Daren Dubu da Daya
الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
Nau'ikan
وهو اسم مشتق من الكلمة الإسبانية
اسم الفاعل من الكلمة الأولى، وتدل على بطل هذه الروايات، وهي تعني ما تدل عليه كلمات: صعلوك - دجال - محتال - شحاذ، بالعربية. ويدخل تحت هذا التصنيف كل أنواع البخلاء أيضا. وهذا في حد ذاته يفسر ماهية هذا النوع القصصي، إذ هو يتناول بالوصف حياة ومغامرات الفتية الصعاليك الذين يجوبون الآفاق وراء إشباع رغباتهم ويقضون حياتهم يوما بيوم سابحين مع التيار حيثما يلقي بهم. وتصف هذه القصص الأجواء التي يعيش فيها هؤلاء الصعاليك، وهي تختلف باختلاف أقدار الواحد منهم، فهو أحيانا يعاشر أحط الناس وأفقرهم، وأحيانا ترفعه عجلة الحظ إلى الأدوار العليا فيعيش عيشة الأغنياء الموسرين، وهكذا. وهو في حياة الصعلكة تلك، يلجأ إلى كل أنواع الاحتيال ليكسب قوته، ولا يصبح لديه أية شكوك أو هواجس أخلاقية، فهو يكذب ويسرق وينصب في سبيل الحصول على ما يريد. وأحيانا ما ينتهي الأمر بفتى منهم أن يستقر في النهاية وقد جمع ثروة تغنيه فيما تبقى له من العمر، أو يكتشف أنه سليل أسرة نبيلة يلتحق بها وينسى ماضيه الملوث.
وكانت إسبانيا هي التي قدمت هذا النوع من القصص والروايات إلى العالم الأوروبي، في نماذج فريدة من نوعها. وقد استمدت إسبانيا هذا النوع من القصص من عدة مصادر عربية مجتمعة. وقد ظهرت أول رواية بيكارسكية في إسبانيا عام 1554م، حين صدرت في «برغش» و«أمبيريز» و«قلعة إينارس» (قلعة عبد السلام العربية) ثلاث طبعات في نفس الوقت تقريبا من رواية مجهولة المؤلف بعنوان «لاثارييو دي تورميس»
LAZARILLO DE TORMES . وتحكي الرواية على لسان بطلها لاثارييو قصة نشأته في منزل أمه وعشيقها بعد وفاة أبيه، ثم خروجه إلى معترك الحياة صبيا لأحد الشحاذين المكفوفين، وكيف كان يحتال عليه لإشباع جوعه وعطشه، ويسخر من استغلاله الدين والصلاح لابتزاز نقود المحسنين الأتقياء، ثم فراره منه في النهاية بعد أن لقنه درسا قاسيا تركه بين الحياة والموت. وتنقل لاثارييو بعد ذلك خادما لعدة أسياد، لم يكونوا بأفضل من الشحاذ الأعمى، فهم إما فقراء مدقعون، أو بخلاء مقترون، أو محتالون أفاقون. ويضطر إلى مجاراتهم في هذا النوع من الحياة أو ذاك، والتعلم من فنون مكرهم وحيلهم، وشحذ قريحته حتى يستطيع أن يستخلص منهم ما يتبلغ به ويبقي عليه الحياة. وهو في هذا يمر بتجارب مريرة مضحكة، مغرقة في الواقعية التي تقارب المأساة، إلا أنها تنتزع من القارئ الضحك والابتسام لغرابتها وطرافتها. ويستقر لاثارييو في النهاية مع أحد وجهاء الريف الذي يغدق عليه من خيراته مقابل قبول الفتى الزواج من خادمته التي كانت تعمل عنده، ولا يهتم لاثارييو بغمزات الناس عليه لهذا الاتفاق المهين، ما دام قد وجد مستقرا يضمن له العيش الهانئ والرغد في الحياة.
