكن جميعهم تقريبا رفضوا أي شكل من أشكال نظرية المؤامرة، سواء أكانت نتاجا لدم جان الملكي أم لمخططات وزراء شارل. وكان من شأن ذلك أن ترك المؤرخون دون أي تفسير متفق عليه بشكل عام لإنجازات جان، ابتداء بالعلامة التي قدمتها للملك.
جان دارك بعد الانتصار، من لوحة تعود لعام 1833. (مكتبة الكونجرس.)
وهكذا، وبعد أكثر من خمسمائة عام من التأريخ، يطرح المؤرخون نفس الأسئلة التي طرحها مستجوبو جان: هل كان هناك ملائكة في الأمر؟ أم شياطين؟
بالطبع، لا بد أن تكون الإجابات بالنسبة إلى أي مؤرخ هي «لا». ولكن من الملائم للغاية أن نعود إلى هذه الأسئلة، لما كانت الملائكة والشياطين بالنسبة إلى أهل القرن الخامس عشر - والذين يضمون بينهم جان وشارل والجنود الفرنسيين، وكذلك المحامون والكهنة الذين أدانوها - أمورا واقعية تماما. وكذلك الحال بالنسبة إلى «الأصوات» التي ظنت جان أنها تسمعها، والتي نسبتها للقديسة كاثرين والقديسة مارجريت. وكان اعتقاد الجنود الفرنسيين بأن لدى جان قديسين وملائكة يقفون بجانبها هو ما جعلهم يتبعونها للمعركة. وكان اعتقاد قضاة جان بأن هناك شياطين يقفون بجانبها هو ما دفعهم للحكم عليها بالموت.
وقد كان شارل ابن عصره أيضا، برغم أنه أحد رجال البلاط الملكي الذين يحظون بقدر عال من التعليم والثقافة الرفيعة، ومن الوارد للغاية أنه صدق أن الأصوات التي تسمعها جان أو الملائكة قد جاءت لإنقاذ مملكته. وكان هذا الاعتقاد، أكثر من أي شيء قالته أو فعلته في شينون، هو «العلامة» الحقيقية لقوتها.
لمزيد من البحث
Wilfred Jewkes and Jerome Landfield,
Joan of Arc (New York: Harcourt, Brace, & World, 1964). Includes the relevant sections of the original trial and the trial of rehabilitation .
Jules Michelet,
Joan of Arc,
trans. Albert Guerard (Ann Arbor: University of Michigan Press, 1957). The French original, published in 1841, transformed Joan into a republican heroine by stressing that her devotion was to the kingdom, not the king .
Anatole France,
The Life of Joan of Arc,
trans. Winifred Stephens (New York: John Lane, 1908). Joan as the dupe (albeit heroic) of priests who heard about her hallucinations and decided to make use of them .
Vita Sackville-West,
Saint joan of Arc (Garden City, N.Y.: Doubleday, Doran, 1938). Both a biography and a meditation on the nature of religious belief .
Regine Pernoud,
Joan of Arc,
trans. Edward Hyams (New York: Stein & Day, 1966). Joan, as seen through her own words and those of the other witnesses at her trial .
Maurice David-Darnac,
The True Story of the Maid of Orléans,
trans. Peter de Polnay (London: W. H. Allen, 1969). In this latest version of the bastardy theory, Joan proves her royal birth by showing Charles a gold ring engraved with the arms of the House of Orléans. She also manages to escape the stake .
Edward Lucie-Smith,
Joan of Arc (London: Allen Lane, 1976). A psychological approach to Joan that’s sometimes insightful, often not .
Frances Gies,
Joan of Arc (New York: Harper & Row, 1981). A straightforward biography, clear and unbiased, though offering no new interpretations .
Marina Warner,
Joan of Arc (New York: Alfred A. Knopf, 1981). How Joan fitted into traditions of thought about women, in her own time and after .
Anne Barstow,
Joan of Arc (Lewiston, N.Y.: Edwin Mellen Press, 1986). Compares Joan to other late-medieval mystics and heretics .
Regine Pernoud and Marie-Veronique Clin,
Joan of Arc,
trans. and rev. Jeremy du Quesnay Adams (New York: St. Martin’s Press, 1998). Pernoud is the leading French scholar on Joan, but it’s unclear whether she meant this to be a narrative history or an encyclopedia .
الفصل الثاني عشر
من مخترع الطباعة؟
ما كنت لتظن أنه قد يكون هناك الكثير من الشكوك بشأن حدث عرف على الفور بأنه واحد من أكبر نقاط التحول في تاريخ العالم. إلى جانب ذلك، من يستطيع أن يشكك في أسبقية يوهان جوتنبرج؟ فقد كان لقبه كمخترع للطباعة مقبولا عالميا حتى إن مارشال ماكلوهان لم يتردد في الإشارة إلى الثقافة التي أنتجها ب «مجرة جوتنبرج».
غير أن هذا الموضوع يحفل بالتساؤلات.
طالما كان جوتنبرج على قدر من الغموض بالنسبة إلى شخصية لها مثل هذا الثقل التاريخي. حتى في عصره، لم يكن جوتنبرج هو الاسم الوحيد المطروح كمخترع للطباعة. •••
تأتي أولى الإشارات وأقدمها إلى اختراع الطباعة في خطاب يرجع تاريخه إلى عام 1472؛ أي بعد أربعة أعوام فقط من وفاة جوتنبرج. كان الخطاب من أستاذ بجامعة السوربون يدعى جييوم فيشيه. كان الخطاب موجها إلى صديق له وذكر فيه فيشيه أنه في مكان ليس ببعيد عن مدينة ماينز «كان هناك شخص يدعى يوهان ويحمل لقب جوتنبرج، كان أول من فكر في فن الطباعة، الذي تطبع به الكتب، دون أن تكتب بقصبة ... ولا بقلم ... بل بحروف معدنية.»
ثمة إشارات أخرى مبكرة تجعل موطن الاختراع ستراسبورج، فتنسب الفضل فيه أحيانا إلى جوتنبرج، وفي أحيان أخرى إلى عامل آخر في مجال الطباعة يدعى يوهان مينتلين. كذلك ظهرت مزاعم نيابة عن عمال الطباعة في فينيسيا وميلان، والعديد منها يبدو مدفوعا بشيء يتجاوز الاعتزاز المحلي بعض الشيء.
يبدو أنه وقع ما هو أكثر من ذلك في أفينون بفرنسا، وهو ما تبين من وثيقتين قضائيتين هناك. فوفقا لعقدين يرجع تاريخهما إلى عام 1446، وافق صائغ فضة من براج يدعى بروكوبيوس فالدفوجل على تدريس سر «الكتابة الاصطناعية» لبعض المواطنين المحليين. ويشير أحد العقدين، بشكل مثير، إلى «حرفين أبجديين من الفولاذ وثمانية وأربعين شكلا من القصدير، إلى جانب أشكال أخرى.» فهل يمكن أن تكون هذه الحروف نماذج للطباعة، على طريقة جوتنبرج؟ لا شك أن فالدفوجل كان يسعى نحو اختراع مماثل، إلا أن معظم الباحثين قد خلصوا إلى أنه قد أبلى بلاء حسنا. والسيناريو الأقرب هو أن حروف فالدفوجل قد استخدمت كنوع من الاختلاف عن تقنية الحفر على الخشب التقليدية؛ وربما تكون أقرب إلى الآلة الكاتبة اليدوية من الطباعة الحقيقية.
كان الزعم الأكثر ثباتا وصمودا هو ذلك الذي قدم نيابة عن لورانس كوستيه من هارلم، والذي طرحه أول مرة باحث هولندي في عام 1588. توصل كوستيه إلى فكرة الطباعة في عام 1440، بحسب هيدريان جونيوس، بينما كان كوستيه يقوم بتقطيع بعض الحروف لأحفاده من لحاء شجرة زان. وفيما بعد، استبدل كوستيه حروف خشب الزان واستخدم بدلا منها الرصاص ثم القصدير. وسرعان ما ازدهر مشروع الطباعة خاصته.
وكتب جونيوس أن نمو مشروع كوستيه قد قاده للأسف لاتخاذ مساعدين، تبين أن أحدهم - «يدعى يوهان» - كان عديم الضمير. فبعد أن تعلم أسرار المهنة، انتظر حتى ليلة عيد الميلاد، بينما الجميع في الكنيسة، ثم سرق كل حروف الطباعة والمعدات، وانطلق إلى ماينز حيث أسس شركته الخاصة.
انتشرت قصة كوستيه خارج حدود هولندا، ووجدت ما يدعمها عبر السنين من الباحثين الفرنسيين، والإنجليز، والأمريكيين. وكان ذلك يعزى جزئيا إلى وجود كم كبير من الأعمال المطبوعة الهولندية القديمة وإن كانت غير مؤرخة، كان بعضها باستخدام الحروف المعدنية وبعضها بقوالب الخشب. ولا يزال هناك تمثال لكوستيه «مخترع فن الطباعة» في ميدان سوق هارلم.
غير أنه في العقود القليلة الماضية، تعرضت القصة للطعن والتكذيب إلى حد كبير . فقد أظهرت تحليلات أدق للحروف المطبعية، والنقوش، والورق أن معظم الأدلة الخاصة بالطباعة الهولندية القديمة يرجع تاريخها إلى ما بعد عام 1465؛ أي بعد عشر سنوات من أول الكتب التي عرف أنها طبعت في ماينز، مسقط رأس جوتنبرج.
كذلك تحيط الشكوك بقصة كوستيه. فمن الصعب للغاية الاقتناع بأن كوستيه قد قفز بهذه السهولة من فكرة تقطيع الحروف لأحفاده إلى طباعة الكتب وتأسيس مشروع مزدهر، كل ذلك في غضون ستة أشهر قبل سرقة ليلة عيد الميلاد.
ولعل من الأسباب وراء استمرار أسطورة كوستيه كل هذه الفترة الطويلة أنها قد حددت اسم الشرير «يوهان»؛ ومن ثم قدمت إجابة مباشرة على المزاعم التي طرحت نيابة عن جوتنبرج. كذلك كان لفالدفوجل صلات مزعومة تربطه بجوتنبرج: فكان والتر ريف، الذي كان في وقت ما من أحد معارف جوتنبرج، قد زار أفينون بينما كان فالدفوجل يعيش هناك.
وهذه الصلات تعد في أحسن الأحوال واهية وهشة، وتعمل في الغالب على الإشارة إلى أنه حتى في القرن الخامس عشر كان معظم الناس يربطون اختراع الطباعة بجوتنبرج. غير أنه حتى القرن الثامن عشر، لم يكن يعرف سوى القليل للغاية عن أنشطة جوتنبرج، وهو ما تغير فيما بين 1727 و1770، مع ظهور مجموعة من الوثائق التي تتعلق بدعاوى قضائية تورط جوتنبرج في مجموعة من الأرشيفات.
ومن هذه الوثائق انبثقت صورة أوضح كثيرا لجوتنبرج وانبثق معها أيضا تهديد جديد - هو الأخطر على الإطلاق - لادعاء جوتنبرج بأنه مخترع الطباعة. •••
سجلت أولى الوثائق الخطيرة التي ظهرت دعوى قضائية أقيمت ضد جوتنبرج في عام 1439، حين كان يعيش في ستراسبورج. كان جوتنبرج، الذي تجاوزت طموحاته في الاختراع حدود الطباعة، قد اخترع فيما يبدو طريقة ما جديدة لتصنيع المرايا. ودخل في شراكة مع أندرياس دريتتسين لإنتاجها وبيعها للحجاج في الطريق إلى آخن، إلا أن الصفقة انهارت. ففيما يبدو أن الشريكين قد حصلا على تاريخ خاطئ للحج، والذي لم يكن مقررا في عام 1439، ولكن بعده بعام. فتوصلا إلى أنهما لا يرغبان في الانتظار عاما لبيع المرايا؛ ما جعل دريتتسين يقترح بعد ذلك ضرورة قيام جوتنبرج بتعليمه فنا آخر وغير محدد. وأبرم جوتنبرج ودريتتسين عقدا جديدا لتغطية تكاليف «فن ومغامرة» جوتنبرج.
هل كان هذا هو فن ومغامرة الطباعة؟ هناك غموض شديد في الوثائق في هذا الشأن؛ فمن الواضح أن كلا طرفي القضية قد تعمد تجنب إفشاء السر. ولا تقدم الوثائق سوى لمحات، ولكن هذه اللمحات تتضمن ذكر شراء الرصاص والمعادن الأخرى، إلى جانب ذكر آلة طباعة و«أشكال» معينة.
وأيا كان ما يفعله جوتنبرج، فقد كان آخرون على قناعة بأنه من الممكن أن يدر أرباحا ضخمة. فوفقا لإحدى الشهادات من المحاكمة، قامت سيدة بزيارة أندرياس دريتتسين في إحدى الليالي، وأبدت بعض التحفظات بشأن كم ما استثمره من أموال. واعترف دريتتسين بأنه قد رهن ميراثه، ولكنه أخبر السيدة بثقة قائلا: «لن نفشل؛ وقبل أن ينقضي عام سنكون قد استرددنا رأس مالنا وبعدها سنحيا في رغد من العيش.»
كان أشقاء دريتتسين أيضا يعتقدون أن الاختراع يساوي الكثير من المال، وهذا ما أدى إلى رفع الدعوى. فقد كان العقد يحتوي على فقرة تقضي بأنه في حالة وفاة أي من الطرفين، لن يأخذ ورثته محله. ولكن عندما توفي دريتتسين في عام 1438، أراد أشقاؤه الدخول في الصفقة، وهو ما قوبل بالرفض من جانب جوتنبرج، وجاء حكم المحكمة في صالحه. ونتيجة لذلك، لم يعلم أشقاء دريتتسين مطلقا الفن السري الذي كان شقيقهم يتعلمه من جوتنبرج، ولم تتح لنا معرفة أكيدة بماهية هذا الفن.
الوثيقة الخطيرة التالية تتحدث بشكل صريح عن الطباعة، ويعود تاريخها إلى أكتوبر 1455، وهو الوقت الذي كان فيه جوتنبرج قد عاد من ستراسبورج إلى ماينز مسقط رأسه. ومرة أخرى، واجه جوتنبرج دعوى قضائية. (في الواقع إنه قد واجه العديد منها، وهو ما قد يعد أمرا حتميا لمخترع في عصر ما قبل براءة الاختراع.) وقد أصبح سجل هذه الوثيقة معروفا بوثيقة هيلماسبرجر، تيمنا باسم كاتب العدل الذي قام بتوقيعها ، أولريش هيلماسبرجر.
كان المدعي هو يوهان فوست، وهو شريك آخر لجوتنبرج، ويعتبر في اعتقاد بعض المؤرخين المخترع الحقيقي للطباعة.
يتضح لنا شيء من وثيقة هيلماسبرجر؛ وهو أن فوست أقرض جوتنبرج مبلغا كبيرا من المال لما وصف ب «مشروع الكتب». وفيما بعد، أقام فوست دعوى قضائية من أجل استرداد رأس المال والفائدة، وحكمت له المحكمة بمعظمهما. ولا تذكر وثيقة هيلماسبرجر تلك تحديدا قيمة المبلغ، أو ما إذا كان جوتنبرج قد تمكن من السداد. ومع ذلك، فقد خلص العديد من المؤرخين إلى أن القرار قد أدى إلى إفلاس جوتنبرج وإثراء فوست، الذي ربما يكون قد استولى على متجر الطباعة المملوك للأول.
لقد مضى فوست في طريقه ليصبح طباعا ناجحا؛ سواء أكان ذلك في متجر جوتنبرج أم في متجر أنشأه لنفسه. ويظهر اسم فوست، إلى جانب اسم شريك جديد يدعى بيتر شافر، على «سفر مزامير ماينز» لعام 1457، الذي لا يزال يوجد منه عشر نسخ. ويعد «سفر المزامير» هو أول كتاب مطبوع ولا يوجد أي شكوك بشأن مكان وتاريخ طباعته، واسم طابعه، ويستشهد به مؤيدو فوست كدليل على أن رجلهم، وليس جوتنبرج، هو من أكمل آلة الطباعة وأول من قام بتشغيلها.
ولكن هل ساهم فوست بالفعل في اختراع آلة الطباعة، أم إنه كان مجرد ممول لاختراع جوتنبرج. هل كان «سفر المزامير» هو أول كتاب مطبوع، أم مجرد أول كتاب مطبوع معروف مكان طباعته وتاريخ طباعته واسم طابعه؟
وماذا عن إنجيل جوتنبرج؟ إن الإنجيل، لا «سفر المزامير»، هو ما لا يزال الكثيرون يعتبرونه أول كتاب مطبوع، فضلا عن كونه واحدا من أجمل الكتب. فمن الذي طبعه؟ ومتى؟ •••
لا تقدم وثيقة هيلماسبرجر إجابات قاطعة عن الإنجيل، وكذلك النسخ التي لا تزال باقية من الإنجيل نفسه، والتي لا تحوي اسم الطابع، ولا مكان الطباعة، ولا التاريخ. ولكن ثمة أدلة أخرى تشير إلى جوتنبرج بوصفه الطابع؛ وتاريخ أقدم من تاريخ «سفر المزامير».
ثمة ملحوظة في نسخة توجد الآن في مكتبة فرنسا الوطنية بباريس تخبرنا بأن أعمال التجليد والألوان قد انتهت في أغسطس من عام 1456. وبالرجوع للوراء، فإن ذلك يجعل من المحتمل أن يكون الورق قد طبع في عام 1454 أو 1455؛ أي «قبل» أن يتمكن فوست من الاستيلاء على آلة الطباعة الخاصة بجوتنبرج.
ظهرت أدلة أخرى في عام 1947، في شكل خطاب بتاريخ مارس 1455 من إينيا سيلفيو بيكولوميني (الذي أصبح فيما بعد البابا بيوس الثاني) إلى كاردينال إسباني. وصف بيكولوميني رؤيته لصفحات من الإنجيل طبعت بواسطة هذا «الرجل المدهش» في خريف 1454. ولم يذكر الخطاب أكان هذا الرجل المدهش هو جوتنبرج أم فوست، ولكن من خلال التحقق من تاريخ الطباعة الأقدم، يشكل ذلك حجة أقوى تدعم فكرة أن طابع إنجيل جوتنبرج، في الواقع، هو جوتنبرج.
ويرى معظم المؤرخين أن الملحوظة والخطاب قد أمنا ادعاء جوتنبرج بأحقيته في الشهرة.
إنجيل جوتنبرج لا يحوي اسم الطابع، ولا مكان الطباعة، ولا التاريخ. (مكتبة الكونجرس.)
غير أن ذلك لا يعني حرمان فوست من مكانة مهمة في تاريخ الطباعة. فعلى مدى قرون، كان فوست يصور كشرير القصة؛ الوغد الرأسمالي الذي استغل جوتنبرج المخترع الكلاسيكي الحالم. وبحسب هذه الرؤية، فقد انتظر فوست حتى استثمر جوتنبرج كل أموالهما في إنتاج الإنجيل الذي كان سيحظى بالشهرة قريبا. وعندما أدرك بعدها أن جوتنبرج لن يتمكن بأي حال من رد أمواله له، طالبه بسداد قرضه وحجز على أصول المشروع. ولم يفد اسم فوست سمعته أيضا؛ فقد كان أحيانا ينطق فاوست؛ مما شجع بعض المؤرخين الأوائل على دمج عناصر من أسطورة فاوست في القصة.
كان المؤرخون المعاصرون أكثر رفقا بفوست، وكان من أسباب ذلك أن كثيرين ذكروا أن فوست قد نشأ في عائلة من صائغي الذهب. ومن ثم، حتى لو كان الاختراع مملوكا لجوتنبرج، فإنه لم يكن ينبغي نبذ فوست كمجرد شخص استغلالي متعطش للمال، وليس لديه اهتمام بأية مهارة حرفية.
كذلك ليس من المحتمل أن قضاة ماينز كانوا سيصدقون على ادعائه لو لم يكن يستحق. فمن المحتمل للغاية، مثلما زعم فوست، أن يكون جوتنبرج قد أخذ بعض المال الذي كان يفترض أن يذهب لمشروع الإنجيل المشترك خاصتهما واستخدمه بدلا من ذلك لطباعة أعمال أخرى، مثل الروزنامات وكتب النحو. ولم يكن لفوست نصيب في أرباح المطبوعات الأخرى؛ لذا من المفهوم أنه قد غضب من تحول مسار أمواله.
وعليه، لم يكن فوست شيطانا كما لم يكن جوتنبرج قديسا؛ بل ربما يكون فوست قد أدخل بعض التحسينات التقنية الصغيرة على آلة الطباعة. وبالمثل، قد يكون جوتنبرج قد تعلم بعض التقنيات من فالدفوجل وكوستيه، أو من آخرين في فرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا. وربما يكون أيضا قد حصل على بعض الأفكار من الشرق الأقصى؛ حيث كان هناك شكل ما من الحروف المعدنية يستخدم لقرون، وحيث كان الورق - فضلا عن الحرير، والبارود، والبورسلين - قد اخترع. وبشكل متزايد، صار المؤرخون يرون كل هذه الأماكن، وكل هؤلاء الحرفيين والمخترعين، كجزء من عملية تدريجية أدت إلى اختراع آلة الطباعة.
ولكن ظلت عبقرية يوهان جوتنبرج هي التي قامت بتشكيل كل اتجاهات وتجارب العصور. ودون التشكيك في أعمال الآخرين، جمع جوتنبرج الورق ذا الجودة المناسبة، والمداد ذا القوام المناسب، وآلة طباعة مناسبة لكليهما، والأهم من ذلك سابكة الحروف المطبعية التي استطاعت أن تجعل الحروف المطبعية متاحة بالآلاف في لمح البصر.
ولا يزال التوقيت المحدد الذي اجتمعت فيه كل هذه العناصر معا لغزا. فقد فسر البعض الدعوى القضائية التي أقامها دريتتسين بأنها تعني أن جوتنبرج قد نجح في ذلك في ستراسبورج، ربما في قرابة عام 1440. غير أن الإجماع السائد بين المؤرخين أن ذلك قد حدث في ماينز خلال خمسينيات القرن الخامس عشر، قبل فترة ليست بطويلة من طباعة الإنجيل الذي يذكر باسمه عن جدارة.
وأيا كان التوقيت، فقد ابتكر جوتنبرج وسيلة تطبع في يوم واحد أكثر مما كان يمكن للناسخين كتابته في عام، ومن بعدها لم يعد العالم كما كان من قبل قط.
لمزيد من البحث
Karl Schorbach, ed.,
The Gutenberg Documents (New York: Oxford University Press, 1941). The key documents in translation, including the records from the Helmasperger Instrument and the suit brought by Dritzehen’s brother .
The Origin of Printing in Europe (Chicago: University of Chicago Press, 1940). The case against Gutenberg .
Victor Scholderer,
Johann Gutenberg (London: The British Museum, 1963). Not much more than a pamphlet, but the closest thing to an English-language biography .
Frederick Goff,
The Permanence of Johann Gutenberg (Austin: University of Texas Press, 1970). A brief summary of some of the controversies surrounding Gutenberg .
Elizabeth Eisenstein,
The Printing Revolution in Early Modern Europe (Cambridge: Cambridge University Press, 1983). Not much about Gutenberg, but plenty about how he changed the world .
Albert Kapr,
Johann Gutenberg (Aldershot, Eng.: Scolar Press, 1996). Completed in East Germany in 1986 but not translated until ten years later, this is the most recent biography; generally admirable, though it suffers somewhat from having been written prior to the fall of the Berlin Wall, which deprived the author of access to some articles in English and French journals .
Janet lng,
Johann Gutenberg and His Bible (New York: Typophiles, 1988). A clear and concise historiography .
الفصل الثالث عشر
هل قتل ريتشارد الثالث أميري البرج؟
«كل الروايات تحكم علي بأنني شرير.» هكذا جعل شكسبير ريتشارد الثالث يشكو قبل وفاته بفترة وجيزة. وأي شرير ! فها هو أمامنا رجل لم يتردد في قتل الملك هنري السادس القديس ووريثه الشاب إدوارد ... أو في إغراق أخيه جورج (في وعاء ضخم من النبيذ الحلو) ... أو في الزواج من أرملة أحد ضحاياه، ثم قتلها بالسم حين ظهرت عروس محتملة أخرى ذات علاقات أفضل على الساحة. وكانت الفعلة الأكثر شناعة على الإطلاق، والتي أكدت سمعة ريتشارد السيئة، هي اختطاف وقتل «أميري البرج». فقد كانا مجرد طفلين، وكانا ابني شقيق ريتشارد، ولكنهما وقفا حائلا بين عمهما والعرش.
ولكن إذا كان ريتشارد في دراما شكسبير لديه سبب مقنع للقلق بشأن سمعته، فقد استطاع الملك الحقيقي أن يلتمس العزاء لنفسه في معرفة أنه كان سيأخذ أكثر من نصيبه من المدافعين. فبعد خمسمائة عام من وفاته، استمر قاتل أميري البرج في إلهام كتاب القصص البوليسية، وأبرزهم جوزفين تاي صاحبة الرواية الأكثر مبيعا «ابنة الزمن». وتضم جمعية ريتشارد الثالث أكثر من ثلاثة آلاف عضو كرسوا جهودهم لتطهير اسمه.
كان ريتشارد في عيون المدافعين عنه ضحية لحملة دعائية نظمها هنري السابع، أول ملوك أسرة تيودور الذين خلفوا بطلهم في الحكم. ويرسم هؤلاء «الريتشارديون» صورة مختلفة على نحو مذهل لريتشارد: فهو جندي شجاع، وملك مهموم بالحكم، وأخ مخلص. كما أن لهم أفكارهم الخاصة بشأن قاتل أميري البرج. •••
كان الرجل المسئول عن النظرة التقليدية لريتشارد كتجسيد للشر، بما يفوق شكسبير، هو توماس مور؛ فهو من وضع الحبكة الأساسية التي اتبعها شكسبير والكتاب التيودوريون. وقد قام مور بتأليف كتاب «تاريخ الملك ريتشارد الثالث» فيما بين عامي 1514 و1518 وقام بتنقيحه في أواخر عشرينيات القرن السادس عشر.
نشأ ريتشارد الجلوستري - من جلوستر - كما كان معروفا قبل أن يصبح ملكا، في كنف شقيقه الأكبر الملك إدوارد الرابع. وكان ريتشارد الأكثر إذعانا مخلصا لإدوارد، الذي كافأه في المقابل بالعديد من الألقاب والممتلكات التي تمركزت بشكل أساسي في شمال إنجلترا.
وفي أبريل عام 1483، توفي إدوارد عن عمر يناهز الأربعين، بعد حياة من الإفراط في الطعام والشراب والنساء، تاركا ابنين؛ إدوارد اثني عشر عاما، وريتشارد عشرة أعوام. وكانت أمنية الملك على فراش الموت أن يصبح ابنه الملك إدوارد الخامس، على أن يكون أخوه (ريتشارد) «وصيا» على العرش حتى يبلغ الصبي من العمر ما يؤهله لتولي الحكم بمفرده.
لم يرض هذا الترتيب زوجة إدوارد الرابع، إليزابيث وودفيل. وبينما كان ريتشارد في الشمال، نجحت في إقناع المجلس الملكي في لندن برفض وصايته، ثم أرسلت رسالة عاجلة إلى أخيها أنطوني، تطلب منه إحضار إدوارد الصغير إلى لندن حتى يمكن تتويجه في الحال.
ولدى معرفته بالمؤامرة، أسرع ريتشارد إلى الجنوب، معترضا سبيل أنطوني وودفيل وإدوارد. وبعد مأدبة احتفالية في المساء، قام ريتشارد بالقبض على أنطوني وودفيل وإرساله إلى الشمال، حيث أعدم بعدها بفترة وجيزة. بعد ذلك، اصطحب ريتشارد ابن أخيه الصغير إلى لندن؛ حيث أسكنه برج لندن، الذي كان آنذاك قصرا ملكيا وليس سجنا.
ولكن استمرت الخطط في اتجاه تتويج الملك الصغير، وأقنع ريتشارد الملكة بأن تدع ابنها الأصغر يلحق بإدوارد ليحضر مراسم التتويج. وتعهد ريتشارد بإعادة الصبي فور انتهاء التتويج. وكان ما ساهم أكثر في إقناعها بلا شك قوات ريتشارد التي أحاطت بحرم الملكة في دير ويستمينستر.
في غضون ذلك، كان ريتشارد في حاجة لذريعة ما للمطالبة بالعرش لنفسه. وظهرت تلك الذريعة بلا أي جهد في يونيو، في صورة معروف أسداه روبرت ستيلينجتون، أسقف باث وويلز. فقد كشف ستيلينجتون للمجلس الملكي عن أن زواج إدوارد الرابع بإليزابيث وودفيل كان باطلا؛ لأنه في وقت ما عقد قرانه بامرأة أخرى هي إليانور باتلر. وبذلك يكون الأميران اللذان في البرج ابني زنا ... وأبناء الزنا لا يستطيعون وراثة العرش.
ومع غرق جورج الأخ الآخر لإدوارد الرابع، في النبيذ المذكور آنفا، لم يكن هناك شخص آخر في ترتيب وراثة العرش سوى ريتشارد الجلوستري.
شعر ريتشارد في تلك اللحظة أن التاج في قبضته. وفي أواخر يوليو أو أوائل أغسطس، أرسل خطابا إلى سير روبرت براكنبري - مسئول الأمن بالبرج - يأمره بقتل الأميرين، إلا أن براكنبري رفض.
ومن ثم، أسند ريتشارد المهمة إلى جيمس تيريل، وهو مؤيد له ذو شخصية طموحة، وقد استعان بتابعين أمينين في هذه المهمة. وبحسب رواية مور، انتظر تيريل بالخارج بينما تسلل الآخران إلى أعلى حيث الأميران النائمان، «وعلى حين غرة قاما بلفهما داخل أغطيتهما»، وضغطا «بقوة على فميهما بالحاشية الريش والوسائد»، ثم قام الرجال الثلاثة بدفن الجثمانين «أسفل الدرج في عمق الأرض وفق مقاسات محددة تحت كومة كبيرة من الأحجار.»
إذا كان ريتشارد هو الشرير في قصة مور، فقد كان البطل هو هنري السابع، الذي ذبح ريتشارد عام 1435 في ساحة معركة بوسورث، واضعا نهاية لحرب الوردتين الدموية ومؤسسا لسلالة الملوك التيودوريين السعيدة.
أو هكذا كتب مور. ولكن هل كان هذا صحيحا؟ •••
كان من الصعب على الجميع حتى أنصار ريتشارد التشكيك في نزاهة سير توماس مور وأمانته. فقد كان في النهاية الرجل الذي أعدم عام 1535 لأن ضميره لم يكن ليسمح له بأن يجاري خطة هنري الثامن لتطليق كاثرين - من أراجون - والزواج من آن بولين. فقد كان مور كاتبا، وفيلسوفا، وقديسا (بعد تطويبه عام 1935) بالمعنى الحرفي إلى حد كبير.
لا تظهر اللوحات الأولى لريتشارد أي علامات للظهر المحدودب أو الذراع غير المكتملة النمو، اللذين استخدمهما شكسبير ومور للتعبير عن تشوهه الأخلاقي والجسدي كذلك. (مكتبة الكونجرس.)
ولكنهم شككوا. ففي عام 1768، وصف سير هورس والبول مور بأنه «مؤرخ قادر على توظيف الحقيقة فقط كمادة لاحمة في نسيج من الخيال.» فلا يمكن إنكار أنه كان مخطئا في حقائق معينة، منها وصفه لتشوهات ريتشارد. فلم يظهر الظهر المحدودب والذراع غير مكتملة النمو في أي مرجع معاصر آخر.
شكك أنصار ريتشارد كذلك في مصادر مور. فقد كان مور في الخامسة فقط من عمره حين اعتلى ريتشارد العرش، وفي السابعة حين توفي؛ لذا من الواضح أن كتاباته لم تكن عن مشاهدة شخصية. ولعل الكاردينال جون مورتون، الذي عاش مور صباه في منزله، كان أحد مصادره، وهو مصدر من الصعب أن نتخيل وجود مصدر آخر أكثر تحاملا منه؛ فقد تعرض مورتون للسجن والنفي على يد ريتشارد الثالث.
إلى جانب أن مور لم ينته من كتابه «تاريخ الملك ريتشارد الثالث» ولم ينشره، حسبما أشار أنصار ريتشارد؛ ولذا خمنوا أنه ربما يكون قد تخلى عن المشروع عندما علم الحقيقة بشأن ريتشارد وهنري.
والأهم من ذلك، فقد ذهب أنصار ريتشارد إلى أن رواية مور لم تكن منطقية؛ فلو كان المجلس الملكي قد حكم بالفعل بأن الأميرين أبناء زنا ومن ثم لا يمكنهما وراثة العرش، فلماذا اضطر ريتشارد لقتلهما؟ ولو أن هنري قد وجد أن الأميرين غير موجودين حين استولى على البرج في عام 1485، فلماذا لم تثر ثائرته بشأن ذلك، أو على الأقل يبحث عن الجثمانين؟
كل ذلك في نظر أنصار ريتشارد يشير إلى أن هنري هو المجرم؛ فذهبوا إلى أن دافعه كان في قوة دافع ريتشارد على الأقل. فباعتباره ابن عم بعيد إلى حد ما لكل من ريتشارد والأميرين، فقد كانت حجته في المطالبة بالعرش أضعف كثيرا من ريتشارد ... وميئوسا منها إلى حد كبير لو كان أي من الأميرين على قيد الحياة.
كان لكل هذه الأسئلة إجابات لدى أتباع المذهب التقليدي. فما من شك أن مجلس ريتشارد قد أعلن عدم شرعية الأميرين، ولكن ريتشارد كان يعلم أن هنري السابع يمكنه بنفس السهولة إقناع مجلسه بنقض القرار. وما داما على قيد الحياة، فبإمكان الأميرين دائما أن يكونا مصدر تهديد لعرشه وسببا لتجمع أعدائه.
أما بالنسبة إلى هنري، فقد كان هناك العديد من الأسباب التي تفسر احتمال عدم قيامه بأي شيء بشأن الأميرين بعد الاستيلاء على العرش. لعله لم يكن يعلم يقينا بما حدث لهما. وربما يكون قد اعتقد أن الجميع يلقون بالمسئولية في ذلك على ريتشارد. وربما خشي لو اعترف بأنه لا يعرف مكان الأميرين أن يؤدي ذلك إلى ثورات من أجلهما.
وهناك بالفعل ما يدعم هذا الخوف. ففي أثناء حكم هنري، توحدت القوى المناهضة للحكم التيودوري مرتين حول قائدين زعما أنهما الأميران. وقد اتضح أن «إدوارد» الذي قاد ثورة شعبية اندلعت عام 1487 هو لامبرت سيمنيل، ابن نجار بأكسفورد وصانع لآلات الأرغن. وفي عام 1491، زعم رجل أنه الأمير الأصغر ليتضح بعد ذلك أنه بركين وربك؛ فربما يكون قد اكتسب بعض المعلومات المفيدة من والده، الذي كان في وقت ما يكسب قوت يومه من توريد السجاد للبلاط الملكي.
وهكذا فإن الحجج المؤيدة والمعارضة لكل من ريتشارد وهنري قد تم تداولها على مدى قرون، وكان المقام الرفيع لكل من مور وشكسبير بشكل عام يعطي ثقلا للتقليديين، إلا أن ريتشارد قد حظي بدفاع قوي، منذ وقت مبكر يرجع إلى عام 1619، من سرد تاريخي تصحيحي للسير جورج باك. شيء واحد فقط هو ما بدا أكيدا: أن نفس الحقائق يمكن أن تؤدي إلى استنتاجات مختلفة.
بعد ذلك، وفي ثلاثينيات القرن العشرين، تبدلت الحقائق. •••
في عام 1933، خضع دير ويستمينستر أخيرا لضغوط من جانب أنصار ريتشارد لفتح المقبرة التي يفترض أن رفات الأميرين مدفون بها. وكان قد حدث في عام 1674، وبحسب تعليمات من تشارلز الثاني لإخلاء موقع بالقرب من البرج الأبيض، أن اكتشف عمال صندوقا يحتوي على هيكلين عظميين صغيرين. وعلى الفور أعاد الموقع للأذهان وصف مور لمكان الدفن، وخلص تشارلز إلى أن العظام كانت للأميرين. وأضافت قطعة من المخمل وجدت وسط العظام مصداقية واعتمادا للاستنتاج؛ إذ لم يكن أحد يرتدي المخمل سوى أفراد الطبقات العليا.
وأمر تشارلز بإعادة دفن الجثمانين في دير ويستمينستر، حيث ظلا هناك لمدة 259 عاما أخرى.
وقد كانت الدراسة التي أجريت عام 1933 على يد لورانس تانر، مسئول أرشيف ويستمينستر، وويليام رايت - رئيس الجمعية البريطانية للتشريح - قديمة للغاية على نحو لم يسمح بالتأريخ بالكربون، فضلا عن تقنية الحمض النووي. ولكن تانر ورايت استطاعا استخدام الأدلة الخاصة بالأسنان لتقدير أن الطفل الأكبر كان في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، والأصغر فيما بين التاسعة إلى الحادية عشرة. وقد كان إدوارد في الثانية عشرة وريتشارد في العاشرة حين اختفيا.
ولم يكن ذلك دليلا قاطعا على أن ريتشارد كان قاتلا، إلا أنه يعزز على الأقل جانبا من رواية التقليديين.
