Daren Dubu da Daya
الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
Nau'ikan
وقد عاش بوكاتشيو (1313-1375م) بين فلورنسا ونابولي، وإن كانت الروايات تقول إنه قد ولد في فرنسا لأب إيطالي. وقد عمل الأب جاهدا كيما يخلفه ابنه في أعمال المصارف والمال التي كان يقوم بها، ولكن اهتمامات بوكاتشيو الابن كانت متجهة إلى مجال الأدب والكتابة، يشجعه على ذلك صداقته للشاعر الإيطالي الشهير «بترارك». وقد نظم بوكاتشيو كثيرا من المقطوعات الشعرية الغنائية قبل أن يعكف على وضع كتابه الذي اشتهر به: الديكاميرون. والكلمة أصلها يوناني ومعناها «عمل عشرة أيام». ويحكي الكتاب عن مجموعة من الشباب، سبع نساء وثلاثة رجال، يهربون من فلورنسا خوفا من وباء الطاعون الذي اجتاحها عام 1348م ، ويتجهون إلى الريف في منطقة غنية يقضون فيها أسبوعين؛ وفي كل يوم يتزعم الجماعة واحد منهم، يصبح ملكا أو ملكة، ويتعين على الآخرين طاعته فيما يقومون به من ألعاب ومراح ومزاح يقطعون به الوقت ويسلون به أنفسهم. وكان من أهم مظاهر النشاط الذي يقومون به، أن يقص كل واحد منهم حكاية من الحكايات. ويستغرق قص الحكايات كلها عشرة أيام (ومن هنا عنوان الكتاب)، يحكي فيها كل واحد قصة عن موضوع يحدده الملك أو الملكة، فيصبح مجموع حكايات الكتاب بذلك مائة حكاية. وينتهي كل يوم من الأيام العشرة بأغنية راقصة يلقيها أحد الرواة، وتضم أجمل أشعار بوكاتشيو الغنائية (قارن ذلك بالأشعار التي تتخلل قصص ألف ليلة وليلة).
وتذكر دائرة المعارف البريطانية النص التالي: «وإن بوكاتشيو، باختياره إطارا من هذا النوع لحكاياته، إنما كان يتبع تقليدا مألوفا في الأدب الشرقي في العصور الوسطى.»
ولا يقتصر تأثر بوكاتشيو بألف ليلة وليلة على شكل القصة الإطار، ولا على شبح الموت الذي يخيم على القاص والمستمع في كلا الكتابين (الحكم بموت الراوية على يد شهريار في ألف ليلة، والموت بالطاعون المنتشر في فلورنسا في الديكاميرون)، بل إن موضوع القصص التي يحكيها المجتمعون العشرة فيها أصداء كثيرة من حكايات ألف ليلة وغيرها من القصص العربية والشرقية التي كانت متداولة في أوروبا في ذلك الوقت، وهو ما يراه القارئ في فصل الجذور الأولى من هذا الكتاب.
وثمة عمل كلاسيكي إيطالي آخر يستخدم القصة الإطارية ذاتها الموجودة في ألف ليلة وليلة، هو «أورلاندو الغاضب»
ORLANDO FURIOSO
لأريوستو (1474-1533م)، الذي يعتبره النقاد علامة هامة في أدب النهضة الأوروبية. ففي الأنشودة 28 من ذلك الكتاب، يقص صاحب الخان على صديقه رودولفو قصة الملك جوكوندو، الذي يخرج مرتحلا مع أخيه أستولفو إلى مملكة الأخير، بيد أنه يعود إلى بيته ليأخذ شيئا نسيه هناك فيجد زوجته الحبيبة في أحضان وصيف وضيع المنزلة. ولكنه يضبط أعصابه بصعوبة ويخرج مكملا الرحلة مع أخيه. وفي بلاط الأخ، يكتشف جوكوندو أن زوجة أخيه تخونه هي الأخرى مع قزم قبيح الخلقة، فيعرف أنه وأخاه سواء ويطلع الأخ على ما يحدث. ويخرج الأخوان كيما يستكشفان أنه لا توجد امرأة مخلصة أبدا. ثم تتفرع قصة أورلاندو إلى أحداث أخرى. ويبدو أن المؤلف الإيطالي قد أعجب بالقصة الإطارية العربية فدسها بين ثنايا كتابه.
