العقيدة في الله
العقيدة في الله
Mai Buga Littafi
دار النفائس للنشر والتوزيع
Lambar Fassara
الثانية عشر
Shekarar Bugawa
١٤١٩ هـ - ١٩٩٩ م
Inda aka buga
الأردن
Nau'ikan
أهمية الإيمان بالله
الأصل الأول من الأصول الاعتقادية هو الإيمان بالله، وهذا الأصل هو أهمّ الأصول الاعتقادية والعملية، وعليه مدار الإسلام، وهو لبّ القرآن، ولا نبالغ إذا قلنا: إنّ القرآن كلّه حديث عن هذا الإيمان، لأنّ القرآن إمّا حديث مباشر عن الله تعالى: ذاته وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، كآية الكرسي، وسورة الإخلاص.
وإمّا دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وترك ما يُعبد من دونه من آلهة باطلة، وهذا كله تعريف بالله، ودعوة للقيام بحقّه، ونهيٌ عن صرف ذلك لغيره.
وإما أمر بطاعته سبحانه، ونهي عن معصيته، وهذا من لوازم الإيمان.
وإمّا إخبار عن أهل الإيمان وما فعل بهم في الدنيا من الكرامة، وما يثيبهم به في الآخرة، وهذا جزاء أهل الإيمان بالله.
وإمّا إخبار عن الكافرين، وما فعل الله بهم في الدّنيا من النكال، وما سيفعل بهم في الآخرة في دار العذاب، وهذا جزاء من أعرض عن الإيمان.
فالقرآن كله حديث عن الإيمان بالله، يوضح هذا أننّا نجد أنّ ذكر الله قد تكّرر في القرآن باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته (١٠٠٦٢) مرة أي في الصفحة الواحدة قرابة عشرين مرة في المتوسط.
إننا نستطيع أن نقول: إنّ الإيمان بالله بالنسبة لبقية الأصول والفروع كأصل الشجرة بالنسبة للسوق والفروع، فهو أصل الأصول، وقاعدة الدّين، وكلما كان حظ المرء من الإيمان بالله عظيمًا كان حظه في الإسلام كبيرًا.
1 / 67
مسائل الإيمان بالله:
مسائل هذا الباب التي لا بدّ للباحث من عرضها وتمحيصها هي:
أولًا: أدلة وجود الله - تعالى - وردّ الشبهات التي تثار حول هذا الموضوع.
ثانيًا: التعريف بالله - سبحانه - وهذا يتمّ في القرآن من خلال طريقتين:
١- بيان ما في المخلوقات من إبداع وإعجاز تدل على عظيم قدرة الله وبديع صنعه.
٢- دراسة الآيات القرآنية التي تتحدث عن الله حديثًا مباشرًا: ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله.
ثالثًا: توحيد الله وحده لا شريك له، ونبذ ما يعبد من دونه.
رابعًا: نظرة في تاريخ العقيدة الإلهية، وتحقيق القول في ذلك.
1 / 68
الفصل الأول أدلة وجود الخالق جلّ وعلا
الدليل الأول
دليل الفطرة
الفطرة السليمة تشهد بوجود الله من غير دليل:
لم يطل القرآن في الاستدلال على وجود الله تعالى، لأنّ القرآن يقرّر أنّ الفطر السليمة، والنفوس التي لم تتقذر بأقذار الشرك، تُقرّ بوجوده من غير دليل، وليس كذلك فقط، بل إنّ توحيده - سبحانه - أمر فطري بدهي (فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) [الروم: ٣٠] .
هذه الفطرة هي التي تفسر الظاهرة التي لاحظها الباحثون في تاريخ الأديان، وهي أنّ الأمم جميعًا - التي درسوا تاريخها - اتخذت معبودات تتجه إليها وتقدَّسها. (١)
وقد يقال هنا: لو كان التوجه إلى الله أمرًا فطريًا لما عبد النّاس في مختلف العصور آلهة شتى.
والجواب: أنّ الفطرة تدعو المرء إلى الاتجاه إلى الخالق، لكنّ الإنسان تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف حينما يتجه إلى المعبود الحق.
_________
(١) حتى الشيوعيين اليوم الذين أرادوا أن يتحرروا من عبادة الآلهة بزعمهم يعبدون مؤسس المذهب، فتراهم يمرون أمام جثته المحنطة في الميدان الأحمر في ذكرى يوم وفاته خاضعين حانين رؤوسهم، لقد جعلوه إلهًا، وبدلًا من أن يعبدوا خالق البشر عبدوا ميتًا من البشر، فبعدًا لهم. هذا ما دونته قبل خمس عشرة سنة، وقبل سنوات هدم القائمون على المذهب الشيوعي مذهبهم، وألقوا جثث قادة المذهب، كما ألقوا عقائدهم وأفكارهم.
