وكان جريئا. كنا نخاف الحرام جدا، ولكنه طمأننا، وعلمنا كيف نملأ حجورنا بالتراب وندخل به منازلنا، ثم نرمي التراب ونملأ حجورنا بالغلة أو الأذرة أو القطن، ونخرج فلا يشك فينا أحد.
وكان هو الذي يتولى بيع ما نجلبه، ويختصر من الثمن برضانا، ونشتري بالباقي حلاوة طحينية ويوسف أفندي وعصي خيزران نتقمع بها في الأسواق.
في تلك الليلة جلسنا، حفنة من أولاد بلدنا أرجلهم خشنة مشققة لا يزال يطمسها طين جاف، وملابسهم مهرأة، ووجوههم لا تكاد تعرف فيها الشعر الأصفر من الشعر الأسود من سمرة الجلد، وروائح العشاء تتصاعد من أفواههم؛ بصل ومش وفلفل مخلل وسردين وكرات، والهدوء تام من حولنا، والقمح يغمرنا من كل جانب؛ قمح واقف تموج به الغيطان، ويتلون بحركة الريح وشعاعات القمر كما يتلون حرام من القطيفة البنية، وقمح محصود ومكوم في أكوام صغيرة متباعدة لها صفوف كصفوف مصلين راكعين في العراء يطلبون الرحمة، وقمح يدرس، وقمح مدروس ومدرى، وأكوام تبن وقصلية، ونورج واقف كجمل بارك وعليه «شبرية» عروس، ورائحة المحصول الجديد تملأ الجو وتختلط برائحة التراب بلله الندى، ورائحة عشائنا وعرقنا الذي كان قد أصابه التحول هو الآخر، وأصبحت له نكهة ذكرية خاصة.
وفي مثل تلك الليالي يحلو حديث محمد. كان صوته لا يتأرجح مثل أصواتنا، كانت رنة الرجولة فيه قد استقرت، وكانت طريقته في الرواية توقف الشعر، وبلاد كثيرة يحدثنا عنها؛ بلاد قريبة رآها بعضنا، وبلاد بعيدة ما رأيناها، ولا نعتقد أن محمد هو الآخر رآها. بلاد لها أسماء غريبة ترن في آذاننا رنينا، ولها في خواطرنا ألوان وأشكال وأفندية وسكك حديد.
كنا نبقي حديث محمد للآخر. نستهلك أولا كل ما يمكننا قوله عن بلدنا ونسائها، ونعيد ما قلناه، ويقص كل منا كيف نظرت له فلانة وكيف وقف يتبصص على علانة.
ثم نحلي بحديث محمد.
وعرفنا في تلك الليلة من بدايات حديثه أنه يود أن يحكي قصة المرأة العرباوية التي عرفها في السوق، فقاطعناه وصنعنا ضجة؛ كان قد بدأ يغالطنا ويحكي لنا أشياء رواها من قبل. وكنا نريد شيئا لم نسمعه؛ إذ لم تعد تنطلي علينا مراوغاته. وكان محمد أحيانا يروغ ويحرن ونتذلل إليه ونستحلفه ونعده بالقمح والذرة والبيض ، ولكنه في ليال كان يحرن تماما ولا ندري لسكوته سببا.
وقال لنا محمد وعيونه تبرق: اسمعوا يا ولاد!
قلنا: إيه؟
قال: أقول لكم على حاجة حصلت لي بس اوعوا تجيبوا سيرة لحد.
Shafi da ba'a sani ba