بعد أن غطس يسوع في ماء الأردن وخرج منه، ترك يوحنا المعمدان وجمهرة المتعمدين وجعل يصلي في خلوة مستغرقا في تأمل باطني عميق: «وإذا كان يصلي انفتحت السماء، ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة، وكان صوت من السماء قائلا: أنت ابني الحبيب بك سررت» (لوقا، 3: 21- 22). هذا المشهد الذي يوصف في الأناجيل الثلاثة الإزائية على أنه حدث موضوعي، لم يكن في حقيقة الأمر إلا تعبيرا بمفردات رمزية عن خبرة صوفية وجدية قادت يسوع إلى الكشف والاستنارة، عقب فترة طويلة من البحث العقلي والكدح الروحي. لقد عرف إلهه الذي كشف عن نفسه في هيئة حمامة، وهذا الإله لم يكن إله التوراة الذي رفضه يسوع في عقله الباطن منذ حداثته وراح يبحث عن الإله الحق. فمن هو إله يسوع؟
من المهم جدا أن نلاحظ أن يسوع لم يستخدم في أقواله الاسم التوراتي يهوه أو بديله إيلوهيم في الإشارة إلى إلهه، وإنما دعاه دوما بلقب الآب أو الآب السماوي. وبهذا اللقب تتوجه إليه الصلاة المسيحية التي علمها يسوع لتلاميذه: «أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ... إلخ» (متى، 6: 9-12). فهو أب ليسوع وأب لجميع البشر: «إن الأعمال التي أعملها باسم أبي تشهد لي» (يوحنا، 10: 25). «فاغفروا لكي يغفر لكم أبوكم الذي في السماوات زلاتكم» (مرقس، 11: 25). «فكونوا كاملين لأن أباكم الذي في السماوات هو كامل» (متى، 5: 48).
إن هوية الإله الذي تجلى ليسوع بعد خروجه من ماء العماد، تعلن عن نفسها من خلال الهيئة الرمزية التي تجلى بها. فإله التوراة لم يتجل أبدا في هيئة حمامة وإنما في ظواهر طبيعانية تعبر عن القوة والجبروت والغضب. فعندما أعلن عن نفسه لموسى أول مرة ناداه من قلب جذوة نار تتوهج في شجرة عليق (الخروج، 3: 1-6). وأعلن عن نفسه للمصريين من خلال الأوبئة والكوارث التي أرسلها عليهم والتي كان آخرها قتله لمواليدهم الجدد ومواليد مواشيهم: «فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير الذي في السجن، وكل بكر بهيمة» (الخروج، 12: 29). «وعندما أخرج موسى بني إسرائيل من مصر كان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم الطريق وليلا في عمود نار ليضيء لهم» (الخروج، 13: 21). وعندما نزل الرب على جبل سيناء ليعطي موسى لوحي الشريعة تجلى لبني إسرائيل في ظواهر بركانية: «وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف كل الجبل جدا» (الخروج، 19: 18). وكانت ناره تسقط من السماء لتلتهم المحارق الحيوانية الموضوعة على المذبح: «فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب، ولحست المياه التي في القناة» (الملوك الأول، 18: 38). وكانت الريح والزلزلة والنار تتقدمه لتعلن عن حضوره: «وإذا بالرب عابر وريح عظيمة وشديدة قد شقت الجبال وكسرت الصخور أمام الرب ولم يكن الرب في الريح، وبعد الريح زلزلة ولم يكن الرب في الزلزلة، وبعد الزلزلة نار ولم يكن الرب في النار» (الملوك الأول، 19: 11-13). وإذا تكلم كان صوته يخرج مثل هدير العاصفة وقصف الرعد: «فأجاب الرب أيوب من العاصفة فقال له: هل لك ذراع كما للرب؟ وبصوت مثل صوته ترعد» (أيوب، 40: 6-9). وكان الوباء والحمى رسولاه يتقدمانه إذا مشى: «الرب جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران. جلاله غطى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه ... قدامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت الحمى ... وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم ودكت الجبال الدهرية وخسفت آكام القدم» (حبقوق، 3: 3-6).