1 / 69
فيما يغرسه الآباء في نفوس الأبناء، وما يلقيه الكتّاب والمعلمون والباحثون في أفكار الناشئة يبدّل هذه الفطرة ويقذرها، ويلقي عليها غشاوة، فلا تتجه إلى الحقيقة.
وقد نصّ الرسول ﷺ على صدق هذا الذي قررناه، ففي الصحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) (١) . ولم يقل يُسلمانِه، لأنّ الإسلام مُوافقٌ للفظرة.
وقد يقال: إذا تركنا الطفل من غير أن نُؤثّر في فطرته هل يخرج موحدًا عارفًا بربّه، فنقول: إذا ترك شياطين الإنس البشر، ولم يدّنسوا فطرهم، فإنّ شياطين الجنّ لن يتركوهم، فقد أخذ الشيطان على نفسه العهد بإضلال بني آدم: (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين - إلا عبادك المخلصين) [ص: ٨٢-٨٣] .
وأعطي الشيطان القدرة على أن يصل إلى قلب الإنسان، كما في الحديث الصحيح (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا) أو قال: (شيئا ً) . (٢)
والقرآن وصف الشيطان المطلوب الاستعاذة منه بأنّه (يوسوس في صدور الناس) [الناس: ٥]، وقد صح أيضًا أنّ لكل إنسان قرينًا من الجنّ يأمره بالشرّ، ويحثه عليه، وفي القرآن (قال قرينه ربَّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيدٍ) [ق: ٢٧] .
ولا يتخلص المرء من هذا إلا بالالتجاء إلى الله (قل أعوذ برب الناس - ملك الناس - إلاه الناس - من شر الوسواس الخناس - الذي يوسوس في صدور الناس - من الجنة والناس) [الناس: ١-٦] .
_________
(١) صحيح البخاري: ٣/٢٤٥، ورقمه: ١٣٨٥، ورواه مسلم في صحيحه: ٤/٢٠٤٧، ورقمه: ٢٦٥٨.
(٢) رواه مسلم في صحيحه: ٤/١٧١٢. ورقمه: ٢١٧٥.
1 / 70
وشياطين الجنّ يقومون بدور كبير في إفساد الفطرة وتدنيسها، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله ﷺ خطب ذات يوم، فكان مما جاء في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كلّ مال نحلته (١) عبادي حَلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا) . (٢)
المصائب تصفي جوهر الفطرة:
وكثيرًا ما تنكشف الحجب عن الفطرة، فتزول عنها الغشاوة التي رانت عليها عندما تصاب بمصاب أليم، أو تقع في مأزق لا تجد فيه من البشر عونًا، وتفقد أسباب النجاة، فكم من ملحد عرف ربّه وآب إليه عندما أحيط به، وكم من مشرك أخلص دينه لله لضرّ نزل به (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصفٌ وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئنِ أنجيتنا من هذه لنكوننَّ من الشاكرين) [يونس: ٢٢] .
وقد سمعنا كيف آب ركاب طائرة ما إلى ربّهم عندما أصاب طائرتهم خلل، فأخذت تهتز وتميل، وتتأرجح في الفضاء، والطيار لا يملك من أمره شيئًا فضلًا عن الركاب، هناك اختفى الإلحاد، وضجّت الألسنة بالدّعاء، ورغبت القلوب إلى ربها بصدق وإخلاص، ولم يبق للشرك والإلحاد وجود في مثل هذا الموقف الرهيب.
المشركون الذين بُعث إليهم الرسول كانوا يقرّون بوجود الخالق:
العرب الذين جابههم الرسول ﷺ كانوا مقرّين بوجود الله، وأنّه الخالق وحده للكون، كما يقرّون بأنّه وحده الرزاق النافع الضّار، ... ولكنهم كانوا يبعدون غيره معه، ولا يخلصون دينهم لله وحده.
_________
(١) نحلته: منحته.
(٢) صحيح مسلم: ٤/٢١٩٧، ورقمه: ٢٨٦٥.
1 / 71
وفي معرض إلزام المشركين بالعبودية لله وحده، وإخلاص الدّين له كان يسألهم عن الخالق المالك للسماء والأرض، فكانوا يعترفون، ولا ينكرون، (ولئِن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنَّ الله) [لقمان: ٢٥] .