بعد ذلك بعام، ظهر دليل آخر، وهذه المرة في المكتبة المحلية بمدينة ليل ، وكان عبارة عن تقرير كتبه راهب إيطالي يدعى دومينيك مانشيني عام 1483. وعلى عكس مور، كان مانشيني في لندن خلال الشهور العصيبة التي تولى فيها ريتشارد مقاليد الحكم. وقد أوضح الراهب نيته مسبقا: «سأعرض كتابة المكائد التي حصل بها ريتشارد الثالث على العرش.»
وصف مانشيني كيف انتقل الأميران إلى الغرف الداخلية للبرج وكيف كان معدل ظهورهما يقل ويقل تدريجيا، إلى أن غابا عن الأنظار تماما. أما فيما يتعلق بالطريقة التي توفي بها الملك الشاب، فلم يذكر مانشيني سوى أنه «كان هناك بالفعل اعتقاد أنه قد تم التخلص منه.»
استفاد أنصار ريتشارد من حقيقة أن مانشيني لم يتهم ريتشارد بجريمة القتل بشكل صريح ومباشر. وأشاروا أيضا إلى أن ما ذكره ربما لم يكن سوى نميمة. ولكن يظل التقرير، على أقل تقدير، دليلا على أن الروايات بشأن قسوة ريتشارد لم تكن مجرد تلفيقات لمسئولي الدعاية اللاحقين في العهد التيودوري. حتى في زمنه، كان واضحا أن هناك الكثير من الناس كانوا يظنون أن ريتشارد قد قتل الأميرين.
لم تكن مكاشفات القرن العشرين كافية في نظر الغالبية العظمى من المؤرخين لإدانة ريتشارد. فقد كانت الأدلة جميعها عرضية، وقليل من المؤرخين هم من أنكروا على أنصار ريتشارد شكهم المنطقي. ولكن التاريخ ليس بساحة قضاء؛ فلا بد للمؤرخين أن يعكفوا على دراسة الاحتمالات، وليس الأمور الممكنة. لقد كان لدى آخرين دوافع للتخلص من الأميرين، ولكن أيا منها لم يكن قويا كدافع ريتشارد. كان لدى آخرين فرصة أيضا، وكذلك ريتشارد، ومن الصعب أن نتخيل شخصا آخر يتخلص من الأميرين دون أن يعلم ريتشارد شيئا عن ذلك.
ولكن إذا كان معظم المؤرخين قد خلصوا إلى أن ريتشارد مدان على الأرجح بجريمة القتل، فبإمكان أنصاره أن يجدوا بعض العزاء في إجماع رأي يقضي بأنه لم يكن بأي حال ذلك الوحش المنقطع النظير الذي صوره مور وشكسبير. لقد كان ريتشارد في قتله للأميرين يحذو حذو سوابق مماثلة راسخة؛ فقد اغتيل إدوارد الثاني بناء على أوامر زوجته، التي تولت زمام الحكم نيابة عن ابنها إدوارد الثالث، فيما ترك ريتشارد الثاني يتضور جوعا حتى الموت على يد هنري الرابع، وقتل هنري السادس بناء على أوامر إدوارد الرابع.
لقد استدعى ريتشارد إلى الأذهان كل هذه الاغتيالات. فلم تكن إنجلترا في العصور الوسطى قد عرفت ملكا مخلوعا، وأغلب الظن أن تلك كانت نظرة ريتشارد لابني أخيه؛ لذا فمن المرجح للغاية أن يكون «العنكبوت الأحدب» الذي وصفه شكسبير رجل عصره.
لمزيد من البحث
Dominic Mancini,
The Usurpation of Richard III (Oxford: Clarendon Press, 1969). Mancini may have filled his report with bias and gossip; nevertheless, he was there. Translated and with an introduction by C. A. J. Armstrong, who discovered the document .
Richard III (New York: W. W. Norton, 1965). Brings together the two most prominent early antagonists in the debate, with the full texts of More’s
History of King Richard III , first published in 1543, and Horace Walpole’s
Historic Doubts on the Life and Reign of King Richard the Third , first published in 1769 .
Lawrence Tanner and William Wright, “Recent Investigation Regarding the Fate of the Princes in the Tower,”
Archaeologia
84 (1935). If only they conducted a DNA test ...
Josephine Tey,
The Daughter of Time (New York: Macmillan, 1951). A 20th-century Scotland Yard inspector concludes that Richard was framed in a novel that’s a fine detective story but less convincing as history .
Richard the Third (New York: W. W. Norton, 1955). A readable and sympathetic biography that points the finger at the duke of Buckingham .
Elizabeth Peters,
The Murders of Richard III (New York: Warner Books, 1986). A moderately entertaining English country house mystery, originally published in 1974, in which a bunch of Ricardians dress up as their heroes, then find themselves living through-or rather, dying through- reenactments of his crimes .
Charles Ross,
Richard III (Berkeley: University of California Press, 1981). A comprehensive portrait of Richard’s life and his very bloody times .
Alison Weir,
The Princes in the Tower (New York: Ballantine Books, 1992). The most recent and one of the most persuasive cases against Richard .
Bertram Fields,
Royal Blood (New York: Regan Books, 1998). Fields, a Hollywood lawyer, would definitely have gotten his client off on the grounds that there’s reasonable doubt about his guilt, but he’s less convincing when he tries to prove Richard’s innocence .
الفصل الرابع عشر
هل كان كولومبوس يقصد اكتشاف أمريكا؟
على عكس الخرافة الشهيرة، لم يواجه كولومبوس أدنى صعوبة في إقناع ملك إسبانيا وملكتها - أو أي شخص آخر - بأن العالم مستدير. فقد كانت تلك معلومة شائعة بين المثقفين الأوروبيين قبل عام 1492 بزمن طويل. لقد كان رفض خطة كولومبوس يتعلق بفكرة مختلفة وأكثر راديكالية بكثير؛ أنه قد تمكن من اكتشاف طريق جديد إلى آسيا بالإبحار غربا من أوروبا.
كانت الحكمة السائدة تقول إنه لو كان يمكن الوصول إلى آسيا عبر البحر، لكان ذلك بالدوران حول أفريقيا والاتجاه شرقا عبر المحيط الهندي. ولما كانت آسيا تقع في الواقع شرق أوروبا، فإن هذه الخطة تعد منطقية تماما، وقد آتت ثمارها عام 1499 حين وصل المستكشف البرتغالي فاسكو دي جاما إلى الهند. في المقابل، لم تكن «مغامرة كولومبوس إلى جزر الهند» منطقية؛ فلو أن جزر الهند (مثلما سميت آسيا آنذاك) تقع في مكان ما عبر الأطلنطي، فقد كانت تلك رحلة طويلة للغاية بالنسبة إلى بحار من القرن الخامس عشر. وقد قدر عالم الجغرافيا الأكثر تعاطفا مع كولومبوس، باولو دل بوزو توسكانيلي، أن جزر الهند كانت تقع على بعد أكثر من 3500 ميل غرب جزر الكناري، وكان معظم الباحثين على قناعة بأنها كانت أبعد كثيرا.
ولكن كما يعلم الجميع، لم يكن كولومبوس ليعدل عن قناعته. فقد حسب أن 2760 ميلا فقط من المياه المفتوحة تفصل بين أوروبا وآسيا، وأقنع فرديناند وإيزابيلا - ملكي إسبانيا - بأن الأمر يستحق منهما تمويل رحلته البحرية. وعلى ذلك، أبحرت السفن نينا وبينتا وسانتا ماريا في سبتمبر عام 1492 من جزر الكناري. وبعد خمسة أسابيع فقط - في نفس البقعة التي تنبأ بأنه سيجد فيها أرضا - هبط كولومبوس على الشاطئ.
بالطبع كانت المفارقة التي شابت هبوط كولومبوس الناجح أنه لم يهبط بالقرب من آسيا بأي حال. وكان الرأي المتفق عليه بخصوص ذلك صائبا تماما: لقد كانت آسيا أبعد ب 6000 ميل غربا من جزر البهاما التي كان كولومبوس يقف على إحداها آنذاك. ولولا وجود قارتين وعدد هائل من الجزر الأخرى بين أوروبا وجزر الهند، لاختفى كولومبوس وطاقمه بشكل شبه مؤكد وسط البحار.
ولأكثر من أربعمائة عام، ظلت هذه القصة عن كولومبوس هي المتداولة على جانبي الأطلنطي، قصة مكتشف أمريكا البطل ذي العزيمة، وإن أخطأ خطأ جسيما. ولكن بدءا من مطلع القرن العشرين تقريبا، خضعت القصة لتدقيق واستقصاء شابه الشك بشكل متزايد.
راح كثير من المؤرخين يتساءلون: كيف يمكن أن يكون كولومبوس قد أخطأ إلى هذا الحد؟ وكيف تمكن من الاستمرار في الادعاء بأن الأراضي التي عثر عليها هي جزر الهند وأن شعبها هم «الهنود»، على الرغم من الأدلة الساحقة على أنها لم تكن الصين أو اليابان؟ خلص بعض المؤرخين إلى أن كولومبوس لم يكن يقصد مطلقا الذهاب إلى آسيا وأن «مغامرته في جزر الهند» كانت مجرد خدعة لتضليل المستكشفين الآخرين. كما يزعم المؤرخون أن هدف كولومبوس من البداية كان اكتشاف عالم جديد. •••
لا شك أن ما قاله كولومبوس للعالم هو أنه كان متجها صوب جزر الهند، وقد صدقه المؤرخون المعاصرون. وكان من أبرز هؤلاء بارتولومي دي لاس كاساس؛ فهو لم يكتب السجل التاريخي الأكثر شمولا لرحلات كولومبوس البحرية فحسب، بل أدرج فيه أيضا أجزاء من يوميات كولومبوس (علما بأن النسخ الأصلية قد فقدت). تبدو افتتاحية يوميات كولومبوس، كما سجلها لاس كاساس، وصفا مباشرا جدا لنوايا ومقاصد كولومبوس. فقد كتب المستكشف إلى فرديناند وإيزابيلا: «لقد قرر سموكما إرسالي، أنا كريستوفر كولومبوس، إلى أراضي الهند لمقابلة حكامها ومشاهدة البلدات والأراضي وتوزيعها، وغيرها من الأشياء الأخرى ... وأمرتماني بألا أتجه شرقا برا، كما هو معتاد، ولكن بأن أتخذ طريقي غربا؛ حيث لم يرتده إنسان قبل اليوم بحسب علمنا.»
كيف يمكن لأشهر بحار عبر العصور - والذي يقع بصره في هذه اللوحة لأول مرة على العالم الجديد - ألا يكون لديه فكرة عن ماهية ما ينظر إليه؟ (مكتبة الكونجرس.)
سجل كولومبوس في دفتر يومياته بتاريخ 21 أكتوبر، بعد أن هبط على ما وصفه بجزيرة نائية، أنه كان لا يزال مصمما على الوصول إلى البر الرئيسي الآسيوي كي يسلم ل «الخان الأعظم» - الإمبراطور الصيني - خطابات تعريف من فرديناند وإيزابيلا. وفي طريق عودته إلى إسبانيا، كتب كولومبوس إلى فرديناند وإيزابيلا أن الحصن الذي أنشأه سيكون ملائما «لكل أنواع التبادل التجاري مع أقرب بر رئيسي وكذلك مع ... الخان الأعظم.»
لم يكن يبدو أن أيا من ذلك سيترك مجالا للشك بشأن وجهة كولومبوس، أو الوجهة التي كان يعتقد أنه وصل إليها.
كان ثاني أهم مؤرخ معاصر هو فرديناند كولومبوس، نجل المستكشف، وكان على نفس القدر من التعنت بشأن الوجهة التي كان والده يقصدها. فلم يكتب فرديناند أول سيرة ذاتية لكولومبوس فحسب، بل أيضا احتفظ بكتب أبيه، التي كان من ضمنها ملاحظات هامشية لم تكن تقدر بثمن للمؤرخين في المستقبل. وتشير هذه الملاحظات إلى أن كولومبوس قد عرف بشأن آسيا عن طريق قراءة أعمال كتاب العصور الوسطى مثل ماركو بولو وجون ماندفيل. وفيما يبدو أيضا أنه قد استشار أرسطو وسينيكا، اللذين ناقش معهما إمكانية الإبحار غربا إلى جزر الهند. ويقدم كتابان من العصور الوسطى كانا في مكتبة كولومبوس - هما كتابا «صورة العالم» لبيير دايي، و«تاريخ العالم» للأب بيوس الثاني - تخمينات متعددة بشأن مدى ضيق المحيط، وكانت الفقرات المتعلقة بذلك موضوعا تحتها خطوط، ربما من قبل كولومبوس نفسه.
ضمت ترجمة فرديناند لسيرة أبيه الذاتية أيضا نسخا من المراسلات بين أبيه وبين توسكانيلي، الجغرافي الإيطالي الذي زودت تقديراته للمسافة بين أوروبا وآسيا كولومبوس بدعم إضافي لنظريته. وقد كتب فرديناند أن خطاب توسكانيلي «قد ملأ الأميرال بحماس أعظم تجاه الاكتشاف.» والأمر الأكثر إثارة، كما كتب لاس كاساس ، أنه قد «شحذ قريحة كولومبوس.»
ولكن على الرغم من أن لاس كاساس وفرديناند كولومبوس لم يكن لديهما أي شكوك بشأن وجهة كولومبوس المقصودة، فقد أدرج كلاهما قصة ألقت ضوءا مختلفا تماما على «مغامرة» كولومبوس. كان أول ظهور للقصة في شكل مطبوع في عام 1539، في تاريخ جونثالو فيرنانديث دي أوبييدو عن اكتشاف أمريكا. وبحسب رواية أوبييدو لها، أبحرت سفينة في طريقها من البرتغال إلى إنجلترا وسط طقس سيئ وجرفت بعيدا نحو الغرب، لتصل في النهاية إلى بعض الجزر المأهولة بأناس عراة. وأثناء رحلة العودة، مات الجميع عدا القبطان. وجرفته الأمواج إلى شاطئ جزيرة ماديرا، حيث كان كولومبوس يعيش أحيانا خلال مطلع ثمانينيات القرن الخامس عشر. وسرعان ما توفي القبطان أيضا، ولكن قبيل وفاته مباشرة كان قد رسم خريطة تبين أين كان وأعطاها لكولومبوس.
إذا كانت قصة «القبطان المجهول» حقيقية، فإن كولومبوس إذن لم يبحر إلى المجهول العظيم مدعوما فقط بنظرية غير موثقة. فإذا كان لديه خريطة، فقد كان لديه فكرة جيدة إلى حد ما عن وجهته؛ وسبب مقنع للغاية للتشكك في أنها لم تكن جزر الهند. ولكن أوبييدو، أول من روى القصة، استنتج أنها على الأرجح لم تكن حقيقية، ولم يصدقها فرديناند كولومبوس كذلك. أما لاس كاساس، فكان أكثر سذاجة وسرعة في تصديقها نوعا ما، بالنظر إلى أن القصة كانت متداولة على نطاق واسع، ولكن ذلك بالتأكيد لم يزعزع اعتقاده بأن كولومبوس كان يبحث عن جزر الهند. وقد اتبع المؤرخون اللاحقون خطاهما بإنكارهم للقصة، إن ذكروها من الأساس.
وما كان مطلع القرن العشرين حتى وجد القبطان المجهول نصيره. •••
كانت أطروحة هنري فيجنود المذهلة، التي عرضت بجرأة في عدد من الكتب التي نشرت في أوائل القرن العشرين، تتمثل في أن كولومبوس لم يكن ينوي الذهاب إلى جزر الهند مطلقا، وأن القبطان المجهول أخبر كولومبوس بشأن أمريكا، فأراد تلك الأراضي لنفسه. ومن منطلق معرفته الشديدة بأن جزر الهند كانت بعيدة عن متناوله، اخترع قصة «مغامرته» لمجرد ضمان ألا يسبقه أحد إلى أمريكا. وما إن ترسخت خرافة كولومبوس، بحسب زعم فيجنود، لم يجرؤ المؤرخون على تحديها؛ خوفا من أن «تختزل المهمة العظيمة التي نظمها، كما أكد كولومبوس، من أجل تنفيذ فكرة علمية ... إلى أبعاد رحلة استكشافية عادية.»
بعبارة أخرى، كان كولومبوس كاذبا؛ ولم يكن القبطان المجهول - وفقا لفيجنود وأتباعه - هو الشيء الوحيد الذي كذب بشأنه.
كانت اليوميات مزيفة، أو على الأقل أعيدت صياغتها وزورت بما يكفي (إما على يد كولومبوس أو لاس كاساس) لإخفاء الدافع الحقيقي لكولومبوس. وكذلك زورت مراسلات توسكانيلي (إما من قبل كولومبوس أو نجله)؛ ففي النهاية، كان الدليل الوحيد على رسائلهما أحدهما للآخر في ترجمة فرديناند، وهي ترجمة معتمدة إن كانت موجودة من الأساس.
كذلك أبرز المشككون أمثال فيجنود بعض الوثائق الخاصة بهم، التي كانت حتى هذا الوقت متجاهلة أو على الأقل منحاة جانبا. وكان أهم هذه الوثائق العقد المبرم بين كولومبوس والملك والملكة الإسبانيين، والمعروف باسم «الامتيازات». تطرقت اتفاقية الامتيازات إلى قدر كبير من التفاصيل بشأن نصيب كولومبوس من أرباح رحلته، ولكنها لم تورد ذكرا لجزر الهند مطلقا. والأكثر إثارة للريبة أن الامتيازات قد مكنت كولومبوس من «اكتشاف» أية جزر يعثر عليها «والاستحواذ عليها»، وهي عبارة لم يكن إمبراطور الصين ليقدرها بالتأكيد. والواقع أنه من الصعب تخيل الإمبراطور يسلم أية جزيرة لثلاث سفن إسبانية مسلحة تسليحا خفيفا. وكان فيجنود يعتقد أن الأمر الأكثر ترجيحا هو أن كولومبوس «وفرديناند وإيزابيلا» كانوا يخططون لاكتشاف منطقة ما جديدة، ومجهولة للأوروبيين، والاستحواذ عليها.
وانتفض التقليديون للدفاع عن كولومبوس. فتحت قيادة صامويل إليوت موريسون، الذي كانت سمعته كبحار إضافة هائلة لمصداقيته كمؤرخ، رد التقليديون بأنه على الرغم من أن اتفاقية الامتيازات لم تذكر جزر الهند صراحة، فإن الإشارات إلى نصيب كولومبوس من اللآلئ والأحجار الكريمة والتوابل - أي كل منتجات آسيا - تشير بوضوح إلى أنها كانت وجهته.
أما فيما يتعلق بقصة القبطان المجهول، فقد سخر موريسون من البحارة القليلي الخبرة الذين صدقوها تماما. وهنا ظهرت فائدة خبرة المؤرخ في الإبحار؛ فقد ذهب إلى أن القصة مستحيلة من حيث الطقس؛ إذ إن الرياح السائدة لم تكن لتدفع سفينة عبر الأطلنطي من الشرق إلى الغرب.
وأقر موريسون بأنه من المؤكد أن كولومبوس ربما يكون قد سمع حكايات عن جزر تقع غربا، وعن حطام السفن الغريب الذي انجرف إلى الشاطئ على جزر تقع تحت السيطرة البرتغالية. ومن الوارد أن يكون المستكشف قد تأثر ببعض قصص البحر التي سمعها. ولكن لم يكن هناك خريطة سرية أو قبطان مجهول؛ وفي ذلك كتب موريسون أن قصة أوبييدو لم تظهر شيئا أكثر من «النزعة المؤسفة لسلب مجد العظماء.» •••
كانت سمعة موريسون ومعرفته بمنزلة ضمان لعدم إسقاط كولومبوس من على عرشه. ولكن فيجنود وأتباعه نجحوا بالفعل في إثارة قدر كبير من الريبة والشك بشأن القصة التقليدية، لا سيما أنها كانت تتعلق برحلات كولومبوس اللاحقة.
كانت رحلة كولومبوس الاستكشافية هي الأولى فقط من بين أربع رحلات قام بها للعالم الجديد؛ فقد عاد في عام 1493، ثم عاد مجددا في عامي 1498 و1502. ويؤكد أتباع فيجنود أنه لا بد أن يكون قد لاحظ في مكان ما في الطريق أن الجزر التي عثر عليها لا تشترك في الكثير من العناصر مع أي شيء مما وصفه ماركو بولو وجون ماندفيل. أين كانت تقع إمبراطوريتا الصين واليابان العظيمتان؟ أين كانت الشوارع الرخامية والأسقف المبنية من الذهب؟ فلم يكن هناك سوى قرى بدائية.
لعل رحلته الثالثة هي التي شهدت اقترابه لأقصى حد من إدراك الحقيقة. ففي يوليو من عام 1498، وصل لما يعرف الآن بشبه جزيرة باريا بفنزويلا، وبدأ الشك يتسرب إليه في أن هذه الجزيرة أكثر من مجرد جزيرة على ساحل الصين. فتطلع إلى الدلتا العريضة لنهر أورينوكو واستنتج على نحو صائب أن مثل هذا القدر الهائل من الماء العذب يمكن أن يأتي فقط من بر رئيسي ذي حجم مهول. وكتب كولومبوس في يومياته، كما دونها لاس كاساس: «أعتقد أن هذه قارة ضخمة لم تعرف حتى اليوم.»
ولكن بعد هذه اللحظة القصيرة من الوضوح، قفز كولومبوس إلى استنتاج أكثر استحالة بكثير من «مغامرة جزر الهند» الأصلية. فقد قرر أن القارة الجديدة لا بد أنها «الفردوس الأرضي»؛ جنة عدن الأسطورية. وكان خطابه التالي إلى فرديناند وإيزابيلا مزيجا غريبا من اللاهوت والجغرافيا؛ إذ أوضح قائلا: «لدي قناعة تامة في ذهني بأن الفردوس الأرضي يقع في المكان الذي ذكرته»؛ لأنه «فوق خط الاستواء مباشرة، وهو المكان الذي طالما ذهبت أفضل المراجع إلى وجود الفردوس به.»
ثم ورد مفهوم أكثر غرابة؛ فقد أوضح كولومبوس أن الأرض ليست مستديرة، ولكنها «تتخذ شكل ثمرة الكمثرى، التي تتخذ شكلا مستديرا للغاية في مجملها عدا عند العنق؛ حيث تكون ناتئة ... ويعد هذا الجزء عند العنق هو الأعلى والأقرب للسماء.» وهذه النقطة الأقرب للسماء هي التي وجد عندها كولومبوس جنة عدن.
هل فقد كولومبوس صوابه؟ ربما؛ فقد كان يرزح تحت ضغط كبير، وكان مريضا في ذلك الوقت. ولكن الأرجح في رأي معظم المؤرخين أن «فردوسه الأرضي» قد انبثق من قناعة كان يحملها بداخله منذ زمن طويل بأن رحلاته كانت بوحي إلهي. علاوة على ذلك، كان اعتقاد كولومبوس بأنه قد وجد الفردوس لا يتعارض بأي حال مع ادعائه بأنه في طريقه إلى آسيا. فكما كتب للملكين الإسبانيين، كان الفردوس في المكان الذي قالت المراجع إنها يقع فيه بالضبط؛ والواقع أن العديد من كتاب العصور الوسطى المسيحيين الذين استشهد بهم في كتاب «صورة العالم» - أحد أكثر الكتب المطلع عليها في مكتبة كولومبوس - قد حددوا مكان جنة عدن عند أبعد نقطة من الشرق الأقصى.
وعلى أي حال، فقد تخلى كولومبوس عن فكرة الفردوس الأرضي فيما بعد. ففي عام 1502، في أثناء رحلته البحرية الرابعة والأخيرة للعالم الجديد، أعلن أنه كان بصدد البحث عن مضيق يستطيع من خلاله اجتياز هذه القارة الجديدة للوصول إلى آسيا.
وقد شدد معظم المؤرخين، الذين كانوا لا يزالون يحذون حذو لاس كاساس وفرديناند كولومبوس وموريسون، على أن كولومبوس لم يدرك قط مدى اتساع هذه القارة الجديدة، بل لم يعتبرها مطلقا قارة حقيقية؛ بل إنه قد استقر في ذهنه أنها امتداد لشبه جزيرة الملايو. لقد كانت بالتأكيد أكبر مما توقع، ولكن آسيا تقع وراءها مباشرة، فقط لو كان قد تمكن من إيجاد طريق للمرور عبرها أو من حولها.
وأغلب الظن أن كولومبوس توفي وهو على اعتقاد بأنه قد وصل إلى جزر الهند. وإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن كولومبوس كان على قدر غير عادي من العناد والعزم؛ وإلا فمن المستحيل أن يكون قد تجاهل الأدلة التي توصل إليها في رحلاته الأخيرة؛ أو حتى رحلته الأولى. إذن كان الأمر يتطلب رجلا على قدر غير عادي من العناد والعزيمة لإقناع فرديناند وإيزابيلا بتمويل رحلته البحرية، والإبحار عبر المجهول.
لمزيد من البحث
John Cummins,
The Voyage of Christopher Columbus (New York: St. Martin’s Press, 1992). The most recent translation of Columbus’s journal is especially interesting because it incorporates the sections recorded by Ferdinand Columbus as well as those preserved by Las Casas .
Ferdinand Columbus,
The Life of The Admiral Christopher Columbus by his Son Ferdinand,
trans. Benjamin Keen (New Brunswick, N.J.: Rutgers University Press, 1959). Ferdinand, known as a somewhat bookish man, had a tendency to overemphasize the scholarly basis of his father’s Enterprise of the Indies, sometimes at the expense of his father’s more businesslike qualities. But he’s still a remarkable biographer as well as son. The book was first published in 1571, thirty-one years after Ferdinand’s death .
Henry Vignaud,
The Columbian Tradition on the Discovery of America (Oxford: Clarenden Press, 1920). Columbus was a fraud, and historians were his dupes.
Samuel Eliot Morison,
Admiral. of the Ocean Sea (Boston: Little, Brown, 1942). Still the definitive biography .
Samuel Eliot Morison,
The Great Explorers (New York: Oxford University Press, 1978). The section on Columbus includes a summary of the traditional view on Columbus’s intended destination. While you’re at it, read the rest of the book; there was no better historian of the sea than Morison .
Kirkpatrick Sale,
The Conquest of
(New York: Alfred A. Knopf, 1990). Sale offers one of the latest (and best) presentations of the Vignaud position as part of a more general attack on Columbus, in which he blames the explorer for just about everything that went wrong with America, from enslaving blacks and Indians to destroying the environment. Not always convincing, but always lively and provocative .
John Noble Wilford,
The Mysterious History of Columbus (New York: Alfred A. Knopf, 1991). An absorbing survey of the ways historians from Columbus’s time on have mythologized, debunked, and otherwise interpreted the man and his journeys .
Valerie I. J. Flint,
The Imaginative Landscape of Christopher Columbus (Princeton, N. J.: Princeton University Press, 1992). A fascinating, though somewhat academic, interpretation of the medieval sources of Columbus’s view of the world; here is, Flint writes, “not the New World Columbus found, but the Old World which he carried with him in his head.”
William D. Phillips Jr. and Carla Rahn Phillips,
The Worlds of Christopher Columbus (Cambridge, Eng.: Cambridge University Press, 1992). A balanced history of the explorer’s life and times, especially strong on his time in Spain .
Miles H. Davidson,
Columbus Then and Now (Norman: University of Oklahoma Press, 1997). A provocative but poorly organized critique of Columbus biographies .
الفصل الخامس عشر
هل عاد مارتن جير؟
تبدأ قصة مارتن جير بشكل عام بزواجه في عام 1538 من برتراند دي رول؛ وكان الهدف من هذا الزواج هو عقد رابطة بين آل جير وآل رول - وهما عائلتان ريفيتان موسرتان في قرية أرتيجا في جنوب غرب فرنسا - ولكن الزواج بدأ بداية عصيبة.
أغلب الظن أن المشكلة كانت تكمن في عمري العروس والعريس، على الرغم من أن كلتا العائلتين ألقتا باللوم على أعمال السحر والشعوذة؛ فقد كانت برتراند لم تتجاوز التاسعة أو العاشرة، في حين كان مارتن في الرابعة عشرة. وقد استغرق الأمر ثمانية أعوام لإتمام الزواج، وهو تأخير كان مهينا لمارتن بلا شك. وما أهانه بالمثل أيضا اندلاع مشاجرة عائلية ضخمة - عام 1548 - اتهمه خلالها والده بسرقة بعض الغلال. وبعد ذلك بفترة وجيزة، هجر الشاب زوجته واختفى بلا أثر.
بعدها بثمانية أعوام، بعد وفاة والديه، عاد مارتن جير إلى أرتيجا، وأوضح أنه عبر جبال البرانس، والتحق بالجيش الإسباني، وحارب في هولندا. وعلى ما يبدو أن التجربة قد غيرته: فقد صار شخصا أكثر ثقة بنفسه، وتأقلم بسهولة مع دوره الجديد كرب للعائلة، وصار زوجا أكثر رقة وحبا. وكانت عودته مثار سعادة وبهجة لعائلته وزوجته.
بعد ذلك، وفي أواخر عام 1558، طالب مارتن عمه - بيير جير - بنصيبه من أرباح مزرعة العائلة أثناء غيابه. ولم يرق ذلك لبيير؛ فراح يشير في غضب إلى أنه على مدار ثمانية الأعوام التي غاب خلالها مارتن، لم يكن يدير المزرعة فحسب، بل قام أيضا برعاية زوجة ابن أخيه وابنه. وتزايدت شكوك بيير في الابن الضال في العام التالي، حين قال جنديان كانا يمران عبر القرية إنهما خدما مع مارتن جير في الجيش وإنه فقد إحدى ساقيه خلال الحرب. ولكن مارتن الذي كان موجودا في أرتيجا كان بساقيه.
فأضحى بيير حينئذ على قناعة بأن غريمه ليس جشعا فحسب، بل محتالا أيضا. وأدى النزاع بينهما إلى سلسلة من المحاكمات وصلت إلى ذروتها في جلسة استئناف أمام محكمة تولوز في عام 1560. وقد ألف أحد القضاة هناك، ويدعى جون دي كورا، كتابا عن تلك القضية يظل المصدر الأساسي لمعظم ما يعرفه المؤرخون عنها.
كانت إجراءات التقاضي تسير على نحو غريب. فقد استدعي معظم سكان أرتيجا وكثيرون من القرى المحيطة للشهادة. وكان من بين من شهدوا ضد المدعى عليه بيير، وأبناؤه، ووالدة برتراند (التي كانت قد تزوجت من بيير آنذاك)، وإسكافي القرية (الذي صرح بأن قدمي مارتن «الجديد» كانتا أصغر بشكل لا يمكن تفسيره من قدمي مارتن «القديم»). وكانت من بين الشهادات التي أضرت به ضررا كبيرا شهادة عدد من سكان بلدة لوبا القريبة؛ فقد تعرفوا على المدعى عليه بوصفه أحد أبناء بلدتهم فيما سبق، وهو شخص وضيع ووغد يدعى أرنو دو تيل، وكان مشهورا باسم بانسيت.
كان هناك أيضا الكثير من الشهادات التي جاءت في صالح المدعى عليه. فقالت شقيقات مارتن الأربع إن الرجل الماثل أمام المحكمة هو شقيقهم بلا أدنى شك. وأجاب المدعى عليه نفسه عن كل الأسئلة الموجهة إليه بثقة، مسترجعا أحداثا من طفولته وصباه بشكل مفصل. وكان الأهم من كل ذلك شهادة برتراند - على الرغم من أنها قد شاركت بيير في التوقيع على الشكوى التي أدت إلى المحاكمة - إذ رفضت وقتذاك أن تقسم بأن المتهم ليس زوجها.
ووقع القضاة، بمن فيهم كورا، في حيرة من أمرهم، ولكنهم تنبهوا إلى أن النزاع المالي بين بيير والمدعى عليه قد خلق دافعا قويا لتلفيق العم اتهاما كاذبا. كما تأثروا باسترجاع المدعى عليه الذكريات على نحو بارع وبحقيقة أن برتراند - أكثر من كانت تعرفه - قد تراجعت عن اتهامها. وكتب كورا أن القضاة كانوا «أكثر ميلا ليقفوا في صف السجين ضد المدعو بيير جير.»
ثم جاء حل لعقدة القصة كان سيترك جون جريشام يهز رأسه في عدم تصديق. فبينما كان القضاة على وشك إعلان قرارهم، إذا برجل له ساق خشبية يدخل قاعة المحكمة ويقول إنه مارتن جير.
اعترض المدعى عليه بشدة، وزعم أن بيير قد رشا أحدهم بالضرورة كي يلعب هذا الدور، وراح يمطر الوافد الجديد بالأسئلة، بدا الشاهد أقل معرفة ببعضها من المدعى عليه. ولكن حجة المدعى عليه راحت تنهار أمام ناظريه؛ إذ هجرته شقيقات مارتن ورحن يعانقن الوافد الجديد، ثم استدعيت برتراند إلى قاعة المحكمة، وبعد نظرة واحدة، بدأت في الارتعاد والبكاء، وهرعت نحو الوافد الجديد تعانقه وتتوسل إليه أن يغفر لها انخداعها في هذا المحتال.
لم يعد لدى كورا وزملائه القضاة أي شك؛ فقد أدين أرنو دو تيل، الشهير ببانسيت، «بالتدليس وانتحال اسم الغير وصفته»، وأدين كذلك بالزنا وحكم عليه بالإعدام شنقا. وتم تنفيذ الحكم في أرتيجا بتاريخ 16 سبتمبر عام 1560.
وقبيل موته مباشرة، اعترف أرنو دو تيل، فقال إن فكرة الجريمة قد واتته لأول مرة حين خلط بعض معارف مارتن الحقيقي بينه وبين نفسه، وإنه بعد ذلك عرف أقصى ما استطاع من المعلومات عنه. وما إن تقبلته برتراند، استطاع أن يعرف المزيد منها، وإن كانت لم تدرك تماما ما كان يفعله.
وعلى الرغم من ذلك تبقى الأسئلة قائمة. كيف استطاع أرنو أن يخدع قرية بأسرها، بما في ذلك زوجة مارتن وعائلته؟ هل كانت برتراند مخدوعة تماما كما زعمت؟ وما الدافع وراء عودة مارتن في الوقت المناسب، بينما بدت قضية بيير خاسرة؟ •••
كان تفسير كورا للسؤالين الأولين أن أرنو كان محتالا موهوبا على نحو رائع، وتوضح روايته لتفاصيل المحاكمة إعجابا يشوبه الاستياء بشرير هذه القصة. فكتب القاضي: «لقد كانت بحق مأساة لهذا الريفي البارع؛ بل أكثر من مأساة لأن النتيجة كانت مدمرة؛ بالأحرى قاتلة.» كان من السهل كذلك تفسير سذاجة برتراند وغفلتها، بالنظر إلى «ضعف بنات جنسها اللاتي يخدعن بسهولة بدهاء الرجال ومكرهم.» علاوة على ذلك، وبحسب اعتقاد كورا، فقد كانت ستنحي جانبا أي شكوك بداخلها؛ بسبب إخلاصها للرجل الذي اعتقدت أنه زوجها، وربما بسبب امتنانها لعودته.
مشهد من قاعة المحكمة لمحاكمة مارتن جير، وهو شخص ريفي عاش في القرن السادس عشر وأثارت قصته تساؤلات أكثر من أي أمير عاش في تلك الفترة. (بتصريح من قسم المجموعات الخاصة، مكتبة كلية هارفرد للحقوق.)
أما بالنسبة إلى ظهور الرجل ذي الساق الواحدة في الوقت المناسب، فقد اعترف كورا أن الأمر بدا أشبه بمعجزة. وخلص إلى أن ذلك كان من تدبير الله.
نالت رواية كورا للأحداث رضا قرائه من القرن السادس عشر، وكثير ما هم. فقد أعيدت طباعة كتابه «قرار لا ينسى» خمس مرات خلال السنوات الست التي أعقبت نشره، وظهرت طبعات أخرى عديدة باللغتين الفرنسية واللاتينية في وقت لاحق من نفس القرن. كذلك نشرت رواية للأحداث سردها محام شاب يدعى جيوم لوسيور في عام 1561 وقدمت سردا مماثلا للقضية على نحو واسع.
غير أن معلقا معاصرا واحدا على الأقل قد أبدى بعض الشكوك بشأن ما إذا كان كورا قد اكتشف القصة الكاملة أم لا. كان هذا هو كاتب المقالات المعروف ميشيل دي مونتين، الذي أشار إلى أنه كان الأجدر بكورا أن يحذو حذو الأثينيين القدماء، الذين عندما كانوا يجدون صعوبة خاصة في قضية ما، كانوا يطلبون من أطرافها العودة خلال مائة عام. بعبارة أخرى، كان مونتين يرى أن حكم الإعدام قاس، بالنظر إلى الأسئلة التي لم تجد إجابة.
ولكن ظلت رواية كورا، لا رواية مونتين، هي الرواية السائدة لأكثر من أربعمائة عام. بعد ذلك، وفي ثمانينيات القرن العشرين، قام صانع أفلام فرنسي ومؤرخ إنجليزي بقلب الرواية التقليدية رأسا على عقب. •••
كانت ناتالي زيمون ديفيس، مؤلفة كتاب «عودة مارتن جير» الصادر عام 1983، تعمل أيضا مستشارة لكاتبي السيناريو، جون كلود كاريير ودانيال فينياه، في الفيلم السينمائي الذي أنتج عام 1982 عن نفس القصة . وفي كل من الفيلم والكتاب، تحولت برتراند تحولا دراميا. فلم تعد ضحية احتيال أرنو، بل صارت شريكة حياته الناضجة. إنها الآن أقرب لبطلة من زمن ما قبل المساواة؛ امرأة وصفتها ديفيس بأنها تتسم ب «استقلالية عنيدة، وواقعية ثاقبة بشأن كيفية محاولتها تحقيق هدفها في ظل القيود المفروضة على واحدة من جنسها.»
