Daren Dubu da Daya
الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
Nau'ikan
ويستخدم كونراد كذلك صورة الغول، بالكلمة ذاتها التي دخلت بصورتها العربية، لتصوير الرعب والخوف، وقد ارتبطت عنده كذلك بموضوع آكلي لحوم البشر، الذي كتب عنه كثيرا. ومن الملاحظ أن بداية تردد هذه الإشارات عن شيخ البحر والغول قد بدأت عند كونراد مباشرة بعد نشر بيرتون لترجمته لألف ليلة وليلة.
وإذا كان كونراد يستخدم إشاراته إلى ألف ليلة وليلة كي يعبر عن قوى خانقة، فإن ويلز - على وجه العموم - يربط بينها وبين السعة والإمكانيات والتطلعات المستقبلية. ويقول ويلز في رسالة له إلى أمه أنه كان في فترة عام 1894م «يكتب كي يعيش» ويشير في مذكراته «تجربة في السيرة الذاتية» إلى أنه كان نتيجة لذلك «يتلقط» الأفكار التي يمكنه استخدامها في مقالاته وقصصه إبان ذلك الوقت. ويعود إلى تلك الأيام قيامه بكتابة قصته «جزيرة إيبيورنيس» وهي تنويعة فكاهية - علمية على قصة رحلة السندباد الثانية (مع مزيج من روبنسون كروزو)، حين يتخلف السندباد في جزيرة جرداء يعثر فيها على بيضة طائر الرخ. وفي قصة ويلز، يشير الراوي صراحة إلى قصة السندباد، ويذكر طائرا عملاقا هو الإيبيرونيس، ويقول «إن رخ السندباد لم يكن إلا أسطورة لذلك الطير.» قبل أن يشرع في سرد روايته عن غرقه ولجوئه إلى جزيرة يكتشف فيها بيضة ضخمة. وقد كتب ويلز قصته تلك عام 1894م، وفيها حاشية يعلق بها بيرتون على الرحلة الثانية للسندباد البحري يذكر فيها أنواعا أخرى من الطيور الأسطورية، ويقترح أصلا مشتركا لها في ذكريات «طائر التروداكتيل المجنح الهائل الحجم وغيره من المخلوقات المخيفة المجنحة ... وثمة أساس آخر لا يحتاج إلا إلى قليل من المبالغة ... ويمكن أن يكون السندباد يشير إلى طائر الإيبيوريس في مدغشقر ...» ومن هنا يأتي تأثر ويلز بترجمة بيرتون لليالي العربية وتعليقاته عليها، واستخدامه نفس كلمة بيرتون لعنوان قصته. ويتساءل «روبرت إمبسون» في مقاله عن ويلز وألف ليلة وليلة، بعد أن شرح كيف كتب ويلز قصة «آلة الزمن» مطورا إياها في أشكال مختلفة إلى أن وصلت إلينا في شكلها الحالي: «هل قادت قراءة ألف ليلة وليلة ويلز إلى الأسلوب الهيكلي للقصة الإطار الذي استخدمه في آلة الزمن؟» (انظر أيضا فصل «القصة الإطار» في كتابنا هذا).
وكما يشير إلى قيام ألف ليلة وليلة بلعب دور هام في مؤلفات ويلز المبكرة، فقد استمر ذلك التأثير في مده بمصادر وإلهامات عديدة بعد ذلك. ففي روايته المشهورة «تاريخ مستر بولي»، يمثل الأدب بصفة عامة الإمكانيات الواسعة للحياة الإنسانية، ويقوم علامة على الانطلاق فيما وراء القيود التي تفرضها التقاليد والظروف. وحين يشتري مستر بولي عددا من كتب الأدب، يكون كتاب ألف ليلة وليلة من بينها، ويمثل ذلك النوع من الأدب الخلاق؛ في حين يقدم المؤلف أشخاصا آخرين يمثلون الوجه الآخر الذي يفرض القيود ويحجر على انطلاق الفكر والخيال، مثل شخصية مستر فولز.