وقد عمل نجاح هذه الرواية، برغم عاصفة الاحتجاج الديني الذي أثارته واقعيتها وسخريتها من التدين المزيف، على صدور أعمال أخرى في إسبانيا وفي خارجها لها نفس سمات هذا النوع القصصي. ومن بين ما صدر في إسبانيا منه بعد ذلك تتميز روايتان هامتان: الأولى بعنوان «عثمان الفراجي» تأليف «ماتيو أليمان»؛ والثانية باسم «السيد بابلو النصاب» تأليف «كيبيدو». وسنتلو في ما يلي ذكرا عن هاتين الروايتين لرسم فكرة أوضح عن مضمون ذلك النوع من القصص. فعثمان الفراجي تحكي عن حياة بطلها الذي يحمل هذا الاسم. فقد ولد عثمان في إشبيلية بالأندلس، نتيجة علاقة غير شرعية ما لبثت أن قننت بالزواج بين الوالدين. ولكن الابن يضطر إلى الخروج إلى الدنيا ليكسب عيشه فيها ولم يكد يكمل عامه الثاني عشر، فيتوجه إلى جنوة حيث يعمل في خان يعيش فيه على الكفاف. ثم يبدأ تجواله وتشرده في أنحاء كثيرة من أوروبا، ويقبض عليه مرات عديدة، ويسرقه أصدقاؤه ولا يتركون معه دانقا. ويعود إلى إسبانيا ليتفرغ فيها لعدة مغامرات غرامية تنتهي بالفشل، فيلتحق بفرقة من الجند المرتزقة متجهة إلى روما. ولكنه يغير من هيئته ويهرب منهم، ويمضي متسولا يحتال على رجال الدين مستغلا طيبة قلوبهم. وفي القسم الثاني من القصة، يتنقل في خدمة عدد من كبار القوم، ويجوب البلاد الإيطالية مستخدما حيلته وذكاءه في كسب المال. ثم يعود إلى برشلونة حيث يعمل بالتجارة، ويتزوج ويرث ثروة من زوجته المتوفاة، ثم يلتحق بجامعة «قلعة إينارس» ليدرس اللاهوت! غير أنه يهجر الدراسة قبل تخرجه بقليل ليتزوج مرة أخرى. ويفقد ثروته، فيرغم زوجته على ممارسة الدعارة مقابل النقود، ولكنها تهرب منه. ويعمل عثمان مديرا لأعمال إحدى السيدات الثريات، ولكنه يسرقها فيحكم عليه بالأشغال الشاقة على السفن الملكية. وحين يكتشف مؤامرة يدبرها البحارة للقيام بتمرد على السفينة، يفتن عليهم فيكافأ بالبراءة مقابل ذلك.
أما الرواية الأخرى، «السيد بابلو»، فقد كتبها كيبيدو، أحد شوامخ الأدب الإسباني في القرن السابع عشر، وعنوانها الكامل هو «قصة النصاب السيد بابلو، مثال المتشردين ومرآة البخلاء»، ونشرت عام 1626م. وكان مؤلفها كذلك أحد المستشرقين الأوائل الذين أجادوا اللغة العربية وقرءوا فيها الكثير من الكتب، ولم يكن العهد قد طال بعد بخروج العرب من إسبانيا. وتدور القصة حول بابلو، ابن حلاق لص، وأم تعمل بالسحر والشعوذة، الذي يلتحق بخدمة الفتى الثري «دييجو كورونيل»، ويدرسان معا في مدرسة داخلية لدى مدرس خاص كاد أن يميتهما من الجوع لبخله وتقتيره الشديدين. ويلتحقان معا بعد ذلك بجامعة «قلعة إينارس»، حيث يتعرض بابلو لأسوأ الدعابات والمزح من الطلاب القدامى بالجامعة على عادة ذلك العصر. وحين يبلغ مسمعه نبأ موت أبيه على حبل المشنقة، يعود إلى بلدته كي يتسلم إرثه ويرحل إلى مدريد، حيث يعيش حياة عاصفة متنقلة مع أصدقاء له من الشطار، وينتهي به الأمر إلى السجن. وبعد أن يقضي فترة العقوبة، يحاول الزواج ولكنه يفشل فشلا ذريعا. ويعمل بعد ذلك مهرجا في فرقة هزلية في مدينة طليطلة. وينتهي بابلو من سرد قصته بالإشارة إلى اعتزامه السفر إلى أمريكا الجنوبية حتى يعمل على تحسين أوضاعه المالية هناك.