كانت برتراند، في نسخة ديفيس، تعلم من البداية أن أرنو محتال، ولكنها رأت فيه الفرصة للهروب من دورها الذي يشوبه عدم الاستقرار وعدم الراحة كامرأة مهجورة، لا هي بزوجة ولا هي بأرملة. ولما تبين لها أن أرنو رجل أكثر رقة وحبيب أفضل من مارتن، جعله هذا بمنزلة «حلم تحقق، ورجلا تستطيع الحياة معه في سلام وصداقة ... وحب.» ولذلك زودت أرنو بكل ما احتاج لمعرفته من تفاصيل عن حياة مارتن، وتأكدت من أن كل من في القرية يعرفون أن هذا الرجل هو زوجها بلا أدنى شك.
غير أنه بمجرد أن انقلب بيير على أرنو، عاد موقف برتراند مرة أخرى في خطر؛ ومن ثم لجأت إلى خطة ماهرة؛ إذ تظاهرت بالانحياز إلى بيير وذلك بالانضمام إليه في التوقيع على الشكوى المقدمة ضد أرنو. وبهذه الطريقة، في حال فوز بيير، ستتجنب سخطه وغضبه. وفي الوقت نفسه، كانت تحاول - بشكل غير ملحوظ، حتى لا يعرف بيير - أن تقوض حجته في المحكمة برفض القسم على أن المدعى عليه ليس زوجها. ربما يكون بيير، شأنه شأن كورا، قد عزا هذا التحوط من جانبها إلى ضعف المرأة، ولكنها في الواقع كانت تمثيلية محسوبة وعبقرية.
والحق أنه لولا ظهور مارتن الحقيقي في غير وقته، لربما نجحت خطة برتراند، واستطاعت هي وأرنو أن يعيشا في سعادة للأبد. وهكذا، أدركت أن عودة مارتن جير الحقيقي قد حكمت بالهلاك على أرنو؛ لذا سرعان ما هجرت حبيبها وعانقت زوجها.
كان الشيء الأبرز بشأن قلب ديفيس للرواية التقليدية أنها لم تعتمد على اكتشاف تفاصيل جديدة للمحاكمة تناقض ما قصه كورا. وعلى الرغم من أن ديفيس اعتمدت على سجلات أخرى عديدة من سجلات المحكمة، فقد كانت روايتها قائمة إلى حد كبير على إعادة قراءة متأنية لكتاب كورا.
وجدت ديفيس في كتاب كورا تناقضا عميقا بشأن الحجة التي تغاضى عنها المعلقون السابقون، والتي ربما يكون كورا نفسه قد حاول قمعها. على سبيل المثال، في معرض تفسيره لأسباب تبرئة برتراند من أي تآمر مع أرنو، شدد كورا على الحاجة لعدم التفريق بين زوج وزوجة. فكتب يقول: «في المواقف التي تكتنفها الشكوك، يقضي القانون بأن القرينة التي تصب في صالح الزواج تغلب على أي قرينة أخرى.» ويبدو ذلك في وقعه أقرب للإعفاء أو الغفران من كونه إعلانا مدويا يقضي ببراءة برتراند.
أشارت ديفيس كذلك إلى أن مارتن جير الحقيقي - الرجل ذا الساق الخشبية - كانت تراوده شكوك بالغة بشأن براءة زوجته. وأمام توسلات برتراند له بأن يغفر لها انخداعها بحيلة أرنو، ظل جير (ولا يزال ذلك بحسب كورا) «قاسيا وشرسا». فدون حتى أن يعبأ بالنظر إلى زوجته، أجاب قائلا: «لا تجدي لنفسك العذر متحججة بأخواتي أو عمي؛ فلا يوجد أب، أو أم، أو عم، أو أخت، أو أخ ينبغي أن يعرفوا الابن، أو ابن الأخ، أو الأخ أكثر مما ينبغي للزوجة أن تعرف زوجها. ولا أحد يتحمل وزر الكارثة التي حلت بمنزلنا سواك.»
كانت ديفيس تعتقد أن وراء تناقض كورا بشأن أرنو وبرتراند شكوكا دينية. فقد كانت البروتستانتية منتشرة عبر جميع أنحاء جنوب غرب فرنسا، وعلى الرغم من أن سكان قرية أرتيجا قد ظلوا كاثوليكيين، فقد انجذبت برتراند لمبدأ الدين الجديد الذي يقضي بأن الزوجة التي هجرها زوجها لها الحرية في أن تتزوج ثانية بعد عام. بالطبع لم يكن هذا هو موقفها في المحاكمة؛ حيث ادعت أن أرنو هو زوجها مارتن. ولكن في الخفاء، ربما تكون هي وأرنو قد اعتمدا على أفكار بروتستانتية لتبرير أفعالهما.
كان كورا أيضا، رغم أنه كاثوليكي اسما فقط، متعاطفا بالتأكيد مع البروتستانتية، وكانت ديفيس تعتقد أن ذلك قد لعب دورا في نزوعه الأولي لتبرئة برتراند، على الرغم من الشكوك الكبيرة التي بدأت تساوره. وقد أصبحت ميول كورا البروتستانتية فيما بعد أكثر علانية؛ حتى إنه في أكتوبر من عام 1572، وأمام نفس المحكمة في تولوز حيث حكم على أرنو دو تيل بالموت، حكم على كورا نفسه بالإعدام بتهمة الهرطقة. •••
لم تلق رواية ديفيس قبولا على المستوى العام؛ إذ اعتقد المؤرخون أنها كانت تستنتج من نص كورا ما لم يكن موجودا به، وأن كتابها كان قصة رومانسية تاريخية أكثر منه كتابا في التاريخ. وانتقد البعض كلا من الرواية التقليدية ورواية ديفيس لتقبلهما فكرة أن الرجل ذا الساق الخشبية هو مارتن جير الحقيقي بسهولة مبالغ فيها. فمثلما فعل أرنو أمام المحكمة، ذهب هؤلاء إلى أن بيير ربما يكون قد استطاع العثور على رجل بساق واحدة، ودفع له للظهور في اللحظة المناسبة.
ولكن بشكل عام، تقبل معظم الباحثين ما قدمته ديفيس من إعادة تأويل. فقال أحد أبرز مؤرخي تلك الفترة، وهو إيمانويل لو روي لادوري، إن كتاب «عودة مارتن جير» كان كتابا رائعا، بل وفيلما سينمائيا أفضل. حتى روبرت فينلي - الذي يعد واحدا من أشرس ناقدي ديفيس - أشاد بكتابها بأنه «مبتدع بأسلوب أسطوري، وبليغ الحجة، وجذاب في حد ذاته.»
ولعل من أكثر الجوانب الجذابة في كتاب ديفيس أنها نفسها تقر بأن تأويلها خاضع للشك؛ فالواقع أن كتابها يعد - إلى حد كبير - تأملا في الصعوبات التي تواجه المؤرخين في محاولة تحديد ما هو حقيقي وما ليس حقيقيا. وتتضاعف تلك الشكوك بقضية مثل قضية مارتن جير؛ حيث قد يكون لدى أرنو وبرتراند - حتى لدى كورا نفسه - أسباب وجيهة للغاية لإخفاء الحقيقة.
ومن الممكن ببساطة أن تسري الكلمات الأخيرة لكتاب ديفيس على معظم المؤرخين الآخرين الذين تم تناولهم في هذا الكتاب. فقد كتبت تقول: «أعتقد أنني قد كشفت النقاب عن الوجه الحقيقي للماضي، أم إن بانسيت قد فعلها ثانية؟»
لمزيد من البحث
Jean de Coras, “A Memorable decision of the High Court of Toulouse, containing the prodigious story of our time of a supposed husband, enriched by one hundred and eleven fine and learned annotations ...”
An English translation by Jeannette K. Ringold appears in
Triquarterly
55 (Fall 1982). The original was published in 1561 .
Michel de Montaigne, “Of Cripples,” in
The Complete Essays of Montaigne , trans. from the French by Donald M. Frame (Stanford, Calif.: Stanford University Press, 1965). Montaigne’s comments on the Guerre case appear, fittingly, in an essay on our limited ability to discern the truth. The essay was originally published in 1588 .
Janet Lewis,
The wife of Martin Guerre (San Francisco: Colt Press, 1941). Lewis’s quaint novel has little in common with Davis’s historical account, except that it portrays an independent-minded woman .
Natalie Zemon Davis,
The Return of Martin Guerre (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1983). Who would have thought that a scholarly study of sixteenth-century peasant life could also be a tragic love story?
Robert Finlay, “The Refashioning of Martin Guerre,”
American Historical Review
93, no. 3. In Finlay’s view, Davis has perpetrated a fraud almost as ingenious as Arnaud’s. “The virtues of
The Return of Martin Guerre
are clear,” he writes. “Unfortunately, none of the central points of the book-the knowing Bertrande, the devious court strategy, the tragic romance, the Protestant justification, the self-fashioning peasants, the conflicted judge, the 'multivalent’ text-depend on the documentary record.”
Natalie Zemon Davis, “On the Lame,”
American Historical Review
93, no. 3. Davis’s response to Finlay .
Anthony Guneratne, “Cinehistory and the Puzzling Case of Martin Guerre,”
Film & History
20, no. 4. Guneratne suggests that
their falling out, Pierre may have found another impostor to stage the last-minute courtroom drama .
الفصل السادس عشر
هل قتلت ملكة اسكتلندا زوجها؟
لا بد أنه كان من السهل على ماري ستيوارت أن تجد زوجا مناسبا.
فقد كانت شابة (في الثانية والعشرين من عمرها)، وجميلة (كتب عنها سير والتر سكوت أن: «لها ملامح لم نعرف لها وجودا من قبل»). وعلى عكس ابنة عمها إليزابيث - ملكة إنجلترا - كان لتفكيرها طابع أنثوي تقليدي، على الأقل إلى الحد الذي جعلها تتوق لرجل تستطيع الاعتماد عليه. ولعل أكثر مقوماتها جاذبية، لأي خاطب محتمل، هو المهر الذي ستقدمه له: فلما كانت ماري ملكة على اسكتلندا، فإن زوجها سيصبح ملكا بالتبعية.
غير أن الرجل الذي تزوجت منه في يوليو 1565 - وهو هنري ستيوارت، إيرل دارنلي - كان فقيرا لأقصى درجة. لا شك أنه كان يحظى ظاهريا ببعض السمات الرائعة؛ فقد كان شأنه شأن ماري شابا وسيما وابن عم لإليزابيث. وكانت إليزابيث قد وضعته في مرتبة قريبة خلف ماري في تسلسل العرش الإنجليزي؛ ما ولد لدى ماري سببا لتمني أن يزيد الزواج من أحقيتها في أن تكون خليفة إليزابيث.
ولكن للأسف، كما أدركت ماري سريعا، كانت صفات هنري الطيبة ظاهرية فحسب. فقد تبين أنه مدلل، وكسول، وليس له أي نفع على الإطلاق حين تعلق الأمر بحكم البلاد. وبنهاية عام 1565، كانت ماري قد تجاهلت زوجها واعتمدت بشدة على نصائح مستشارين آخرين، لا سيما شخص من إيطاليا كان يعمل موسيقيا في وقت ما يدعى دافيد ريتسيو.
كان هنري، من جانبه، في غاية الاستياء من تأثير ريتسيو ونفوذه، مثله مثل كثيرين آخرين في طبقة النبلاء الاسكتلنديين. وكان مما أثار حفيظة الكثير من اللوردات البروتستانت بشكل خاص أن ريتسيو كان أجنبيا، ومثل ماري كاثوليكيا. وفي مارس عام 1566، اقتحمت مجموعة منهم قصر الملكة، وراحوا يجرون ريتسيو وهو يصرخ، وظلوا يسددون له الطعنات حتى الموت. لم يشارك هنري ذاته في الجريمة، ولكنه قطعا كان ضالعا في المؤامرة. وحتى لا يتركوا أي شك بشأن تورطه، ترك القتلة خنجر هنري بحرص في جثة ريتسيو.
غير أن ماري استمرت في تقمص دور الزوجة الوفية. فعلى الرغم من أن هنري كان يعاني من مرض الزهري، فقد أقنعته أن يعود إليها من مسكن عائلته القريب من جلاسجو. وفي فبراير من عام 1567، انتقل هنري إلى كيرك أوفيلد، وهو منزل يقع على أطراف إدنبره، حيث قامت ماري بتمريضه بكل إخلاص حتى استرد صحته.
ولكن المصالحة الملكية كانت قصيرة الأجل؛ ففي التاسع من فبراير، تركت ماري المنزل لحضور حفل زفاف لأحد الخدم في المدينة، وبعد بضع ساعات، وقع انفجار في كيرك أوفيلد. ووجدت جثة هنري في الحديقة؛ فعلى ما يبدو أنه قد هرب من الانفجار ليلقى حتفه مختنقا بالدخان الكثيف بالخارج.
كان معظم المراقبين على قناعة بأن الرجل الذي وقف وراء عملية الاغتيال هو عدو هنري جيمس هيبورن، إيرل بوثويل، الذي استمرت عداوته لوقت طويل. ومن ثم، لم تكن مفاجأة حين تم اتهام بوثويل بقتله في أبريل. ولكن الموضوع الأكثر جدلا هو دور ماري في الجريمة. فقد هب كتاب معاصرون كاثوليك، مثل الأسقف جون ليسلي، لنصرتها والدفاع عنها، واصفين إياها بأنها أكثر براءة من مريم العذراء. أما الكتاب البروتستانت، وأبرزهم جورج بيوكانن وجون نوكس، فكانوا على نفس القدر من الحماس لكونها مذنبة.
أما عن ماري نفسها، فقد أنكرت أية صلة لها بموت زوجها، وبدا الكثيرون على استعداد لتصديقها. ولكن سرعان ما انهارت مصداقيتها؛ ففي 15 مايو، وبعد ثلاثة أشهر فقط من اغتيال الملك، تزوجت الملكة مرة أخرى. ولم يكن الزوج الجديد سوى إيرل بوثويل، المشتبه به الأول في قتل هنري. •••
أدى زواج ماري من بوثويل إلى نهاية حكمها، ربما أكثر من جريمة قتل هنري. ورغم أن بوثويل كان لوردا صاحب نفوذ، فإنه لم يكن يملك شبكة تحالفات مع النبلاء الآخرين، والتي كانت في غاية الأهمية لملك اسكتلندي في القرن السادس عشر. أما بالنسبة إلى ماري، فقد تبخر تماما بعد الزواج ما كانت تحظى به من دعم - قوي دائما - بين اللوردات البروتستانت. ومما اعتبره كثيرون محاولة يائسة لاستعادة سمعتها، أن ماري زعمت أنها تزوجت من بوثويل لأنه اختطفها واعتدى عليها، وهي القصة التي لم يصدقها سوى قليلين.
كانت ماري في أعين المدافعين عنها في براءة مريم العذراء ... وهذا ما جعل من الصعب تفسير زواجها من الرجل المتهم بقتل زوجها. وفي الصورة المبينة هنا لوحة معاصرة تصور مشهد الاغتيال. (مكتب السجلات العامة.)
وفي يونيو عام 1567، وبدعم قطاع كبير من عامة الاسكتلنديين، هزمت مجموعة من النبلاء الغاضبين قوات ماري وبوثويل، وقاموا بسجن الملكة في قلعة لوكليفن. وبعد شهر، وافقت على التنازل عن العرش تحت وطأة عجزها عن مقاومة تهديداتهم. فتنازلت عن العرش إلى ابنها الطفل جيمس، الذي ترأس حكومته أخو ماري غير الشقيق جيمس ستيوارت، إيرل موراي. وبعد عام، فرت ماري من لوكليفن وحاولت استعادة عرشها، ولكن قوات موراي هزمت قواتها مجددا، في هذه المرة في معركة حاسمة بالقرب من جلاسجو في 13 مايو 1568. وبعد ثلاثة أيام، هربت ماري إلى إنجلترا على أمل إقناع إليزابيث بمساعدتها في إعادتها للعرش.
غير أن وجود ماري أدى إلى ارتباك المشهد بالنسبة إلى إليزابيث. فمن ناحية، كانت رؤية ملكة أطيح بها من على عرشها كفيلة بأن تجعل ملكة إنجلترا تشعر بالقلق والانزعاج. ومن ناحية أخرى، كانت إعادة ماري إلى العرش ستتطلب هزيمة الحزب الموالي للبروتستانت والإنجليز في اسكتلندا، وهو الأمر الذي كانت إليزابيث تمقت حدوثه. فقررت تعيين لجنة للتحقيق في القضية بأسرها، على أن يفيدوها بتقريرهم بعد ذلك.
كانت اللجنة هي الفرصة الأولى التي حظي بها كلا الطرفين لعرض حججهما. (فقد ألقت محاكمة بوثويل في جريمة الاغتيال - في أبريل 1567 - قليلا من الضوء على الجريمة؛ في ظل حصار المحكمة بقرابة مائتين من أنصاره المسلحين؛ ما جعل براءته مضمونة وغير منطقية.) واجتمع أعضاء اللجنة الإنجليز على مدار عامي 1568 و1569 في يورك في البداية، ثم في ويستمينستر، وأخيرا في محكمة هامبتون.
وصل موراي نفسه إلى ويستمينستر في ديسمبر عام 1568 ليرفع دعواه ضد ماري. ولكن لم تكن حججه هي ما ألهبت وقائع المحاكمة بقدر ما جلبه من أدلة. فقد أحضر موراي معه ما كان حتى وقتذاك مجرد شائعة؛ أحضر مجموعة من الخطابات والقصائد، التي زعم أن ماري كتبتها لبوثويل، وعبرت فيها عن حبها العميق له وكراهيتها الشديدة لهنري.
كان من بين ما اقتطف من الخطابات ما كتبته ماري لبوثويل عن أنها لا تريد سوى أن تكون «بين أحضانك يا حبيب العمر» (وكان ذلك بينما كان هنري على قيد الحياة). كانت على استعداد لأن تفعل أي شيء يطلبه منها؛ كل ما كان عليه فقط هو - حسب ما ورد - أن «ترسل لي أوامر بما ينبغي أن أفعل.» أما بالنسبة إلى هنري، فكانت مشاعرها التي عبرت عنها في الخطاب تجاهه واضحة؛ إذ قالت: «تبا لهذا المريض الذي يسبب لي كل هذا الإزعاج.»
كانت الخطابات تحمل إدانة بالغة؛ إذ بينت أن ماري قاتلة وعاهرة على حد سواء. ولكن ماري أنكرت أن الخطابات تخصها، وبادر المدافعون عنها في وصفها بأنها مزيفة. والحق أنه كان هناك قدر كبير من الشك بشأن هذه الخطابات. فطالب أنصار ماري بمعرفة لماذا ظلت الخطابات مختفية حتى اجتماع أعضاء اللجنة.
بحسب موراي، كانت الخطابات بحوزة حكومته منذ يونيو 1567، حين قاموا بالقبض على خادم بوثويل، جورج دالجيش، الذي قادهم بدوره إلى «صندوق مجوهرات» فضي كان يحوي الوثائق. ولكن كما أشار أنصار ماري، فقد انتظر موراي أكثر من عام قبل أن يعلن هذا الدليل الدامغ؛ الأمر الذي كان سيمنحهم قدرا وافرا من الوقت لتزوير الوثائق، ثم تقديمها لأعضاء اللجنة في اللحظة المناسبة تماما. علاوة على ذلك، ففي الوقت الذي وصل فيه موراي إلى ويستمينستر، كان دالجيش - الشخص الوحيد الذي كان بوسعه دحض هذه القصة - قد أعدم بالفعل لمعاونة بوثويل في قتل هنري.
كان محتوى الخطابات أيضا محل شك. فلم يكن أي منها يحوي تاريخا أو توقيعا؛ ومن ثم لم يكن هنالك طريقة للتأكد من أن ماري هي من كتبت الخطابات، وليس عشيقة أخرى لبوثويل. أما قصائد الحب، فكانت مكتوبة بأسلوب مختلف تماما عن شعر ماري المعروف، ويبدو أن الشاعرة، أيا كانت هويتها، كانت معجبة بثراء بوثويل، وهي عاطفة من غير المحتمل أن تراود الملكة التي كانت تفوق بوثويل ثراء إلى حد بعيد. كل ذلك أقنع العديد من أنصار ماري بأن خطابات الصندوق كانت مزيجا من وثائق مزورة بشكل صريح وأخرى حقيقية تم التلاعب فيها لتبدو خاصة بماري.
لم يقرر أعضاء لجنة إليزابيث رسميا قط مصداقية الوثائق، وكذلك إليزابيث نفسها. بدلا من ذلك، قرروا أنه لا يوجد دليل على أن موراي أو ماري قد أتيا بفعل مشين. وكان ذلك غير منطقي وفقا للقانون، ولكن كان له مدلول سياسي، على الأقل على المدى القصير. واستطاع موراي العودة إلى اسكتلندا حيث تمكن من الاستمرار في الحكم باعتباره حليفا بروتستانتيا لإنجلترا. وظلت ماري في إنجلترا، وفي الواقع ظلت بالسجن، إلا أن إليزابيث على الأقل لم تصدر أي حكم ضدها من شأنه أن يثير حفيظة الكاثوليك سواء بالداخل أو بالخارج.
غير أن إليزابيث على المدى الطويل ظلت تواجه مشكلة. فما دامت ماري على قيد الحياة، فمن الممكن أن تظل محورا لمخططات الكاثوليك لاستعادة العرش البريطاني والاسكتلندي أيضا. وقد شاركت ماري طواعية في ثلاث على الأقل من هذه المؤامرات، تضمنت الأخيرة خطة لاغتيال الملكة البريطانية. وكانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى إليزابيث؛ ففي وجود أدلة ساحقة على دور ماري في مكيدة الاغتيال، أمرت بإعدامها على مضض، بقطع رأسها في 8 فبراير 1587.
أما فيما يتعلق ببوثويل، فكانت نهايته أكثر ترويعا. فقد لجأ للدنمارك؛ حيث لم يكن الملك سعيدا برؤيته كما لم تكن إليزابيث سعيدة برؤية ماري. فألقى به الملك في حصن دراوسهولم، حيث قيد السجين بعمود في نصف طوله. وقادت الظروف القاسية بوثويل إلى الجنون، وظل كذلك حتى وفاته في أبريل 1578. •••
على مدار حياة إليزابيث، ظلت ماري تصور بطرق متناقضة تماما. فكانت في نظر الكتاب البروتستانت متآمرة كاثوليكية، وفي نظر الكاثوليك شهيدة بريئة. وبمجرد وفاة إليزابيث، ليخلفها جيمس نجل ماري، أفسحت هذه الرؤى المتناقضة مجالا لشيء أقرب لحل وسط، تمخضت عنه صورة، لا تزال مألوفة حتى اليوم، لبطلة رومانسية هزمها الحظ السيئ والحب التعيس.
وقد خدمت الصورة الجديدة جيمس على نحو جيد. فباعتباره ملكا بروتستانتيا يحكم دولتين بروتستانتيتين (إنجلترا واسكتلندا)، استطاع بمشقة أن يسمح لماري الشهيدة بالاستمرار كإلهام لأحلام وآمال الكاثوليك. في الوقت نفسه، كان يجد الوصف البروتستانتي الحاقد الذي وضعه بيوكانن ونوكس مستهجنا بالقدر نفسه؛ فقد كانت هذه والدته تلك التي كانوا يتحدثون عنها رغم كل شيء.
وهكذا ظهر حل وسط ملائم ولائق. ولكن على الرغم من أنه قد لبى الاحتياجات السياسية الراهنة، فقد طمر قضية كون خطابات الصندوق حقيقية أم مزيفة. وكما هو متوقع تماما، حاول جيمس أن يقضي على القضية بالتخلص من الدليل. وفي وقت مبكر من فترة حكمه، وبينما كانت الخطابات في حوزة حكومته، إذا بها قد اختفت ولم تقع عليها عين منذ ذلك الحين.
لم يمنع ذلك المؤرخين اللاحقين من التفكر بشأنها. وفي ظل عدم وجود أي دليل جديد، نزع معظمهم إلى ترديد نفس الحجج التي أثارها موراي وماري أمام أعضاء لجنة إليزابيث. وكان معظم مؤرخي القرن العشرين، الذين سردوا التناقضات في أساليب ومضامين الخطابات، يميلون نحو الاعتقاد بأنها مزيج من وثائق مزورة بشكل صريح وأخرى تم التلاعب فيها. ولكن مع اختفاء الخطابات الأصلية، لا يمكن إيجاد حل قاطع للغز الخطابات.
كان المؤرخون أقل ترددا للحكم على القضية الأهم الخاصة بدور ماري في مصرع هنري، والتي يوجد عليها الكثير من الأدلة خلاف خطابات الصندوق. ومعظم هذه الأدلة تجعل لماري صلة بالجريمة؛ فهناك تزلفها لهنري من أجل العودة إلى إدنبره، على الرغم من دوره في اغتيال ريتسيو ومعاناته من مرض الزهري، ومغادرتها المنزل قبيل ساعات فقط من الانفجار، وزواجها من بوثويل بعد شهور فقط من الحادث؛ كل ذلك يشير فيما يبدو إلى أن ماري كانت على علم بأن شيئا ما سوف يحدث. حتى لو لم تكن على دراية بمخطط تفجير كيرك أوفيلد، فلا بد أنها كانت تعلم أن شيئا ما يدور. علاوة على أن مشاركتها الحماسية في المخططات اللاحقة للتخلص من إليزابيث إنما تشير إلى أن ماري لم يكن لديها أي تأنيب ضمير إزاء الاغتيالات السياسية.
هذا لا يعني أنها كانت الوحش الذي صوره بيوكانن ونوكس. لقد كانت السياسة الملكية في القرن السادس عشر مجالا قذرا، ولم يكن سلوك ماري أقذر من سلوك العديد من نظرائها، بمن فيهم إليزابيث. كان الفارق أن إليزابيث مارست اللعبة بمهارة وكتب لها الفوز، ولم تستطع ماري، بكل ما كان لها من جمال وسحر، أن تساير ابنة عمها مطلقا.
لمزيد من البحث
George Buchanan,
The Tyrannous Reign of Mary Stewart,
trans. and ed. W. A. Gatherer (Edinburgh: University Press, 1958). Includes Buchanan’s 1571
A Detection of Mary Queen of Scots
and the relevant sections of his 1582
History of Scotland . A pretty good idea of Buchanan’s attitude toward Mary can be gauged from his tale (completely invented) of how Mary’s servant was ordered to haul a half-naked Bothwell up by a rope out of his wife’s bed and directly into that of the queen .
James Emerson Phillips,
Images of a Queen (Berkeley: University of California Press, 1965). How her contemporaries turned Mary into a symbol of everything good and everything evil .
M. H. Armstrong Davis,
The Casket Letters (Washington, D.C.: University Press of Washington, D.C., 1965). The most recent book-length study of the letters, in which Armstrong Davis argues that they were forged to frame Mary. So certain is Armstrong Davis of Mary’s innocence that he also argues, much less persuasively, that the Kirk O’Field explosion that killed the king was actually Henry’s botched attempt to kill Mary .
Antonia Fraser,
Mary Queen of Scots (New York: Delacorte Press, 1969). The best biography to date, at once scholarly and romantic .
Gordon Donaldson,
The First Trial of Mary, Queen of Scots (New York: Stein & Day, 1969). A thorough study of the York, Westminster, and Hampton Court hearings, with a somewhat less sympathetic view of Mary than Fraser’s .
Ian Cowan, ed.,
The Enigma of Mary Stuart (London: Victor Gollancz, 1971). A useful collection of too-short excerpts from various works on Mary, from the sixteenth century to the twentieth .
Jean Plaidy,
Mary Queen of Scots (New York: G. P. Putnam’s Sons, 1975). Not surprisingly, since Plaidy is also a best-selling writer of romance fiction (under the pseudonym Victoria Holt), this biography presents the Mary of romance, a woman who unwisely let her heart prevail over her head.
Jenny Wormald,
Mary Queen of Scots (London: George Philip, 1988). A portrait of Mary as abject failure, so devoid of political judgment and will that she drove her opponents to take action against her .
الفصل السابع عشر
من كتب مسرحيات شكسبير؟
كتب مارك توين في عام 1909 أن السير الذاتية لشكسبير كانت أشبه بالبرونتوصور الذي يقف في متحف التاريخ الطبيعي: «كان لدينا تسعة عظام منه، وشيدنا بقيته من جبس باريس.»
كانت تلك مبالغة من توين كدأبه دائما، ولكن كان لديه منطق وراء ذلك؛ فرغم كل ملايين الكلمات التي كتبت عن شكسبير، فإن المعروف عنه ليس كثيرا. الأمور الوحيدة التي أمكن لكاتبي سيرته الجزم بها يقينا أنه عاش في بلدة ستراتفورد أون إيفون، وأنه كان ابنا لصانع قفازات، وأنه صار ممثلا للأدوار الصغيرة، وأنه قد استثمر، بنجاح كبير، في شركة للتمثيل المسرحي عرفت باسم كينجز من. وهناك سجلات توثق تعميده، وزواجه، وقضاياه، وضرائبه، ووفاته. وهذا كل ما نعرفه؛ أما البقية، كما وصفه توين، فكانت من جبس باريس.
لا شيء في السجل الوثائقي لستراتفورد يعطي أية إشارة إلى أن شكسبير كان كاتبا، فضلا عن كونه أعظم كتاب العالم. ولا يوجد مخطوطات بخط يده، أو حتى خطابات. لا يوجد توقيعات، فيما عدا ستة بخط مهتز غير واضح. ولم يرد ذكر في وصيته لكتب، أو مخطوطات، أو أي شيء أدبي على الإطلاق. ولا يوجد أي سجل يذكر التحاقه بمدرسة في ستراتفورد تعلم فيها اللاتينية واليونانية، أو أنه قد سافر للخارج، أو كان له أي علاقات وثيقة بأي شخص في بلاط الملكة. غير أن شكسبير اكتسب بطريقة أو بأخرى معرفة واسعة بإيطاليا، والعائلة المالكة، والفلسفة، والأدب، والتاريخ، والقانون، والطب، كما يتبين من مسرحياته وقصائده.
شكسبير كما يظهر في طبعة فوليو 1623. ولا تحوي فوليو أية معلومات عن حياته. (بتصريح من مكتبة فولجر شكسبير.)
كانت الصلة الوحيدة الواضحة بين الرجل القادم من ستراتفورد وبين الكاتب المسرحي هي الاسم: شكسبير. ولكن حتى ذلك أثار الشكوك. ففي وثائق ستراتفورد، يرسم الاسم إملائيا بطرق شتى؛ شاكسبير، وشاجسبير، وشاكسبر. أما في النسخ المنشورة من أعماله وفي الإشارات المرجعية المعاصرة لها، فدائما ما ترسم شكسبير.
يرى توين أن التفسير واضح: فالكاتب المسرحي والشاعر لم يكن هو نفسه ابن صانع القفازات. ولم يستطع توين أن يجزم يقينا بهوية من قام بكتابة المسرحيات تحديدا. ولكن ثمة آخرون استطاعوا ذلك. فعلى مدار السنين، اقترحوا أعدادا كبيرة من المرشحين، من بينهم الملكة إليزابيث، والملك جيمس، ووالتر رالي، وكريستوفر مارلو، وشيخ عربي يعرف بالشيخ صبار (وفيما يبدو توصل لذلك بناء على افتراض أن كلمة شيخ تنطق كالمقطع الأول من الاسم شكسبير). •••
ربما كانت هناك شائعات عن شكسبير في القرنين الأولين بعد وفاته، ولكنها لم تخلق جلبة حقيقية حتى بدايات القرن التاسع عشر. فقد شهدت هذه الفترة قمة ازدهار الرومانسيين، الذين كانوا يعتبرون شكسبير تجسيدا للشعر، وكلما زاد إجلالهم لأعمالهم، واجهوا صعوبة أكبر في المواءمة بين مسرحياته وقصائده وبين حياة مؤلفها البسيطة العادية في ستراتفورد. حتى الشكسبيريون المتحمسون من أمثال كولريدج أصابتهم الدهشة من ذلك؛ إذ قال: «إن أعمالا من هذه النوعية لا بد أن تكون قد جاءت من رجل كانت حياته على نفس الشاكلة.»
ومع مضي القرن، التف أنصار أن من كتب المسرحيات والقصائد ليس شكسبير القادم من ستراتفورد، حول مرشح واحد هو فرانسيس بيكون. كان بيكون يملك كل المؤهلات التي افتقدها شكسبير؛ فقد كان بيكون فيلسوفا، وعالما، ومحاميا، وسياسيا كثير التردد على بلاط كل من إليزابيث وجيمس. وقد وجد أكثر مؤيديه حماسا في سيدة أمريكية تدعى ديليا بيكون (لا توجد صلة بينهما)، والتي كانت مقتنعة بأن الأوراق التي تثبت حقوق رفيقها - الذي يحمل نفس لقبها - في تأليف الأعمال مدفونة في حفرة عميقة أسفل شاهد قبر شكسبير في ستراتفورد. وفي سبتمبر عام 1856، شوهدت هناك وبيدها مجرفة. وفي اللحظة الأخيرة خانتها شجاعتها، وتركت رفات شكسبير يرقد في سلام دون إزعاج. ولكنها استمرت في نشر معتقدها هذا لجمهور متزايد من مصدقيها.
وفيما بعد ترك أنصار بيكون البحث عن المخطوطات المدفونة وصبوا تركيزهم بدلا من ذلك على المخطوطات الموجودة. غير أنه كان تركيزا ضيق الأفق بشكل غريب. فقد وضع أنصار بيكون جل تركيزهم تقريبا على اكتشاف الشفرات، والرموز السرية، والأكواد - ومن المفترض أن جميعها يكشف أن بيكون هو شكسبير - التي كان يفترض أنها مطمورة وسط النصوص. وكان المحلل الرئيسي للرموز في هذا الصدد هو إجناتيوس دونيلي، وهو عضو بالكونجرس من مينيسوتا كان يتبنى شتى أنواع القضايا الغريبة، من بينها قضية بيكون.
يتسم قدر كبير من كتاب دونيلي الصادر عام 1888 عن هذا الموضوع بالتعقيد الشديد؛ ما يتعذر معه متابعته؛ إذ يتضمن شتى أنواع العمليات الحسابية القائمة على جمع وطرح وقسمة وضرب أرقام الصفحات والسطور وعدد ورود العديد من الكلمات في النص، مثل «فرانسيس»، و«ويليام»، و«شك»، و«سبير». غير أن القليل فقط من نتائجه كان واضحا ومباشرا؛ على سبيل المثال، لاحظ دونيلي أنه في الفوليو الأول - وهو مجموعة من مسرحيات شكسبير صدرت عام 1623 - ظهرت كلمة «بيكون» في صفحة 53 في الأعمال التاريخية وأيضا في صفحة 53 في الأعمال الكوميدية. ورأى دونيلي أن هذا لا يمكن أن يكون محض مصادفة؛ فلا بد أن تلك كانت وسيلة المؤلف للإفصاح عن هويته الحقيقية.
حذا آخرون حذو دونيلي، من منطلق قناعتهم - فيما يبدو - بأن الشخص الذي كتب مسرحيات وقصائد شكسبير - أيا كان - كان مهتما في الأساس بخلق ألغاز صعبة للأجيال القادمة كي يقوموا بحلها. فقام والتر بيجلي، على سبيل المثال، بدراسة البيتين الأخيرين من إحدى قصائد شكسبير، وأشار إلى أننا إذا دمجنا أول حرفين من الكلمة الأخيرة في البيت الأخير وأول ثلاثة حروف من الكلمة الأخيرة في السطر قبل الأخير، نكتشف المؤلف الحقيقي للقصيدة (إذ جاءت الحروف باسم بيكون). ومثلما فعل دونيلي، تجاهل بيجلي دور المصادفة؛ ففيما يبدو أنه لم يخطر بباله أن الحروف في اسم بيكون كلها مشتركة إلى حد ما في كلمات كثيرة ويمكن أن تتواجد معا في الكثير من النصوص الأخرى، الشكسبيرية وغير الشكسبيرية.
وحتما انجذب محللو الشفرات بشكل خاص إلى كلمة لا معنى لها استخدمها مهرج في مسرحية شكسبير «الحب مجهود ضائع». كانت الكلمة - وهي
honorificabilitudinatibus - تتألف من عدد كاف من الحروف التي تجعلها تحوي توليفة هائلة من الرسائل السرية. وجاء واحد من أفضل «الحلول» في عام 1910، حين أعاد إدوين ديرنينج لورانس ترتيب الحروف لكي تنطق
Hi ludi F. Baconis nati tuiti orbi ، والتي إذا ترجمت من اللاتينية تعني «هذه المسرحيات، لأبناء فرانسيس بيكون، محفوظة من أجل العالم.» وما تجاهله ديرنينج لورانس بمنتهى السلاسة هو أن الكلمة الأصلية كانت متداولة لفترة قبل ظهورها في مسرحية «الحب مجهود ضائع»؛ ما جعل بيكون لا يمكن أن يكون قد صاغها بحيث يخفي رسالته المشفرة.