وهناك روايتان أخريان تتصلان اتصالا مباشرا بقصص ألف ليلة، أولاها رواية «النائم يستيقظ» (1898م) التي تأخذ نفس العنوان الفرنسي والإنجليزي لحكاية النائم اليقظان في ألف ليلة، ونفس فكرة الاستغراق في النوم، ولكنه يطور الموضوع بأن يجعله يدور حول «جراهام» الذي ينام ثم يستيقظ بعد مرور مائتي سنة، فيكتشف أنه قد أصبح ملكا على الأرض. وعندها يتوقف التناص بين شخصيته وشخصية التاجر أبي الحسن، ويصبح متلازما لشخصية الخليفة هارون الرشيد، فيتخذ «وزيرا» لنفسه، ويطوف ليلا في شوارع مدينته متنكرا لاستطلاع أحوال الناس. والرواية الثانية بعنوان «البحث العظيم» (1915م)، وفيها يستمد ويلز صورا من ألف ليلة وليلة ليصور قدرة العجائب على تشكيل الحياة وتنظيمها على نحو لا يوفره الواقع. وفيها يقوم «بنهام» ببحث يتحدد عن طريق إشارة إلى ألف ليلة: «لقد ظن في البداية أن ما على المرء إلا أن يكد ويسعى لبلوغ الآمال؛ ولكن - بعد حياة من السعي والكد - أصبح على قناعة بأن هناك شيئا ... شيئا من نوع افتح يا سمسم ... يقوم فجأة بفتح المغارة السحرية للكون أمام بني البشر، تلك المغارة الثمينة التي تكمن في كل شيء يؤمن به المرء.» ويحلم «بنهام» بشيء مماثل لما حدث لجراهام في رواية النائم يستيقظ حين يجد نفسه مالكا لكل شيء، وينتهي حلم بنهام في نهاية القصة بأن يجد نفسه متجولا في العالم «ملوكيا، لا يعرفه أحد ... أخيرا أصبح، إذا صح القول، هارون الرشيد مرة أخرى، يتجول في أنحاء الدنيا في سكينة، لأن الأمان الذي يشيع في قصره لن يطلعه على أسرار أمراض البشرية.» (5) عملاقان من أيرلندا
وطبعا، من سيكون أولهما غير العظيم جيمس جويس؟!
وحين ذكر «فكتور شلوفسكي» أن العمل الفني ينشأ من خلفية أعمال أخرى ومن خلال ارتباطات بها: لم يكن ذلك ينطبق أكثر ما ينطبق إلا على أعمال جويس. وثمة الكثير مما يوثق صلة جويس بألف ليلة وليلة؛ فكانت لديه نسخة من الترجمة الإيطالية وهو يعيش في تريستا. وحين انتقل إلى باريس، استبدل بها نسخة من ترجمة ريتشارد بيرتون من 17 جزءا. ويوثق «توماس كونوللي» في كتيبه عن «المكتبة الشخصية لجيمس جويس» وجود تلك الترجمة لدى الكاتب، ويشير إلى الأماكن التي ترك فيها جويس أوراقا فاصلة للرجوع إليها لاحقا. وقد ذكر «بادرايك كولوم» وزوجته ماري في كتابهما الهام «صديقنا جيمس جويس» (1959م) ما يلي:
ولما كانت «فنجانز ويك» تتناول الحياة الليلية، فقد أراد أن يتعرف على الأعمال الأخرى التي اتخذت حياة الليل نقطة انطلاق لها. وكان أحد تلك الأعمال: «الليالي العربية» ... فقد كان إطارها يتعلق بالليل، كما أننا نعرف أن المجموعة تأصلت في قصص الطوافين ليلا. ورغب جويس أن يقوم أحد بقراءة الليالي العربية كيما يخبره ببعض ملامحها. لذلك أرسل إلى شقتي ستة عشر مجلدا من ترجمة بيرتون للكتاب. وكان أول شيء ذكرته له عنها محط اهتمامه: أن خلفية الحكايات العربية حكايات فارسية، بل إن الراوية وأختها تحملان اسمين فارسيين. وكان جويس مفتونا بالطريقة التي تفضي بها إحدى الثقافات إلى ثقافة أخرى، وأراد أن يعرف عما إذا كان هناك تناظر بين نشوء الحكايات العربية من الفارسية وبين نشوء حكايات الملك آرثر من الحكايات والأساطير الكلتية؛ وسأل عن معنى اسمي الراوية وأختها. وقد طالعت الأجزاء الستة عشر جميعها ... وحدثت جويس عن ملامح كثيرة فيها. ولا بد أن يظهر في فنجانز ويك الخليفة وهو يتجول ليلا مع وزيره، غير أن السطور التي أنا على يقين بأنه استمدها من قراءتي فهي التي تدور حول «الأختان اللتان تتحدثان ليلا».
