Daren Dubu da Daya
الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
Nau'ikan
وقصة بارسيفال هي قلب قصص الدورة الآرثرية. وقد يعجب القراء من إدراجها ضمن المؤثرات العربية الأندلسية وقصص ألف ليلة وليلة، وسبب ذلك العجب هو الطابع الجرماني الأصيل الذي اتخذته منذ وضع فاجنر أوبراه الشهيرة على تلك القصة من قصص الفروسية القروسطية. بيد أن الرومانسة التي وضعها «وولفرام فون إيشنباخ» عن بارزيفال (وهي الصيغة الألمانية لبارسيفال) فيما بين 1197م و1215م، فيها الكثير من الإشارات العربية التي استمدها من الترجمات الأوروبية للكتب العربية، التي تسببت في نشوء ما يسميه الباحثون الآن بنهضة القرن الثاني عشر. ورغم أن إيشنباخ يعترف في كتابه أنه اعتمد في مصادره على كرتيان دي تروا، فمن الواضح أنه لم يكن مصدره الوحيد، خاصة في الفصلين الأولين، والفصول الثلاثة الأخيرة من كتابه. فالفصلان الأولان من كتاب إيشنباخ يقصان مغامرات أبي بارزيفال المسمى جاموريه وزواجه من ملكة مسلمة في شمال أفريقيا أنجب منها ابنا أسماه «فيريفيز». وفي نهاية الرومانسة، يعتنق الابن النصرانية، ويتزوج من عذراء الكأس المسيحية، ويرحل إلى الهند. وهناك يصبح ابنه هو الشخصية الأسطورية «برستر جون »؛ مثلما يصبح أحد أبناء بارزيفال «لوهنجرين». وهكذا يضم إيشنباخ في رومانسته الكثير من خيوط أسطورة بارزيفال ويضفرها في عقدة محبوكة الصنع.
ويذكر إيشنباخ أيضا من مصادر قصته، بالإضافة إلى كرتيان دي تروا، شخصا يدعى كيوت البروفانسي، الذي حصل معرفته في طليطلة من المخطوطات التي ألفها «فليغيتانيس الوثني» (وفي تلك الفترة، كانت صفة الوثني تطلق على العرب واليهود). وقد كان إقليم البروفانس الفرنسي مرتبطا ثقافيا - وسياسيا أحيانا - بقطلونيا وأراغون الإسبانيتين. وكتاب إيشنباخ يختلف عن كتب الكأس المقدسة الأخرى بتناوله قصص الحب التي يتعرض لها أبطاله، وبوصف الكأس وصفا مغايرا، وإدراجه الكثير من المعارف والمعلومات العلمية في صلب قصته، وكل ذلك يشير إلى مؤثرات إسلامية عربية أندلسية. وأحداث رومانسة إيشنباخ تقع في أوروبا وآسيا وأفريقيا، في حين تقع أحداث الرومانسات الأخرى في بريطانيا. وتتردد في الرومانسة أسماء ومواقع ومدن ذات أصل عربي واضح. كما أن أوصاف الحب الذي يقوم بين الأبطال يغطي كل أنواع الحب التي كانت معروفة في الأندلس بالذات والتي ذكرها ابن حزم بالتفصيل في كتابه «طوق الحمامة»، وقصص الحب والعشق والهوى التي أبرزتها حكايات ألف ليلة وليلة. ففي الكتاب قصص الحب ذات المسحة الصبيانية (أوبيلوت وجوان)، والحب الحسي (جوان وأنتيكوني) والحب قبل رؤية الحبيب (جراموفلانز وإتونجي) والحب الزوجي (بارزيفال وكوندويرامورس). وتقرر «لاساتير» أن صور الحب في رومانسة إيشنباخ عن بارزيفال هي صور أندلسية أقرب منها صورا فرنسية أو ألمانية. ومن الاختلافات البينة أن الكأس قبل رومانسة إيشنباخ كانت كأسا أو وعاء أو طبقا، أما في إيشنباخ فهي حجر تقوم على خدمتها خمس وعشرون عذراء ويحرسها سلك عسكري يدعى التمبليزين. وثمة حمامة تقوم كل جمعة حزينة بوضع قطعة بسكويت على الحجر. وهناك فارس جريح ذو صلة بالقلعة الموجود بها الكأس، وأرض يباب، وهو يتفق في هذا مع نسخ بارسيفال الأخرى.