وبحلول عام 1920، كان حماس أنصار النظرية البيكونية للرسائل السرية قد كلفهم الكثير من مصداقيتهم، حتى بين أولئك المشككين في أصالة تأليف شكسبير للأعمال. وقد رفض معظم باحثي شكسبير أنصار النظرية البيكونية باعتبارهم أشخاصا غريبي الأطوار ومعتوهين ولم يكلفوا أنفسهم حتى عناء التعليق على أعمالهم. ولكن مع انحسار الحقبة البيكونية، ظهر مرشح جديد وأكثر مصداقية - هو إدوارد دي فير، إيرل أكسفورد السابع عشر - في الصدارة. •••
بدت الحجة المؤيدة لدي فير، والتي قدمت في عام 1920 على يد معلم إنجليزي يحمل الاسم البائس جيه توماس لوني (فكلمة لوني
Looney
تعني مجنونا)، حجة قوية، فإلى جانب كونه إيرل أكسفورد، كان دي فير ابن عم للملكة إليزابيث، وتحت وصاية ويليام بيرلي، مسئول الخزانة، وزوج ابنته فيما بعد. كل هذا منحه أكثر من مجرد إلمام عابر بحياة رجال الحاشية الملكية. وفوق كل ذلك، كان دي فير شاعرا وكاتبا مسرحيا ذا باع؛ ففي عام 1598، قام أحد النقاد المعاصرين، ويدعى فرانسيس ميرس، بتصنيف دي فير باعتباره «الأفضل على مستوى الكوميديا بيننا جميعا.»
على عكس بيكون، كان دي فير يملك أسبابا وجيهة لإخفاء حقيقة كونه المؤلف الحقيقي سرا، لما كان المسرح يعتبر مكانا سيئ السمعة في الدوائر التي كان يظهر فيها أثناء ترحاله. إلى جانب أن بعضا ممن كانوا في بلاط إليزابيث ربما لم يرق لهم الأسلوب الذي صوروا به هم أو أجدادهم؛ لذا استخدم دي فير اسما مستعارا، مثلما ذهب لوني. ولكن الإيرل لم يستطع مقاومة التلميح ببعض الإلماعات عن هويته السرية؛ لذا اختار اسما مشتقا من إحدى شاراته، التي كانت تصور أسدا يحرك رمحا (وهي الترجمة الحرفية لمقاطع اسم شكسبير بالإنجليزية).
ولما كان الإيرل من النبلاء، فقد كانت حياته موثقة أكثر من حياة شكسبير؛ ومن ثم وجد لوني الكثير لربطه بدي فير وأعماله المزعومة. فكان معلوما، على سبيل المثال، أن دي فير قد سافر إيطاليا في عام 1575، وتوقف في بادوا، وجنوة، وفينيسيا، وفلورنسا. ومن الممكن أن يكون هذا تفسيرا للمعرفة التفصيلية بهذه المناطق التي تجلت في مسرحيات شكسبير.
وكان لوني يعتقد أن الدليل الأقوى قد يكمن في أشهر مسرحيات شكسبير، أو بالأحرى مسرحيات دي فير. فمثل والد هاملت، توفي والد دي فير صغيرا؛ ومثل والدة هاملت، سارعت والدة دي فير بالزواج ثانية. وحدث ذات مرة أن قام دي فير بطعن أحد خدم بيرلي، وهي الطريقة التي قتل بها هاملت بولونيوس. وتعرض دي فير، مرة أخرى مثل هاملت، للأسر على يد القراصنة، الذين أبقوا عليه حيا بعد ذلك. ومع انتهاء لوني من تحليله، بدت تراجيديا شكسبير سيرة ذاتية لدي فير كتبها بنفسه.
وجد لوني انعكاسات لحياة دي فير في شخصيات شكسبيرية أخر أيضا. فمثل الملك لير، كان دي فير أرملا له ثلاث بنات، كانت كبيرتاهن متزوجتين. ومثل فولستاف، كان معروفا بذكائه الحاد. ومثل بروسبيرو في «العاصفة»، واجه دي فير أجواء عاصفة - وإن كان بشكل مجازي - في حياته.
أما فيما يتعلق بقصائد شكسبير، فقد خلص لوني إلى أن هنري ريوثيسلي، إيرل ساوثمبتون، يصلح لدور «الشاب الوسيم» في القصائد. وفيما بعد، تقدم الأكسفورديون بهذه خطوة للأمام، بتخمينهم أن ريوثيسلي كان ابن دي فير وأن «الشاب الوسيم» كان إشارة توري عن «الشاب فير». •••
بحلول منتصف القرن العشرين، سحق الأكسفورديون البيكونيين ليبسطوا سيطرتهم على الموقف الذي لا يعزي الأعمال إلى شكسبير. ولكن المدعين الجدد - من منظور المؤسسة الأكاديمية - لم يكونوا أقل غرابة من البيكونيين.
والواقع أن جهود الأكسفورديين لإيجاد أوجه تشابه بين حياة دي فير وأعمال شكسبير قد شابها نفس النزعات الاستحواذية وغياب القدرة على التمييز مثل نظرية فك الشفرات التي تبناها البيكونيون. فقد كان الأكسفورديون عازمين على تحويل الشخصيات الخيالية إلى شخصيات تاريخية بالقوة، ولكنهم فعلوا ذلك بشكل انتقائي للغاية. على سبيل المثال، وكما أشار الكثير من الباحثين التقليديين، تجاهل الأكسفورديون تماما الحقيقة الواضحة وضوح الشمس أن شكسبير، لا دي فير، هو من سمى ابنه هامنت.
ثمة مشكلة أخرى كبيرة تكتنف النظرية التي تقول إن إيرل أكسفورد هو كاتب مسرحيات شكسبير، وهي تتعلق بتواريخ مسرحيات شكسبير. فبحسب معظم الباحثين، استمرت شركة كينجز من في إنتاج مسرحيات جديدة لشكسبير حتى عام 1614. ولكن دي فير توفي في عام 1604. وفي تلك المرحلة، لم تظهر سوى ثلاث وعشرين من أصل ثمان وثلاثين مسرحية من مسرحيات شكسبير في طبعات منشورة أو أشير إليها في مصادر مطبوعة. ومن ثم، فإن هناك خمس عشرة مسرحية - من ضمنها الملك لير، وماكبث، وأنطونيو وكليوباترا، وحكاية شتاء، والعاصفة (وهي بالتأكيد بعض من أنجح أعمال الكاتب المسرحي) - لم تمثل على المسرح إلى بعد وفاة دي فير.
رد بعض الأكسفورديين على مشكلة التأريخ بالإشارة إلى أنه لا بد أن يكون دي فير قد بدأ تأليف المسرحيات قبل وفاته، ثم أنهاها شخص آخر. وذهب آخرون لأبعد من ذلك بادعاء أن التواريخ المنسوبة للمسرحيات كانت خاطئة وأن جميعها تقريبا قد كتب قبل عام 1604. فقد استفاد الأكسفورديون، مثل جميع المناهضين الآخرين لنظرية نسب الأعمال إلى شكسبير، من ندرة التوثيق العامة التي ابتلي بها كل كاتبي السير الذاتية التقليديين. لقد كانوا على صواب في تأكيدهم أن بعضا من تواريخ المسرحيات كانت قائمة على بعض التخمين والتقدير الاستقرائي، ولكنهم كانوا مخطئين في زعمهم بأنها لذلك كانت اعتباطية.
إن التواريخ التقليدية، على العكس من ذلك، قائمة على مجموعة متنوعة من الإشارات المرجعية المعاصرة لشكسبير وأعماله. على سبيل المثال، يذكر كتاب فرانسيس ميرس الصادر عام 1598 اثنتي عشرة مسرحية ويشيد بأعمال شكسبير باعتبارها «الأكثر امتيازا» على مستوى الكوميديا والتراجيديا. وهذا هو ميرس نفسه، الذي التف حوله الأكسفورديون، كما تتذكر، لإشادته بدي فير ككاتب. ولكنهم يحطون من قدر شهادته بمنتهى السلاسة حين تستخدم لدعم التأريخ التقليدي. علاوة على ذلك، يثير عمل ميرس سؤالا محرجا آخر بالنسبة إلى الأكسفورديين: إذا كان رجلهم هو من كتب مسرحيات شكسبير، فلماذا يناقش دي فير وشكسبير كل على حدة في نفس العمل؟
ثمة إشارات مرجعية معاصرة أخرى إلى شكسبير من شأنها تعزيز حجة التقليديين. فيذكر روبرت جريني شكسبير في كتيب صدر عام 1592، وكذلك يذكره بن جونسون في عدد من الأعمال. وقد ذهب الأكسفورديون إلى أن ميرس وجرين وجونسون ربما كانوا جميعا يستخدمون الاسم المستعار لدي فير، مثلما قد نشير نحن إلى صامويل كليمنز باسم مارك توين، ولكن هذا يبدو غير وارد. فرثاء جونسون لشكسبير الذي كتبه عام 1623 يشير إليه ب «بجعة إيفون العذبة»، ومن الصعب تخيل أنه كان يفكر في أي شخص آخر سوى الرجل القادم من ستراتفورد أون إيفون. ويرى معظم الباحثين أن كلمات جونسون تدعم الحجة المؤيدة لكون شكسبير هو شكسبير.
ولكن يظل الأكسفورديون والبيكونيون - على الأقل أولئك الذين لم تجرفهم انفعالاتهم - جديرين بالإشادة لتنويههم عن الثغرات الموجودة في السجل التاريخي وإثارتهم لأسئلة كانت المؤسسة الشكسبيرية تفضل تجاهلها. وفي العقد الماضي، حظيت أعمال أكسفورديي العصر الحديث، أمثال تشارلتون أوجبيرن وجوزيف سوبران، ببعض الاحترام المشوب بالاستياء من الباحثين التقليديين، وقد صار الأكاديميون بشكل متزايد يأخذون على عاتقهم مهمة الرد على الرافضين لنسب أعمال شكسبير إليه، وكانت هذه الردود في حد ذاتها مفيدة ومثيرة للفكر.
غير أن ذلك لا يعني أن الأكسفورديين قد اجتذبوا العديد من الشكسبيريين إلى صفهم. فالغالبية العظمى من الباحثين يرون أن السجل التوثيقي، برغم محدوديته، واضح وكاف. وكما يمزح الشكسبيريون في الغالب، كان الرجل الذي كتب مسرحيات شكسبير هو شكسبير.
وقد اتهم الأكسفورديون الأكاديميين بازدرائهم والتغطرس عليهم لأنهم هواة، ولكن التغطرس الأقبح يكمن في افتراض أن الأرستقراطي الجامعي هو فقط من يمكن أن يصبح عبقرية أدبية. ولا ينبغي أن ننكر على شكسبير إنجازه لمجرد أنه كان ابنا لصانع قفازات في بلدة صغيرة.
لمزيد من البحث
Delia Bacon,
The Philosophy of Shakspere’s Plays Unfolded (London: Groombridge & Sons, 1857). Nathaniel Hawthorne, who wrote the preface to Bacon’s book, was apparently moved by her sincerity but disheartened by her increasingly obsessive need to haunt the graveyards where she was convinced proof of Bacon’s authorship would be found. His preface concludes that “it is for the public to say whether my countrywoman has proved her theory.” Later Hawthorne came to regret even that tepid support, stating that “this shall be the last of my benevolent follies, and I never will be kind to anybody again.”
Ignatius Donnelly,
The Great Cryptogram: Francis Bacon’s Cipher in the So-Called Shakespeare Plays (Chicago: R. S. Peale, 1888). According to Donnelly, Bacon wrote not just Shakespeare’s plays but also (in his spare time) Spenser’s
The Faerie Queene
and Sidney’s
Arcadia .
Mark Twain,
Is Shakespeare Dead? (New York: Harper & Brothers, 1909). Twain was actually as concerned with the general question of literary immortality (including his own) as he was with Shakespeare’s. But he’s always delighted to insult the experts, whom he calls “these Stratfordolators, these Shakesperiods, these tugs, these bangalores, these troglodytes, these herumfordites, these blatherskites, these buccaneers, these bandoleers ...”
Edwin Durning-Lawrence,
Bacon Is Shakespeare (New York: John McBride Company, 1910). Say what you will about Durning-Lawrence, he was a good loser. So confident was he that he’d solved the
honorificabilitudinatibus
problem that he offered a hundred guineas to anyone who came up with another anagram with the same qualities. A Mr. Beevor proposed Abi Inivit F. Bacon Histrio Ludit, which translated as “Be off, F. Bacon, The actor has entered and is playing.” Durning-Lawrence paid him the money .
J. Thomas Looney, “Shakespeare” Identified (New York: Frederick A. Stokes Company, 1920). The Oxfordian Looney should not be confused with George Battey the Baconian .
Calvin Hoffman,
The Murder of the Man Who Was Shakespeare (New York: Julian Messner, 1955). The case for Marlowe, which starts off with the great advantage that he was a much more important writer than de Vere. But, like the Oxfordians, the Marlovians have to get around the basic problem of their hero’s death, in this instance a much-publicized murder in 1593. Hoffman’s answer is that Marlowe faked his own death to avoid being prosecuted for heresy .
Frank Wadsworth,
The Poacher from Stratford (Berkeley: University of California Press, 1958). A fair and succinct summary of the rival claims up to that time .
James McManaway,
The Authorship of Shakespeare (Amherst, Mass.: Folger Shakespeare Library, 1962). The establishment position, as issued by the establishment .
S. Schoenbaum,
Shakespeare’s Lives (Oxford: Clarendon Press, 1991). A scholarly yet highly readable survey of Shakespeare’s biographers .
Charlton Ogburn,
The Mysterious William Shakespeare (McLean, Va.: EPM Publications, 1992). Ogburn, the leading Oxfordian, inherited the mantle from his parents, both of whom also wrote books on the subject. Ogburn has been more successful than any of his predecessors in forcing the academic establishment to pay attention, and his book even earned a respectful response in the mainstream journal
Shakespeare Quarterly .
Irvin Leigh Matus,
Shakespeare, in Fact (New York: Continuum, 1994). A systematic rebuttal of the anti- Stratfordian arguments .
John Michell,
Who Wrote Shakespeare? (London: Thames & Hudson, 1996). The most recent and most compelling case that Shakespeare’s works were a group effort involving Bacon, de Vere, Marlowe, and Shakespeare himself .
Joseph Sobran,
Alias Shakespeare (New York: The Free Press, 1997). The latest and one of the best of the pro-Oxford books .
Mark Anderson, “The Countenance Shakes Spears,”
Harper’s,
April 1999. A description of the work in progress of Roger Stritmatter, an Oxfordian who has found that passages underlined in a Bible that once belonged to de Vere show up in various forms in Shakespeare’s plays. Traditionalists have responded that the Oxfordians are, once again, being misleadingly selective .
الفصل الثامن عشر
هل كان كابتن كيد قرصانا؟
في ديسمبر عام 1698، وفي محاولة لاستدراج القراصنة للخروج من البحار، عرض ويليام الثالث ملك إنجلترا العفو عن أي شخص يستسلم. وكان هناك قرصانان تم استثناؤهما من هذا العفو، لشناعة جرائمهما إلى الحد الذي لا يصلح معه افتداء؛ أحدهما هو لونج بن إيفري، والآخر كابتن ويليام كيد.
استمرت شهرة كيد لوحشيته وهمجيته في الانتشار، حتى بعد إعدامه شنقا عام 1701. والكثير من الأغاني الشعبية تسترجع أفعاله وجرائره؛ فقد جعلته إحداها يروي كيف تخلص من أحد أفراد الطاقم المتذمرين: «قتلت ويليام مور/وتركته غارقا في دمه/على بعد بضع فراسخ من الشاطئ.» كما كانت كل قصص القراصنة التي كتبها واشنطن إيرفنج، وإدجار آلن بو، وروبرت لويس ستيفنسون مستوحاة، في جزء منها على الأقل، من كيد.
كان كيد - الذي روي عنه في الأسطورة - سيئ الطباع، شديد القوة، جشعا لا يشبع. وكان ثريا أيضا، ومات دون أن يفصح عن المكان الذي دفن فيه كنزه. وخلال القرون الثلاثة التي مرت منذ ذلك الحين، قتل صائدو الكنوز الشواطئ بحثا وجرفوا قيعان الأنهار والبحار من نيويورك إلى جزر الهند، شرقا وغربا. وفي عام 2000، قامت قناة ديسكفري بتمويل بعثة استكشافية إلى الساحل الأفريقي، حيث عثر الغواصون على ما قد يكون حطام بارجة الأميرال كيد. أما فيما يتعلق بالكنز، فقد خرجوا خالي الوفاض.
كان كيد، من جانبه، دائما ما ينكر وجود أي كنز، وكان ينكر أيضا - بمزيد من الحماس والتعصب - أنه قرصان. فكان يدعي أن مغامراته بالكامل كانت في خدمة بلاده وأن رحلته البحرية كانت تحت رعاية مسئولين رفيعي المستوى، كان من بينهم الملك ويليام نفسه.
وقال كيد بعد أن أصدرت ضده هيئة محلفين بلندن حكما بالإعدام بتهمتي القرصنة والقتل: «يا إلهي، إنه حكم في منتهى القسوة ... أنا أكثر براءة من أي بريء.»
والمدهش أن الكثير من المؤرخين قد توصلوا لنفس النتيجة. •••
لا يزال سجل محاكمة كيد، التي بدأت في 8 مايو عام 1701 وانتهت في اليوم التالي، موجودا، ويقدم نظرة عن كثب للرجل وأفعاله.
اتفق كل من الادعاء والدفاع على بعض الحقائق الأساسية. كان كيد قد وصل إلى لندن في عام 1695، للبحث عن شخص ما لرعاية بعثة قرصنة تفويضية. ومثل القراصنة، كانت سفن القرصنة التفويضية تسطو على السفن في البحر، ولكن مع فارق كبير؛ أنها مصرح لها بذلك من إحدى الدول، وتقتصر هجماتها على سفن الدول المعادية. وبنهاية القرن السادس عشر، كانت القرصنة التفويضية قد صارت طريقة شائعة إلى حد ما وغير مكلفة لتقويض تجارة العدو. وكان كيد قرصانا مفوضا محترفا، بعد أن شن هجمات على العديد من السفن الفرنسية في الكاريبي.
وفي لندن، اكتسب كيد دعم لورد بيلومونت، وهو أحد أعضاء البرلمان وشخصية بارزة في حزب الويج الحاكم. أقنع بيلومونت أربعة آخرين من أعضاء الحزب بتمويل إحدى السفن، ومنحه ديوان البحرية رخصة قرصنة تفويضية. ووافق الملك على تمويل السفينة بثلاثة آلاف جنيه، ثم خالف كلمته وسحب المال، ولكنه ظل يقدم الدعم في مقابل 10 بالمائة من الأرباح.
كان تكليف كيد غير مألوف نوعا ما من حيث إنه لا يخول له فقط أسر سفن العدو، بل أيضا سفن القراصنة. وربما كان هذا البند قد أضيف لجعل مهمة كهذه، الملك متورط فيها، تبدو أبعد قليلا في وقعها عن أنشطة المرتزقة، على الرغم من أنه أشار أيضا إلى أن الحكومة باتت تضيق ذرعا بشكل متزايد من القراصنة الذين يعوقون التجارة البريطانية.
أبحر كيد من لندن على متن السفينة أدفنتشر جالي المزودة بأربعة وثلاثين مدفعا. وفي يناير 1697 وصل إلى مدغشقر، إحدى القواعد المعروفة للقراصنة على الساحل الشرقي لأفريقيا. كان هناك ما يقرب من مائتي قرصان، من بينهم القبطانان هور (الأشيب) وشيفرس (المرتعد)، وكانا اسمين على مسمى، ولكن كيد لم يبذل أي جهد لأسرهما.
بعد قرابة عام، وبعد أن جاب سواحل أفريقيا وآسيا، لم يحصد شيئا سوى بعض السفن الصغيرة، وبدأ القلق يساور أفراد طاقمه وأنصاره. وشارف أفراد الطاقم - الذين كانوا قد وقعوا للمشاركة في المهمة مقابل الحصول على نصيب من الغنيمة، وألا ينالوا أتعابهم ما لم يأسروا شيئا - على التمرد وشق عصا الطاعة. وعند العودة إلى لندن، تسلل القلق إلى الحكومة من أن كيد سوف يتجاوز قريبا الحد الفاصل ما بين القرصنة التفويضية والقرصنة الإجرامية؛ إن لم يكن قد تجاوزه بالفعل. فلم تقم أدفنتشر جالي بأي تحركات ضد أي من القراصنة في مدغشقر أو في أي مكان آخر، وفرت من سفن البحرية البريطانية التي لاقتها على الساحل الأفريقي.
ومع تسرب المياه إلى السفينة ونقص المؤن، تصاعدت وتيرة التوتر على متنها. وفي 30 أكتوبر 1697، وبحسب شهادة أفراد طاقم السفينة أثناء محاكمة كيد، دخل الكابتن في مشاجرة مع مدفعي يدعى ويليام مور. فنعته كيد ب «الكلب القذر»، وكان رد مور: «إذا كنت كلبا قذرا، فأنت من جعلتني هكذا. لقد دمرتني ودمرت الكثير غيري.» فما كان من كيد سوى أن التقط دلوا وانهال به بقوة على رأس مور، ليلقى مصرعه في اليوم التالي.
بعد ذلك، وفي 30 يناير 1698، ظهر أمل في الأفق في صورة السفينة كوده ميرشانت، التي كان على متنها حمولة تزن أربعمائة طن. فها هي قد ظهرت أخيرا غنيمة تستحق الاستيلاء عليها. كانت السفينة التجارية، التي رفعت علما أرمينيا على متنها، متجهة نحو الشمال ومحملة بالحرير، والكاليكو، والسكر، والأفيون، والمدافع، والذهب. فطاردها كيد وفي النهاية استولى عليها بما تحمله.
عند هذه النقطة تباينت قصص الادعاء والدفاع حسبما قدمت في محاكمة كيد. فقد كان هذا بالنسبة إلى المدعين عملا من أعمال القرصنة بشكل واضح لا لبس فيه؛ إذ كان قائد السفينة كوده ميرشانت إنجليزيا، وكان على متنها بضائع مملوكة لعضو بارز في بلاط الإمبراطور الهندي، والذي كانت له صلات قوية مع شركة الهند الشرقية وهي شركة إنجليزية. الأدهى من ذلك أن كيد لم يأخذ السفينة أو البضائع إلى الوطن لكي يقدر له مكافأة قانونية، مثلما نص العقد مع أولياء نعمته من حزب الويج. وبدلا من ذلك، قام بتوزيع بعض من الغنيمة بين أفراد طاقمه واحتفظ بالبقية لنفسه. وقد شهد أفراد طاقم كيد بكل هذا، مستغلين عرض الحصانة الذي قدمه الملك.
أما كيد، فأصر من جانبه على أن كوده ميرشانت لم تكن سفينة إنجليزية، بالرغم من أن قبطانها، ومن كانوا على صلة بها، إنجليز. فقد أطلعه قبطانها على «جواز فرنسي»، وهو وثيقة أشارت بوضوح إلى أن السفينة فرنسية. وزعم كيد أن الجواز الفرنسي سوف يثبت أن استيلاءه على السفينة كان قانونيا تماما.
وقام كيد باستجواب أفراد طاقمه السابقين الذين اعترفوا بأنهم قد سمعوه يتحدث عن جواز المرور، وإن لم يروه بالفعل. ومرارا طلب كيد من هيئة المحكمة تأجيل محاكمته حتى يتمكن المحلفون من فحص جواز المرور الفرنسي بأنفسهم.
غير أن القضاة رفضوا طلبه. ولم يظهر جواز المرور مطلقا في المحكمة، ومضت المحاكمة قدما بشكل سريع. ولم يستغرق المحلفون سوى ساعة لإدانة كيد بقتل مور، ونصف ساعة أخرى لإدانته بالقرصنة. •••
لم يكن المؤرخون واثقين من ذلك.
فعلى الرغم من أن كيد لم يبرز جواز المرور الفرنسي، فقد كان هناك قدر كبير من الأدلة المدعمة بالقرائن تشير إلى احتمال وجوده. فلقد كان من الممكن أن يختبئ كيد في مدغشقر أو في ملاذ آخر للقراصنة، ولكنه اختار العودة إلى أمريكا، على الرغم من أنه كان يعلم بصدور أمر بالقبض عليه. لماذا؟ بحسب كيد، كان ذلك لعلمه أن جواز المرور سوف يثبت براءته.
بعد إعدامه شنقا، عرض جثمان كابتن كيد على نهر التيمز، كتحذير للقراصنة الآخرين. فلماذا كان كل هذا الانتباه منصبا على رجل - بحسب وصف أحد المؤرخين - «لم يضرب عنقا أو يدفع أحد ضحاياه للسير على لوح خشبي ممتد من السفينة ليكون مصيره الغرق، ولم يكن سوى قرصان من الدرجة الثالثة أو الرابعة»؟ (مكتبة الكونجرس.)
قال كيد إنه قبل وصوله إلى بوسطن، أرسل جواز المرور إلى لورد بيلومونت؛ شريكه وحاكم ولاية ماساتشوستس المعين حديثا. فرد بيلومونت بخطاب طمأنة، قال فيه إنه ليس لديه أي شكوك في قدرته على إصدار عفو من الملك عن كيد. وعندئذ فقط سلم كيد نفسه، واثقا من أن ولي نعمته سوف يحميه. ولكن بيلومونت خانه، وزج به في سجن بوسطن ثم شحنه إلى لندن مكبلا بالأغلال.
أقنع خطاب بيلومونت المرسل إلى كيد، والذي ورد فيه ذكر جواز المرور الفرنسي صراحة، الكثير من المؤرخين بأن كيد لم يختلق تلك القصة. وفيما يبدو أن الحاكم كان في موقف حرج للغاية. وباعتباره شريكا لكيد، كان يحب أن يرى كوده ميرشانت وهي تعلن غنيمة قانونية؛ إذ كان سيحصل على نصيبه من الأرباح في هذه الحالة. ولكن بصفته حاكما، لم يستطع تحمل ثمن إظهار تعاطفه تجاه قرصان مدان. فقد كان منصبه السياسي في النهاية أهم بالنسبة إليه من الأرباح؛ ومن ثم ألقى القبض على كيد.
كانت سمعة كيد السيئة تشكل حرجا هائلا ليس فقط لبيلومونت، بل أيضا لرفاقه من المستثمرين، وكانوا جميعا أعضاء بارزين بحزب الويج. فكان خصومهم بالحزب التوري، الذين رأوا في ذلك فرصة للزج بأعضاء الويج في فضيحة، يطالبون بإصدار قرار باللوم عليهم. ومن جانبهم، سارع أعضاء الويج إلى تصوير كيد كقرصان تفويضي تحول إلى قرصان مجرم، لتوضيح أنه قد سار في طريق الشر بعد أن أبرموا اتفاقهم معه. ومما زاد موقف كيد سوءا أن شركة الهند الشرقية أرادت أن تجعل منه عبرة، لردع القراصنة الآخرين وتهدئة أصدقائهم في الهند.
إذن لم يكن كيد، في نظر الكثير من المؤرخين، قرصانا مخيفا، وإنما مجرد بيدق شطرنج في لعبة سياسية. وظن الكثيرون أن بيلومونت، أو ربما شخصا آخر ذا مكانة رفيعة في الحكومة، قد أخفى جواز المرور الفرنسي عن كيد لضمان حكم بالإدانة. وفي عام 1911، وأثناء البحث في مكتب السجلات العامة في لندن، وجد كاتب يدعى رالف بين الدليل: فهناك، وعلى مرأى من الجميع، وجد جواز المرور الفرنسي الذي استولى عليه كيد من سفينة كوده ميرشانت. وفيما يبدو أنه كان قابعا في مكتب السجلات العامة على مدى قرنين منذ محاكمة كيد.
أقنع جواز المرور بين بأن كيد كان رجلا بريئا. صحيح أن كيد لم يتبع الخطوات القانونية لإعلان كوده ميرشانت غنيمة مشروعة، ولكن حدث ذلك لأن أفراد طاقمه قد تمردوا وهربوا بالكثير من الغنيمة. وصحيح أيضا أن أدفنتشر جالي قد مضت تأسر سفنا أخرى من الواضح أنها لم تكن فرنسية، ولكن ذلك أيضا كان من تدبير أفراد الطاقم المتمردين وليس الكابتن. وصحيح أن كيد قد ضرب ويليام مور، ولكن فقط لأنه كان واحدا من المتمردين. إلى جانب أنه في زمن كان القباطنة دائما ما يجلدون البحارة بالسوط لأتفه المخالفات، كما ذهب بين، فقد كانت ضربة كيد محكومة بشكل بحت.
لقد لاقى كابتن كيد، في نظر بين، «معاملة غير عادلة من قبل أوليائه، وامتهن من قبل أفراد طاقمه الأوغاد، وافتري عليه كذبا من قبل أجيال لاحقة ساذجة.» •••
ومنذ عهد قريب، تبنى المؤرخون بشكل عام نظرة أكثر توازنا تجاه كيد، مصورين إياه في صورة لا هي صورة القرصان الوحشي المذكور في الأسطورة، ولا هي صورة الضحية البريء لساسة عديمي الضمير. ولا شك أنه من الظلم الصارخ ما حدث من إخفاء جواز المرور الفرنسي عنه، والذي كان سيعزز من دفاعه ضد تهمة القرصنة فيما يتعلق بالسفينة كوده ميرشانت. ولكن بحسب شهادة العديد من أفراد طاقمه، فقد رفع كيد علما فرنسيا على أدفنتشر جالي لخداع قبطان كوده ميرشانت كي يظهر له جواز المرور الفرنسي. (فقد كان مألوفا للسفن التجارية أن تحمل أوراقا لجنسيات متعددة، على أمل أن تساهم الجنسية الصحيحة في إبعاد أي قرصان وإن كان مفوضا.) لذا، وحسبما أكد أفراد الطاقم هؤلاء، كان كيد يعرف جيدا أن السفينة لم تكن فرنسية، حتى ولو كان لديها جواز مرور فرنسي.
علاوة على ذلك، كان هناك مسألة السفن الأخرى، وإن كانت أصغر حجما، التي تم الاستيلاء عليها بعد كوده ميرشانت. فقد اتهم كيد - وأدين - بأربع تهم قرصنة أخرى. وكان دفاعه في كل واحدة منها واحدا؛ أن أفراد طاقمه قد تمردوا وتصرفوا دون إذنه. ولكن لم يكن هناك حقا سبب آخر لتصديق رواية أكثر من قيام أفراد طاقمه بالشهادة ضده.
ويتفق غالبية المؤرخين الآن على أن كيد كان قرصانا، وإن لم يكن قرصانا ناجحا بشكل استثنائي. وكانت نكبته، بحسب آخر كاتبي سيرته الذاتية روبرت سي ريتشي، أنه قد تجاوز الحد الفاصل بين القرصنة والقرصنة التفويضية في نفس الوقت الذي كان احتمال التسامح فيه مع الأخيرة أقل ما يمكن. وكان هذا يرجع جزئيا إلى الصراع الدائر بين أعضاء الويج والتوري في البرلمان. ولكن ريتشي بين أن توقيت كيد السيئ قد تجاوز ذلك.
وخلال أواخر تسعينيات القرن السابع عشر، تزايد عزم كلا الحزبين - الويج والتوري - على القضاء على التهديد الذي يشكله القراصنة على تجارة الإمبراطورية البريطانية. وهذا ما دفع الملك ويليام إلى عرض العفو عن القراصنة. وهذا هو ما دفع الوزراء المنتمين لحزب الويج لتفويض كيد لأسر القراصنة وكذلك سفن العدو. وهذا هو ما جعل قرصنة كيد، برغم بعدها التام عن أسوأ جرائم القرصنة السائدة في عصره، تثير ضده غضب الحكومة البريطانية.
لم يحرز الجهد المشترك للحكومة البريطانية لوضع نهاية للقرصنة نجاحا فوريا، ولكن كيد لم يكن القرصان الوحيد الذي عانى؛ فقد اتخذت قوات البحرية الملكية إجراءات مشددة عبر جميع أنحاء الإمبراطورية، وكذلك فعلت القوات المحلية. ففي عام 1718، على سبيل المثال، احتشدت قوات ولايتي فيرجينيا وكارولينا عند ملجأ القرصان إدوارد تيتش، والمعروف أيضا باسم بلاكبيرد، الذي لقي حتفه في هجوم عنيف. وبحلول عام 1730، كان قد انتهى ذلك العصر الذي كان فيه القراصنة يجوبون البحار بحرية.
وماذا عن كنز كيد المدفون؟
للأسف كان المتوافر عن هذا الأمر أقل من المتوافر عن بقية الأسطورة. لقد ترك كيد إحدى عشرة حقيبة من الذهب والفضة مع جون جاردينر - وكان من جزيرة جاردينر الواقعة على ساحل لونج أيلند - ربما لعدم ثقته الكاملة في بيلومونت. ولكن جاردينر لم يرد الاشتباك مع بيلومونت، وبعد القبض على كيد قام بتسليم كل شيء للحاكم، الذي أرسله بدوره إلى إنجلترا.
ربما يكون معظم كنز كيد قد انتهى به المطاف إلى أيدي طاقمه، الذين تركه الكثير منهم قبل وصوله إلى بوسطن بفترة طويلة. وسواء كانوا متمردين أم لا، فقد وقع الرجال على الاتفاقية على أمل تحقيق الثراء، ومن الصعب تخيل أنهم قد تركوه ورجعوا بخفي حنين. وبمجرد أن أصبح المال بين أيديهم، صار احتمال إنفاقه أكبر من دفنه.
لمزيد من البحث
Graham Brooks, ed.,
The Trial of Captain Kidd (Edinburgh: William Hodge, 1930). Transcripts of the trial, with a balanced commentary by Brooks .
Daniel Defoe,
A General History of the
(Columbia, S.C.: University of South Carolina Press, 1972). Originally published in 1724, this classic history was originally attributed to a “Captain Charles Johnson.” Only in the twentieth century did most (but not all) scholars conclude that it was written by Defoe, the author of
Robinson Crusoe
and
Moll Flanders .
Ralph Paine,
The Book of Buried Treasure (New York: Macmillan, 1922). As the title indicates, Paine was more interested in searching for treasure than a French pass, but it was the latter that he discovered .
Willard Bonner,
(New Brunswick, N.J.: Rutgers University Press, 1947). Traces the growth of the Kidd legend, from sailors’ ballads to the works of Irving, Cooper, Poe, and Stevenson .
Alexander Winston,
No Man Knows My Grave (Boston: Houghton Mifflin, 1969). The fine line between privateering and piracy, as exhibited in the lives of Henry Morgan, Woodes Rogers, and William Kidd .
Robert C. Ritchie,
Captain Kidd and the War Against the Pirates (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1986). How the British Empire brought an end to the golden age of pirates .
David Cordingly,
Under the Black Flag (New York: Random House, 1995). An informative and entertaining survey of pirates in fact and faction, based on a 1992 exhibit at the London Maritime Museum .
الفصل التاسع عشر
هل مات موتسارت مسموما؟
بعد وفاة زوجها بفترة قصيرة، روت كونستانس موتسارت قصة غريبة عن «القداس الجنائزي»، وهو موسيقى قداس لأرواح الموتى كان موتسارت يعكف عليها قبيل وفاته في ديسمبر 1791.
في وقت مبكر من ذلك العام، كما تتذكر كونستانس، وصل رسول غامض إلى شقة موتسارت في فيينا. وتساءل عن كون موتسارت على استعداد لكتابة «القداس الجنائزي» في مقابل مبلغ مجز من المال. فسارع الموسيقار - الذي كانت أحدث أعماله الأوبرالية، دون جيوفاني، قد فشلت وكان في أمس الحاجة للمال - بالموافقة. وقام الرسول بدفع النصف الأول من المبلغ، ثم غادر. فلم يمكث عنده سوى ما يكفي من الوقت لتحذيره من محاولة معرفة هوية من أمر بتأليف المقطوعة.
راح موتسارت يعمل على تأليف «القداس الجنائزي» واصلا الليل بالنهار. وصار مهووسا به، حتى إنه قد تعرض للإغماء عدة مرات ولكنه لم يستطع التوقف عن التأليف. وقد وصفت كونستانس حالة زوجها الذهنية لفريدريش روخلتس، الذي نشر مجموعة من النوادر عن موتسارت في عام 1798. فكتب روخلتس يقول: «كان دائما ما يجلس في هدوء غارقا في أفكاره. وفي النهاية لم يعد ينكر هذه الأفكار؛ لقد كان يعتقد يقينا أنه يكتب هذه المقطوعة من أجل جنازته.»
كان أحد كاتبي سيرة موتسارت الأوائل، وأحد كاتمي أسرار كونستانس، هو فرانس نيمتشك. وقد روى القصة على هذا النحو أيضا في عمل نشره عام 1798 بقوله: «بدأ موتسارت في الحديث عن الموت، وصرح بأنه يكتب «القداس الجنائزي» من أجل نفسه. وتساقطت دموع هذا الرجل المرهف الحس، ثم واصل قائلا: «لدي شعور قاطع بأنني لن أعيش لأطول من ذلك. أنا واثق من أنني قد تعرضت للتسمم».»
كان موتسارت مقتنعا بأنه يكتب مقطوعته الشهيرة «القداس الجنائزي » من أجل جنازته. (مكتبة الكونجرس.)