وفي سورة المؤمنون (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون - سيقولون لله قل أفلا تذكرون - قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم - سيقولون لله قل أفلا تتقون - قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون - سيقولون لله قل فأنَّى تسحرون) [المؤمنون: ٨٤-٨٩] . ومن المعروف أنّ العرب كانوا يُعظمون الكعبة، ويحجون، ولهم بقية من عبادات يتنسّكون بها.
كفر النّاس - اليوم أعظم:
كان حريًّا بنا ألا نقف عند أدلة وجود الله كثيرًا، لأنّ الفطرة الإنسانية تشهد بذلك، ولا يكاد يعرف منكر لوجود الخالق في الماضي إلا النزر اليسير، وهم لا يمثلون في البشرية نسبة تذكر.
إلا أن الانحراف اليوم وصل الدّرك الأسفل، فأصبحنا نرى أقوامًا يزعمون أن لا خالق، ويجعلون هذه المقولة مذهبًا يقيمون عليه حياتهم، وقامت دول على هذا المذهب تعدّ بمئات الملايين من البشر.
وانتشرت هذه المقولة في كل مكان، وألفت فيها كتب، وأصبح لها فلسفة تدرس، وحاول أصحابها أن يسموها بالمنهج العلمي، ويدللوا عليها.
من أجل ذلك كان لا بّد أن نتوسع شيئًا ما في الاستدلال على هذه القضية.
1 / 72
الدليل الثاني
المخلوق لا بدّ له من خالق
يحتجّ القرآن على المكذّبين المنكرين بحجة لا بدّ للعقول من الإقرار بها، ولا يجوز في منطق العقل السليم رفضها، يقول تعالى: (أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون - أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون) [الطور: ٣٥-٣٦] .
يقول لهم: أنتم موجودون هذه حقيقة لا تنكروها، وكذلك السماوات والأرض موجودتان، ولا شك.
وقد تقرر في العقول أنّ الموجود لا بدّ من سبب لوجوده، وهذا يدركه راعي الإبل في الصحراء، فيقول: " البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العليم الخبير ". ويدركه كبار العلماء الباحثين في الحياة والأحياء.
وهذا الذي أشارت إليه الآية هو الذي يعرف عند العلماء باسم: (قانون السببية) . هذا القانون يقول: إن شيئًا من (الممكنات) «لا يحدث بنفسه من غير شيء»؛ لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده، «ولا يستقل بإحداث شيء»؛ لأنّه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئًا لا يملكه هو.
ولنضرب مثالًا نوضح به هذا القانون:
منذ سنوات تكشفت الرّمال في صحراء الربع الخالي إثر عواصف هبت على المنطقة عن بقايا مدينة كانت مطموسة في الرمال، فأخذ العلماء يبحثون عن محتوياتها ويحاولون أن يحققوا العصر الذي بنيت فيه، ولم يتبادر إلى ذهن شخص واحد من علماء الآثار أو من غيرهم أن هذه المدينة وجدت بفعل العوامل الطبيعية من الرياح والأمطار والحرارة والبرودة لا بفعل الإنسان.
ولو قال بذلك واحد من الناس لعده الناس مخرّفًا يستحقّ الشفقة والرحمة، فكيف لو قال شخص ما: إنّ هذه المدينة تكونت في الهواء من لا شيء في الأزمنة البعيدة، ثم رست على الأرض؟ إنّ هذا القول لا يقلّ
1 / 73
غرابة عن سابقه، بل يفوقه.
لماذا؟ لأنّ العدم لا يوجد شيئًا هذا أمر مقرر في بدائه العقول، ولأن الشيء لا يستطيع أن يوجد نفسه.
والمدينة على النحو الذي نعرفه لا بد لها من موجد، والفعل يشي، ويعرّف بصانعه، فلا بدّ أن تكون المدينة صناعة قوم عقلاء يحسنون البناء والتنسيق.
ولو رأينا إنسانًا انتقل من أسفل بناية إلى أعلاها فلا نستنكر ذلك، ولا نستغربه، لأنّ الإنسان لديه القدرة على ذلك.
فإذا رأينا حجرًا كان في ساحة البناية قد انتقل إلى أعلاها، فإنّنا نجزم بأنّه لم ينتقل بنفسه، بل لا بدّ من شخص رفعه ونقله؛ لأنّ الحجر ليس لديه خاصية الحركة والصعود.
ومن الغريب أنّ الناس يجزمون بأنّ المدينة لا يمكن أن توجد من غير موجد، ولا يمكن أن تبني نفسها، ويجزمون بأنّه لا بدّ للحجر من شخص صعد به إلى أعلى، ولكن يوجد فيهم من يجيز أن يصنع الكون من غير صانع، ويوجد من غير موجد، مع أنّ بناء الكون أشدّ تعقيدًا وأعظم خلقة (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) [غافر: ٥٧] .
