وفي الحقيقة، فإن مفهوم اللوغوس باعتباره صلة وصل بين الله والعالم والوسيط الذي به جرى خلق هذا العالم، ليس من ابتكار مؤلف إنجيل يوحنا، بل له تاريخ شيق نستطيع متابعته في الفكر التوراتي كما في الفكر الفلسفي اليوناني السابق على المسيحية. ففي كتاب التوراة يتحدث سفر الأمثال وسفر الحكمة عن «الحكمة» التي خلقها الرب قبل كل شيء لتكون صلة وصل بينه وبين العالم والوسيط الذي أوكلت إليه مهمة الخلق. نقرأ في سفر الأمثال: «طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة ... لأن تجارتها خير من تجارة الفضة وربحها خير من الذهب الخالص ... هي شجرة الحياة لممسكها، والمتمسك بها مغبوط. الرب بالحكمة أسس الأرض، أثبت السماوات بالفهم. بعلمه انشقت اللجج وتقطر السحاب ندى» (الأمثال، 3: 13-20).
وها هي تتحدث عن نفسها: «الرب حازني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القدم. منذ الأزل مسحت، منذ البدء منذ أوائل الأرض. إذ لم يكن غمر أبدئت، إذ لم تكن ينابيع غزيرة المياه. من قبل أن تقررت الجبال، قبل التلال أبدئت، إذ لم يكن قد صنع الأرض ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة. لما ثبت السماء كنت هناك أنا، لما رسم دائرة على وجه الغمر، لما أثبت السحاب من فوق، لما تشددت ينابيع الغمر، لما وضع للبحر حده فلا تتعدى المياه تخمه، لما رسم أسس الأرض، كنت عنده صانعا وكنت كل يوم لذته فرحة دائما قدامه، فرحة في مسكونة أرضه، ولذاتي مع بني آدم.» (الأمثال، 8: 22-31)
ونقرأ في سفر الحكمة: «إن الحكمة أسرع حركة من كل متحرك. وهي لطهارتها تلج وتنفذ في كل شيء. فإنها بخار قوة الله وصدور مجد القدير الخالص. فلذلك لا يشوبها شائبة ولا يشوبها شيء نجس، لأنها ضياء النور الأزلي مرآة عمل الله النقية وصورة جودته. تقدر على كل شيء وهي واحدة، وتجدد كل شيء وهي ثابتة في ذاتها. وفي كل جيل تحل في النفوس القديسة فتنشئ أحباء لله وأنبياء ... إنها أبهى من الشمس وأسمى من كل مركز للنجوم. وإذا ما قيست بالنور تقدمت عليه.» (سفر الحكمة، 7: 24-27)
وهي محبوبة الرب وتسكن عنده: «فإن في نسبها مجدا لأنها تحيا عند الله، ورب الجميع قد أحبها. فهي صاحبة أسرار علم الله والمتخيرة لأعماله.» (سفر الحكمة، 8: 3-4)
ويتحدث سفر أخنوخ الثاني (أو أسرار أخنوخ)، وهو من الأسفار غير القانونية، عن الحكمة كوكيل للخلق: «وفي اليوم السادس أمرت حكمتي أن تخلق الإنسان من سبعة عناصر: فلحمه من تراب الأرض، ودمه من الندى ومن الشمس، وعيناه من العمق السحيق للبحر، وعظامه من الصخور، وفكره من حركة الملائكة ومن الغيوم، وشرايينه وشعره من عشب الأرض، وروحه من روحي ومن الريح.» (أخنوخ الثاني، 30: 8)
1
فإذا جئنا إلى الفلسفة اليونانية التي كان مؤلف إنجيل يوحنا على معرفة جيدة بها، لوجدنا أنها عالجت مفهوم اللوغوس منذ بداياتها المبكرة. فقد قال هيراقليطس صاحب فلسفة الجدل والتغيرات: إن اللوغوس هو القانون الكوني الذي تجري على أساسه أنواع التغيرات في الوجود. وقال الرواقيون: إنه القوة التي تسود الموجودات جميعا وتحفظها، والعلة المشتركة المقومة لجميع الأشياء. وهذه القوة هي التي تربط بين جميع الأجزاء المنفصلة للوجود وتجمع بينها في وحدة مترابطة. وفي العصر الهيلينستي قال فيلون الإسكندري: إن اللوغوس هو الأداة التي خلق الله بواسطتها العالم، وهو الوسيط بين الله والعالم. وقالت الرسائل الهرمزية المعزوة لهرمز المثلث العظمة
2
إن اللوغوس هو المبدأ الذي يجلب النظام إلى العالم، وهو ابن الله.
وقد كان لفيلون الإسكندري على ما يبدو الأثر الأقوى على فكر مؤلف إنجيل يوحنا، فهو الأقرب إليه زمنيا، ونظرا لكونه يهوديا إسكندرانيا فقد شاعت أفكاره بين مثقفي اليهود سواء في فلسطين أم في آسيا الصغرى وبقية المغتربات اليهودية في العالم اليوناني. كان فيلون، المتوفى سنة 50م، مثقفا يونانيا أكثر منه مثقفا عبرانيا، فكان يأخذ معارفه الدينية اليهودية عن التراجم اليونانية للأسفار التوراتية لا عن الأصول العبرية نفسها. ولكنه في الوقت نفسه كان مؤمنا عميق التدين، كرس قسما كبيرا من فلسفته من أجل التوفيق بين ما جاء في التوراة وبين الفلسفة اليونانية، معتمدا على التفسير الرمزي والمجازي للنص المقدس، فكان بذلك أول من أسس لمنهج التأويل في الفكر الديني، وهو المنهج الذي اتبعه بعد ذلك المفكرون الإسلاميون من علماء كلام وفلاسفة ومتصوفة، إضافة إلى مفكري الطوائف الإسلامية التي يغلب عليها الطابع الفلسفي، والمفكرين الأفذاذ الذين كتبوا رسائل إخوان الصفاء.
Shafi da ba'a sani ba