لم ينته موتسارت من تأليف مقطوعة «القداس الجنائزي»، وإن كانت تعتبر تحفة فنية حتى في شكلها غير المكتمل. ولا شك أن قصة كونستانس قد أضافت للهالة المحيطة بالعمل ومؤلفه؛ فها هو موتسارت يدفع إلى أعلى قمم الإبداع، ثم يساق في النهاية إلى الموت، بواسطة قوى لم يستطع هو ولا الآخرون فهمها بشكل كامل. فهل من نهاية أنسب من تلك لحياة موتسارت العبقرية القصيرة (إذ كان في الخامسة والثلاثين فقط)؟
إنها قصة مقبولة تماما، ولم يكن هناك أدنى شك في أن كونستانس اختلقتها؛ فقد قال كل من روخلتس ونيمتشك إنهما قد سمعاها منها، وكذلك فعل فينسنت وماري نوفيلو اللذان نشرا رواية مشابهة في عام 1828. ولكن ظلت هناك أسئلة بديهية؛ من كان ذلك الغريب الغامض الذي كلف موتسارت بتأليف «القداس الجنائزي»؟ ومن الذي سمم موتسارت، إن كان هناك من سممه؟ •••
ظهرت الشائعات الخاصة بأن موتسارت قد قتل بعد وفاته بفترة قصيرة، حتى قبل ظهور روايات روخلتس ونيمتشك في عام 1798. ففي عشية رأس السنة لعام 1791، أفادت جريدة برلينية أنه «نظرا لانتفاخ جثته بعد الوفاة، فإن الناس يظنون أنه قد تعرض للتسمم.» وكان من أوائل المشتبه بهم فرانس هوفديميل، زوج إحدى تلميذات موتسارت. فقد تعدى هوفديميل على زوجته وانتحرت في يوم جنازة موتسارت؛ ما دفع البعض لتخمين أن زوجته كانت حبلى بطفل من الموسيقار، ولكن لم يكن هناك دليل حقيقي يربط هوفديميل بموت موتسارت.
ظهر مشتبه به أكثر معقولية في عشرينيات القرن التاسع عشر في شخص موسيقار سابق بالبلاط الإمبراطوري النمساوي، هو أنطونيو ساليري. يظهر اسم ساليري في عدد من المواضع في «دفاتر المحادثة» الخاصة ببيتهوفن، والتي كان ضيوفه يستخدمونها من أجل التواصل مع الموسيقي الأصم. فقد كتب كارل نجل بيتهوفن، وزائر آخر يدعى أنطون شيندلر، في المفكرات أن ساليري اعترف بتسميم موتسارت؛ في حين دون آخرون أن شائعة قيامه بذلك قد انتشرت في كل أنحاء فيينا.
ماذا كان دافع ساليري؟
الحقد. فقد أدرك ساليري - أو هكذا خرج من طاحونة الشائعات - عبقرية موتسارت؛ ولذا أضمر له الكراهية. فلم يطق ساليري أن يشاهد موتسارت يتفوق عليه ليصبح الموسيقار الأبرز في البلاط الفييني، لا سيما أن موتسارت كان دائما فظا ومتغطرسا، في حين كان ساليري دائما لطيفا ومهذبا. وكانت تلك الفكرة مقنعة للغاية، على الأقل كفكرة أدبية. وكان أول من نقب عنها واكتشفها مسرحيا ألكسندر بوشكين في مسرحية عرضت عام 1830. أما أحدث التجسيدات، فكانت مسرحية «أماديوس» لبيتر شافر التي نجحت نجاحا كبيرا على مسرح برودواي عام 1980، وتحولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي، والتي قدمت ساليري مجددا كموسيقار عادي ولكنه بالغ الخطورة لم يستطع تحمل منظر موتسارت ذي العبقرية المختلطة بالفظاظة. وقرر شافر ألا يصور ساليري كقاتل سمم موتسارت؛ بدلا من ذلك، يظهر الموسيقار الملكي كمجرد أداة للتعجيل بموت موتسارت من خلال عدة مكائد تترك ضحيته في ضعف ويأس.
والمشكلة في الحجة المقامة ضد ساليري، سواء كقاتل أو متآمر، هي نفس مشكلة الحجة المقامة ضد هوفديميل: لا يوجد دليل. فالاعتراف المزعوم المذكور في دفاتر المحادثة الخاصة ببيتهوفن لم يتكرر في أي مكان آخر؛ بل إن ساليري، بحسب يوميات عازف البيانو إجناتس موشيليس، أحد تلاميذ بيتهوفن، قد أنكر صراحة تسميم موتسارت. صحيح أن موشيليس مضى بعدها يقول إن ساليري «قد دمره معنويا من خلال المؤامرات والمكائد؛ ومن ثم سمم له ساعات عدة من حياته»، ولكن فيما عدا بضعة المراجع الأخرى المماثلة القائمة على القيل والقال، لا يوجد دليل حقيقي على أن ساليري كان يضمر بغضا لموتسارت، فضلا عن قتله. •••
لم يكن القاتل التالي الذي تم اقتراحه فردا، بل منظمة، هي منظمة الماسونيين أو البنائين الأحرار.
كان الماسونيون يصلحون كمشتبه بهم فاسدين؛ نظرا لكونهم جمعية سرية تمارس كل أنواع الطقوس الغامضة التي كانت تبدو، لغير الأعضاء، أقرب لأعمال السحر والشعوذة. وكان موتسارت قد انضم لمحفل ماسوني صغير بفيينا في عام 1784. وكان عضوا نشطا؛ إذ قام بتأليف عدد من المقطوعات تدور حول أفكار ماسونية، من ضمنها «الناي السحري»، وهو آخر عمل مكتمل له.
حتى منتصف القرن التاسع عشر، لم يكن الباحثون يدركون الإيحاءات الماسونية في «الناي السحري». على سبيل المثال، يلعب الرقم 18، الذي له مدلول كبير في الطقوس الماسونية، دورا مهما أيضا في أوبرا موتسارت. ففي بداية الفصل الثاني، يوجد ثمانية عشر كاهنا وثمانية عشر مقعدا، ويقسم الجزء الأول من الكورس الذي يغنونه إلى ثمانية عشر فاصلا. علاوة على ذلك، تحتوي المقدمة الأوركسترية لهذا المشهد على ثماني عشرة مجموعة من النغمات.
وتقدم الطبعة الأصلية لنص كلمات الأوبرا في عام 1791 دليلا آخر أكثر وضوحا على أن موتسارت وواضع كلمات أوبراه (وهو أحد رفاقه الماسونيين) إيمانويل شيكانيدير كانا يقصدان أن تكون الأوبرا قصة رمزية ماسونية، ولو بشكل جزئي. فتضم صفحة عنوان النص الأوبرالي نجمة ذات خمسة رءوس، ومربعا، ومالج بناء، وساعة شمسية؛ وكلها رموز ماسونية.
كان أول من طرح ضلوع الماسونيين في تسميم موتسارت هو جي إف دومر، وذلك في عام 1861. فذهب إلى أن موتسارت قد عادى رفاقه الماسونيين بإفشاء بعض أسرارهم في «الناي السحري»؛ لذا عمد الماسونيون - أو بالأحرى دائرة داخلية من الماسونيين - حسبما ذهب دومر إلى الانتقام. وقد تبنى هذه النظرية العديد من كتاب القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
غير أن نظريات المؤامرة الماسونية لم يكن خلفها دليل حقيقي يدعمها، شأنها شأن نظريتي هوفديميل وساليري. صحيح أن معظم الباحثين (وليس كلهم) قد تقبلوا فكرة أنه كان هناك عنصر ماسوني في «الناي السحري»، ولكن لم يكن هناك مبرر لتصديق أن الماسونيين لم يكونوا راضين تمام الرضا عن ربطهم بالأوبرا ومؤلفها. بل إنه بعد وفاة موتسارت أقام محفله احتفالية تأبين، وطبعوا نسخا من الخطبة التي ألقيت على شرفه. كذلك لم يتمكن واضعو نظريات المؤامرة قط من تفسير قيام الماسونيين بقتل موتسارت وليس شيكانيدير الذي كان، ككاتب نصوص أوبرالية، مسئولا بنفس القدر على الأقل عن العناصر الرمزية للأوبرا.
وتعد نظرية المؤامرة افتراء ظالما على الماسونيين، الذين على الرغم من كونهم طائفة ذات أيديولوجية دينية خاصة بلا شك، كانوا يضمون بينهم بعضا من أكثر مواطني فيينا احتراما. بل إن المحافل الماسونية كانت ملتقى للكثير من النخبة الفكرية بالمدينة. بالمثل، كان الماسونيون في أمريكا يضمون بين أعضائهم جورج واشنطن، وبنيامين فرانكلن، وتوماس جيفرسون، وفي فرنسا انضم إليهم الكثير من الجمهوريين البارزين.
غير أن النزعة الجمهورية عند الكثير من الماسونيين كانت بالكاد مطمئنة للإمبراطور ليوبولد الثاني إمبراطور النمسا؛ فقد كان ليوبولد يراقب الثورات التي اندلعت بالخارج بمزيد من القلق، وتمثل رد فعله في أنه قام بالتضييق على الماسونيين في الداخل. فأغلق الكثير من محافلهم، وجعل الشرطة تراقب البقية عن كثب. وخمن بعض المؤرخين أن موتسارت وشيكانيدير قد قررا إنتاج أوبرا ماسونية كرد فعل لهذا الضغط. وكان أملهما أن تساهم «الناي السحري» في إقناع العامة، والحكومة المحافظة، بأنه ليس هناك ما يدعو للخوف من الماسونيين.
وإذا كان الأمر كذلك، فقد ذهب أملهما أدراج الرياح؛ فبحلول منتصف تسعينيات القرن الثامن عشر قام ليوبولد بحظر الماسونيين كلية، وتقلص تأثيرهم وتضاءلت عضويتهم. ولكن موتسارت ظل ماسونيا مخلصا حتى وفاته. ولدينا كل سبب لتصديق أن رفاقه الماسونيين ظلوا على نفس القدر من الولاء والإخلاص له. •••
لو كان موتسارت قد تسمم، فأغلب الظن أن المجرمين هم أطباؤه على الأرجح، وإن لم يكن عن عمد.
فقد روت كونستانس واقعة واحدة على الأقل عن تسبب الأطباء في «إنزافه»، وربما كان هناك وقائع أخرى؛ نظرا لأن هذا العلاج كان لا يزال شائعا في أواخر القرن الثامن عشر. وفي حالة موتسارت الصحية الهزيلة، خاصة لو كان يعاني من مرض بالكلى، مثلما يعتقد الكثير من المؤرخين، فمن الوارد كثيرا أن يكون العلاج قد ساهم في موته.
وبخلاف النزيف، لا يملك المؤرخون الطبيون الكثير لزعمه. فقد أدرجت شهادة وفاة موتسارت سبب الوفاة بأنه «حمى دخنية شديدة»، وهو تشخيص لا يعني شيئا لأطباء اليوم. فقد وصف زوار موتسارت، من ضمنهم كونستانس، ما كان يعانيه من أعراض بشكل متفاوت ومبهم للغاية، حتى إنه ربما كان يعاني من أي عدد من العلل، من بينها التهاب الشغاف البكتيري، ومتلازمة هينوخ شونلاين، واللوكيميا، والالتهاب الشعبي الرئوي بالعنقوديات، ونزيف المخ.
وفي المنتدى الطبي الذي عقد عام 1991، بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لوفاة موتسارت، كان على رأس أسباب الوفاة الفشل الكلوي والحمى الروماتيزمية، ولكن لم يكن هناك إجماع واضح بين الخبراء؛ فيما عدا أنه لم يظن أحد منهم أنه تعرض للتسمم.
أما بالنسبة إلى اعتقاد موتسارت الشخصي بحدوث العكس، فمن الممكن أن يكون ببساطة نتيجة لهذيان أو اكتئاب تسبب فيه أي من الأمراض التي أدت لوفاته. ولا شك أيضا أن زيارة الرسول الغامض الذي اتفق معه على تأليف «القداس الجنائزي» كانت تركز ذهنه على التفكير في الموت، وموته هو تحديدا. فمن السهل تخيل الموسيقار الهزيل وهو يحول الرسول الغامض إلى رسول موت. بل إن شافر أشار إلى أن ساليري قد تنكر في شخصية الرسول ليدفع خصمه إلى حافة الجنون، في ظل علمه بانشغال موتسارت الشديد بفكرة الموت.
كانت الحقيقة بشأن الرسول، والتي تكشفت أخيرا بعد 173 عاما من وفاة موتسارت، أقل شرا، ولكن ليست أقل غرابة. ففي عام 1964، نشر أوتو دويتش وثيقة اكتشفت في أرشيفات بلدة فينر نيوشتات، وهي بلدة تقع على بعد قرابة ثلاثين ميلا جنوب فيينا. كانت الوثيقة بعنوان «التاريخ الحقيقي والتفصيلي للقداس الجنائزي لدبليو إيه موتسارت، بدءا من تأليفه عام 1791 حتى الفترة الحالية من عام 1839»، وكانت بقلم أنطون هيرتسوج، وهو موسيقي كان يعمل لدى كونت فون فالسيك، أحد كبار ملاك الأراضي في المنطقة.
أوضح هيرتسوج أن الكونت كان محبا للموسيقى لحد الولع، وكان يحب شراء أعمال الموسيقيين الواعدين وتقديمها على أنها من تأليفه. وفي فبراير من عام 1791 توفيت زوجة الكونت الشابة، فقرر إحياء ذكرى موتها بقداس مهيب مميز؛ لذا أرسل أحد الخدم إلى موتسارت، بنفس عرضه السخي المألوف ونفس التحذير المعتاد أيضا ألا يحاول معرفة هوية المكلف بالعمل.
كان هيرتسوج ورفاقه الموسيقيون يسايرون سيدهم، فيتذكر هيرتسوج قائلا: «كان معروفا لنا جميعا أن الكونت كان يريد تضليلنا، مثلما فعل مع المقطوعات الأخرى التي اتفق عليها. ففي حضورنا كان دائما ما يقول إنها من تأليفه، ولكنه كان يبتسم حين يقول ذلك .»
وهكذا اتضح أن تحفة موتسارت الفنية الأخيرة لم تؤلف لتنذر بالموت على نحو مخيف، ولكن ألفت من أجل لص غريب الأطوار يسرق أعمال الغير. ولأن كونستانس ليست حمقاء، فربما تكون قد نشرت قصة الرسول المجهول على أمل أن تعزز سمعة زوجها الراحل، والتي كانت تتنامى بشكل سريع؛ فضلا عن قيمة مؤلفاته الآخذة في التزايد على نحو متسارع. وإذا كان هذا هو الحال، فقد حققت نجاحا يفوق أحلامها؛ إذ صار «القداس الجنائزي» يعتبر واحدا من روائع موتسارت. ولا يزال كذلك، بغض النظر عن كيفية تأليفه.
لمزيد من البحث
Otto E. Deutsch,
Mozart: A Documentary Biography,
trans. from the German by Eric Blom, Peter Branscombe, and Jeremy Noble (Stanford, Calif.: Stanford University Press, 1965). An extensive selection of primary sources .
Mozart and Masonry (New York: Da Capo Press, 1970). Originally published in 1957, this remains the most comprehensive treatment of the subject .
Wolfgang Hildesheimer,
Mozart,
trans. from the German by Marion Faber (New York: Farrar, Straus, & Giroux, 1982). Originally published in Germany in 1977, this is more an extended essay than a traditional biography. The portrait of Mozart as a frivolous boor, albeit a brilliant one, may have partly inspired Shaffer’s
Amadeus .
Amadeus (New York: Harper & Row, 1980). A flop with historians, but a hit with theater and moviegoers .
H. C. Robbins Landon,
1791: Mozart’s Last Year (New York: Schirmer Books, 1988). A lively chronicle of the year that portrays Mozart, partly in response to the Hildesheimer/Shaffer image, as a responsible husband and citizen .
Gernot Gruber,
Mozart and Posterity,
trans. from the German by R. S. Furness (Boston: Northeastern University Press, 1991). How Mozart has been interpreted, from the eighteenth century through the twentieth .
William Stafford,
The Mozart Myths (Stanford, Calif.: Stanford University Press, 1991). Debunks the myth of foul play, as well as various other myths about Mozart-such as that he was a social reformer or a nationalist .
Dalhousie Review (Summer 1993). Most of the issue’s contents are devoted to papers given at a 1991 symposium titled “Medicine in the Age of Mozart.”
Maynard Solomon,
Mozart (New York: HarperCollins, 1995). A psychoanalytically influenced biography that focuses, quite persuasively, on Mozart’s relationship with his father .
الفصل العشرون
لماذا تخلى فرويد عن نظرية الإغواء؟
ذكر فرويد في قصة حياته التي كتبها بنفسه عام 1925: «لا بد أن أذكر خطأ وقعت فيه لفترة، وربما كان له عواقب وخيمة على كل أعمالي.»
كان «خطأ» فرويد هو «نظرية الإغواء» التي وضعها وكان يؤمن بها بشغف خلال مطلع التسعينيات من القرن التاسع عشر. كان اسم النظرية مضللا؛ إذ لم يكن لها أدنى صلة بالإغواء، بل بالتعدي الجنسي على الأطفال. فقد صاغ فرويد نظرية الإغواء أثناء علاج ثمانية عشر مريضا يعانون من مجموعة من الاضطرابات العصبية. وعلم فرويد أن كلا من هؤلاء المرضى قد تعرضوا لتحرش جنسي أثناء الطفولة.
كان فرويد في قمة الإثارة والفرح لظنه أنه قد حدد جذور الكثير من الأعراض التي يعانيها المرضى. وفي ورقة بحثية قدمت لجمعية فيينا للطب النفسي وطب الأعصاب، في أبريل من عام 1896، عقد فرويد مقارنة بين نتائجه وبين اكتشاف منبع نهر النيل. وكتب لصديقه وزميله في مجال الطب فيلهيلم فليس خطابا شخصيا قائلا إنه يتوقع أن تجلب له نظريته في الإغواء شهرة وثراء.
غير أنه في سبتمبر 1897، تبدل موقف فرويد بشكل مثير، فكتب في خطاب آخر لفليس يقول: «أريد أن أفشي لك على نحو مباشر السر الكبير الذي ظل يتكشف لي طوال الأشهر القليلة الماضية. فأنا لم أعد أومن بنظريتي عن الإغواء.» اعترف فرويد بأن من مشكلات النظرية أن المكاشفات الخاصة بالتعرض للاعتداء في الطفولة لم تؤد إلى علاج ناجح لأي من مرضاه؛ إذ ظلوا يعانون من نفس الأعراض. ولكن الخلل الأكبر تمثل في أن هذه الأعراض كانت شائعة للغاية. ولو أن كل شخص عانى منها قد تعرض لاعتداء في الطفولة، لكان ذلك يعني - كما أدرك فرويد حينها - أن الاعتداء على الأطفال كان متفشيا بشكل مستفحل في المجتمع الفييني. بل إن فرويد لا بد أن يكون قد اعتدي عليه وهو طفل، إن كانت نظرية الإغواء صحيحة، بما أنه نفسه كان يشارك مرضاه في العديد من أعراضهم.
وفي مواجهة هذه التداعيات، تخلى فرويد عن نظرية الإغواء، ولكنه ظل مؤمنا بأن هناك شيئا في القصص التي أخبره بها مرضاه. ففي عام 1905، في كتابه «ثلاث مقالات في نظرية الجنس»، أعلن فرويد عن نظرية جديدة وأكثر ثورية. فقد أكد أن مرضاه لم يتعرضوا لاعتداءات جنسية بالفعل في الطفولة، بل إن ما يكبتونه بداخلهم وما زالوا يكبتونه هو خيالات طفولتهم. إن المرضى لم يمارسوا الجنس، ولكنهم كانوا «يرغبون» في الجنس. وبشكل أكثر تحديدا، كان المرضى يرغبون أثناء الطفولة في مضاجعة آبائهم (إذا كانوا فتيات)، وفي مضاجعة أمهاتهم (إذا كانوا صبية).
وهكذا نشأت «عقدة أوديب»، وجاء معها مفهوما جنسانية الأطفال والعقل الباطن، اللذان يعدان عمودي علم التحليل النفسي الجديد الذي وضعه فرويد. وكل هذا حدث، بحسب فرويد، لأنه اضطر للتخلي عن نظرية الإغواء التي كانت يوما ما محببة إليه.
ووافق إرنست جونس، تلميذ فرويد وكاتب سيرته الذاتية، على أن تلك كانت نقطة التحول الحاسمة في تفكير فرويد، وحذا المؤرخون الفكريون الآخرون حذوه. وبحلول خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كان فرويد قد اكتسب مكانة رفيعة بين أعظم المفكرين عبر العصور، وكان تخليه عن نظرية الإغواء المثال الأول والرئيسي لشجاعته وأمانته الفكرية.
غير أنه في سبعينيات القرن العشرين انهار ذلك الإجماع بشأن فرويد. وقاد أنصار المساواة الهجوم، تحت وطأة غضبهم من بعض أفكاره المعادية للمرأة (مثل أن القوة الدافعة في سلوك النساء هي حسد القضيب). وتبعهم باحثون آخرون بنقد تراوح بين تعاطي فرويد للكوكايين إلى عدم فاعلية التحليل النفسي. ولكن تمثلت الصدمة الكبرى لأتباع فرويد في سلسلة من الأعمال التي دحضت رواية فرويد عن انطلاقته العظيمة . فعقدة أوديب، بحسب هؤلاء من أنصار التعديلية، لم تنبثق من أنقاض نظرية الإغواء؛ أي إن تلك القصة لم تكن سوى كذبة. والأسوأ، كما أكد منتقدوه، هو مبرر فرويد للكذب. فقد كذب حتى لا يعلم أحد قط مبرره الحقيقي - والمخزي بحق - للتخلي عن نظرية الإغواء. •••
هال الفرويديين التقليديين أن يكون واحد من أكثر النقاد صخبا قد جاء من بين صفوفهم. كان هذا هو جيفري ماسون، وهو محلل نفسي أمريكي شاب، كان حتى عام 1980 الوريث الشرعي لمدير أرشيفات فرويد بمكتبة الكونجرس.
وكانت تلك هي المرحلة التي بدأ فيها ماسون في تفحص خطابات فرويد لصديقه فليس. كانت مجموعة مختارة منها، حررتها آنا - ابنة فرويد - قد نشرت في عام 1950، ولكن معاينة ماسون للأرشيفات أظهرت أن العديد من خطابات فرويد لفليس قد محيت. ومن خلال معاينة أدق تبين أن المادة المفقودة كانت ذات صلة بأفكار فرويد عن نظرية الإغواء. وأدرك ماسون أن هذه الخطابات قد أظهرت أن فرويد لم يتخل عن النظرية بسرعة أو بشكل مؤكد كما أشار فيما بعد؛ على العكس، فقد استمر لشهور، وربما لسنوات، في التمسك ببعض الأمل في أن يتمكن من إثبات صحتها.
سأل ماسون آنا لم قامت بحذف هذه المادة، فقالت إنها لم ترد إرباك القراء بكشف شكوك والدها. وكان ماسون يرى أن هذه الشكوك لها دلالة تاريخية. فلم تظهر الخطابات أن فرويد قد استمر في الاعتقاد بأن مرضاه قد أخبروه الحقيقة بشأن تعرضهم للاعتداء فحسب، بل أظهرت أيضا أن نظرية الإغواء كانت بالفعل صحيحة. فكان ماسون يعتقد أن مرضى فرويد قد تعرضوا للاعتداء.
إذن لماذا انصرف فرويد عن نتائجه؟ وفقا لماسون، فقد صدم زملاء فرويد من الذكور بالنظرية وادعاءاتها الضمنية بانتشار الاعتداء الجنسي؛ لذا تراجع فرويد في ظل استماتته لنيل استحسانهم. وعن ذلك كتب ماسون في كتابه الصادر عام 1984: «بأكبر قدر من الامتعاض، أدركت تدريجيا أن تخلي فرويد عن فرضية الإغواء كان قصورا في الشجاعة.»
وجد ماسون دليلا إضافيا يدعم موقفه في خطابات فرويد لفليس بشأن مريضة تدعى إيما إيكشتاين. كانت إيكشتاين تعاني من عدم انتظام أو آلام في الحيض. فقام فرويد بإحالتها إلى فليس، الذي قرر بدوره أنها بحاجة إلى جراحة في أنفها. وبالنظر إلى الماضي، يتضح أن فليس، الذي كان يعتقد أن الأنف هو العضو المهيمن على الجسم وأنه مصدر مشاكل الحيض التي تعاني منها إيكشتاين، كان دجالا. ومما زاد الأمور سوءا أن فليس أجرى العملية بغير إتقان بأن ترك قطعة من الشاش في الجرح. وعانت إيكشتاين من نزيف شديد، واستمرت في النزف لفترة طويلة بعد أن أنهى فليس عمله.
وصف تقرير فرويد عن حالة إيكشتاين، في خطاب كتبه لفليس بعد الجراحة، النزيف المتواصل كحالة سايكوسوماتية (نفسية جسدية). وأضاف أنها نتيجة لرغبة إيكشتاين الجنسية تجاه فرويد. وقد كان هذا تشخيصا منافيا للعقل بشكل واضح، وأقرب لمحاكاة هزلية للمفاهيم الفرويدية عن الجنسانية المكبوتة والطرح أو التحويل. ورأى ماسون أن مثل هذا التشخيص المنافي للعقل أظهر أيضا إلى أي مدى كان فرويد يتملق إلى زميل، وإلى أي مدى كان يسارع إلى نسب أعراض أي مريض إلى الخيالات لا لحدث فعلي صادم. كان القياس التمثيلي مع نظرية الإغواء واضحا، فلم يكن فرويد قادرا على مواجهة فليس بالحقائق المزعجة المتمثلة في خطأ نظريته الأنفية وأنه أجرى الجراحة بغير إتقان، مثلما لم يستطع مواجهة زملائه الفيينيين بالحقائق المزعجة بالقدر نفسه عن أن الاعتداء على الأطفال مستشر وأن نظرية الإغواء صحيحة.
أحدث كتاب ماسون قدرا هائلا من الجدل. وأطلقت عليه جريدة نيويورك تايمز «ووترجيت علم النفس»، وتبناه الكثير من أنصار المساواة وآخرون ممن يعتقدون أن الاعتداء على الأطفال، خاصة الفتيات، قد استهين به وظل متجاهلا لفترة طويلة للغاية. وأصبح ماسون، الذي فصل من عمله في أرشيفات فرويد، بطلا بالنسبة إلى حركة مناهضة الاعتداء الجنسي.
غير أن رد الفعل العلمي لم يكن إيجابيا بشكل عام، وليس فقط من جانب الفرويديين التقليديين. حتى الكثيرون ممن تحرروا من أوهام فرويد أو التحليل النفسي لم يقتنعوا بشكل عام بحجج ماسون؛ فقد ذهبوا إلى أن حالة إيكشتاين كانت قياسا تمثيليا وليست دليلا. فليس معنى أن فرويد كان مفرطا في مراعاة الآخرين، بل ربما كان جبانا في علاقته بفليس، أن فرويد كان يتصرف على النحو ذاته في المواقف الأخرى.
في الواقع، إن التخلي عن نظرية الإغواء، كما أشار الكثير من الباحثين، كان تصرفا ينم عن شجاعة جمة؛ إذ كانت الفكرة التي حلت محل الإغواء - أن الأطفال يتخيلون أنهم يمارسون الجنس مع آبائهم وأمهاتهم - من الصعب أن تقرب فرويد على الأرجح إلى المؤسسة الطبية. فقد كانت عقدة أوديب فكرة لا تقل تطرفا عن فكرة انتشار الاعتداء على الأطفال، بل إنها كانت أكثر تطرفا ومغالاة، في ظل إدراك الكثير من الأطباء أن هناك حالات اعتداء جنسي على الأطفال قد وقعت بالفعل، في حين لم يفكر أحد في أوديب بوصفه أي شيء سوى مجرد خرافة إغريقية قديمة.
فرويد (إلى اليسار) مع صديقه المقرب ومستشاره في وقت ما فيلهيلم فليس، الذي كان دجالا يعتقد أن بإمكانه حل معظم مشكلات المرضى بعمليات في الأنف. (إيه دبليو فرويد وآخرون، شركة سيجموند فرويد كوبي-رايتس.)
ثمة نقطة واحدة فقط كانت فيها الغلبة لماسون. فقد أقنعت الرسائل المنشورة حديثا لفليس معظم الباحثين بأن فرويد استمر في التمسك بأمله في إنقاذ نظرية الإغواء بعد أن شجبها في خطابه المرسل في سبتمبر 1897 إلى فليس. وبعد ماسون، بات من الصعب المجادلة بأن عقدة أوديب كانت نتيجة مباشرة للتخلي عن نظرية الإغواء؛ بدلا من ذلك صار واضحا أنه قد تخلى تدريجيا عن نظرية ليتبنى الأخرى. أما بالنسبة إلى مبرره للتخلي عن نظرية الإغواء، فقد صمدت الرواية التقليدية، التي ظن فيها فرويد أن مرضاه لم يتعرضوا لاعتداء فعلي، في وجه التحدي الذي أثاره ماسون. •••
إذا كان الفرويديون المخلصون قد ظنوا أن بإمكانهم أن يتنفسوا الصعداء بعد أن ردوا هجوم ماسون، فقد كانوا مخطئين تماما. فقد كان لا يزال هناك هجمة جديدة وأكثر استمرارية في الطريق، وهذه المرة من مجموعة متنوعة من العلماء، والفلاسفة، والنقاد الأدبيين. وربما يكون الناقد الأدبي فريدريك كروز هو من أشعل الجدل الأكبر من بين هذه المجموعة؛ وهو ما يرجع بشكل جزئي إلى ظهور عمله لأول مرة في مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس، التي تعتبر منذ زمن معقلا فرويديا.
في مقالات نشرت في عامي 1993 و1994، اتفق كروز في الرأي مع ماسون على أن فرويد قد كذب بشأن سبب تخليه عن نظرية الإغواء. ولكن على عكس ماسون، الذي كان يعتقد أن فرويد قد تراجع عن قصص مرضاه عن الاعتداء الجنسي من منطلق الخوف، اتهم كروز فرويد بتلفيق تلك القصص من الأساس. فقد كان فرويد، بحسب كروز، في أشد اللهفة لإثبات صحة نظريته، لدرجة أنه شجع مرضاه على تذكر تعرضهم للاعتداء الجنسي في الطفولة. وتفضل المرضى، الذين كانوا في حالة من عدم الاتزان ومتلهفين لإرضاء طبيبهم، بتقديم وصف للاعتداء الذي لم يحدث في الحقيقة.
ولإثبات حجته، تعمق كروز في أوراق فرويد البحثية منذ تسعينيات القرن التاسع عشر. ووجد اعترافات متكررة بأن مرضى فرويد، قبل الخضوع للتحليل، لم يكن لديهم أدنى فكرة أنهم قد تعرضوا للاعتداء أثناء الطفولة كما يفترض. وفي ذلك كتب فرويد عام 1896 يقول: «وحدها قوة العلاج القهرية هي التي تستطيع حثهم على الشروع في إحياء مشاهد الاعتداء.» وقد قال كروز إنه لا يقصد أن فرويد قد لفق القصص متعمدا، ولكن يقصد أنه لم يقدر قدرته على التأثير في مرضاه بإيحاءاته حق قدرها.
غير أن فرويد أدرك بالتدريج أن قصص الاعتداء الجنسي في الطفولة التي كان يسمعها لم تكن صحيحة. وربما يكون قد أدرك أيضا أن هذا هو سبب عدم جدوى علاجه النفسي، أو ربما أدرك أن بعضا من المرضى قد تراجعوا عن قصصهم. ولكن إدراكه هذا جاء بعد فوات الأوان؛ فقد كان فرويد قد طرح نظرية الإغواء على زملائه، وكان في غاية الحرج من الاعتراف بأن ما توصل إليه من نتائج كانت نتاجا لشكل شابه خلل خطير من أشكال العلاج النفسي. ووقع فرويد في مصيدة؛ فإذا استمر في الادعاء بأن قصص الاعتداء الجنسي حقيقية، فقد يبدأ بعض من مرضاه الذين تحرروا من الأوهام في مناقضته ودحض ادعاءاته علنا. ولكن إذا اعترف بأنه قد غرس قصص الاعتداء الجنسي في عقول مرضاه، فسوف تكون تلك فضيحة له كمعالج نفسي.
ثم وجد فرويد المخادع المخرج من ورطته. فقام بتلفيق نظرية تسلم بأن الاعتداء لم يحدث مطلقا، ولكنها ظلت تنسب القصص للمرضى، وليس للمعالج. فأوضح فرويد أن القصص كانت نتاجا لعقل المرضى الباطن ورغباتهم المكبوتة. وهكذا نشأت عقدة أوديب بحسب كروز.
كانت نسخة كروز لأصول التحليل النفسي أكثر إزعاجا من نسخة ماسون. فقد استبدل الجبان في نظرية ماسون وحل محله مخادع صرف. لقد كان فرويد باختصار مخادعا ومحتالا. ونتيجة لذلك ظل المرضى وآخرون غيرهم في معاناتهم حسبما أكد كروز.
كان أحد اهتمامات كروز الخاصة صعود ما بات يعرف بعلاجات «استرجاع الذاكرة»، في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. فقد كان العديد من علماء النفس يحثون الكبار على استرجاع ذكرى ما تعرضوا له من اعتداء في الطفولة، مستغلين مفهوم فرويد عن الذكريات الجنسية المكبوتة؛ ما أدى إلى مقاضاة الكثير من المعتدين المزعومين. وكان منتقدو تلك العلاجات، ومن بينهم كروز، يعتقدون أن قدرا كبيرا من هذا الاعتداء لم يحدث، وأن الذكريات المسترجعة كانت نتاجا لإيحاءات المعالج شأنها شأن قصص مرضى فرويد.
بدا هذا الهجوم بالنسبة إلى أنصار فرويد مثيرا للسخرية وجائرا أيضا. فمن ناحية، كانوا قد تخلصوا أخيرا من ماسون الذي اتهم فرويد بالتخلي عن ضحايا الاعتداء الجنسي في الطفولة. بعدها جاء كروز، الذي ألقى اللوم على أفكار فرويد لتشجيعها المرضى على «استرجاع» ذكرى اعتداء لم يحدث من الأساس. كيف يمكن أن يكون فرويد مسئولا عن ترك المعتدين ليفلتوا بفعلتهم وعن اتهام أبرياء بالاعتداء في نفس الوقت؟ أشار بعض أنصار فرويد الساخطون إلى أن الهجومين يبطل كل منهما الآخر.
وللأسف لم يكن نبذ المنتقدين بهذه السهولة بالنسبة إلى أنصار فرويد. فالهجمات المتعددة التي شنت ضد فرويد دمرت مكانة المحللين النفسيين ونشاطهم على حد سواء. صحيح أن انخفاض عدد المرضى الذين يعالجون بالتحليل النفسي كان له صلة كبيرة بالعلاجات الدوائية الجديدة - إذ كان بروزاك أسرع وأرخص من التحليل النفسي - إلا أن الهجمات ضد الدعائم الفكرية للتحليل النفسي كان لها ضررها أيضا. فإذا لم يكن من الممكن الوثوق بفرويد في إخبار الحقيقة بشأن أصول التحليل النفسي، فكيف يمكن أن نتوقع من المرضى أن يأتمنوا خلفاءه على صحتهم الشعورية؟
إن مكانة فرويد كواحد من أهم المفكرين عبر العصور لا تزال في مأمن، على الرغم من إنكار أكثر منتقديه حماسا. لقد نجح النقاد في إثبات أن نسخة فرويد من إنجازه العظيم لم تكن دقيقة؛ إذ لم يكن تخليه عن نظرية الإغواء فوريا ولا كاملا كما ادعى. ولكن معظم المؤرخين الفكريين عزفوا عن أن ينسبوا لفرويد دوافع دنيئة كتلك التي افترضها ماسون أو كروز. ويرى بعض الباحثين أن هناك احتمالا مماثلا أن يكون فرويد قد أفرط في التبسيط - وأساء عرض الحقيقة - من أجل قصة درامية.
علاوة على ذلك، وبصرف النظر عن أصول أفكار فرويد، وبصرف النظر حتى عن الخير أو الشر الذي صنعته، فإن تأثيرها المتواصل على العلم، والفلسفة، والفن، والأدب - وعلى طريقة تفكيرنا في أنفسنا - لا يمكن إنكاره. فسواء قبلت بذلك أم لا، فلا أحد، بعد فرويد، اضطر لقراءة سوفوكليس لمعرفة شيء عن أوديب.
لمزيد من البحث
Sigmund Freud,
The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud,
trans. under the general editorship of James Strachey in collaboration with Anna Freud (London: Hogarth Press, 1953-1974). Of these twentyfour volumes, the most relevant are volume 7 (
Three Essays on the Theory of Sexuality , published in 1905 and including the first public retraction of the seduction theory) and volume 20 (
An Autobiographical Study , published in 1925 and with a subtly different recollection) .
Jeffrey Masson, ed.,
The Complete Letters of Sigmund Freud to Wilhelm Fliess,
trans. from the German by Masson (Cambridge, Mass.: Belknap Press, 1985). The unexpurgated version and, regardless of whether you find Masson’s interpretation persuasive, a revealing look at Freud’s thoughts in the making .
Ernest Jones,
The Life and Work of Sigmund Freud (New York: Basic Books, 1953-1957), three volumes. Jones, himself an important figure in the history of psychoanalysis, wrote what remains the most comprehensive biography .