وعلى العكس من هذه التجليات للإله التوراتي فإن إله يسوع قد اختار الحمامة لكي يعلن عن نفسه من خلالها. فقد كانت الحمامة رمزا للحب سواء في ثقافات الشرق القديم أم في الثقافة الكلاسيكية، ونجدها دوما في الفن المصور بصحبة إلهات الحب، وقد تمثل إلهة الحب نفسها بجناحين. إن جوهر إله يسوع هو المحبة، محبة العالم: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذلك ابنه الوحيد لكيلا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا، 3: 16). أما إله التوراة فقد أحب إسرائيل وكره بقية العالم، وقد زرع كراهية الشعوب الأخرى في قلب بني إسرائيل في وصيته الأولى لموسى عن كيفية التعامل معهم: «احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخا في وسطك، بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أصنامهم وتقطعون سواريهم» (الخروج، 34: 12-13). وهذا نموذج من قوانين موسى الحربية التي استنها لقادة جيشه: «اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها، لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حيات» (العدد، 31: 17-18). وهنالك قانون آخر فرضه يهوه معروف بقانون التحريم الذي يلزم القائد العسكري تقديم كل ذي نفس حية من الشعب المهزوم قربانا للرب: «فالآن اذهب واضرب شعب عماليق وحرموا كل ماله، ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا» (صموئيل الأول، 15: 3).
أما المخطط الذي رسمه يهوه للتاريخ فهو مسيرة تنتهي بسيادة شعب إسرائيل على أمم العالم، بعد مذبحة شاملة يقودها بنفسه تجعل من بقي من هذه الأمم حيا عبيدا لشعب الرب: «ولولوا لأن يوم الرب قريب، قادم كخراب من القادر على كل شيء» (إشعيا، 13: 6). «هو ذا الرب يخلي الأرض ويفرغها ويقلب وجهها ويبيد سكانها» (إشعيا، 24: 1). «اقتربوا أيها الأمم لتسمعوا ويا أيها الشعوب أصغوا. لتسمع الأرض وملؤها، لأن للرب سخطا على كل الأمم وحموا على جيشهم، قد حرمهم دفعهم للذبح، فقتلاهم تطرح وجيفهم تصعد نتانتها، وتسيل الجبال بدمائهم» (إشعيا، 34: 1-4). «ويكون في ذلك اليوم أن السيد يعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه ... ويجمع منيفي إسرائيل ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض؛ لأن الرب سيرحم يعقوب ويختار إسرائيل ويريحهم في أرضهم، فتقترن بهم الغرباء وينضمون إلى أرض الرب عبيدا وإماء» (إشعيا، 11: 11-12 و14: 1-2).
وفي المشهد التالي الذي يرسمه إشعيا، نرى يهوه بعد عودته من المذبحة الشاملة وقد تلطخت ثيابه بالدم فصار كمن داس في معصرة عنب: «من هذا الآتي من آدوم بثياب حمر، من بصرة، هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته؟
أنا المتكلم بالبر العظيم للخلاص.
ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس معصرة؟
قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد. فدستهم بغضبي ووطئتهم بغيظي، فرش عصيرهم على ثيابي فتلطخت كل ملابسي. لأن يوم النقمة في قلبي وسنة مفديي قد أتت ... فدست شعوبا بغضبي وأسكرتهم بغيظي وأجريت على الأرض عصيرهم» (إشعيا، 63: 1-6).
هذا الإله الذي رفضه يسوع في أعماقه منذ البداية يدعوه الغنوصيون بإله العالم المادي ويقرنونه بالشيطان. وإذا كان يسوع قد تعرف على إلهه الحقيقي في تجربته الروحية الأولى عقب خروجه من ماء العماد، فإن تجربته الروحية الثانية التي وضعته وجها لوجه مع إله التوراة سيد هذا العالم المادي ، سوف تحسم خياراته إلى الأبد.
Shafi da ba'a sani ba