ومن أبرز الصور العربية في بارزيفال إيشنباخ، شخصية امرأة تدعى «كوندري»، عارفة بكل علوم عصرها، لغوية وعالمة وساحرة. وتقول عنها الرومانسة «كانت الفتاة ذات ثقافة عريضة حتى إنها تتقن جميع اللغات، اللاتينية والعربية والفرنسية. وكانت عالمة بآداب اللياقة واللهجات وعلوم الهندسة، وتعرف كذلك علوم الفلك. كان اسمها كوندري، ولقبها الساحرة». وفي الفصل السادس عشر، نرى الكثير من معرفة كوندري، حين تعدد أسماء الجواهر والمعادن، وبعضها بالاسم العربي له، ثم تعدد الكواكب السبع، وتسميها كلها باسمها العربي، ومنها زحل والمشتري والشمس والقمر. وتذكرنا كوندري على الفور بالجارية تودد، في ألف ليلة وليلة، التي تعي كل العلوم والمعارف وتستعرضها أمام الخليفة في سهولة ودقة واقتدار. ويبرز السؤال: من أين استقى إيشنباخ معلوماته العربية تلك؟ وهو قد أرجع معرفته بالأمور والمصطلحات العربية في رومانسته إلى «كيوت» و«فليغيتانيز»، بيد أنه هو نفسه لا بد وأن يكون قد عرف بعضا من الرسائل العلمية الإسبانية العربية التي كانت متداولة أيامها في الأوساط المثقفة، أو اتصل بشخص يكون قد قرأها في أصلها العربي، أو عن طريق أحد أفراد التروبادور الذي عرفها عن طريق القصص والحكايات العربية التي استقوها من الأندلس.
وفي الفصل التاسع من بارزيفال، هناك مقطع طويل يشير إلى الصلة بين العرب وبين مغامرات الكأس المقدسة. ففيه يقول المؤلف إن «كيوت» قد عثر في طليطلة على أول مصدر من مصادر تلك المغامرة متمثلا في مخطوط عربي مهمل، من وضع فليغيتانيس، العالم سليل سليمان الحكيم. «وكان بوسع فليغيتانيس الوثني (العربي) معرفة كيف تغرب النجوم وتطلع ثانية والمدة التي تستغرقها كل نجمة في الدوران قبل أن تصل ثانية إلى نقطة البدء. وترتبط مصائر البشر بدورات النجوم. ولقد رأى فليغيتانيس الوثني بعينيه في كوكبة النجوم من الأشياء ما عجز عن التعبير عنه. وقال إن هناك شيئا يدعى الكأس المقدسة قرأه بوضوح في الكوكبة. وقد تركه رهط من الملائكة على الأرض ثم طاروا إلى حيث توجد النجوم.»
ورغم أن المؤلف وصف فليغيتانيس بأنه إسرائيلي من سلالة سليمان، فبوسعنا تفسيره أيضا بالعربي، من إطلاق صفة «الوثني» عليه، إذ إنها هي الصفة التي كان يطلقها إيشنباخ على أي شيء عربي، مثل إطلاقه على اللغة العربية اسم اللغة الوثنية! وقد دعت تلك الفقرة المثيرة من الرومانسه الباحثة «لاساتير» إلى البحث عن الشخصية التي دعاها المؤلف باسم فليغيتانيس، الذي لا بد أن يكون من العاملين في مجال الفلك وعلم النجوم والذي ترجمت أعماله في إسبانيا وفرنسا وصقلية قبل قيام إيشنباخ بوضع رومانسته. وقد استخلصت الباحثة أن فليغيتانيس هذا لا يمكن إلا أن يكون «الفرغاني»، الفلكي العربي المشهور. وهي تذكر أنه كان هناك اثنان يحملان الاسم اللاتيني «الفرغانوس»، وإن كان الأرجح أن المقصود هو الفلكي أبو العباس أحمد بن محمد بن كثير الفرغاني (المتوفى عام 863م)، الذي عمل في رعاية الخليفة المأمون في بغداد. وقد قام يوحنا الإشبيلي بترجمة كتابه «علوم الفلك» إلى اللاتينية عام 1137م، وترجمه جيرار الكريموني مرة أخرى عام 1172م. وكلا المترجمين عملا في طليطلة، وانتشرت ترجمتاهما انتشارا واسعا في كل أنحاء أوروبا حيث لا تزال توجد مخطوطات عديدة منها. وللفرغاني كتب أخرى في العلوم، اعتمد دانتي على أحدها وهو الذي ترجم إلى اللاتينية بعنوان
LIBER DE AGGREGATIONIBUS STELLARUM ET PRINCIPIIS CELECTIUM MOTUUM ، في كتابيه
VITA NUOVA
و
CONVIVIO ، حيث يذكر دانتي الفرغاني بالاسم في الكتاب الثاني. وترى «لاساتير» أنه من المهم القيام بمزيد من الدراسة لكتب ومخطوطات الفرغاني للتوصل إلى مفاتيح صلته بموضوع مسيحي صميم مثل موضوع الكأس المقدسة، وذلك بعد أن أشار إيشنباخ بوضوح إلى تلك الصلة العربية البينة في رومانسته عن الكأس المقدسة.
تريستان وإيزولت
Shafi da ba'a sani ba