Jeffrey Masson,
The Assault on Truth (New York: Farrar, Straus, & Giroux, 1984). Some sense of the Freudians’ reception to Masson can be gauged from Janet Malcolm’s description of him as “a veritable Iago, papered over with charm yet filled with motiveless malignity.”
Freud (New York: W. W. Norton, 1988). An authoritative biography that, though it fails to directly address most of the recent Freud critics, reaffirms its subject’s intellectual importance and integrity .
Freud and His Critics (Berkeley, Calif.: University of California Press, 1993). A vigorous defense of Freud .
Frederick Crews,
The Memory Wars (New York: A
New York Review
Book, 1995). Includes not just Crews’s lively essays but also many of the equally interesting responses that also appeared in the
New York Review of Books .
Frederick Crews, ed.,
Unauthorized Freud (New York: Viking, 1998). A collection of essays by many of the leading anti-Freudians, including the literary critics Mikkel Borch-Jacobsen and Stanley Fish, the philosophers Frank Cioffi and Adolf Grunbaum, the psychoanalyst Rosemarie Sand, the biologist Frank Sulloway, the psychologist Malcolm Macmillan, and the mathematician Allen Esterson. The range of contributors shows from how many different sides Freud is under attack .
الفصل الحادي والعشرون
هل كان من الممكن إنقاذ تيتانيك؟
في ليلة 18 أبريل عام 1912، دخلت السفينة الصغيرة كارباثيا العابرة للمحيطات، بقيادة القبطان آرثر روسترون، ميناء نيويورك. وكان في استقبالها قارب سحب السفن الخاص بعمدة المدينة وأسطول من القوارب الأخرى، وكانت جميعا تطلق أجراسها وصافراتها وأجهزة الإنذار. وكان أكثر من أربعين ألف شخص ينتظرون على الرصيف، من ضمنهم لفيف من المراسلين الصحفيين الذين سرعان ما أحاطوا بالركاب وهم يهبطون من على سلم السفينة.
كان هؤلاء الركاب هم الناجين من السفينة تيتانيك؛ السفينة غير القابلة للغرق التي غرقت قبل بضعة أيام بشكل لا يصدق.
سمعت السفينة كارباثيا استغاثة تيتانيك أول مرة بعد منتصف ليلة 14 أبريل. وفي الحال، قام روسترون بتغيير المسار لإنقاذ السفينة العملاقة. وعلى الرغم من أنه اضطر لشق طريقه عبر نفس الكتلة الثلجية التي حطمت السفينة تيتانيك، فقد رفع سرعة كارباثيا إلى سبع عشرة عقدة، وهي سرعة تفوق أية سرعة أبحرت بها سفينته من قبل.
بعد أربع ساعات، بلغت كارباثيا موقع آخر إشارة أرسلتها تيتانيك عن موقعها؛ وصلت متأخرة قرابة ساعة ونصف؛ فقد كانت تيتانيك قد غرقت ولا يزال على متنها 1502 شخص، ما بين ركاب وأفراد الطاقم. وأمضى روسترون الساعات الأربع التالية في البحث عن ناجين. وبحلول الساعة الثامنة صباحا، كان قد التقط ال 705 ركاب الذين قفزوا في قوارب النجاة التابعة لتيتانيك.
وعند تلك المرحلة، وصلت سفينة القبطان ستانلي لورد، كاليفورنيان، إلى موقع الأحداث. وفي غمرة لهفة روسترون المبررة لنقل الناجين إلى نيويورك، ترك للورد مهمة إجراء بحث أخير عن ناجين وانطلق. ولم يجد لورد ناجين آخرين، وعاد إلى مساره الأصلي. وبعد تسع ساعات من رسو كارباثيا في نيويورك، دخلت كاليفورنيان بوسطن في هدوء.
لم يكن لورد ليتحاشى الأضواء لفترة طويلة؛ فلم يكد يمر بضعة أيام حتى تحول انتباه العالم من كارباثيا إلى كاليفورنيان. فأفاد عدد من صحف بوسطن، بعد الحديث إلى أفراد طاقم كاليفورنيان، بأن السفينة كانت أقرب كثيرا إلى تيتانيك الغارقة من كارباثيا؛ والواقع أنه في قرابة الساعة الحادية عشرة في ليلة 14 أبريل، كان لورد وطاقمه قد رأوا السفينة بالفعل على بعد بضعة أميال فقط إلى الجنوب الشرقي. وبعد فترة قصيرة، رصد بعض ممن كانوا على متن تيتانيك سفينة في اتجاه الشمال الغربي.
بعدها، وبعد منتصف الليل بقليل (وأيضا بعد اصطدام تيتانيك بالجبل الجليدي المميت بقليل)، رأى ضباط السفينة كاليفورنيان ما بدا وكأنه صاروخ انطلق فوق السفينة الأخرى. وعلى مدار الساعتين التاليتين، وبينما كانت تيتانيك تطلق إشارات استغاثتها، شاهد ضباط كاليفورنيان وأفراد طاقمها سبعة صواريخ أخرى تنطلق في السماء.
غير أن لورد لم يحرك ساكنا. كانت كاليفورنيان ستسجل في التاريخ - بحسب ما قال المؤرخ ليسلي ريد - بوصفها «السفينة التي وقفت بلا حراك.» ولم يقم لورد بضبط المسار في اتجاه الموقع النهائي لتيتانيك إلا بعد الساعة الخامسة صباحا.
ومنذ ذلك الحين راح المؤرخون يتساءلون: هل كان بإمكان كاليفورنيان إنقاذ من كانوا على متن تيتانيك؟ وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لم يفعل لورد شيئا؟ •••
من ضمن من كانوا في استقبال السفينة كارباثيا في نيويورك السيناتور ويليام ألدن سميث - من ميشيجان - الذي لم يضع وقتا في تشكيل لجنة فرعية للتحقيق في الكارثة. ففي يوم 19 أبريل؛ أي بعد يوم من رسو كارباثيا، كان سميث بالفعل يجري مقابلات مع الناجين في والدورف أستوريا. وما إن كشفت التقارير في بوسطن أن السفينة كاليفورنيان قد رأت إشارات استغاثة السفينة الغارقة، قام سميث باستدعاء لورد وطاقمه إلى المحكمة.
السفينة تيتانيك في أولى (وآخر) رحلاتها. (مكتبة الكونجرس.)
كانت السفينة كاليفورنيان، بحسب شهادة قبطانها وأفراد طاقمها، في طريقها من لندن إلى بوسطن حين وجدت نفسها، في ليلة 14 أبريل، في نفس الجزء المحمل بالجليد من شمال الأطلسي مثل تيتانيك. وعلى عكس قبطان تيتانيك، إدوارد سميث، الذي قاد سفينته إلى الهلاك بزيادة سرعته رغم وجود الجليد، كان قبطان كاليفورنيان رجلا في غاية الحرص والحذر، فأمر بإيقاف السفينة ليلا.
في قرابة الساعة الحادية عشرة مساء، قام عامل اللاسلكي بالسفينة كاليفورنيان، سيريل إيفنز، بإرسال رسالة غير رسمية إلى تيتانيك، التي كان يعلم أنها في مكان ما في المنطقة: «نحن محاطون بالجليد وتوقفنا.»
انزعج عامل اللاسلكي على متن تيتانيك، جاك فيليبس، من المقاطعة. فقد كان مشغولا طوال اليوم بإرسال رسائل لركاب السفينة الأثرياء، ولم يكن لديه وقت للثرثرة. فرد قائلا: «اصمت! اصمت! أنت تشوش علي!»
فما كان من إيفنز، الذي كان مستيقظا طوال اليوم وربما يكون قد أحبط قليلا من الرد الجاف الذي تلقاه، سوى أن أغلق جهازه وذهب للنوم. ولما لم يكن على متن كاليفورنيان سوى عامل لاسلكي واحد فقط، كانت السفينة في هذا الوقت خارج نطاق الاتصال. وحين بدأت تيتانيك في إرسال نداء استغاثتها، في قرابة الثانية عشرة والربع صباحا، لم يكن هناك أحد مستيقظ يستطيع سماعها على متن كاليفورنيان.
ولكن ماذا عن الصواريخ؟ لماذا لم تستجب كاليفورنيان لإشارات استغاثة تيتانيك؟
شهد لورد بأنه لم ير سوى صاروخ واحد ينطلق، ثم ذهب هو نفسه للنوم. وحين أبلغه ضباطه فيما بعد بأنهم قد شاهدوا صواريخ أخرى، كان شبه نائم؛ ومن ثم لم يدرك أنها قد تكون إشارات استغاثة. ولما لم يشدد الضباط على الأمر، عاد للنوم.
أخبر لورد السيناتورات أنه، إلى جانب ذلك، كان لا يزال غير واثق من أنها إشارات استغاثة. فقد كانت السفن تستخدم أنواعا شتى من الإشارات المضيئة بشكل روتيني لتحية السفن المارة. وعادة كانت إشارات الاستغاثة أكبر وأكثر ضوضاء، ولم يسمع أحد على متن كاليفورنيان أي شيء أثناء الليل. ولم يكن لورد لديه أية فكرة لم كانت إحدى السفن ترسل صواريخ في تلك الليلة، ولكنه لم يكن لديه مبرر، على الأقل حينها، للاعتقاد بأن السفينة في مأزق.
وأردف لورد أنه في الواقع كان واثقا من أن السفينة التي رآها هو وضباطه «لم» تكن تيتانيك. لقد كانوا على علم بوجودها في المنطقة بالطبع، لما كان إيفنز على اتصال بها عبر الراديو. ولكن السفينة التي رصدها لورد كانت صغيرة للغاية، ورأى ضباطه الدخان ينطلق منها - بطريقة ملائمة للغاية - في قرابة الثانية صباحا؛ ولذلك لم يخطر على بال أحد في كاليفورنيان أن يوقظ إيفنز ليتحقق من وجود نداء استغاثة. ولم يقدم ضباط لورد على إيقاظ إيفنز إلا في قرابة الساعة الرابعة صباحا، ربما لاستشعارهم شيئا من القلق وعدم الارتياح بشأن الصواريخ، ليعرف من السفن الأخرى بعد ذلك أن تيتانيك قد اصطدمت بجبل جليدي. وبمجرد إخطار لورد، أمر على الفور بأن تتحرك كاليفورنيان.
لم يرض تفسير لورد السيناتور سميث، الذي طلب من البحرية الأمريكية التحقق من وجود سفينة أخرى هناك بالقرب من كاليفورنيان وتيتانيك في تلك الليلة، وقالت البحرية إنها لم يكن لديها علم بوجود أي سفن أخرى. وقام سميث بمراجعة سجل الرحلة الخاص بكاليفورنيان في تلك الليلة، ولم يجد إشارة لمشاهدة أي صواريخ، على الرغم من شهادة لورد وضباطه. ومما أثار مزيدا من الشكوك أن مدخل يوم 15 أبريل في المسودة المبدئية لسجل الرحلة - التي تنقح بعد ذلك في سجل رسمي - قد فقد. وبدا لسميث أن لورد قد حاول التستر على تقاعس كاليفورنيان غير المبرر عن اتخاذ أي إجراء، في ظل توقعه بأن تحقيقا سوف يجرى بشأن ما اتخذته السفينة من إجراءات.
وخلص سميث إلى أن السفينة الغامضة التي وصفها لورد وضباطه لم يكن لها وجود على الإطلاق، مصرحا أن «الجليد لم يعق حركة سوى سفينتين؛ تيتانيك وكاليفورنيان.»
وأدان تقرير اللجنة الفرعية لمجلس الشيوخ لورد بشكل قاس؛ إذ جاء فيه: «إن اللجنة قد توصلت مجبرة إلى الاستنتاج الحتمي بأن كاليفورنيان ... كانت أقرب إلى تيتانيك من التسعة عشر ميلا التي أقر بها قبطانها، وأن ضباطها وطاقمها قد رأوا إشارات الاستغاثة التي أطلقتها تيتانيك، وتقاعسوا عن الاستجابة لها وفقا لما تمليه الإنسانية، والعرف الدولي، والقواعد القانونية.»
وأتبع ذلك جلسة استماع أمام المجلس البريطاني للتجارة في وقت لاحق من الشهر، وأدانه المجلس بنفس القدر. فقد خلص لورد تشارلز ميرسي إلى أنه: «حين رأت كاليفورنيان الصواريخ لأول مرة، كان من الممكن أن تسرع عبر الجليد إلى المياه المكشوفة دون أي مجازفة خطيرة؛ ومن ثم تهرع لنجدة تيتانيك. ولو أنهم فعلوا ذلك، لربما أنقذوا العديد من الأرواح التي فقدت، إن لم يكن جميعها.» •••
لم يتلق لورد كل ذلك وهو مكتوف الأيدي، كما وجد الكثير من المناصرين. فقد كان الكثير من البحارة، على وجه الخصوص، مقتنعين بأن المؤسسة الملاحية قد قررت أن تجعل من لورد كبش فداء، على أمل صرف الأنظار عن الإهمال الجسيم من جانب وايت ستار لاين، الشركة المالكة لتيتانيك، والمجلس البريطاني للتجارة الذي كان مسئولا عن سلامة السفن في البحار.
وما من شك في أن كلتا المؤسستين كان لديهما الكثير لتجيبا عنه.
بادئ ذي بدء، كانت هناك حقيقة أن القبطان سميث قد أمر بأن تظل تيتانيك على سرعتها التي تقدر باثنتين وعشرين عقدة، وهي أكبر سرعة سارت بها على الإطلاق، على الرغم من تلقي ثماني رسائل من سفن أخرى (من بينها كاليفورنيان) عن الجليد الموجود بالقرب منها. وربما بدا من غير اللائق نوعا ما أن يتعرض سميث - الذي لم يغادر سفينته وغرق بها بشجاعة برغم كل شيء - للنقد، ولكن بدا لكثيرين أن القبطان لورد يتحمل الكثير من اللوم على خطأ القبطان سميث.
كان الأسوأ هو ذلك الشك الذي ظل عالقا ومفاده أن سرعة سميث المتهورة كانت نتاج ضغط، إن لم تكن بسبب أمر مباشر، من بروس إزماي، المدير الإداري لشركة وايت ستار لاين وأحد الركاب الذين كانوا على متن تيتانيك. ولم يكن المدافعون عن لورد هم فقط من تساءلوا إن كان إزماي - على إثر لهفته لإثبات أن تيتانيك لم تكن فقط أكبر وأفخم سفينة، بل الأسرع أيضا - قد ألح على سميث لزيادة سرعته، بل كانت هناك أيضا تقارير تفيد بأن إزماي قد سكت عن أحد التحذيرات بشأن الجليد، حتى لا يبطئ سميث من سرعته.
كانت نجاة إزماي من حادث تحطم السفينة في حد ذاتها مدعاة للحرج؛ إذ كان ذلك في عصر لا يزال يأخذ فكرة «الأطفال والنساء أولا» بجدية شديدة. ولما كان أكثر من 150 سيدة وطفلا قد لقوا حتفهم على متن تيتانيك (إلى جانب أكثر من 1300 رجل)، فقد شعر كثيرون أن إزماي، شأنه شأن سميث، كان لا بد أن يغرق مع السفينة، أو على الأقل لم يكن ينبغي أن يقفز على أي من قوارب النجاة حتى يتأكد من عدم وجود أي سيدات أو أطفال آخرين على متن تيتانيك. ولكن إزماي على الأقل كانت لديه فرصة لإنكار الاتهامات التي وجهت إليه بالتأثير بأي شكل على قرارات سميث، ولم يجده مجلس الشيوخ ولا جلسة الاستماع المنعقدة بالمجلس البريطاني للتجارة مدانا بأي شيء سوى كونه واحدا من الناجين المحظوظين.
وإذا كانت الشركة قد أفلتت بسهولة، من وجهة نظر مناصري لورد، فقد كان مجلس التجارة أوفر حظا. كان مجلس التجارة قد حدد عدد قوارب النجاة اللازمة لأية سفينة بمعادلة قائمة على وزن السفينة؛ ومالكو تيتانيك تجاوزوا شروط المجلس بوضع 14 قارب نجاة عاديا و4 قوارب قابلة للطي على متن السفينة. وكان بإمكان هذه القوارب الثمانية عشر أن تسع 1178 شخصا إجمالا. غير أن تيتانيك نفسها كان بإمكانها حمل أكثر من 3500 شخص، وكان هناك أكثر من 2100 شخص على متنها في باكورة رحلاتها.
وأيا ما كان الشيء أو الشخص الذي يتحمل المسئولية آنذاك، فقد كان واضحا أن لوائح المجلس التي عفى عليها الزمن بشكل صارخ، كانت مسئولة أيضا. علاوة على ذلك، كان تفويض الوكالة بالتحقيق يهدف إلى زيادة مصالح الملاحة البريطانية، وكانت وايت ستار لاين ضمن أقوى أعضائها؛ لذا لم يكن من المستغرب أن يستشيط أنصار لورد غضبا من أن هذه الوكالة هي المفوضة بالحكم على قبطان كاليفورنيان.
ولكن إنصافا لكل من مجلس التجارة ولجنة السيناتور سميث الفرعية، لم تكن جلستا الاستماع البريطانية أو الأمريكية هي التمويه الذي ادعاه أنصار لورد. فكلتا الجلستين قامت بفحص أخطاء سميث، ووايت ستار لاين، واللوائح. وعلى الرغم من أن هذه الأخطاء لم يسلط عليها الضوء بالجرأة البالغة التي سلط بها الضوء على أخطاء القبطان لورد، فلم يتم التستر على أي منها، بل إن كلتا الحكومتين الأمريكية والبريطانية قد سارعت إلى تمرير تشريع جديد يلزم السفن بحمل ما يكفي من قوارب النجاة لتسع كل الركاب وأفراد الطاقم. كذلك كان لمأساة تيتانيك - بالأخص صورة سيريل إيفنز وهو نائم في سرير المبيت الخاص به في حين كانت تيتانيك تغرق على مقربة منه - دورها في إقناع كلتا الحكومتين أيضا بالمطالبة بتوفير مراقبة للراديو على مدى الأربع والعشرين ساعة.
كانت هذه التغييرات جيدة بلا شك للسلامة الملاحية، ولكنها لم تفعل شيئا لستانلي لورد. وبعد فصله من قبل مالكي كاليفورنيان، ظل يدعي أن السفينة التي شوهدت من كاليفورنيان لم تكن تيتانيك، وأن السفينة التي شوهدت من تيتانيك لم تكن كاليفورنيان. •••
توفي لورد في عام 1962، وهو نفس العام الذي تمكن فيه أوفى المدافعين عنه، ليسلي هاريسون، من تحديد ما كان يعتقد أنها السفينة الغامضة التي شوهدت من كل من تيتانيك وكاليفورنيان في تلك الليلة.
كان هاريسون السكرتير العام لجمعية خدمات البحرية التجارية، التي كانت تمثل قباطنة السفن وتناصر قضية لورد. وكانت السفينة الغامضة، بحسب هاريسون، هي زورق صيد أيسلندي يدعى سامسون. وكدليل على صحة كلامه، قدم هاريسون ما زعم أنه جريدة قديمة اعترف فيها أحد أفراد طاقم سامسون بأن سامسون كانت بين تيتانيك وكاليفورنيان. وقد خشيت سامسون، التي كانت تصطاد الفقمات بما يخالف القانون، أن تضبطها تيتانيك أو كاليفورنيان بما عليها من بضائع؛ لذا أسرعت بعيدا عن كلتيهما بأسرع ما يمكن.
غير أن حجة هاريسون ضعفت حين رصد محققون آخرون وجود سامسون في أيسلندا في يومي 6 أبريل و20 أبريل. وكان من المستحيل لقارب صغير بهذا الشكل أن يقوم برحلة لمسافة ثلاثة آلاف ميل عبر الأطلسي ويعود في أربعة عشر يوما فقط.
ظن أنصار لورد أنهم قد استراحوا أخيرا في عام 1985، حين تحدد مكان حطام تيتانيك بفضل جهود أمريكية وفرنسية مشتركة بقيادة عالم المحيطات روبرت بالارد؛ إذ تبين أن السفينة كانت أبعد تجاه الشرق مما أوضحت إحداثيات آخر نداء استغاثة أصدرته؛ ما وضع تيتانيك على بعد قرابة واحد وعشرين ميلا من موقع كاليفورنيان المحدد بسجل الرحلة في تلك الليلة؛ وهو ما يعد أبعد من أن يراه لورد أو ضباطه. ولكن إذا كانت تيتانيك قد انجرفت شرق المكان الذي ظن ضباطها أنها متواجدة به، حسبما أشار بالارد، فعلى الأرجح أن يكون قد حدث الشيء نفسه لكاليفورنيان؛ ما يجعل كلتيهما مرة أخرى على مرأى إحداهما من الأخرى.
وقد حث اكتشاف تيتانيك، إلى جانب ضغط هاريسون بإصرار، وزارة النقل البريطانية في النهاية على إعادة فتح القضية. وحمل تقرير الوزارة، الصادر في عام 1992، تبرئة جزئية للورد. فقد خلص إلى أن كاليفورنيان كانت على الأرجح على بعد سبعة عشر إلى عشرين ميلا من تيتانيك، فيما يعتبر مسافة بعيدة للغاية يتعذر معها رؤية السفينة الغارقة وقد يتعذر معها أيضا الوصول إليها في الوقت المناسب، حتى لو كان لورد قد بدأ الانطلاق في الحال بعد رصد أول صاروخ.
لقد استغرق الأمر من لورد أكثر من ساعتين للوصول إلى كارباثيا في صباح يوم 15 أبريل، وهناك سبب منطقي للاعتقاد بأن الأمر كان سيستغرق مدة أطول للتحرك عبر الجليد في الظلام. وبعد ساعتين من انطلاق أول صاروخ، كانت تيتانيك قد غرقت بالفعل؛ ومن ثم لم يكن بإمكان لورد إنقاذ أي شخص على متن السفينة، حسبما ذكر التقرير.
غير أن التقرير أوضح أيضا أن تقاعس لورد لم يكن له مبرر. فحتى لو لم يكن بإمكانه إنقاذ تيتانيك، فلا شك أنه كان عليه المحاولة. وحتى لو لم يكن قد رأى تيتانيك، فقد رأى أحد الصواريخ، ورأى ضباطه سبعة أخرى. ولا يمكن لبحار محنك أن يخطئ في إدراك هذه الصواريخ بأنها أي شيء آخر سوى إشارات استغاثة، غير أن لورد وضباطه لم يكلفوا أنفسهم عناء إيقاظ عامل اللاسلكي لمعرفة ما الخطب.
وقد اتفق أحدث مؤرخي تيتانيك مع تقرير 1992. فأغلب الظن أن الصواريخ التي شوهدت من على متن كاليفورنيان كانت آتية من تيتانيك؛ فلا دليل على وجود أية سفينة أخرى غيرها في الجوار. وحتى لو لم تكن آتية من تيتانيك، فقد جاءت من سفينة في حاجة لمساعدة؛ ولم يكن من لورد سوى أن خلد لفراشه. كانت هناك أسباب متعددة لبقاء لورد في الفراش. ربما كان جبانا. أو ربما كان في غاية الحزم والصرامة لدرجة أن ضباطه كانوا يخشون إزعاجه حينما رأوا مزيدا من الصواريخ. أو ربما لم ير أن عليه أن يعرض سفينته للخطر لمجرد أن شخصا آخر كان أكثر تهورا منه فيما يتعلق بالإسراع عبر الجليد.
وأيا ما كان مبرر لورد، فإنه لم يكن مقنعا بما يكفي.
لمزيد من البحث
Tom Kuntz, ed.,
The Titanic Disaster Hearings (New York: Pocket Books, 1998). Transcripts of the 1912 Senate hearings.
Walter Lord,
A Night to Remember (New York: Holt, Rinehart, & Winston, 1955). A real page-turner about the disaster by a popular historian who was no relation and in fact one of the harshest critics of Captain Lord .
Leslie Harrison,
A Titanic Myth (London: William Kimber, 1986). The case for Captain Lord .
Walter Lord,
The Night Lives On (New York: William Morrow, 1986). Lord revisits the Sinking, in the light of new evidence and theories that emerged after
A Night to Remember .
Robert Ballard,
The Discovery of the Titanic (New York: Warner Books, 1987). A firsthand account of the twelve-year search for the sunken liner, with stunning and eerie photos by the divers .
Michael Davie,
Titanic: The Death and Life of a Legend (New York: Alfred A. Knopf, 1987). A journalist’s thorough investigation into the many things that went wrong, from the shortage of lifeboats to the lack of binoculars for the lookouts .
Don Lynch,
Titanic (New York: Hyperion, 1992). Illustrated with haunting paintings by Ken Marshall as well as hundreds of photographs that evoke the ship’s Edwardian splendor .
Leslie Reade,
The Ship That Stood Still (New York: W. W. Norton, 1993). The case against Captain Lord .
Robin Gardiner and Dan van der Vat,
The Riddle of the Titanic (London: Weidenfeld & Nicolson, 1995). The central mystery of the
Titanic
saga, according to Gardiner and van der Vat, is why Captain Smith, who knew there was ice ahead, continued at high speed. The book pursues a conspiracy theory that the White Star Line hoped to sink the ship (which was actually not the
Titanic
but her sister and near twin, the
Olympic ) as part of an insurance scam. After tantalizing readers with the evidence supporting the theory, Gardiner and van der Vat ultimately (and reasonably) reject it as highly improbable .
Daniel Butler, “Unsinkable” (Mechanicsburg, Pa.: Stackpole Books, 1998). A straightforward retelling of the
Titanic ’s story that strips away many myths, not just about,the
Californian
but also about how and why the ship sank, and how various individuals and classes behaved that night .
الفصل الثاني والعشرون
هل نجا أي من عائلة رومانوف؟
انتهت سلالة رومانوف ذات الثلاثمائة عام نهاية دموية في يوليو عام 1918.
كانت ظروف العائلة قد تدهورت منذ مارس 1917، حين تخلى القيصر نيقولا الثاني عن العرش كرها، تاركا الحكومة في أيدي ذوي البشرة البيضاء المعتدلين التابعين لألكساندر كيرينسكي. كان العديد من أصحاب البشرة البيضاء - على عكس الحمر البلاشفة - يفضلون الملكية الدستورية كنظام للحكم؛ ومن ثم كانت معاملتهم للقيصر السابق وعائلته مهذبة، وإن كانت حذرة. تحددت إقامة عائلة رومانوف في قصرهم بالقرب من سانت بطرسبرج، ولكن بخلاف ذلك، استمرت الحياة كما كانت قبل الثورة إلى حد كبير؛ فقد انخرطت العائلة في أسلوب حياة ملكية متكرر؛ حيث الدروس، وجولات السير، والتنس، وحفلات الشاي. غير أن العالم بالخارج كان قد تغير. وبحلول أغسطس، أجبر خطر اقتحام القصر من قبل الغوغاء الغاضبين كيرينسكي على إجلاء العائلة وترحيلهم إلى بلدة توبولسك السيبيرية.
في نوفمبر 1917، وبعد أن صار زمام الأمور في يد البلاشفة، اتخذت حياة آل رومانوف منحنى حادا إلى الأسوأ؛ فلم يعد هناك وجود للروتين الملكي والحرس المتعاطف معهم من ذوي البشرة البيضاء، وصارت العائلة تأكل الخبز الأسمر والحساء، في حين قام الحرس البلشفي المعادي لهم بطلاء زجاج النوافذ، واستولوا على مقتنيات العائلة، وكتبوا نقوشا بذيئة على الجدران. وفي مايو 1918، تم نقل العائلة إلى بلدة يكاتيرينبيرج، وهناك، وفي الساعات الأولى من صباح يوم 18 يوليو، لقوا حتفهم فيما يبدو.
وصف أحد الحرس، ويدعى بافل مدفيدياف، المشهد فيما بعد للمحققين ذوي البشرة البيضاء؛ إذ قال إنه قد تم إيقاظ أفراد العائلة من نومهم وأمروا بالنزول إلى قبو المنزل. حضر القيصر السابق نيقولا أولا، حاملا ابنه المريض أليكسي ذا الثلاثة عشر عاما. بعد ذلك حضرت زوجته ألكسندرا، وأعقبها بناتها الأربع؛ أولجا ذات الثانية والعشرين، وتاتيانا ذات الحادية والعشرين، وماريا ذات التسعة عشر، وأنستاسيا ذات السبعة عشر عاما. تواجد أيضا طبيب العائلة، والطاهي والخادمة، والخادم الخاص. وكان الضابط البلشفي المسئول عن الحراسة، ويدعى ياكوف يوروفسكي، قد رتب أن يكون ظهور السجناء الأحد عشر للحائط، وكأنه سيلتقط صورة للعائلة. بعدها استدعى فرقة الإعدام وأبلغهم بأن لجنة الأورال التنفيذية المركزية قد قررت إعدامهم. وفي تلك اللحظة، أطلق يوروفسكي النار على القيصر السابق ليلقى مصرعه في الحال.
خصص لكل عضو في فرقة الإعدام ضحية، إلا أن الغرفة كانت صغيرة للغاية حتى إنهم لم يستطيعوا اتخاذ الوضع الصحيح لإطلاق النار، وفشلت تصويباتهم الأولى في قتل الملكة السابقة وبناتها. وطال عذابهن أكثر بصفوف الماس التي خبأنها في مشدات الخصر؛ فقد ارتدت طلقات الرصاص عنها وتبعثرت عبر الغرفة. وفي النهاية، أجهز عليهن الحرس باستخدام حرابهم ومؤخرات بنادقهم.
عمت الفوضى مراسم دفن العائلة بالقدر نفسه؛ وكان ذلك يرجع في جزء منه إلى اهتمام الحرس بالاستيلاء على الماس أكثر من اهتمامهم بالتخلص من الجثث. فقد ألقوا بهم في البداية في مهوى منجم قريب، ثم عادوا في اليوم التالي للبحث عن مكان أكثر استتارا يدفنونهم فيه. وعندما علقت شاحنتهم في الوحل، قرروا دفن الجثث حيثما كانوا.
لم يذكر الإعلان الرسمي عن موت القيصر السابق أيا من تلك التفاصيل الدموية. ففي 20 يوليو، أفادت جريدة البرافدا بأن نيقولا قد أعدم بناء على أوامر المجلس المحلي بيكاتيرينبيرج. وأضاف بنفس الاقتضاب أن بقية أفراد العائلة قد «أرسلوا إلى مكان آمن.»
تركت تلك العبارة الأخيرة العالم يتساءل عن مصير العائلة. ففي النهاية لم يكن هناك سوى شاهد العيان الوحيد، مع ملاحظة أن مدفيدياف كان قد أدلي بشهادته لذوي البشرة البيضاء، الذين كانت لهم مصلحة شخصية في تصوير البلاشفة كسفاحين وقتلة. وبشكل شبه فوري، انتشرت قصص عن هروب واحدة أو أخرى من أفراد العائلة، في الغالب بمساعدة أحد الحرس الرحماء. وقد كان من السهل نبذ معظم من ادعين أنهن الهاربات باعتبارهن محتالات، ولكن ليس جميعهن؛ إذ إن البعض منهن قد حصلن على دعم من أقارب ومعارف العائلة الملكية الباقين على قيد الحياة.
وفي ظل عدم وجود أي جثث لإثبات أنهن قد متن، بدا مستحيلا ترك آل رومانوف يرقدون في سلام.
القيصر نيقولا وبناته في محبسهم بسيبيريا، في وقت ما في مطلع 1918. (مكتبة بينيك للكتب النادرة والمخطوطات، جامعة ييل.) •••
ومن بين مدعيات الانتماء لأسرة رومانوف الكثيرات، برزت واحدة. كانت تعرف بأسماء متعددة في مراحل مختلفة من حياتها، ولكنها كانت بالنسبة إلى مؤيديها دائما أنستاسيا.
جذبت هذه السيدة أنظار العالم إليها لأول مرة في فبراير 1920، بعد أسبوعين من محاولتها الانتحار بالقفز في قناة لاندفير ببرلين. وبعد إنقاذها، روت حكاية غريبة عن جندي بولندي أخرجها محمولة من القبو في يكاتيرينبيرج وهي فاقدة للوعي، ولكن على قيد الحياة. وتمكنت بمساعدته من عبور روسيا في عربة. ووصلت إلى رومانيا، ثم قررت التوجه إلى برلين لطلب المساعدة من عمتها الأميرة أيرين من بروسيا. ولكنها يئست من إقناع أيرين بهويتها وقررت بدلا من ذلك إلقاء نفسها في النهر.
وقد لاقت قبولا من عدد مذهل من الروسيين المنفيين، بعد ملاحظة الشبه الملحوظ بين السيدة التي تم إنقاذها من القناة وأنستاسيا التي يفترض أنها ماتت. وكان من بين من صدقوها ابن عم نيقولا الثاني من الدرجة الأولى، الجراندوق أندريه. وابنة عم أنستاسيا نفسها، الأميرة زينيا. وفي نيويورك، حيث اتخذت اسم آنا أندرسون، كانت المدعية محل إعجاب واسع؛ فكانت تدعى للشراب وتناول الطعام من جانب العديد من وجهاء المجتمع الأثرياء المتلهفين لأن يشاهدوا برفقة الجراندوقة المزعومة.
ولكن سرعان ما وقف معظم أفراد عائلة رومانوف الأحياء ضد أندرسون. وفي أكتوبر عام 1928، وقع اثنا عشر فردا من أسرة رومانوف وثلاثة من أقارب ألكسندرا إعلانا مشتركا ينص على أن «السيدة التي تعيش الآن في الولايات المتحدة ... ليست الجراندوقة أنستاسيا.» وعلى عكس ما يشاع، رفضت الإمبراطورة العجوز، جدة أنستاسيا، مقابلتها أو حتى سماع ذكر اسمها.
في عام 1938، توجهت أندرسون بقضيتها إلى المحكمة، في محاولة للحصول على نصيبها مما تبقى من أملاك رومانوف. وكانت الأدلة ضدها قوية؛ فلم ينبذها معظم أقاربها فحسب، بل إنه في عام 1927 تعرفت عليها سيدة تدعى دوريس وينجندر، وأقرت بأنها فرانشيسكا شانتسكوسكا، وهي عاملة بولندية بأحد المصانع عاشت معها حتى عام 1920.
كانت أندرسون بطلة صعبة المراس بالنسبة إلى شخص يزعم أنه عاش حياة توازي ما يقرأ عنه في قصص الجنيات. فكثيرا ما كانت تتصرف بغطرسة وتعجرف، وتعادي حتى أقوى مؤيديها. وكانت ترفض التحدث بالروسية؛ ما عمق الشكوك تجاهها بأنها محتالة. وقد قدم مؤيدوها تفسيرات منطقية لذلك؛ فلم ينبغي ألا تكون متغطرسة؟ فقد نشأت في العائلة الملكية. لم ينبغي أن تتحدث الروسية؟ لقد كانت هذه هي اللغة التي ربطت بينها وبين الاغتيال الصادم لوالديها وأشقائها.
غير أن كل ذلك لم يشكل سوى حجة واهية. وبعد عدة تأجيلات، رفضت محكمة ألمانيا الغربية العليا استئنافها عام 1970. •••
كانت قضية آنا أندرسون في نظر معظم المؤرخين حدثا ثانويا؛ فقد كانت الأحداث الأساسية تكمن في التحقيقات الدائرة داخل الاتحاد السوفييتي نفسه. وكان أول هذه التحقيقات هي تلك التي تولاها ذوو البشرة البيضاء، الذين استردوا يكاتيرينبيرج بعد ثمانية أيام فقط من أحكام الإعدام التي يفترض وقوعها. وكلفت حكومة ذوي البشرة البيضاء نيقولا سوكولوف، وهو محقق محترف، بالتحقيق لمعرفة ما حدث لعائلة رومانوف.
استغرق سوكولوف ستة أعوام للانتهاء من تحقيقه. وفي ذلك الوقت بالطبع لم يكن البلاشفة قد استردوا يكاتيرينبيرج فحسب، بل استردوا روسيا بأكملها، وكان لزاما أن ينشر تقرير سوكولوف في باريس. وأعلن الكتاب الذي نشر عام 1924 أن إعلان البلاشفة الحمر المبدئي لم يكن سوى كذبة؛ فقد زعم سوكولوف أن القيصر السابق لم يكن هو فقط من قتل يوم 18 يوليو، بل جميع أفراد العائلة. فبادئ ذي بدء، هناك شهادة الحارس بافل مدفيدياف، الذي ادعى عدم مشاركته في إطلاق النار، ولكنه سمع صوت الطلقات وشاهد الجثث في القبو. أشار سوكولوف أيضا إلى أن مجموعة كبيرة من المجوهرات والمقتنيات الأخرى الخاصة بعائلة رومانوف قد عثر عليها في موقع إطلاق النار ومهوى المنجم القريب. وكانت هناك أيضا برقية بتاريخ 17 يوليو، تم الاستيلاء عليها، وفيها يخبر البلاشفة الحمر بيكاتيرينبيرج موسكو بأن «العائلة قد شهدت نفس مصير رأسها.»
بعد عامين من صدور تقرير سوكولوف، أصدر السوفييت تقريرهم الذي كتبه بافل بيكوف. كان بيكوف متفقا بشكل ملحوظ في الرأي مع سوكولوف؛ وكان الفارق المؤثر الوحيد في روايتهما للحدث أن سوكولوف قد قال إن الجثث أحرقت، بينما قال بيكوف إنها ووريت الثرى. وقد دحض تقرير بيكوف ما أنكره السوفييت على مدار ثماني سنوات؛ إذ أقرت الحكومة حينها بأن جميع أفراد العائلة قد ماتوا في يكاتيرينبيرج، رغم أن بيكوف قد واصل الادعاء بأن القرار قد جاء من المجلس المحلي بيكاتيرينبيرج وليس من موسكو. وقد كان بيكوف نفسه عضوا من أعضاء المجلس المحلي.
