أما الرمزية الكامنة وراء هذا الطقس فمؤداها أن غسل الجسد بالماء هو مظهر خارجي لتطهير الروح، والمغتسل بالماء الذي يذهب بأدران الظاهر إنما يعبر في الوقت ذاته عن غسله لأدران الباطن. كما أن الغطس الكامل في ماء نهر مقدس أو في جرن العماد الموضوع في المعبد ثم الصعود ثانية، يعبر عن الموت والانبعاث، موت الفرد عن نفسه الأرضية والانبعاث في نفس روحانية.
وتتخذ المعمودية مركز البؤرة في طقوس ديانات الأسرار التي شاعت في العصر الهيلنستي والعصر الروماني، والتي تقوم عقائدها على الإيمان بإله مخلص يقود العابد الذي اتحد به إلى الخلاص من ربقة الموت وإلى خلود الروح. فمن خلال طقس المعمودية كان المنتسبون الجدد إلى الديانة يعبرون إلى أسرارها التي كانت محجوبة المنتسبين. وسنسوق فيما يلي نموذجين من هذه الطقوس، الأولى طقوس إيليوسيس في العبادة السرية للإلهة اليونانية ديمتر وابنتها بيرسيفوني، والثانية طقوس الإلهة المصرية إيزيس كما كانت تمارس في روما.
وعرفت بلاد الإغريق نوعين من الطقوس الديمترية، النوع الأول يدعى بالطقوس الصغرى وكانت تقام سنويا في ذكرى عثور ديمتر على ابنتها بيرسيفوني التي اختطفها هاديس إله العالم الأسفل. ويغلب على هذه الطقوس طابع احتفالات الخصب؛ حيث يرمز صعود بيرسيفوني من العالم الأسفل إلى عودة الحياة إلى الطبيعة الميتة. أما النوع الثاني فيدعى بالطقوس الكبرى، وكانت تقام كل خمسة أعوام على شرف ديمتر لا باعتبارها مخلصة أرضية تتشارك مع ابنتها في إحياء الطبيعة سنويا، وإنما باعتبارها إلهة خلاص روحاني. يشارك في هذه الاحتفالات الكبرى المريدون الجدد الذين تم اختيارهم لدخول أسرار الإلهة والعبور إلى حلقة عبادها الخاصة، فهي والحالة هذه طقوس تنسيب وعبور. كان موكب المحتفلين ينطلق من أثينا مشيا على الأقدام إلى مدينة إيليوسيس مركز عبادة ديمتر، وعند الوصول إلى البحر ينزل المشاركون في الطقوس حيث يغمرون أنفسهم بالماء في عملية تطهير رمزي من شأنها إعدادهم للحياة الروحية الجديدة. وعند الوصول إلى إيليوسيس يخضع المشاركون الطقوس تنسيب تكمل طقوس العماد بالماء لا نعرف عنها شيئا، لأن من مروا بها حاذروا دوما من البوح بحقيقة ما كان يجري هناك.
2
ويشير المؤرخ الإغريقي هيرودوتس إلى هذا الطابع السري لطقوس إيليوسيس في معرض حديثه عن أسرار الإله أوزيريس في مصر، وذلك في كتابه «التاريخ» فيقول: «على تلك البحيرة أمام المعبد في الدلتا يقيم المصريون طقوسهم المكرسة لإلههم الذي لن أنطق باسمه. وعلى الرغم من أني رأيت رؤية العين كل ما جرى في ذلك المكان، فإني لن أزيد في القول شيئا، وأمسك لساني عن البوح بما رأيت مثلما أمسكته عن البوح بما رأيت في طقوس الإلهة ديمتر في إيليوسيس.»
3
أما عن طقوس التنسيب في عبادة الإلهة إيزيس بصيغتها الرومانية، فيحدثنا عنها الكاتب الروماني أبوليوس الذي تحول فيما بعد إلى هذه العبادة وصار كاهنا لإيزيس، وذلك في كتابه المعروف «الحمار الذهبي». وهو يصف هنا تجربته الشخصية عندما مر بهذه الطقوس التي يتخذ الاعتماد بالماء مدخلا إليها: «جاءني الكاهن الأعلى ومعه كهان آخرون، فاقتادوني إلى الحمام حيث أمرت بالاغتسال، وبعدها قام الكاهن الأعلى نفسه بسكب ماء مقدس على جسدي كله وهو يتلو صلوات وأدعية خاصة. ولما انتهيت أتى بي إلى المعبد وأجلسني عند قدمي تمثال الإلهة وأعطاني تعليمات مقدسة لا أجرؤ على البوح بها. ثم ألزمني صياما خاصا فلم أقرب اللحم أو الخمر مدة عشرة أيام، اقتصر طعامي خلالها على ما يسد الرمق فقط. وعندما حل اليوم الأخير جاءني الكاهن الأكبر فألبسني عباءة بيضاء قطنية وقادني إلى قدس أقداس المعبد. أما ما حدث هناك فإن لساني لو نطق وسمحت لأذنك أن تسمع، فإن لساني سيلقى جزاء بما نطق، وستلقى أذنك جزاء بما سمعت.»
