ولغز التلميذ الحبيب
في دراستنا السابقة عن خفايا إنجيل مرقس، تحدثنا عن تفرد إنجيل يوحنا عن الأناجيل الثلاثة المتشابهة مرقس ومتى ولوقا، سواء من حيث رسالته اللاهوتية أم من حيث روايته لأحداث مهمة بالنسبة لتشكيل العقيدة المسيحية. ولعل أهم هذه الأحداث التي انفرد بها يوحنا القصة المعروفة عن إحيائه لفتى كان يحبه اسمه لعازر بعد مضي أربعة أيام على موته. ولعازر هذا كان من أسرة غنية تمتلك بيتا واسعا في قرية بيت عنيا الواقعة على جبل الزيتون على مسافة ثلاثة كيلومترات إلى الشرق من أورشليم، وكان يعيش مع أختين شابتين له، الأولى تدعى مرثا والثانية مريم. وقد اعتاد يسوع زيارتهم بصحبة تلاميذه الاثني عشر والإقامة عندهم، على ما نفهم من القصة التالية التي أوردها فيما يلي ملخصة عن إنجيل يوحنا:
خلال زيارته ما قبل الأخيرة لأورشليم أحس يسوع بالخطر الذي يتهدده من قبل اليهود الساعين لقتله، فترك المدينة ونزل إلى عبر الأردن حيث أقام مع تلاميذه في الموضع الذي كان يوحنا المعمدان يعمد فيه. فأرسلت إليه الأختان تقولان: يا سيد، إن الذي نحبه مريض. فمكث يسوع في مكانه يومين، ثم قال لتلاميذه: إن لعازر قد مات وإن عليهم التوجه إلى بيت عنيا. فلما وصل يسوع علم أن لعازر قد دفن منذ أربعة أيام، وكان كثيرون من اليهود قد جاءوا إلى مريم ومرثا ليعزوهما عن أخيهما. فلما سمعت مرثا أن يسوع آت خرجت لملاقاته بينما مكثت مريم في البيت مع المعزين، وعندما لاقته خارج القرية قالت له: يا سيد، لو كنت ها هنا لم يمت أخي. لكنني أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك إياه. فقال لها يسوع: سيقوم أخوك. ثم إن مرثا مضت ودعت مريم سرا قائلة لها: إن المعلم قد حضر وهو يدعوك. فقامت، وتبعها من كان في البيت من المعزين معتقدين أنها ذاهبة إلى القبر لتبكي هناك. فلما رأت يسوع خرت عند رجليه قائلة: يا سيد، لو كنت هنا لم يمت أخي. فلما رآها تبكي والذين جاءوا معها يبكون أيضا اضطربت روحه، وقال: أين وضعتموه؟ قالوا: يا سيد تعال وانظر. فبكى يسوع. فقال اليهود: انظروا كم كان يحبه. فاضطربت روحه ثانية وتقدم من القبر، وقال لهم أن يرفعوا الحجر الذي يسد مدخله. فقالت له مرثا: يا سيد، قد أنتن لأن له أربعة أيام. فأجابها يسوع: إن آمنت ترين مجد الله. فرفعوا الحجر ونظر يسوع إلى السماء، وقال: أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت أنك تسمع لي في كل حين، ولكن قلت هذا من أجل الجمع الواقف ليؤمنوا أنك قد أرسلتني. قال هذا وصرخ بصوت عظيم: لعازر هلم خارجا. فخرج الميت وهو مربوط بأقمطة ووجهه ملفوف بمنديل. فقال لهم حلوه ودعوه يذهب (يوحنا: 11).
بعد ذلك اعتزل يسوع وتلاميذه في البرية لأن سعي الكهنة والفريسيين لقتله قد اشتد، وتآمروا لقتله بعد أن آمن به عدد كبير من الناس بسبب معجزة قيامة لعازر. وقبل الفصح بستة أيام عاد إلى بيت عنيا فصنعوا له عشاء، وكان لعازر أحد المتكئين معه إلى المائدة، وكانت مرثا تخدم. عند ذلك أخذت مريم زجاجة فيها منا (= 300غ) من عطر ناردين خالص غالي الثمن، ودهنت قدمي يسوع ثم مسحته بشعرها فامتلأ البيت برائحة الطيب (يوحنا، 12: 1-3) بعد ذلك يختفي لعازر من إنجيل يوحنا ولا يظهر خلال الأحداث العاصفة الأخيرة في حياة يسوع، ولا نجده حاضرا واقعة الصلب. وهذا أمر ملفت للنظر إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك المحبة العميقة التي جمعت بينهما.
على أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة على القارئ الحصيف للعهد الجديد هو التالي: إذا كانت معجزة إحياء لعازر تمثل قمة معجزات يسوع، وتعتبر بمثابة البرهان الساطع على أنه مرسل من قبل الآب، فلماذا انفرد إنجيل يوحنا بروايتها وسكتت عنها بقية الأناجيل؟
بقي هذا السؤال بلا جواب مقنع حتى عام 1958م، عندما اكتشف الباحث مورتون سميث في بقايا أرشيف دير مار سابا الواقع على مسافة 20 كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة القدس، نسخة عن رسالة مكتوبة باللغة اليونانية وجهها اللاهوتي المعروف كليمنت الإسكندراني، الذي نشط في أواخر القرن الثاني الميلادي، إلى قس فلسطيني يدعى تيودور، يجيبه فيها على عدد من الأسئلة بخصوص وجود إنجيل سري لمرقس يسرد أحداثا لم يرد ذكرها في الإنجيل المتداول، تستخدمه طائفة غنوصية معروفة باسم الكاربوكريتيين نسبة إلى معلمهم كاربوكريتوس، الذي نشط في الإسكندرية خلال مطلع القرن الأول الميلادي، وقال: إن الروح لن تنعتق من دورة التناسخ في الأجساد إذا لم تسدد دينها لهذا العالم عن طريق التمتع بكل ملذات الحياة، لا سيما الجنسية منها. وقد عثر مورتون سميث على هذه الرسالة مطوية وملصقة. ضمن غلاف مقوى لكتاب مطبوع في القرن السابع عشر وضعه أحد آباء الكنيسة غير المشهورين. وكان رهبان الدير في تلك الأيام يصنعون أغلفة الكتب الجديدة عن طريق لصق عدد من الأوراق السائبة المتبقية من مخطوطات قديمة، نظرا لندرة الورق لديهم. وقد عرض سميث الرسالة على عدد من الاختصاصيين الذين أكدوا أصالتها وتطابق لغة وأسلوب النص مع لغة وأسلوب كليمنت المميز.
1
بعد نشر سميث لنص رسالة كليمنت، جاءنا الجواب على السؤال المطروح. فالرسالة تشير إلى وجود إنجيل سري لمرقس كان متداولا في القرن الثاني الميلادي. وفي هذا الإنجيل السري ترد قصة إحياء يسوع لفتى ميت في قرية بيت عنيا، وهي تشترك في معظم عناصرها مع قصة إحياء يسوع للفتى لعازر، ولكنها تنتهي بخلوة طقسية بين يسوع والفتى الذي أقامه من بين الأموات لم ترد في إنجيل يوحنا. فلقد أحب الفتى يسوع بعد صحوته وتوسل إليه أن يبقى معه. ثم جاءه مساء وهو يرتدي مئزرا من الكتان على جسده العاري، وقضى الاثنان الليلة في ممارسة طقس تنسيبي معين من شأنه أن يجعله «عارفا بأسرار ملكوت الله» على حد تعبير النص. والترجيح أن هذا الطقس كان يتضمن التعميد بالماء، على ما يبدو من ذلك الاستعداد المسبق للفتى. وكما سنلاحظ من ترجمتي التي سأقدمها أدناه لرسالة كليمنت، فإن يوحنا، إلى جانب تغاضيه عن الخلوة الطقسية بين الطرفين، قد أدخل عددا من التعديلات على قصة مرقس الأقدم عهدا قبل أن يتبناها.
ولكن لماذا تبنى إنجيل يوحنا القصة وهو الأبعد في رسالته ومضمونه عن إنجيل مرقس، بينما رفضها متى ولوقا اللذان اعتبرا مرقس مصدرا رئيسيا لهما على ما أثبتنا في الحلقة الماضية؟ إن المسألة كما أراها هي أن دافع متى ولوقا إلى رفض قصة إحياء يسوع للفتى، هو الدافع نفسه الذي حدا بيوحنا إلى قبولها بعد تعديلها، أي خوفهما من سوء فهم المبتدئين في الدين للخلوة الطقسية بين يسوع والفتى. وقد أشار كليمنت في رسالته إلى هؤلاء المبتدئين عندما قال إن مرقس قد أعد إنجيلين ؛ الأول ظاهري بثه في الناس يحتوي على سيرة يسوع وأعماله وأقواله، وهو موجه إلى المبتدئين في الدين، والثاني روحاني باطني موجه إلى من تعمقوا في خفايا الدين وغاصوا في أسراره. يضاف إلى ذلك أنه تلقى عن يسوع تقاليد سرانية لم يدونها، من شأنها أن تأخذ بيد المريدين إلى قدس أقداس الحقيقة. ولهذا، يقول كليمنت لسائله، بأننا لا يمكن أن نقول الأشياء الحقيقية لكل الناس، وعلينا في مواجهة الكاربوكريتيين
2
Shafi da ba'a sani ba