أقنع تقريرا سوكولوف وبيكوف غالبية العالم بأنه لا أحد من أفراد الأسرة الملكية قد نجا من المذبحة. وقرر معظم المؤرخين أنه إذا كان ذوو البشرة البيضاء والحمر قد تمكنوا من الاجتماع على قصة واحدة، فقد كان ذلك وحده سببا وجيها لتصديقها. ولكن ظلت هناك شكوك لدى البعض، بعد ملاحظة أن سوكولوف وكذلك بيكوف لم يعثرا على أي رفات للجثث ذاتها.
كان من بين المشككين صحفيان بريطانيان؛ هما أنتوني سامرز وتوم مانجولد، اللذان بحثا عن الملفات التي بنى عليها سوكولوف تقريره. فوجدا أن سوكولوف قد «أدرج بدقة كل الأدلة التي أيدت فرضيته بأن المذبحة قد طالت سائر أفراد العائلة ... إلا أنه حذف الأدلة التي كانت تلمح أو تقرر بشكل قاطع أن شيئا آخر قد حدث.» وكان من ضمن هذه الأدلة شهادة مواطنين محليين بأن الملكة السابقة وبناتها قد رصدن داخل يكاتيرينبيرج وحولها «بعد» 18 يوليو.
وخلص سامرز ومانجولد إلى أن الإعلان السوفييتي الأصلي - الذي يفيد بأن القيصر السابق وحده هو من قتل - كان صحيحا في الواقع. ففي محاولة منه لتصوير الحمر كوحوش متعطشة للدماء، تجاهل سوكولوف الأدلة التي تفيد بنجاة بعض أفراد الأسرة. ولكن لماذا يريد بيكوف، الذي يكتب نيابة عن لينين والقيادة السوفييتية، إخفاء حقيقة أن البلاشفة «لم» يقتلوا بقية أفراد العائلة؟
كانت الإجابة، بحسب سامرز ومانجولد، تتعلق بمفاوضات سرية بين السوفييت والألمان عقدت في مطلع عام 1918. كان الألمان يريدون إنقاذ ألكسندرا، التي كانت ابنة عم للقيصر فيلهلم. وكان لينين على استعداد تام لاستخدام العائلة كورقة مساومة لانتزاع تنازلات من الألمان. فأمر بإجلاء العائلة من يكاتيرينبيرج، ولكن بعد ذلك انهارت الصفقة الألمانية، ولم يعد للعائلة أي نفع. وفي تلك اللحظة هرب آل رومانوف أو قتلوا؛ لم يكن سامرز ومانجولد متأكدين أيهما حدث. وفي كلتا الحالتين، كان الأمر برمته مصدر حرج للينين؛ لذا كان من الأسهل بالنسبة إلى بيكوف أن يكتفي بمجاراة قصة سوكولوف عن عملية إعدام حدثت في يكاتيرينبيرج. وكان الأفضل من ذلك أن يعترف بأن لينين قد استخدم أفراد العائلة كوسيلة، ثم قتلهم أو فقدهم.
رفض معظم المؤرخين فرضية سامرز ومانجولد. فقد كانت الأدلة على المفاوضات الألمانية عرضية على أقصى تقدير، وبعضها أشار إلى أن المحادثات، إن كانت قد حدثت من الأساس، قد أخفقت قبل يوليو. وكان هذا من شأنه أن يترك للينين الكثير من الوقت لتغيير خططه والسماح بالمضي في تنفيذ أحكام الإعدام في يكاتيرينبيرج. أما بالنسبة إلى ملفات سوكولوف التي عثر عليها مؤخرا، فقد أشار الكثير من المؤرخين إلى أن المحقق ربما يكون قد حذف من تقريره شهادات برؤية أفراد العائلة؛ لأنه ببساطة لم يصدقها. فنظرة واحدة عن كثب إلى الشهادة أشارت إلى أن الشهود كانوا «يعتقدون» أنهم رأوا بعض أفراد العائلة، ولكنهم لم يكونوا على يقين تام من رؤيتهم.
غير أن سامرز ومانجولد قد منحا أملا جديدا للحالمين الذين كانوا يأملون أن يكون أحد ورثة عرش رومانوف قد نجا بطريقة أو بأخرى. وكانت الوسيلة الوحيدة لوأد هذا الأمل هي العثور على جثث الضحايا، وفي سبعينيات القرن العشرين قرر صانع أفلام روسي معروف، يدعى جيلي رابوف، أن يقوم بذلك. •••
جاءت الانطلاقة الكبرى لرابوف في عام 1978، حين اقتفى أثر الابن الأكبر لياكوف يوروفسكي، الرجل الذي كان مسئولا عن حراسة آل رومانوف في يكاتيرينبيرج. ومما أسعد رابوف أن يوروفسكي الصغير منحه نسخة من تقرير والده عن عملية الإعدام. وأكد التقرير نسخة بيكوف، التي جاء فيها أن الجثث قد دفنت ولم تحرق. والأفضل من ذلك أنه تضمن وصفا دقيقا لمكان الدفن؛ على بعد قرابة اثني عشر ميلا شمال غرب يكاتيرينبيرج.
جاءت الانطلاقة الثانية حين كون فريقا مع أحد السكان المحليين، ويدعى ألكسندر أفدونين، الذي كان على دراية بيكاتيرينبيرج ولديه نفس القدر من الاهتمام بالعثور على الجثث. وفي 30 مايو عام 1979، ولدواعي سعادته وفزعه أيضا، اكتشف رابوف ثلاث جماجم ومجموعة متنوعة من عظام بشرية أخرى في نفس المكان الذي قال تقرير يوروفسكي إن الجثث موجودة به. ولكن رابوف وأفدونين أصابهما الاضطراب والقلق حينها؛ فقد كانا لا يزالان في عصر ما قبل الجلاسنوست، ولا يعرفان تماما كيف يكون رد فعل السلطات إزاء اكتشاف رفات آل رومانوف، إن كان هو بالفعل. وقرر رابوف وأفدونين إعادة الرفات إلى مدفنه، وأقسما على ألا يخبرا أحدا بما وجداه إلى أن تتغير الحال.
ولم يكن إلا بعد عشر سنوات لاحقة أن قرر رابوف أن الوقت بات مناسبا. وفي 10 أبريل عام 1989، نشرت صحيفة موسكو نيوز الأسبوعية خبر العثور على رفات آل رومانوف في مستنقع بالقرب من يكاتيرينبيرج. وبعد عامين، وصلت القوات الروسية إلى الموقع، واستخرجوا الرفات الذي أعيد دفنه، ووجدوا أيضا بعض الجماجم، والضلوع، والفقرات، وعظام سيقان وعظام أذرع.
هل كان هذا الرفات لآل رومانوف؟ لمعرفة ذلك يقينا، اضطر العلماء إلى مقارنة الحمض النووي المستخلص من الرفات بالحمض النووي المأخوذ من دم أحد أقارب رومانوف الأحياء. ولجأ العلماء البريطانيون، من بين آخرين، إلى الأمير فيليب زوج الملكة إليزابيث الذي تصادف أيضا أن كان حفيد شقيق ألكساندرا؛ في ظل عالم الملكية الأوروبية المترابط. ووافق الأمير وتبرع بدمه. وفي يوليو عام 1993، وبعد عشر سنوات من العمل، أعلن بيتر جيل وبافل إيفانوف أن الدليل المعتمد على الحمض النووي أكد لهم بنسبة 98,5٪ أن هذا الرفات هو رفات آل رومانوف. وأشارت اختبارات لاحقة إلى درجة أعلى من اليقين.
أظهرت اختبارات الحمض النووي أيضا، بشكل نهائي وقاطع، هوية آنا أندرسون. كانت أندرسون قد توفيت في عام 1984، بعد أن تزوجت من طبيب ثري في تشارلوتسفيل، بولاية فيرجينيا. ولكن جيل استطاع الحصول على عينة من أنسجتها من أحد مستشفيات تشارلوتسفيل التي احتفظت بها بشكل روتيني بعد أن أجرت أندرسون عملية جراحية فيها. وقارن جيل الحمض النووي المأخوذ من الأنسجة بالحمض النووي المأخوذ من الرفات الذي عثر عليه في يكاتيرينبيرج ولم يجد أي تطابق بينهما. بعد ذلك، قارن الحمض النووي لأندرسون بعينة من مزارع ألماني يدعى كارل ماوخر، الذي كان حفيد أحد أشقاء القروية البولندية فرانشيسكا شانتسكوسكا، وكانت نسبة التطابق بينهما 100 بالمائة.
ظل هناك لغز واحد فقط. كانت مقابر يكاتيرينبيرج تؤوي أجزاء من تسعة هياكل عظمية، على الرغم من أن العائلة الملكية كانت تتألف من أحد عشر شخصا - أفراد العائلة السبعة، والطبيب، والخدم - مما جعل اثنين من أفراد العائلة الملكية مفقودين دون أي توضيح بشأنهما. كان واضحا أن إحدى الجثتين المفقودتين هي جثة أليكسي؛ إذ لم يكن أي من الهياكل العظمية لصبي في الثالثة عشر. واختلف العلماء حول الهيكل العظمي الآخر؛ واستنتج فريق روسي أنه لماريا، في حين أصر فريق أمريكي زائر على أنه لأنستاسيا. وفي أي من الحالتين، فقد ترك ذلك باب الاحتمالات مفتوحا أن يكون أحد ورثة العرش الروسي قد نجا من المذبحة التي وقعت في يكاتيرينبيرج.
ولكنه حتى الحالمون والمناصرون للملكية (الذين لا يزال كثيرون منهم في روسيا) اضطروا للتسليم بأنه احتمال ضعيف للغاية. فقد وصف تقرير يوروفسكي، شأنه شأن تقرير مدفيدياف، مشهدا شديد الدموية تستحيل معه نجاة أليكسي؛ أو ماريا أو أنستاسيا. كذلك قدم تقرير يوروفسكي تفسيرا للجثتين المفقودتين؛ إذ إنه تحت تأثير الارتباك، حسبما تذكر كبير السجانين، تم دفن جثتين بمعزل عن بقية الجثث. ولو تم اكتشافهما، كما يظل محتملا، لأمكن إزالة أي شكوك باقية.
في غضون ذلك، في يوليو 1998، أعيد دفن رفات نيقولا، وألكسندرا، وثلاثة من فتياتهما، وهذه المرة في سانت بطرسبرج، وفي احتفال مهيب؛ وإن لم يكن ملكيا. كان العديد من المؤرخين يرون أن موت آل رومانوف كان علامة على قدوم إرهاب الدولة وملايين الوفيات الأخرى التي ستصم الحكم الروسي، في حين كان معنى عودة آل رومانوف إلى سانت بطرسبرج أقل وضوحا بكثير.
لمزيد من البحث
Mark Steinberg and Vladimir Khrustalev,
The Fall of the Romanovs (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1995). A useful collection of documents including letters between Nicholas and Alexandra, parts of their diaries, minutes of government meetings, and other official papers .
John F. O’Conor,
The Sokolov Investigation (New York: Robert Speller & Sons, 1971). Includes translations of sections of Sokolov’s report, along with a harshly critical commentary .
Anthony Summers and Tom Mangold,
The File on the Tsar (New York: Harper & Row, 1976). An impressive investigation of the investigator, even though the discovery of the Romanov bones ultimately disproved the Summers-Mangold theory .
Anastasia (Boston: Little, Brown, 1983). An entertaining albeit overly credulous investigation of Anna Anderson .
Edvard Radzinsky,
The Last Tsar,
trans. from the Russian by Marian Schwartz (New York: Doubleday, 1992). Radzinsky is a prominent Russian playwright, and that’s both the book’s strength and its weakness. As literature, it’s engrossing and evocative; as history, it’s frustratingly vague and undocumented .
Marc Ferro,
Nicholas II,
trans. from the French by Brian Pearce (New York: Oxford University Press, 1993). A solid though uninspired biography that’s undermined by Ferro’s belief that some family members survived .
Robert K. Massie,
The Romanovs (New York: Random House, 1995). A thrilling historic and scientific detective story that’s especially good at describing the DNA evidence and the rivalries among the Russian, British, and American scientists .
Tsar (Boston: Little, Brown, 1995). A magnificently illustrated portrait of the lost world of Nicholas and Alexandra; even a Marxist historian couldn’t help but be moved by the snapshots of the family before and during their imprisonment .
Orlando Figes,
A People’s Tragedy (New York: Viking, 1996). A comprehensive history of the Russian Revolution, from the end of the nineteenth century to the death of Lenin. Figes is scholarly and fair, yet he captures the passions of the period .
الفصل الثالث والعشرون
هل قتل هتلر ابنة أخته؟
في صباح يوم 19 سبتمبر 1931، عثر على امرأة في الثالثة والعشرين من عمرها، تدعى جيلي راوبال، مقتولة في شقة أدولف هتلر بميونيخ. وكانت وفاة راوبال - وهي ابنة أخت هتلر غير الشقيقة - بطلق ناري من مسدسه، ووجد السلاح بجوار الجثة.
بالنسبة إلى هتلر ، كان ذلك التوقيت هو الأسوأ على الإطلاق؛ فقد كانت الانتخابات التي جرت في العام الماضي قد زادت من عدد النازيين في الرايخستاج أو البرلمان من 12 إلى 107 أعضاء؛ ما جعل الحزب على أعتاب السلطة. وكان بإمكان فضيحة كهذه في ذلك التوقيت - خاصة إذا كان يتخللها اتهامات بالجنس والقتل، وهو الشكل الذي اتخذته تلك الواقعة - أن تعيد هتلر والنازيين سريعا إلى هامش الحياة السياسية الألمانية.
وبالفعل لم تتوان الصحف المناهضة للنازية عن تناول القصة بشراسة. وسرعان ما ترددت قصص عن أن السيدة ذات الثلاثة والعشرين ربيعا كانت عشيقة هتلر وابنة أخته أيضا. وقد أفادت جريدة بوست الصادرة بميونيخ بأن راوبال كانت مصابة بكسر في الأنف؛ ما يشير ضمنا إلى أن هتلر قد قتلها في نوبة غضب؛ ربما لأنه علم بأنها تضاجع شخصا آخر غيره، أو ربما لأنها هددته بفضح بعض ممارسات خالها الجنسية الشاذة أمام الرأي العام. وأشار البعض إلى أن راوبال قد دفعت إلى الانتحار، إما بسبب غيرة هتلر القاتلة أو مطالبه الجنسية.
وباستجواب المحققين له، أفاد هتلر - الذي كان على ما يبدو مرتبكا وفزعا - بأنه قد رآها آخر مرة في اليوم السابق للعثور على الجثة. ودار بينهما جدال حول خطتها للحصول على دروس في الغناء في فيينا، وما اعتراها من غضب لأنه قد منعها من الذهاب إلى هناك بمفردها، إلا أنها هدأت فيما بعد. وأردف هتلر أنه غادر من أجل المشاركة في اجتماع عام للحملة في نورنبرج. وهناك علم بوفاتها. وعلى الفور هرع عائدا إلى ميونيخ، ولم يتوقف إلا لأخذ مخالفة لتجاوز السرعة المسموحة، بالقرب من نصف المسافة.
لم يكن لدى طاقم العاملين في شقة هتلر الكثير لإضافته لقصة هتلر. فقد ذكروا أن راوبال هرعت خارجة من غرفة نوم هتلر، وكان واضحا عليها الضيق، ولكن لم يكن لديهم أدنى فكرة عما ضايقها أو ما حدث بعد ذلك.
لم تجد الشرطة أي علامات لكسر في الأنف، أو أي دليل على أن راوبال قد تعرضت لأي اعتداء. وقرروا أن الوفاة نتيجة انتحار . ولكن لما كان هناك الكثير من النازيين المتعاطفين يشغلون مناصب عليا في وزارة العدل البافارية، ظن كثيرون أن الشرطة تعرضت لضغوط لاختصار التحقيقات . وقد يكون العاملون في المنزل قد تعرضوا أيضا لضغوط من قبل مسئولين نازيين، لا سيما أن المسئولين بالحزب كانوا متواجدين بالفعل في مسرح الأحداث لدى وصول المحققين.
لذا ظل التحقيق مفتوحا، على الأقل من وجهة نظر المؤرخين، وقادهم بحثهم عن دليل يثبت أنه قد قتل راوبال إلى أعماق عقل أدولف هتلر الشديدة الظلام. •••
كان من بين من ظنوا أن هتلر قتل راوبال بعض الأعضاء السابقين في دائرته الداخلية. وأبرزهم أوتو شتراسر، الذي قام بإصدار جريدة نازية مؤثرة، وكان شقيقه جريجور نائب زعيم الحزب. وقد قتل جريجور، الذي نافس هتلر فيما بعد على زعامة الحزب، في عام 1934؛ بينما هرب أوتو إلى سويسرا.
في كتابه الصادر عام 1940 بعنوان «هتلر وأنا»، أورد أوتو شتراسر ثلاثة أدلة على ارتكاب هتلر الجريمة؛ الأول: حوار دار بينه وبين أحد القساوسة أخبره فيه بأنه قد دفن راوبال حسب المراسم الكاثوليكية، وهو شيء لم يكن ليسمح بفعله لو كان يعتقد أنها انتحرت؛ الثاني: حوار مع شقيقه جريجور الذي قال إنه قد سمع من هتلر مباشرة أنه قتل راوبال؛ وأخيرا: قصة (لم يذكر شتراسر مصدرها) عن أن فريتس جيرليش، وهو محرر معروف مناهض للنازية، كان يخطط لنشر تحقيق كبير عن الجريمة في عدد 12 مارس 1933 من جريدته. ولكن في 9 مارس، اقتحم جنود فرقة الانقضاض النازية مكاتب الجريدة، ودمروا جميع الملفات، وألقوا القبض على جيرليش. وقد لاقى جيرليش نفس مصير جريجور شتراسر؛ حيث قتل في عام 1934. لم يوضح أوتو شتراسر دافعا لقتل راوبال، ولكنه أشار بشكل ضمني إلى أنه كان نتيجة غضب هتلر من مواعدتها رجالا آخرين.
هتلر وإيفا براون، التي أصبحت عشيقته بعد وفاة ابنة أخته (وعشيقته السابقة بحسب العديد من التقارير) جيلي راوبال. (حقوق الطبع لبالدوين إتش وارد وكاثرين سي وارد/كوربيس.)
قدم إرنست هانفشتنجل، الذي كان في وقت من الأوقات سكرتير هتلر للدعاية الخارجية، المزيد من التفاصيل؛ فقد قال إن راوبال لم تكن تواعد رجالا آخرين فحسب، بل حملت من أحدهم أيضا. وكان الأب المحتمل للطفل مدرس رسم . والأسوأ، من وجهة نظر هتلر، أنه كان يهوديا. كانت راوبال قد التقت مدرس الرسم عام 1928، وكانت ترغب في الزواج منه. وقد كان قمة الإذلال والعار على المستوى الشخصي والسياسي أن يأتي يهودي لينتزع منه ابنة أخته؛ وحبيبته؛ لذا أرغم هتلر راوبال على الانتحار كما أفاد هانفشتنجل. ولم يتضح من روايته كيف فعل ذلك، وإن كان قد أشار ضمنيا إلى أن الأمر يتعلق بتهديدات بشأن والدتها. وأضاف هانفشتنجل أن العائلة بأكملها قد اعتبرت هذه القصة حقيقية على أي حال؛ بل إنه نفسه علم بهذا من بريدجيت هتلر، زوجة شقيق هتلر ألويس.
في كتابه الصادر عام 1944 بعنوان «الفوهرر»، ذهب المؤرخ الألماني كارل هايدن إلى أن قائد وحدات إس إس (أو شوتزشتافل) هاينريش هيملر، وليس هتلر نفسه، هو من كان مسئولا عن موت راوبال. وفي الحقيقة، كان هتلر يحب راوبال، كما ذهب هايدن، وأراد الزواج منها. ولكن هيملر أراد تجنب فضيحة، إما لظنه أن راوبال كانت تضاجع شخصا آخر، أو لأنها هددت بفضح ممارسات خالها الجنسية. ولم يكن هايدن متأكدا من كونها قد قتلت أو دفعت إلى الانتحار، ولكنه كان واثقا من أن المسئولية تقع على النازيين. وقال إن مصدر معلوماته هو صديقة لوالدة راوبال.
كانت المشكلة في كل هذه الروايات أنها كانت جميعا قائمة على شائعات لا دليل عليها، روج معظمها أقارب هتلر ومعارف سابقون، والذين كانوا في الغالب أقل اهتماما بالحقيقة من تسوية الأحقاد وإعفاء أنفسهم من المسئولية. وكان أولئك هم الأشخاص الذين اعتبرت شهادتهم محل شك من قبل المؤرخين اللاحقين، وهو ما كان منطقيا لحد كبير. (وإنصافا لهايدن، لا بد أن نضيف سريعا أنه طالما كان عدوا لهتلر، على عكس شتراسر أو هانفشتنجل. ولكن قصته جاءت أيضا من أحد الأقارب البائسين.)
علاوة على ذلك، فقد وفرت مخالفة تجاوز السرعة القصوى لهتلر حجة تبرهن على وجوده في مكان آخر. بالتأكيد لم تكن حجة منيعة، بالنظر إلى أن الشرطة والشهود الآخرين على المخالفة ربما كانوا متعاطفين مع النازيين أو خائفين منهم، ولكن لم يكن هناك دليل لدحضها أيضا. أما فيما يتعلق باتهام هايدن لهيملر بأنه المسئول عن الجريمة، فقد بدا خاليا من المنطق؛ فلو كان دافعه في قتلها هو تجنب فضيحة، فما كان ليترك الجثة في شقة هتلر، أو يترك مسدس هتلر بجوارها.
لذا، وعلى الرغم من عدم إمكانية استبعاد وقوع جريمة قتل، فقد بدا حكم الشرطة بأن الحادث كان انتحارا هو الأرجح. ولكن ظل هناك بعض الأسئلة الجوهرية (والمثيرة): هل دفع هتلر ابنة أخته إلى الانتحار؟ وماذا كانت طبيعة علاقتهما؟ •••
لم يكن هناك أدنى شك عند هايدن في أن نوايا هتلر تجاه راوبال كانت أكثر من نوايا خال تجاه ابنة أخته.
كانت إحدى القصص التي رواها هايدن، دون تسمية مصدره، تتعلق بخطاب كتبه هتلر إلى راوبال؛ وفيه «عبر عن مشاعر يمكن توقعها من رجل له ميول مازوخية ومولع جنسيا بالغائط، ويشارف على ... الولع الجنسي بالبول.» ولمزيد من الصراحة، كان ما يقصده هايدن أن هتلر قد أصبح يستمد الإثارة الجنسية من تبول امرأة عليه. لم يصل هذا الخطاب إلى يد راوبال مطلقا، بل وقع بدلا من ذلك في يدي أحد المبتزين. وفي عام 1929، بحسب هايدن، دفع فرانز شفارتز أمين صندوق الحزب النازي للمبتز واسترد الخطاب.
روى هانفشتنجل قصة محاولة ابتزاز مختلفة، وقد وقعت بعد ذلك بعام. فقد تذكر حين هرع إلى شوارتس في عام 1930، بعد أن اشترى أمين الصندوق من أحد المبتزين مجموعة من الرسوم الإباحية التي رسمها هتلر لراوبال. ألقى هانفشتنجل نظرة خاطفة على الرسومات، وهاله ما رآه، واقترح على شفارتز أن يمزقها، ولكن شفارتز قال إنه لا يستطيع ذلك؛ إذ كان هتلر يرغب في استردادها.
لم يكن هايدن يعرف أن هتلر قد تجاوز مرحلة التخيل فيما يتعلق بابنة أخته، ولكن هانفشتنجل كان يعتقد أنه قد تجاوزها بالفعل. واستشهد بمحادثة - لم يسمعها إلا عن طريق مصدر ثالث باعترافه - أخبرت فيها راوبال إحدى صديقاتها أن خالها كان «وحشا»، و«لن تصدقي أبدا الأشياء التي يجعلني أقوم بها.» وحسبما أشار هانفشتنجل، كانت هناك سابقة زنا محارم في العائلة؛ فقد كان والدا هتلر أبناء عمومة من الدرجة الثانية (كان زواجهما يعتبر زنا في ثقافة ذلك البلد)، وكانت والدة هتلر، التي كانت أصغر من أبيه باثنين وعشرين عاما، تناديه ب «عمي».
وعلى خطى هانفشتنجل، لم يكن لدى أوتو شتراسر شك في أن العلاقة بين هتلر وراوبال كانت علاقة كاملة، وأنها لم تكن بأي حال علاقة جنسية طبيعية. ففي حوار أجراه عام 1943 مع عملاء في مكتب الخدمات الاستراتيجية (سلف وكالة الاستخبارات المركزية وقت الحرب)، كان شتراسر واضحا بشأن مسألة الولع الجنسي بالبول. فقد زعم أنه سمع عنها مباشرة من راوبال، وأنها كانت ترى الأمر برمته «مقززا».
وكما هو الحال مع مزاعم القتل، كان من الضروري التعامل مع هذه القصص حول حياة هتلر الجنسية ببعض الشك. فلم يكن هانفشتنجل أو شتراسر مصدرا موثوقا به بشكل خاص، وكانت مصادرهما في الغالب غير مسماة أو حتى أقل موثوقية منهما. ولم يعبأ شتراسر بتفسير اختيار راوبال المفترض له - لكونه في ذلك الوقت زميلا مقربا للرجل المفترض أنها كانت ترغب في الهرب منه - لتأتمنه على أسرارها؛ لذا لم يكن مستغربا أن يعبر أكثر كاتبي سيرة هتلر الذاتية احتراما على مدى الجيلين السابقين - آلان بولوك في عام 1952، وإيان كيرشو في عام 1998 - عن شكوك جدية بشأن وجود علاقة جنسية كاملة بين هتلر وراوبال، فضلا عن الانخراط في أي نوع من الممارسات الجنسية الشاذة. فلم تكن الأدلة كافية.
غير أن شائعات وجود علاقة جنسية شاذة بينهما، على عكس الاتهام بالقتل، كان لها منطق معين. فقد كان كاتبو السيرة النفسية، خاصة الفرويديين، يميلون لرؤية الأسرار الجنسية مندسة في كل مكان؛ ومن ثم كانت لديهم نزعة خاصة لإيجادها في شخص سيكوباتي مثل هتلر. وكان ويليام لانجر، وهو طبيب نفسي أعد تقرير مكتب الخدمات الاستراتيجية الصادر عام 1943 عن هتلر، يعتقد أن راوبال وشتراسر كانا صادقين بشأن الولع بالبول. كذلك أورد لانجر لقاءات مع امرأة أخرى، وهي الممثلة السينمائية، ريناتي مولر، التي تحدثت عن لقاءات جنسية بغيضة بنفس الشكل مع هتلر في عام 1932. فكتب لانجر: «من خلال دراسة كل الأدلة، يبدو أن شذوذ هتلر الجنسي كان كما وصفته جيلي.»
ولذا لم يكد يكون من الممكن العيب على الفرويديين لأنهم اعتبروا انتحار أو محاولة انتحار ست من النساء السبع - اللاتي أقررن بأنهن قد مارسن الجنس مع هتلر في وقت من الأوقات - أمرا ذا أهمية. (كانت راوبال من ضمن هؤلاء الست، على فرض أنها لم تقتل، وكذلك إيفا براون التي ماتت مع هتلر عام 1945.) فيبدو أنه أيا ما كان هتلر يفعله بالنساء اللاتي ضاجعهن، فإنه كان يسبب لهن بؤسا شديدا.
ولكن مثلما أشار كتاب سيرة هتلر ذوو النزعة الفرويدية الأقل شدة، لم يثبت أي من ذلك أن المسائل الجنسية كانت أصل المشكلة بالنسبة إلى هتلر، أو للنساء اللاتي ضاجعهن. فلم يكن على المرء أن يصدق أن هتلر كان شاذا جنسيا لتفسير إقدام هؤلاء النسوة على الانتحار؛ فمن الواضح أنه كان لديه الكثير من الصفات المقيتة الأخرى، على سبيل التلطف في التعبير، بل إن المرء ليعتقد - إلى حد كبير - أن أية امرأة اختارت الانخراط في علاقة مع هتلر كانت تعاني بالفعل من بعض المشكلات الخطيرة.
وبالطبع لم يكن هتلر من اختيار راوبال؛ فقد انتقلت للعيش مع خالها لأنه لم يكن لديها هي ووالدتها مكان آخر تعيشان فيه، وظل الحال هكذا طوال حياتها. لقد أسرت في منزل رجل انجذب إليها أيما انجذاب، ولم يأل جهدا لمنعها من رؤية أي شخص آخر سواه. وقد كان رفضه ذهابها إلى فيينا مجرد حلقة في سلسلة من القيود المتصاعدة التي فرضها على ابنة أخته منذ انتقلت للعيش معه في عام 1929.
لم يكن من الضروري الاعتقاد بأنه كان يجبرها على ممارسة نوع من الشذوذ الجنسي لتخيل معاملته القاسية لها، ولم يكن حتميا أيضا اعتقاد أنهما قد مارسا الجنس معا من الأساس لتصديق أنه دفعها إلى الانتحار.
كان ذلك هو الاستنتاج الذي خلص إليه بولوك وكيرشو، وحذا حذوهما غالبية المؤرخين. فهتلر، في رأي الغالبية، ربما لم يقتل راوبال . وربما لم يمارس معها الجنس (وإن كان الإجماع على هذه النقطة أكثر ضعفا)، أو إذا كان قد فعل، فعلى الأرجح أن طبيعة الجنس الذي مارسه معها لم يكن السبب المباشر لموتها. ولكنه كان طاغية؛ طاغية منزليا في عام 1931، حتى قبل أن يصبح طاغية قوميا بعد ذلك بعامين.
لا بد أن الموت بدا لجيلي راوبال المناص الوحيد. •••
كانت وفاة راوبال في نظر كثيرين - ومنهم كاتبو المذكرات من النازيين السابقين - نقطة تحول حاسمة بالنسبة إلى هتلر. فقد كتب هانفشتنجل، على سبيل المثال، أن «بموتها صار الطريق خاليا للتحول النهائي له ليصبح شيطانا.» وردد المصور الرسمي لهتلر، هاينريش هوفمان، تلك المشاعر؛ إذ استرجع ذكرياته قائلا: «في هذه الفترة بدأت بذرة الوحشية في النمو والتبرعم داخل هتلر، فازدادت شهيته للذبح والقتل بشكل مهول فقط بعد وفاة جيلي.» وقد كان هذا النوع من التحليل يخدم مصالح ذاتية بكل وضوح؛ فلو أن هتلر قد أصبح وحشا فقط بعد موتها، فمن الممكن إذن أن يغفر لهؤلاء الرجال تحالفهم معه خلال فترته الأولى، التي يفترض أنها كانت أكثر عقلانية.
ولكن لم يكن النازيون السابقون فقط هم من كانوا يعتقدون أن وفاة راوبال قد أحدثت تحولا في حياة هتلر. فالعديد من كتاب السير الذاتية الفرويديين، الذين كان دافعهم بالتأكيد أنقى من دافع النازيين السابقين، كانوا يميلون إلى النظر إلى موت راوبال على أنه أداة حاسمة في تطوره إلى سفاح. فقد ذهبوا إلى أنه حتى لو لم يكن قتلها، فإن ضياع المرأة التي كان مهووسا بها ساهم بطريقة أو بأخرى في إطلاق الوحش الذي بداخله. وقد كان النفوذ الفرويدي كبيرا؛ فحتى بولوك، على الرغم من أنه كان يرى أن الأدلة على وجود علاقة بينهما ليست كافية، فقد كان يعتقد أن موت راوبال غير من هتلر وأنه كان هناك «دافع جنسي على الأرجح» في معاداة هتلر للسامية.
غير أن وفاة راوبال في نظر معظم المؤرخين لا تكفي لتفسير طموحات هتلر للإبادة الجماعية. وكذلك لم يرض معظم المؤرخين - لا سيما مؤرخي الهولوكوست - بالتفسيرات العديدة الأخرى القائمة على الجنس؛ والتي كان من ضمنها فقدانه إحدى الخصيتين، وعلاقة جنسية يزعم أن هتلر أقامها مع عاهرة يهودية مصابة بالزهري. والواقع أن إرجاع موت الملايين إلى سبب وحيد إنما يبرز مشكلات أخلاقية وكذلك عملية لا يزال المؤرخون والفلاسفة يعانون منها.
ثمة شيء واحد واضح؛ أن وفاة راوبال، مهما كان تأثيرها على هتلر عميقا، لم تحوله إلى قاتل؛ فقد كانت يداه ملطخة بالدماء بالفعل. فعلى الرغم من الذكريات المنتقاة بشكل ملائم من جانب كاتبي المذكرات من النازيين السابقين، كان السفاحون النازيون قد قتلوا واعتدوا بالضرب على المئات، إن لم يكن الآلاف، من الناس قبل سبتمبر 1931، بعلم وموافقة هتلر بلا شك. ولم يكن انتحار جيلي راوبال هو الوفاة الأولى التي كان هتلر مسئولا عنها.
لمزيد من البحث
Otto Strasser,
Hitler and I,
trans. from the German by Gwenda David and Eric Mosbacher (Boston: Houghton Mifilin, 1940). Part history, part self-justification-a combination that’s undeniably titillating but by no means trustworthy .
Konrad Heiden,
Der Führer,
trans. from the German by Ralph Manheim (New York: Lexington Press, 1944). Full of details that made it an important source for later historians .
Ernst Hanfstaengl,
Hitler (London: Eyre & Spottiswoode, 1957). Like Strasser’s book, an ex-Nazi’s apologia/memoir .
Walter Langer,
The Mind of Adolf Hitler (New York: Basic Books, 1972). The OSS report from 1943-making this, in a way, the official u.s. government position on Adolf Hitler .
Joachim Fest,
Hitler,
trans. from the German by Richard and Clara Winston (New York: Harcourt Brace Jovanovich, 1973). The best German biography of Hitler .
John Toland,
Adolf Hitler (Garden City, N.Y.: Doubleday, 1976). An anecdotal and very readable biography. As for Raubal, Toland’s theory was that it was her jealousy, not Hitler’s, that led to her suicide. He came to this conclusion after interviewing a couple of the surviving household staff members. They told him that just prior to her death, Raubal had been very upset because she’d found a letter from Eva Braun to Hitler .
Alan Bullock,
Hitler and Stalin (New York: HarperCollins, 1991). Bullock’s 1952 biography of Hitler remains a classic, even though this more recent dual biography incorporates new research .
Ronald Hayman,
Hitler and Geli (London: Bloomsbury, 1997). Hayman is the latest to argue that Hitler shot Raubal .
Ian Kershaw,
Hitler (London: Allen Lane, 1998). The latest and arguably the best biography of Hitler to date .
Ron Rosenbaum,
Explaining Hitler (New York: Random House, 1998). An entirely fascinating and often brilliant mix of intellectual history and piercing interviews. Rosenbaum reveals the underlying motivations of historians, and in doing so makes an important contribution to our understanding of Hitler. This chapter is heavily indebted to Rosenbaum .
الفصل الرابع والعشرون
لماذا طار هس إلى اسكتلندا؟
لا تزال معركة بريطانيا تذكر بوصفها «الساعة الفضلى» في تاريخ الأمة، لكونها فترة جمعت ما بين المشقة والبطولة. ففي 10 مايو 1941، ألحقت قنابل اللوفتواف دمارا هائلا بقلب لندن. وفي نفس الليلة، تسلل طيار ألماني بمفرده عبر الدفاعات الساحلية لبريطانيا، وهبط بالمظلة على الأرض، على مسافة ليست ببعيدة من مزرعة دوق هاملتون في لاناركشير باسكتلندا.
عثر مزارع اسكتلندي على الطيار وهو يضمد كاحله الذي أصيب بالتواء، وتحفظ عليه ولم يكن معه أي سلاح سوى مذراة. ولم يقل الطيار سوى أنه في «مهمة خاصة»، ولا بد أن يلتقي الدوق.
وصل الدوق في العاشرة من صباح اليوم التالي. وأخبر الطيار هاملتون، متحدثا الإنجليزية، أن هتلر يرغب في وقف القتال، وأنه قد سافر جوا إلى إنجلترا لإجراء محادثات سلام مع هاملتون وآخرين من الإنجليز المتفهمين. كذلك قدم الطيار نفسه لهاملتون؛ فهو رودولف هس، نائب زعيم الرايخ الألماني.
وكما كان متوقعا، نتج عن رحلة هس عناوين صحفية مثيرة حول العالم. فقد كان هس رئيس الحزب النازي ، والمؤلف المشارك الفعلي لكتاب «كفاحي»، وأحد أعضاء دائرة هتلر الداخلية. والمدهش أن ردود الأفعال الرسمية التي سرعان ما توالت من برلين ولندن كانت واحدة إلى حد كبير: هس رجل مجنون، على الرغم من أنه قد يكون مثاليا. لقد تصرف من تلقاء نفسه تماما، دون علم أو تشجيع هتلر أو تشرشل أو أي شخص مسئول في أي من الحكومتين.