وبعد هذا العرض للنماذج الرئيسية الإسبانية لقصص الشطار، نورد هنا جانبا من المصادر العربية - عدا بعض قصص ألف ليلة وليلة - التي تبدت من هذا النوع القصصي. فبادئ ذي بدء، أعلن الكثير من محققي ومؤرخي الأدب المقارن، أن لفظة بيكارو
إن هي إلا تحريف واشتقاق من لفظة فقير العربية (والإسبان يبدلون أحيانا الفاء إلى باء وبالعكس في كلماتهم). وفي هذا اللفظ دلالة على صفة بطل القصة الذي تدور حياته حول الفقر والعوز والحاجة، بما يدفعه إلى حياة الصعلكة والتشرد.
ومصادر تلك الروايات في الأدب العربي الذي كان متداولا أيام الوجود العربي في الأندلس، عديدة. فالصفات الرئيسية في هذه الروايات وهي قيام البطل بسرد روايته ومغامراته بنفسه، وحياة البطل التي تتميز بالتنقل المستمر والتطواف وجوب الآفاق، بالإضافة إلى لب هذا النوع من الحكايات وهو استخدام الدهاء والمكر والاحتيال، تظهر كلها في بعض قصص ألف ليلة، كما تظهر أكثر في فن المقامات الذي ظهر في القرن الحادي عشر الميلادي، وكان أبرز نتاجه مقامات بديع الزمان الهمذاني (968-1007م) ومقامات الحريري (1055-1122م). وقد عمل الهمذاني على خلق شخصية من صعاليك المجتمع هو أبو الفتح السكندري، وهو أحد شخصيات مقاماته - جمع فيها نفس السمات التي ظهرت بعد ذلك في البيكارو الإسباني، من الحياة الوضيعة والاحتيال على التكسب، والاستهتار بالقيم والتقاليد والناس، وما إلى ذلك. أما الحريري، فإن بطله أبا زيد السروجي هو الذي نبه بعض المستشرقين إلى الشبه الشديد بينه وبين الصعلوك الإسباني. فأبو زيد هذا متسول ذكي، بائس، طريد المجتمع، رزق موهبة أدبية وجلاء فكريا استغلهما في اكتساب قوته ورزقه. وتستبين في مقامات الحريري سمات أساسية ظهرت فيما بعد في روايات الشطار الإسبانية، مثل استغلال الدين والتظاهر بالتدين والصلاح في سبيل الحصول على المال، وتنكر البطل في هيئات مختلفة كيما يهرب من مطارديه ودائنيه أو للاحتيال على الآخرين، وتصوير أولئك القوم الذين يعيشون من تعب غيرهم وكدهم، ويهيمون بأطايب الطعام والجيد من النبيذ والشراب. ذكر الدكتور غنيمي هلال عن أبي زيد في كتابه عن الأدب المقارن: «وهو في كل ما يأتي محتال لا تنفد حيله، ومرة ثالثة يقف على قبر ميت غير مكتف بالموقف في استدرار عطف الناس عليه، يبدو معصوب الذراع، ويتنكر في زي امرأة مع أطفالها. ويبلغ استهتاره أقصاه حين يزعم حاجته إلى مال ليجهز ابنة له، وليست هي سوى ابنة الكرم، الخمر.» أما تلك النهاية السعيدة التي تنتهي بها قصص الشطار في العادة، فهي أيضا قد وجدت أولا في مقامات الحريري، كيما توفر اللمسة الأخلاقية الإضافية في مثل هذه القصص؛ إذ نجد أن بطله الشهير أبا زيد، بعد طول التجوال والتطواف على هيئته تلك وأفعاله التي أشرنا إليها، يتوب في النهاية توبة نصوحا، ويعود إلى الحياة الصالحة والنهج القويم.
ومما هو ثابت أن مقامات الحريري قد ترجمت إلى اللغة العبرية إثر تأليفها، وظهرت في إسبانيا بالذات محاكاة لها من الكتاب العبرانيين الذين عاشوا بين ظهراني العرب في الأندلس. وتشير قرائن عديدة إلى ذيوع قصص المقامات بين الأوساط الأدبية الإسلامية والمسيحية في إسبانيا. وكانت طريقة صياغتها الفريدة، ذات الجمل الموزونة المشطورة، التي تنتهي بنفس القافية وتسير على نمط واحد، من بين الأشكال الأدبية التي استعارها الأوروبيون لتظهر بعد ذلك في كتاباتهم القصصية المبكرة، ومنها ملحمة السيد القمبيطور الإسبانية. بالاضافة إلى أن الكثير من الكتب القصصية التي أشرنا إليها هنا، مسطرة بنفس الطريقة البلاغية.
Shafi da ba'a sani ba