ويبدو أن معرفة جويس بالسندباد البحري قد تزامنت مع معرفته بالأوديسة لهوميروس، إن لم تكن قد سبقتها. فنحن نعرف من فصل «تليماخوس» في رواية عوليس لجويس، ألفة ستيفن ديدالوس - وهو جويس - بعرض بطريقة البانتومايم (إشارات وإيماءات دون كلام) جرى تقديمه في دبلن عام 1892م - حين كان جويس في العاشرة من عمره - عنوانه «بانتومايم توركو المرعب»، وهو جزء من العرض العام «بانتومايم السندباد البحري».
وتمتلئ الملاحظات والتخطيطات التي كان جويس يكتبها قبل البدء في كتابة «فنجانز ويك» - بدءا من عام 1922م - بالإشارات إلى قصص وشخصيات ألف ليلة وليلة. ففي جزء معنون «الأختان»، يكتب جويس: «الليالي العربية، سلسلة من القصص، قصص داخل قصص.» ويشير إلى «مفخرة شهرزاد». وهذا قد يوحي أيضا أن قصته القصيرة «الأختان» في مجموعة «أناس من دبلن» كان مقصودا بهما شهرزاد ودينارزاد أيضا، فمن المؤكد أن هيكل القصة هو صورة للقصة الإطار وبداخلها قصص متفرقة: بيان عن «موتر العجوز» وقصصه التي لا تنتهي، يتبعه بيان عن «الأب فلين» وقصصه، ويكمل ذلك قصة إليزا عن أخيها. ويلاحظ أن أخت إليزا، تبدو وكأنها «على وشك أن تستغرق في النوم» حين كانت أختها تروي لها القصة. وفي فنجانز ويك، تظهر «الأختان» كذلك في «متنزه فينيكس»، ويقدمهما جويس بعبارة «سكرتزيرازد ودونيازاد اللتان تتكلمان ليلا على نحو لا يمكن السيطرة عليه».
ومن الجلي أن «فنجانز ويك» - مثله مثل ألف ليلة وليلة - هو كتاب ليلى. وقد أشار الناقد «كلايف هارت» إلى أن ثمة حكايتين من الكتاب العربي يرفدان الهيكل الحلمي لفنجانز ويك. فعلى نحو ما يحدث لأبي الحسن من تمثل شخصية أعظم منه، يغفو بطل الكتاب متعدد الشخصيات «وبعد نعسة له يستيقظ في مثوى مختلف ليجد أنه قد أصبح الأب بالفعل.» ويوازي تردد أبي الحسن بين عالمين، التقلب الحيزي والمكاني لفنجان. وهناك أيضا حكاية «حياتا السلطان محمود»، التي جعل فيها أحد الحكماء الصوفيين سلطان مصر يشعر خلال لحظات قليلة وضع فيها رأسه في نافورة القصر أنه قد أمضى سنوات طوالا في عمل شاق، فيقدم بذلك عمرا كاملا في لحظة قصيرة. وقد وفرت تلك النسبية الزمنية الفريدة مصدرا هاما لجويس يضغط فيه الزمن ويبسطه كيما يظهر الحنكة الروائية والصنعة السردية التي تناسب كتابه. وقد استوحى جويس فكرة الاضطراب الزمني كذلك من التداخل في أزمنة القصص التي يضمها كتاب ألف ليلة؛ فمن المفترض أن شهريار وشهرزاد كانا يعيشان في زمن الساسانيين السابقين على الإسلام، بينما شهرزاد تحكي عن هارون الرشيد والمأمون بل والظاهر بيبرس، وهم لم يظهروا على مسرح التاريخ إلا بعد الساسانيين بآماد طويلة!
Shafi da ba'a sani ba