منذ البداية، شكك كثيرون في التصريح الرسمي بأن هس قد تصرف من تلقاء نفسه. فقد اعتقد البعض أن هتلر أرسل صديقه ورفيقه القديم لعقد اتفاق سلام مع إنجلترا، لعله يستطيع أن يوجه جيوشه ضد روسيا بدلا منها. وظن البعض أن هناك سرا أكثر غموضا؛ وهو أن هس، بعيدا عن فكرة وصوله المفاجئ، كان لديه سبب وجيه للاعتقاد بأنه سيقابله أصدقاء، من ضمنهم مسئولون رفيعو المستوى في الحكومة البريطانية. •••
لو كان هتلر يعلم أي شيء عن مهمة هس مسبقا، فهو لم يبين ذلك. فقد وصفت روايات شهود العيان من منتجعه الجبلي، حيث استدعى معاونين رفيعي المستوى للتعامل مع الأزمة، زعيمهم بأنه كان محزونا، والمشهد بالارتباك الشديد. وكتب رئيس هيئة أركان الحرب الجنرال فرانز هالدر في يومياته أن هتلر «كان في حالة من الذهول التام.»
وما إن صار واضحا أن هس بين أيدي البريطانيين، حتى سارعت برلين بإصدار سلسلة من التصريحات الصحفية تأسف فيها ل «هلاوس» هس، وتؤكد للعالم بأنها لن يكون لها أدنى تأثير على الحرب.
أمر هتلر باعتقال الكثير من رفاق هس، من بينهم خادم نائب الزعيم، كارلهينز بينتش، وصديقه ومستشاره غير الرسمي ألبريشت هاوسهوفر، الذي اعترف إلى الجيستابو بأنه ناقش مع هس المصالح المشتركة لهم في السلام مع بريطانيا، ويعتقد معظم المؤرخين أنه من زرع فكرة القيام بمهمة سلام في رأس هس. كذلك اعترف هاوسهوفر بأنه قد تحدث إلى هس عن أصدقائه البريطانيين الكثيرين، الذين كان من بينهم دوق هاملتون.
كذلك تم القبض على منجمين وعرافين من جميع أنحاء ألمانيا. فوفقا لتقارير صحفية نازية، ربما يكون الاضطراب العقلي الذي كان هس يعاني منه قد تركه عرضة لتأثيرهم.
من الصعب تحديد القدر الحقيقي من هذه الأحداث، والقدر الاستعراضي منها. فلا شك أن النازيين كانوا أساتذة في الدعاية، وتطلبت منهم قضية هس كل مهاراتهم. فقد كان إقدام الألمان على إرسال مبعوث سلام ومعركة بريطانيا على أشدها، فضلا عن إرسال مبعوث رفيع المستوى مثل هس، سيفسر حتما بأنه علامة ضعف؛ لذا كان من الضروري بشكل واضح أن ينأى هتلر بنفسه عن هس.
ظن بعض الشهود، من بينهم بينتش، أن هتلر يمثل، وأنه يعرف عن هذه المهمة أكثر بكثير مما صرح به. وقال كل من هاوسهوفر وزوجة هس - إلزا - إنهما كانا يعتقدان أن هس قد ناقش الفكرة العامة الخاصة بالقيام بمهمة سلام مع هتلر، رغم أنه لم يزعم أي منهما معرفة هتلر بأي تفاصيل. واسترجع آخرون فيما بعد اجتماعا عقد في 5 مايو بين هتلر وهس تعالت خلاله الأصوات؛ ربما لقيام هس بإخبار هتلر عن خطته.
كان ستالين من بين أولئك الذين لم يقتنعوا بالقصة الرسمية التي أعلنت. فعلى الرغم من معاهدة عدم الاعتداء التي وقعها عام 1939 مع ألمانيا، لم يكن يثق بهتلر. وحين أغارت القوات الألمانية على روسيا في يونيو، بعد شهر فقط من رحلة هس، نظر إلى الأمر كدليل على أنه كان على حق. فقد كان يعتقد أن هس حتما جزء من مؤامرة ألمانية بريطانية لإنهاء معركة بريطانيا والتعاون معا في تدمير البلاشفة.
ولم يتخل ستالين عن شكوكه قط. فحسبما استرجع تشرشل في روايته لتاريخ الحرب عام 1950، واجهه ستالين بشأن هس في عام 1944، خلال لقائهما في موسكو. وكرر تشرشل التصريح الرسمي: هس «حالة مرضية» ورعونته ليس لها علاقة بسير الأحداث. وتحت وطأة انزعاجه من شكوك ستالين، أصر تشرشل على أنه قد عرض الحقائق كما يعرفها وأنه يتوقع أن تلقى القبول. فرد ستالين بقوله: «هناك أمور كثيرة تحدث حتى هنا في روسيا وليس بالضرورة أن يخبرني بها جهاز استخباراتنا السري.»
وكان مضمون ذلك واضحا: لم يكن الألمان وحدهم هم من تورطوا في مؤامرة هس، بل كان هناك جواسيس بريطانيون أيضا. •••
مع انهيار الاتحاد السوفييتي وفتح الكثير من أرشيفات جهاز الاستخبارات السوفييتية، استطاع المؤرخون الغربيون لأول مرة استخلاص لمحة عن نوع المعلومات الاستخباراتية التي كانت تعزز شكوك ستالين. ففي عام 1991، نشر المؤرخ البريطاني جون كستيلو نتائج دراسته لملفات هس بجهاز الاستخبارات، وخلص إلى أن ستالين كان على حق على طول الخط.
ضمت الملفات تقريرا من عميل سوفييتي وصف رحلة هس بأنها «ليست تصرفا ينبع من رجل مجنون ... بل كانت تنفيذا لمؤامرة سرية من جانب القيادة النازية لعقد اتفاق سلام مع بريطانيا قبل بدء الحرب مع الاتحاد السوفييتي.» وبدأ عميل آخر تقريره بالقول صراحة بأن «القصة المذاعة عن وصول هس إلى إنجلترا دون سابق إنذار غير صحيحة.»
وبحسب جواسيس سوفييت، كان هس يراسل دوق هاملتون منذ فترة طويلة، على الرغم من أن هاملتون لم يكن يعلم بذلك، ففيما يبدو كان جواسيس بريطانيون يعترضون سبيل خطابات هس إلى هاملتون، ثم يرسلون الردود باسم هاملتون، مشجعين هس على الحضور. فقد كان الأمر برمته خدعة بريطانية وقع فيها نائب الزعيم الذي لم يخامره أي شك.
وجد كستيلو نظريات مشابهة في أحد ملفات الاستخبارات العسكرية الأمريكية يرجع تاريخه لعام 1941 رفعت عنه السرية في عام 1989. لقد كانت التقارير الأمريكية والسوفييتية متشابهة إلى حد كبير في الواقع، حتى إن كستيلو استنتج أنها كانت حتما مستقاة من نفس المصدر. فقد ساقت كلتاها، على سبيل المثال، نفس المقولة التي ذكرها طبيب فحص الطيار الألماني بعد أسره مباشرة. وحين أعلن الطيار أنه رودولف هس، داعبه الطبيب قائلا إن المستشفى أيضا به مريض يظن نفسه سليمان.
رأى كستيلو أن الأدلة الجديدة دمرت أكذوبة صمود إنجلترا البطولي بشجاعة ضد الهجوم النازي، وحلت محلها صورة للحكومة البريطانية وهي مترددة إزاء الحرب، في ظل وجود حزب مهم يسعى لتحقيق السلام، ويعمل على قدم وساق لاستبدال تشرشل ليحل محله رئيس وزراء أكثر ميلا لاسترضاء هتلر. لم يكن لدى خصوم تشرشل سوى بصيص من الأمل في إمكانية هزيمة هتلر؛ فبالنظر إلى أن الوصول إلى ميناء بيرل هاربر كان لا يزال يتطلب شهورا وإلى معارضة الانعزاليين الأمريكيين القوية للحرب، كان الشيء الوحيد المؤكد أن الاستمرار في القتال بمفردهم كان سيعني استمرار نزيف الأرواح والممتلكات. ولم يكن منطقيا في نظر كستيلو أن يكون هس قد هبط من السماء دون سبب للاعتقاد بأن دوق هاملتون سوف يكون في انتظاره للاجتماع به، مهما كان أهوج، أو ساذجا، أو معتوها.
رأى آخرون، وأبرزهم المؤرخ البريطاني بيتر بادفيلد، أن الأدلة على استدراج البريطانيين لهس إلى إنجلترا مقنعة، إلا أنهم خلصوا إلى أنها ربما كانت عملية من تدبير جهاز الاستخبارات السري، وليس مخططا ضد تشرشل. فعلى خطى ستالين، ظن بادفيلد أن مهمة هس كانت جزءا من حملة بريطانية صممت لإقناع هتلر بالتخلي عن معركة بريطانيا وتركيز قواته على روسيا بدلا منها. وخمن بادفيلد أن هتلر أيضا كانت لديه أسبابه لإرسال نائبه إلى إنجلترا. فربما يكون هتلر قد فكر أنه في حال فشل المهمة، كان ستالين سيعتقد أن ذلك يضمن استمرار معركة بريطانيا. وكان من شأن ذلك أن يمنح هتلر الفرصة للانقضاض على السوفييت بغتة.
وبموجب هذه النظرية، كان هس لعبة في يد كل من تشرشل وهتلر؛ كان تشرشل يأمل في إقناع هتلر بالاتجاه شرقا، بينما كان هتلر يأمل في إقناع ستالين بأنه سيتوجه غربا. •••
كان ستالين، بصفة خاصة، يعتقد أن رحلة رودولف هس إلى اسكتلندا لم تكن تصرف رجل مجنون، بل جزءا من مخطط نازي بريطاني سري لتوحيد القوات ضد الاتحاد السوفييتي. وفي الصورة يظهر هس في محبسه عام 1945. (مكتبة الكونجرس.)
لأنهما أثارا جدلا واسعا مثل كتبهما، لم ينجح كستيلو أو بادفيلد في تغيير إجماع الرأي بخصوص مهمة هس. ولعل من أسباب ذلك أن مجرد اتفاق الجواسيس الأمريكيين والسوفييت على شيء لا يعني أنه كان صحيحا. فالأرجح، بحسب معظم المؤرخين، أن كليهما اعتمد على نفس المصادر، وأن هذه المصادر كانت خاطئة. وقد تتكشف القصة كاملة في عام 2017، حين تفتح كل ملفات الحكومة البريطانية الخاصة بهس.
غير أنه من ملفات الجهاز الاستخباراتي السري البريطاني التي فتحت بالفعل، يتضح أن صديق هس، ألبريشت هاوسهوفر (وليس هس نفسه) كان على اتصال بدوق هاملتون. فبعض خطابات هاوسهوفر تشير إلى علاقة وثيقة بين هاوسهوفر وهاملتون؛ وثيقة لدرجة أن كستيلو لاحظ دلالات على المثلية الجنسية.
ففي سبتمبر 1940، كتب هاوسهوفر لهاملتون، داعيا «أصدقاءه ذوي النفوذ» ل «إدراك الأهمية التي تنطوي عليها حقيقة تساؤلي عما إذا كان بوسعكم توفير بعض الوقت لنتحدث معا.» فقد كان هاوسهوفر، بعلم هس على الأرجح، يستشعر بشكل واضح إمكانية إجراء محادثات سلام.
غير أن خطاب هاوسهوفر لم يصل إلى يد هاملتون. فقد اعترضته الاستخبارات البريطانية، وتحفظت عليه لمدة خمسة أشهر. وليست واضحة أسباب قيامهم بذلك. ربما لأن تشرشل قد أوضح بشكل قاطع أن إجراء محادثات سلام أمر محال. أو ربما لأن جهاز الاستخبارات السوفييتية السري قد رد باسم هاملتون، بقصد إلقاء طعم لهاوسهوفر ثم اصطياد هس بدلا منه.
وأيما كان الطعم، فمن الواضح أن نائب الزعيم كان متلهفا لالتقاطه. فقد كان هس يعلم مدى إعجاب هتلر الممتزج بالاستياء من بريطانيا ويعلم أيضا بكراهيته التامة لبلاشفة روسيا. وبصرف النظر عن مناقشته الأمر مع هتلر صراحة، فقد كان هس يعلم أن مهمة سلام ناجحة ستكون من دواعي سرور الزعيم. علاوة على ذلك، كانت هذه فرصة لهس لاستعادة بعض من نفوذه الذي شعر بأنه يتلاشى. فقد كان هس رجل هتلر الثاني في الأيام الأولى للنازية، ولكن بحلول عام 1941 بات نفوذه يتقلص نتيجة ظهور منافسين على شاكلة مارتن بورمان، ونتيجة أيضا لتركيز هتلر على الأمور العسكرية.
ولا يزال أفضل تفسير على الأرجح لدوافع هس هو ذلك الذي كتبه تشرشل عام 1950. فبعد وصف غيرة هس من الجنرالات الذين طغوا عليه، راح يتخيل أفكار هس: «إن لديهم أدوارهم ليلعبوها. ولكن أنا، رودولف، سوف أتفوق عليهم جميعا بفعل ينم عن الإخلاص الباهر وأحضر لزعيمي كنزا وارتياحا أعظم من كل ما يجلبونه له جميعا. سوف أذهب وأعقد سلاما مع بريطانيا.»
كانت خطة هس للسلام مصيرها الفشل. فبدافع من الولاء والطموح ، وربما بخدعة من جهاز الاستخبارات السري البريطاني، أخفق في إدراك أنه بحلول عام 1941 كان أوان السلام قد ولى. فلم يكن تشرشل وحده هو من صار الآن ملتزما بالحرب بقوة، بل الشعب البريطاني أيضا.
أدرك تشرشل أن مهمة هس لم يكن لها أية صلة بمسار الحرب، وهو ما بدا جليا منذ أول لحظة علم فيها بهبوط هس على أرض بريطانيا. وبعد أن التقى الدوق هاملتون بهس، هرع الدوق لتقديم تقريره إلى رئيس الوزراء. وراح تشرشل، الذي كان يخطط لمشاهدة فيلم سينمائي في ذلك المساء، ينصت في نفاد صبر، ثم رد قائلا: «حسنا، سواء أتى هس أم لم يأت، سوف أذهب لمشاهدة الإخوة ماركس.»
لمزيد من البحث
Winston Churchill,
The Grand Alliance (Boston: Houghton Mifflin, 1950). Volume 3 of Churchill’s magnificent history of World War II, full of not just the author’s recollections but also his directives, telegrams, and other documents that illuminate the British government’s pursuit of the war .
Ilse Hess,
(London: Britons Publishing Co., 1954). Hess’s letters to his wife and son from England, Nuremberg, and Spandau Prison .
James Douglas-Hamilton,
Motive for a Mission (London: Macmillan, 1971). As the son of the Duke of Hamilton, Douglas-Hamilton grew up immersed in the Hess mystery. Surprisingly, though, his book is more about Haushofer than either Hamilton or Hess. Haushofer emerges as a fascinating and tragic figure: with ties to both the Nazis and the resistance, he ended up despising himself and welcoming his death at the hands of the Gestapo .
W. Hugh Thomas,
Hess: A Tale of Two Murders (London: Hodder & Stoughton, 1988). Thomas, a British surgeon who examined Spandau’s inmate, discovered to his amazement that he had none of the scars that should have remained from Hess’s World War I injuries. Thomas concluded that the man who died in prison in 1987 couldn’t have been Hess. His theory was that Himmler shot down the real Hess over the North Sea, then sent his carefully schooled double to England. Thomas’s 1979 book
The Murder of Rudolf Hess
makes many of the same arguments. A 1989 Scotland Yard report reasonably concluded otherwise .
John Costello,
Ten Days to Destiny (New York: William Morrow, 1991). Though Costello didn’t succeed in overturning the traditional view of the Hess mission, his book makes a convincing case that at least some British leaders were not averse to a deal with Hitler .
Hess (London: Weidenfeld & Nicolson, 1991). Hess as the pawn of
both
Hitler and Churchill .
Louis Kilzer,
Churchill’s Deception (New York: Simon & Schuster, 1994). Goes even farther than Costello in arguing that some inside the British government were behind the German invasion of Russia. Though provocative, Kilzer (like Stalin) is too eager to explain everything by conspiracies. Sometimes (though, of course, not always) the official story also turns out to be the real story .
الفصل الخامس والعشرون
هل كان جورباتشوف جزءا من انقلاب أغسطس؟
حمام البخار هو النظير الروسي لغرف أمريكا الأسطورية كثيفة الدخان، وهو المكان الذي يعقد فيه الساسة صفقاتهم السرية؛ لذا لم يبد غريبا، في 17 أغسطس 1991، أن يجتمع بعض من أقوى الشخصيات نفوذا في الاتحاد السوفييتي لأخذ حمام في مبنى جهاز الاستخبارات السوفييتي الفاخر بموسكو.
كان الحاضرون هم رئيس الوزراء فالنتين بافلوف، ووزير الدفاع دميتري يازوف، وسكرتير اللجنة المركزية لشئون الدفاع أوليج باكلانوف، وسكرتير اللجنة المركزية لشئون الأفراد بالحزب الشيوعي أوليج شينين، ورئيس الأركان فاليري بولدين. وكان مضيفهم، بحسب شهادة الستة جميعا فيما بعد، هو رئيس جهاز الاستخبارات السوفييتية فلاديمير كريوتشكوف.
كان من المستحيل رؤية زعيمهم الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف وسط البخار؛ فقد كان في إجازة مع أسرته في شبه جزيرة القرم. وسمع لأول مرة عن الاجتماع في اليوم التالي له، حين وصل باكلانوف وبولدين إلى المنزل الذي يقضي به إجازاته والمعروف باسم فوروس. وكان برفقتهما الجنرال فالنتين فارنيكوف، قائد القوات البرية السوفييتية، والجنرال يوري بليخانوف من جهاز الاستخبارات السوفييتية.
كان جورباتشوف، حسبما روى القصة فيما بعد، عاكفا على كتابة المسودة النهائية لإحدى الخطب حين أخبره مدير الأمن أن لديه ضيوفا. كان ذلك مثيرا للقلق؛ إذ لم يكن الناس يعرجون على منزل الرئيس السوفييتي هكذا دون سابق إنذار. وكان أول رد فعل لجورباتشوف أن حاول الاتصال بكريوتشكوف لمعرفة ما يحدث، ليكتشف أن خط الهاتف معطل، وكذلك خطوطه الأربعة الأخرى.
عند هذه النقطة، دخل الوفد القادم من حمام البخار الغرفة. وقام باكلانوف بإبلاغ جورباتشوف أنهم يمثلون «لجنة الدولة المعنية بحالات الطوارئ». فأجاب جورباتشوف بأنه لم يصرح بإنشاء لجنة كهذه مطلقا. فقال باكلانوف لجورباتشوف بأن عليه التوقيع على مرسوم يعلن فيه حالة الطوارئ أو ينقل صلاحياته إلى نائب الرئيس جينادي ياناييف. فرفض جورباتشوف.
ووصف الموقف فيما بعد قائلا: «أخبرتهم إلى أين يذهبون مستخدما اللغة الأكثر حدة التي دائما ما يستخدمها الروس في مثل هذه الظروف.»
على مدار الأيام الثلاثة التالية انقطع جورباتشوف عن العالم الخارجي، غير قادر على إجراء أو استقبال أية مكالمات وكان محاصرا بطوق مزدوج من الحراس. واستطاع أن يشاهد على شاشة التلفزيون المؤتمر الصحفي الذي عقد في اليوم التالي في موسكو، والذي أعلن خلاله أعضاء لجنة الطوارئ أنه، نظرا لمرض الرئيس، يتولى نائب الرئيس ياناييف مهامه.
وبالاستماع إلى محطة بي بي سي وإذاعة صوت أمريكا على راديو ترانزستور، استطاع جورباتشوف متابعة بعض الأحداث الخطيرة التي أعقبت ذلك. واستنكر الرئيس الروسي بوريس يلتسين الاستيلاء على الحكم بوصفه انقلابا غير شرعي ونادى بالمقاومة الشعبية. فأعلنت اللجنة الأحكام العرفية وأمرت بنزول أعداد كبيرة من الدبابات وحاملات الأفراد المدرعة إلى موسكو.
ومع انتصاف الفترة الصباحية ليوم 19 أغسطس، حوصر مبنى الحكومة الروسية المعروف بالبيت الأبيض بكل من القوات السوفييتية، وعشرات الآلاف من المواطنين الروس. وشكل البعض سلاسل بشرية لمنع الدبابات من التقدم للأمام. وفي الظهيرة، اعتلى يلتسين إحدى الدبابات في مشهد مثير ليعلن ولاءه للحكومة الروسية المنتخبة، وليس للجنة الطوارئ.
ومع نهاية اليوم، بات واضحا أن الجنود غير مستعدين لإطلاق النار على المواطنين الروس. وبعد يومين انسحبت القوات، وعاد جورباتشوف إلى موسكو، وتم القبض على قادة الانقلاب. وانشرحت صدور الديمقراطيين: فمع نهاية العام، تفكك الاتحاد السوفييتي، وتنحى جورباتشوف على مضض، وخلفه بوريس يلتسين - أول رئيس منتخب ديمقراطيا - بوصفه أقوى شخصية في البلاد.
سائقا دبابتين سوفييتيان يحيط بهما المتظاهرون في ميدان مانيزنايا في 19 أغسطس، 1991. (حقوق الطبع محفوظة لرويترز/كوربيس.)
لاقت هذه القصة المباشرة - إلى حد ما - لانقلاب أغسطس 1991، والتي تصور جورباتشوف كضحية ملحمية ويلتسين كبطل ديمقراطي، قبولا لدى معظم الزعماء، والصحفيين، والمؤرخين الغربيين، بل إن جورباتشوف نفسه أعاد سرد القصة في العديد من اللقاءات وفي كتابين. غير أن الشعب الروسي، حتى عندما احتفل بسقوط الانقلاب، كان أكثر تشككا بكثير. فقد كان لديه الكثير من الأسئلة عن الأدوار التي لعبها كل واحد من أبطال القصة، ولا تزال هذه الأسئلة تؤرق جورباتشوف ويلتسين. •••
كان من بين أول من تحدوا رؤية جورباتشوف للانقلاب أعضاء لجنة الطوارئ، وهو الأمر غير المستغرب.
ولكن لم يكن جميعهم في موضع يؤهلهم لهذا التحدي. فقد أقدم اثنان منهم على الانتحار - هما وزير الشئون الداخلية بوريس بوجو، والمستشار العسكري لجورباتشوف مارشال أكروميف - قبل القبض عليهما. واثنان آخران - هما بافلوف وياناييف - كانا في حالة سكر شديد لدرجة أعجزتهما عن قول أي شيء منطقي في البداية.
وما إن أفاقا، حتى انضما إلى شركائهما المتآمرين في الإصرار على أنهم قد حصلوا على الإذن بفرض حالة الطوارئ من جورباتشوف نفسه. وبحسب أعضاء لجنة الطوارئ، فقد توجهوا إلى شبه جزيرة القرم لإبلاغ جورباتشوف بأن كل شيء جاهز. بعد ذلك، ولدهشتهما، تراجع مدعيا أنه مريض.
وكما أخبر بافلوف المدعين الروس: «قرر جورباتشوف أن يلعب لعبة لا يمكن أن يخسر فيها. فإذا ظل هناك (في فوروس) وأفلحت حالة الطوارئ، كان سيأتي إلى موسكو فيما بعد، بعد أن يتعافى من مرضه ويتولى المسئولية. وإذا لم تفلح، كان بإمكانه أن يأتي ويعتقل الجميع، ويعود لتولي المسئولية مرة أخرى بصفته رئيسا.»
اعتمدت حجة أعضاء اللجنة على إثبات أن الرئيس لم يمنع من الاتصال بالعالم الخارجي في فوروس، على عكس ادعائه. وقد ساعدهم في ذلك وجود بعض البلبلة بشأن التوقيت؛ فقد قال أحد المصادر إن خطوط الهاتف قد قطعت في الساعة 4:32 مساء في يوم 18 أغسطس، بينما قال آخر إن وقت حدوث ذلك كان الساعة 5:50 مساء. وتذكر أحد حلفاء جورباتشوف المقربين فيما بعد أنه قد تحدث إلى الرئيس في الساعة السادسة مساء في ذلك اليوم؛ أي بعد قطع الخطوط كما يفترض.
بالطبع كان لدى جميع المتآمرين سبب مقنع لإلقاء مسئولية الانقلاب على جورباتشوف؛ فلو أنهم استطاعوا إقناع الناس بأنهم كانوا فقط يتبعون أوامر الرئيس، لصار من الصعب اتهامهم باغتصاب السلطة منه. غير أن الكثير من الروس وجدوا في نسختهم من القصة نفس القدر من المصداقية التي توفرها نسخة جورباتشوف.
من أسباب ذلك أن المتآمرين كانوا جميعا رفاقا مقربين للرئيس، بل إنه قام بتعيينهم وترقيتهم، على الرغم من حقيقة أنهم كانوا جميعا يكنون عداء واضحا نحو سياسات البيروسترويكا والجلاسنوست. وكثيرا ما كان كريوتشكوف ينفذ ما يؤمر به في العلن؛ فكان يتحدث عن إنشاء مؤسسة أكثر انفتاحا (بل إنه قد دعم مسابقة للجمال كانت الفائزة بها تنال لقب «ملكة جمال الاستخبارات السوفييتية»)، ولكنه في السر لم يكن يخفي اعتقاده بأن إصلاحات جورباتشوف قد جاوزت الحد بشكل بالغ.
كان جورباتشوف يتلقى الكثير من التحذيرات من أن وزراءه لا يمكن أن يكونوا مصدر ثقة. ففي ديسمبر 1990، قدم وزير الخارجية إدوارد شيفردنادزه، الليبرالي البارز في حكومة جورباتشوف، استقالته على نحو مؤثر بسبب النفوذ المتزايد للقوى الرجعية في الحكومة؛ إذ قال: «فلتعتبر احتجاجي - إن شئت - إسهاما مني في مواجهة بدء العصر الديكتاتوري.»
وفي يونيو، تلقى السفير الأمريكي جاك ماتلوك تحذيرا أكثر تحديدا من عمدة موسكو جافرييل بوبوف، وهو أحد الديمقراطيين البارزين. فقد أشار بوبوف لماتلوك إلى أن الغرفة مكتظة بعملاء المخابرات السوفييتية وأنهما لا يستطيعان التحدث بحرية. بعد ذلك سلم العمدة السفير رسالة صغيرة تقول: «هناك انقلاب يرتب له لإبعاد جورباتشوف عن الحكم.»
وعلى نفس الورقة تساءل ماتلوك عمن وراءه. فكتب بوبوف أسماء بافلوف، وكريوتشكوف ويازوف، وأناتولي لوكيانوف، المتحدث باسم مجلس السوفييت الأعلى، وجميعهم تورطوا في الانقلاب الذي وقع بعد ذلك بشهرين. بعدها نقل ماتلوك التحذير إلى جورباتشوف. ولأن ماتلوك لم يكن يملك أي شيء سوى ما أدلى به له بوبوف كي يعتمد عليه، لم يذكر أسماء أي من المتآمرين، وهو ربما ما أسهم في التقليل من تأثير تحذيره. غير أن رد فعل جورباتشوف كان فاترا بشكل مزعج (ومثير للريبة في عقول البعض)؛ فقد اكتفى بتوجيه الشكر للسفير لاهتمامه وأخبره بألا يقلق بشأن ذلك.
حتى في العلن، لم يكن المتشددون يحاولون دوما إخفاء معارضتهم الشديدة لإصلاحات جورباتشوف. وكان بافلوف صريحا بشكل خاص في انتقاده لمعاهدة جديدة كان جورباتشوف يتفاوض بشأنها مع زعماء الجمهوريات السوفييتية، والتي كان من شأنها تقليص نفوذ الحكومة المركزية بشكل حاد. وقال العديد من المتآمرين فيما بعد إنهم كانوا يعملون من أجل تلافي توقيع المعاهدة والذي كان قد تقرر له يوم 20 أغسطس.
كيف أمكن لسياسي بدهاء جورباتشوف تجاهل مثل هذه العلامات التحذيرية الواضحة؟ كانت إجابة بافلوف على هذا السؤال منطقية بالنسبة إلى أولئك الذين تعاطفوا مع المتشددين في اللجنة؛ لا بد أن جورباتشوف نفسه كان وراء الانقلاب. ربما يكون قد تراجع في اللحظة الأخيرة، أو ربما أراد أن يدع أعضاء اللجنة يقومون بفعلتهم القذرة. ولكن سواء أشارك بشكل فعال في التخطيط أم شجع المتآمرين فحسب، فإنه لم يكن ضحيتهم البريء.
كان تفسير التعديليين للانقلاب قاسيا على يلتسين أيضا. ففي خطاب منشور إلى الرئيس الروسي، اتهمه كريوتشكوف بالتخطيط لمسرحية الدفاع البطولي عن البيت الأبيض لتعزيز سمعته. وأنكر كريوتشكوف قيامه بإصدار أمر بشن هجوم على البيت الأبيض. وكتب إلى جانب ذلك أن يلتسين كان على دراية تامة بذلك؛ إذ كان رئيس جهاز الاستخبارات السوفييتية قد استدعاه شخصيا ليخبره بالأمر.
ومثل الهجمات التي شنت على جورباتشوف، كان وراء انتقاد يلتسين مصالح شخصية إلى حد كبير. فربما كان أعضاء اللجنة يشعرون بالحرج من تصوير أنفسهم كبلهاء وقعوا ضحية مناورات وألاعيب جورباتشوف ومسرحيات يلتسين. ولكن هذه الصورة، على الصعيد السياسي والقانوني، كانت أفضل بكثير من النظرة التقليدية لهم كجوعى للسلطة، ومتعطشين للدماء، وممثلين للرجعية الستالينية الجديدة. •••
جلبت المحاكمة الجنائية للمتآمرين المزعومين مزيدا من الإحباط لمؤيدي جورباتشوف ويلتسين.
في البداية، اتهم المدعون قادة الانقلاب بخيانة الاتحاد السوفييتي. ولكن مع نهاية عام 1991، تفكك الاتحاد السوفييتي إلى دول مستقلة. ودفع ممثلو الدفاع بعدم وجود أساس قانوني لاتهام موكليهم بخيانة دولة لم يعد لها وجود.
في النهاية، استقر المدعون على تهم التآمر، إلا أن المحاكمة تأجلت مرارا وتكرارا بسبب ظهور حجج قانونية إضافية ومرض الكثير من المدعى عليهم. وأخيرا، وفي ديسمبر 1993، أصدر البرلمان الروسي الجديد - الذي كان يهيمن عليه في ذلك الوقت ائتلاف مناهض ليلتسين من القوميين والشيوعيين السابقين - عفوا عن جميع المدعى عليهم.
من بين المدعى عليهم الخمسة عشر، رفض واحد فقط العفو. فلعدم رغبته في الاعتراف بارتكابه أية جريمة تستوجب العفو عنه، طالب الجنرال فارنيكوف بمحاكمة. كذلك كان فارنيكوف بلا شك على دراية بأن المجلس العسكري للمحكمة الروسية العليا - شأنه شأن البرلمان المنتخب حديثا - يكتظ بأعداء كل من جورباتشوف ويلتسين.
جرت المحاكمة في أغسطس 1994. واعتلى جورباتشوف منصة الشهود غاضبا، منكرا أية صلة له بالانقلاب. وتجاهلت المحكمة شهادته وبرأت فارنيكوف.
استنكر جورباتشوف وأنصاره الحكم، مقارنين إياه بمحاكمات ستالين الصورية التي جرت في الثلاثينيات. وكان للاتهام قدر كبير من الاستحقاق؛ فقد كان كل من البرلمان الجديد والمحكمة انعكاسا للتغير الشديد الذي طرأ على السياسة الروسية منذ نشوة ما بعد الانقلاب. فقد دفع الاقتصاد الكارثي والاضطراب السياسي بين صفوف الديمقراطيين إلى السلطة مجموعة من القوميين المتطرفين ومؤيدي الشيوعيين، الذين كانوا يشتركون في أمور كثيرة مع أعضاء لجنة الطوارئ أكثر من يلتسين أو جورباتشوف.
وبحلول منتصف التسعينيات، احتفي بالمشاركين في الانقلاب كأبطال في دوائر المحافظين؛ بل إن اثنين من أعضاء اللجنة كانا من ضمن نواب البرلمان الجديد. وصار البيت الأبيض، الذي كان يوما ما رمزا لمقاومة يلتسين للانقلاب، تحت سيطرة أعدائه. وظل يلتسين رئيسا حتى نهاية العقد، ولكن مع اضمحلال شديد لنفوذه وسمعته.
أما جورباتشوف، فقد واصل الدفاع عن موقفه، رغم أنه لم يكن أحد في روسيا ينصت إليه فيما يبدو. وكان عزاؤه الوحيد أنه ظل بطلا في الخارج، لا سيما في نظر زعماء الغرب أمثال جورج بوش ومارجريت ثاتشر، اللذين اعتبراه شريكا لهما في إنهاء الحرب الباردة.
كذلك ظل الصحفيون والمؤرخون الغربيون على إعجابهم بجورباتشوف، ولكن مع الابتعاد قليلا عن السياسة السوفييتية وتحري المزيد من الموضوعية إزاءها. فقد كانوا يشددون على أنه أيا ما كانت مثالب جورباتشوف، فقد أحدث الرجل تحولا كاملا في السياسة السوفييتية الخارجية، وأدخل للاتحاد السوفييتي درجة غير مسبوقة من الحرية، تضمنت انتخابات شبه ديمقراطية ونظاما قائما على التعددية الحزبية.
ولا يمكن إنكار أنه أجرى كل أنواع التسويات وقطع وعودا مع المتشددين في حكومته، إلا أن ذلك لم يجعله واحدا منهم. ربما كان بعض وزرائه المحافظين يعتقدون حقا أن بوسعهم إقناع جورباتشوف بمجاراة انقلابهم، أو على الأقل تمسكوا ببعض الأمل أنه سيفعل. ولا شك أن جورباتشوف قد ارتكب خطأ فادحا في تقدير حدود قدرتهم على إيقاف إصلاحاته، ولكن ذلك مختلف تماما عن إثبات رغبته في أن يكون له أي صلة بالانقلاب.
تقدم مذكرات جورباتشوف - برغم ما يشوبها غالبا من مصلحة شخصية ونفاق - دفاعا مقنعا ضد اتهامه بالتواطؤ مع المتآمرين. فقد كتب فيها: «تحويل البلاد إلى اتحاد ديمقراطي قابل للبقاء، وكذلك الخطة العامة للبريسترويكا، والإصلاحات الشاملة، وتطبيق أسلوب تفكير جديد في مجال السياسة الدولية؛ كل هذه الأمور باتت شغلي الشاغل في الحياة.» «فلماذا إذن أرغب في إفسادها؟»
لمزيد من البحث
Mikhail Gorbachev,
The August Coup (New York: HarperCollins, 1991). Inevitably, since it appeared just months after the coup, much of the book consists of reworked previous statements and speeches, but these still make for a useful document .
David Remnick,
Lenin’s Tomb (New York: Random House, 1993). Intimate and revealing vignettes from the last days of the Soviet Empire .
John Dunlop,
The Rise of Russia and the Fall of the Soviet Empire (Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1993). Dunlop makes a strong case that the plotters had reason to believe Gorbachev could be convinced to side with them. Somewhat academic in its style but still compelling .
Victoria Bonnell, Ann Cooper, and Gregory Freidin, eds.,
Russia at the Barricades (Armonk, N.Y.: M. E. Sharpe, 1994). A collection of documents, interviews, and eyewitness accounts of the coup .
Valery Boldin,
Ten Years That Shook the World (New York: Basic Books, 1994). A venomous and vindictive portrait of Gorbachev, written by his chief of staff while he awaited trial for his part in the coup .
Boris Yeltsin,
The Struggle for Russia (New York: Times Books, 1994). Disorganized and sometimes disingenuous, but entertaining and informative. Yeltsin has little good to say about his archrival, though he stops short of accusing Gorbachev of planning or approving the coup. Instead Yeltsin concludes, somewhat ambiguously, that Gorbachev was its “chief catalyst.” As for the revisionist attacks on Yeltsin’s own role in the coup, he admits he had a telephone conversation with Kryuchkov during which the KGB chief told him the emergency committee would not use military force. But Yeltsin adds that there were good reasons not to believe him .
Jack Matlock,
Autopsy on an Empire (New York: Random House, 1995). Matlock, who was the U.S. ambassador to Moscow under Reagan and Bush, provides a firsthand account of the Soviet collapse. Unlike the works of most diplomats, Matlock’s is not just a valuable historical document but also a valuable work of history .
David Pryce-Jones,
The Strange Death of the Soviet Empire (New York: Henry Holt, 1995). An unusual and often interesting mix of interviews with former leaders, dissidents, and other Soviet observers .
Mikhail Gorbachev,
Memoirs (New York: Doubleday, 1995). Like its author, the book goes on too long but remains important .
Archie Brown,
The Gorbachev Factor (Oxford: Oxford University Press, 1996). The best overall defense of Gorbachev’s record as a genuine reformer-a better defense, in fact, than Gorbachev’s own memoirs .
Amy Knight,
Spies without Cloaks (Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1996). The first chapter is the most recent and most thorough case against Gorbachev. The rest of the book argues that the postcoup KGB continues to be a dangerous and independent force in Russia.
David Remnick,
Resurrection (New York: Random House, 1997). A surprisingly hopeful view of postcoup Russia, especially since most of the book chronicles the country’s descent into chaos, corruption, and crime .
Shafi da ba'a sani ba