4
وقد كانت الكنيسة المسيحية في طورها الأول، شأنها في ذلك شأن بقية ديانات الأسرار، عبارة عن حلقة مقتصرة على المنتسبين المؤهلين لتلقي أسرار الدين، أو أسرار ملكوت الله على حد وصف يسوع نفسه . فعندما سأله التلاميذ عن مغزى أحد الأمثال التي كان يوردها أمام اليهود قال لهم: «لكم قد أعطي أن تعرفوا أسرار ملكوت الله وأما للباقين فبأمثال، حتى إنهم مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يسمعون» (لوقا، 8: 9-10). وكان التعميد الذي يتضمن الغطس الكامل بالماء ثم الصعود منه، هو طقس التنسيب الذي يتوجب على المريد الجديد أن يمر به من أجل الولادة الثانية. وهذا مغزى قول يسوع في إنجيل يوحنا: «ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا ولد وكان مولده من الماء والروح» (يوحنا، 3: 5). وكان يسوع وتلاميذه يعمدون كل راغب في الانضمام إلى الجماعة المسيحية، على ما نفهم من إنجيل يوحنا 3: 3، وإنجيل متى 28: 19. ويعود طقس المعمودية المسيحية إلى النبي يوحنا بن زكريا الملقب بالمعمدان الذي كان يعمد بالماء عند نهر الأردن لمغفرة الخطايا.
ويوحنا هذا شخصية غامضة يلفها الضباب، وهو يظهر فجأة ودون مقدمات في أناجيل متى ومرقس ويوحنا، أما مؤلف إنجيل لوقا فيورد قصة عن ميلاده من الكاهن زكريا وامرأته العاقر اليصابات، تشبه قصص الميلاد الإعجازي للشخصيات التوراتية الرئيسية مثل إسحاق وصموئيل وشمشون، ولكنه يصمت بعد ذلك عن حياة المعمدان بين ميلاده وظهوره على شاطئ نهر الأردن يعمد الناس. أما عن رسالته وتعاليمه، فإن مؤلفي الأناجيل يجعلون منه خاتمة النبوة في إسرائيل. وهذا مؤدى قول يسوع في إنجيل لوقا: «كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا المعمدان ثم ابتدأت البشارة بملكوت الله» (لوقا، 16: 16). من هنا فقد عمد هؤلاء إلى إعطائه دور النبي الذي يظهر في آخر الأزمان من أجل التمهيد لظهور المسيح على ما رددته النبوءات المسيانية في كتاب التوراة. ونبي آخر الأزمنة هذا هو شخص تحل عليه روح النبي إيليا أعظم أنبياء التوراة بعد موسى، على ما نقرأ في سفر ملاخي: «ها أنا ذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على الآباء» (ملاخي، 4: 5-6). وأيضا: «ها أنا ذا أرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي، ويأتي إلى هيكله السيد الذي تطلبونه، وملاك العهد الذي تسرون به» (ملاخي، 3: 1). وهو يوصف في سفر إشعيا بأنه: «صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب، قوموا في القفر طريقا لإلهنا» (إشعيا، 40: 3). وهو في مظهره ونمط حياته يشبه إيليا الذي كان رجلا أشعر يتمنطق بمنطقة من جلد على حقويه، ويمضي جل وقته في البرية (1 ملوك، 17: 5؛ و2 ملوك، 1: 8). وقد اقتبس مؤلفو الأناجيل هذه الأخبار والأوصاف وعزوها إلى يوحنا المعمدان باعتباره النبي المنتظر الذي يبشر بظهور المسيح. نقرأ في افتتاحية إنجيل مرقس. «كما هو مكتوب في الأنبياء: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك. صوت صارخ في البرية، أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة. كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. (وهنا يضيف متي: فيقول توبوا قد اقترب ملكوت السماوات). وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا على يديه في نهر الأردن معترفين بخطاياهم. وكان يوحنا يلبس وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقويه، ويأكل جرادا وعسلا بريا. وكان يكرز قائلا: يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلا أن أنحني وأحل سيور حذائه. أنا عمدتكم بالماء، وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس، في تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا من الأردن» (مرقس، 1: 1-10).
Shafi da ba'a sani ba