فإذا انتقلنا إلى الأثر الكبير الآخر في القرن الخامس عشر، وهو «حكايات كانتربري»، فإننا نجد فيه نفس أسلوب القصة الإطار. فالكتاب يبدأ على لسان أحد الحجاج المتجهين لزيارة مثوى القديس توماس بيكيت في بلدة كانتربري، في مقاطعة «كنت». وينزل الراوي في خان «الرداء الفضفاض» بمدينة «شذرك»، ويجد بالخان زمرة من تسعة وعشرين شخصا آخرين في طريقهم إلى الحج نفسه. ويفيض صاحب الخان بكرمه على نزلائه، ويقدم لهم ما لذ وطاب من طعام وشراب على العشاء، ثم يتقدم إليهم باقتراحه الجميل: «أيها السادة، انصتوا إلى الكلام المفيد، وأرجو ألا تزدروا ما سأقوله لكم، وإليكم ما أتصوره بما قل ودل من الكلام. على كل واحد منكم، لكي يجعل الطريق يبدو قصيرا، أن يروي قصتين أثناء الرحلة، وأقصد أن أول قصتين في الطريق إلى كانتربري وقصتين أخريين في طريق العودة، وأن تتناول هذه القصص حوادث وقعت في الماضي، ومن استطاع منكم أن يأتي بخير قصة، وأعني بذلك من يستطيع أن يجمع في قصته بين المغزى الأسمى والتسلية العظمى، فجزاؤه أن يتناول عشاءه على نفقتي الخاصة هنا في هذا المكان وجالسا بجوار هذا العمود، بعد عودتنا من كانتربري». (ترجمة مجدي وهبة وعبد الحميد يونس).
وهكذا تتحدد قصة الإطار بما سيقصه كل واحد من هؤلاء الحجيج، وكانوا مجموعة متباينة من الناس، لا ندرى كيف تواءموا مع بعضهم البعض. وبعضهم يحكي قصصا مخزية عن أصحاب مهنة من المهن، كالنجار في حكاية الطحان، والتي رد عليها ناظر الضيعة بحكاية شائنة أخرى عن أحد الطحانين، نكاية في الراوي الطحان. ثم هناك التنابز بين الراهب الجوال والمحضر الكنسي، اللذين روى كل منهما حكايات تطعن في مهنة الآخر.
وكما في قصص الديكاميرون، تحتوي قصص «حكايات كانتربري» على الكثير من قصص خدع النساء ومكرهن، واحتيالهن بكل الطرق إلى وصال عشاقهن، وهذه «التيمة» هي من التيمات الرئيسية في ألف ليلة وليلة، ووردت في الكثير من حكاياتها (بالإضافة إلى القصة الإطارية الأساسية التي تتعلق بخيانة زوجتي الملكين شهريار وشاه زمان)، لعل أهمها قصة ابن الملك محمود صاحب الجزائر السود، الذي كانت زوجته - وهي ابنة عمه في نفس الوقت - تخونه مع عبد أسود، ثم تسحر زوجها حين كشف خيانتها بأن جعلت نصفه حجرا ونصفه بشرا. وسيرد هذا الموضوع في فصول أخرى من هذا الكتاب.
كذلك تضم حكايات كانتربري الكثير من القصص التي تفضح نفاق بعض رجال الدين الذين يتظاهرون بالورع والتقوى كي يقضوا حاجاتهم الشخصية وشهواتهم، مثل قصص الراهب الجوال وبائع صكوك الغفران. وثمة حكايات في هذا الكتاب تماثل تماما حكايات موجودة في ألف ليلة وليلة، مثل حكاية الفارس الذي يروي قصة شابين يحبان نفس الأميرة ويقتتلان على الفوز بالزواج منها. كذلك قصة الغراب الذي ينم لسيده عن خيانة زوجته له، وهي قصة ترددت مرتين في ألف ليلة. وبعض القصص في حكايات كانتربري ينتهي بموعظة وعبرة، مثل عبرة قصة ناظر الضيعة حين يقول في نهاية قصته: وعلى ذلك ينطبق المثل القائل «من يبذر الشر لا ينبغي أن يجني ثمرة الخير، والمخادع لا بد أن يخدع.» وكثيرا ما يعلق صاحب الخان على القصص التي يحكيها الحجاج بعبارات تشرح مفادها وتبين العبرة والدرس منها. قارن هذا بالعبارة التي تتردد دوما في ألف ليلة «... حكايتك حكاية عجيبة لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر.» وهناك أيضا ما جاء في خاتمة قصة «حكاية التاجر أيوب وابنه غانم وابنته فتنة» هكذا: «فلما أصبح الصباح أمر الخليفة أن يؤرخ جميع ما جرى لغانم من أوله إلى آخره وأن يدون في السجلات لأجل أن يطلع عليه من يأتي بعده فيتعجب من تصرفات الأقدار ويفوض الأمر إلى خالق الليل والنهار.» ويمكن أيضا مقارنة نهاية حكايات كانتربري بنهاية معظم حكايات ألف ليلة. فبعد أن يقص رجل القانون حكايته في كتاب تشوسر، يقول: «وهكذا عاشوا جميعا في أعمال البر والفضيلة ولم يقترفوا إثما، حتى جاء الموت وفرق بينهم وبين الحياة.» وطبعا هذه العبارة هي صدى للعبارة المشهورة في ألف ليلة بتنويعاتها المختلفة مثل «ولم يزالوا في أرغد عيش إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.»
Shafi da ba'a sani ba