ولكنّ المنكرين عندما يواجهون بذلك بمنطق علمي يخاطب العقل، لا يستطيعون إلا أن يقروا أو يكابروا.
وبهذا الدليل كان علماء الإسلام ولا يزالون يواجهون الجاحدين، فهذا أحد العلماء يعرض له بعض الزنادقة المنكرين للخالق، فيقول لهم: ما تقولون في رجل يقول لكم: رأيت سفينة مشحونة بالأحمال، مملوءة من الأنفال، قد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية، ليس لها ملاح يُجريها، ولا متعهد يدفعها، هل يجوز في العقل؟ .
قالوا: هذا شيء لا يقبله العقل.
1 / 74
فقال ذلك العالم: يا سبحان الله، إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر، فكيف يجوز قيام هذه الدّنيا على اختلاف أحوالها، وتغيّر أعمالها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع ولا حافظ؟! فبكوا جميعًا، وقالوا: صدقت وتابوا.
هذا القانون الذي سلمت به العقول وانقادت له هو الذي تشير إليه الآية الكريمة: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) [الطور: ٣٥] وهو دليل يُرغم العقلاء على التسليم بأنّ هناك خالقًا معبودًا، إلا أن الآية صاغته صياغة بليغة مؤثرة، فلا تكاد الآية تلامس السمع حتى تزلزل النفس وتهزها.
روى البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم قال: " سمعت رسول الله ﷺ يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية (أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون - أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون - أم عندهم خزائِن ربك أم هم المصيطرون) [الطور: ٣٥-٣٧] كاد قلبي أن يطير ". (١)
قال البيهقي (٢): قال أبو سليمان الخطابي: " إنما كان انزعاجه عند سماع هذه الآية لحسن تلقيه معنى الآية، ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة، فاستدركها بلطيف طبعه، واستشف معناها بزكي فهمه ... ".
واختار الخطابي في معنى (أم خلقوا من غير شيء) [الطور: ٣٥] " فوجدوا بلا خالق، وذلك ما لا يجوز أن يكون، لأنّ تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الأمر، فلا بدّ له من خالق، فإذ قد أنكروا الإله الخالق، ولم يجز أن يوجدوا بلا خالق خلقهم، أفهم الخالقون لأنفسهم؟ وذلك في الفساد أكثر، وفي الباطل أشد، لأنّ ما لا وجود له كيف يجوز أن يكون موصوفًا بالقدرة، وكيف يخلق؟ وكيف يتأتى منه الفعل، وإذا بطل الوجهان معًا قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقًا، فليؤمنوا به.
_________
(١) صحيح البخاري: ٨/٦٠٣، ورقمه: ٤٨٥٤.
(٢) الأسماء والصفات للبيهقي: ١/٣٩١.
1 / 75
ثم قال: (أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون) [الطور: ٣٦] وذلك شيء لا يمكنهم أن يدّعوه بوجه، فهم منقطعون والحجة قائمة عليهم ".
وهذا الذي قرر الخطابي أن الكفار لا يمكن أن يدعوه فائدة ذكره والسؤال عنه قطع الحجاج والخصام؛ إذ قد يوجد جاحد مكابر يقول: " أنا خلقت نفسي " كما زعم مثيل له من قبل بأنه يحي ويميت (ألم تر إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتَاهُ الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أُحْيِي وأميت) [البقرة: ٢٥٨] .
فماذا كان الجواب؟ سؤال آخر أبان عجزه وأكذبه في زعمه الأول (قال إبراهيم فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) [البقرة: ٢٥٨] فكانت النتيجة: (فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظَّالمين) [البقرة: ٢٥٨] .
وهنا هَبْ شخصًا قال: " أنا خلقت نفسي " فهل يستطيع أن يزعم أنّه خلق السماوات والأرض؟! فإذا كان العدم لا يُوجِد سماء ولا أرضًا، وإذا كانت السماء والأرض لم توجدا نفسيهما، وإذا كان هؤلاء لا يستطيعون الادعاء بأنّهم أوجدوا ذلك كله، فإنّه لا بدّ لهذا كله من موجد، وهذا الموجد هو الله ﷾.
موقف العلوم التجريبية من هذا القانون:
إنّ طاقة البشر وطبيعة المخلوق، أعجز من أن تحصي مراحل الأسباب مرحلة مرحلة، وتتابع سلسلتها حلقة حلقة، حتى تشهد بداية العالم، ولذلك يئست العلوم التجريبية من معرفة أصول الأشياء، وأعلنت عدولها عن هذه المحاولة، وكان قصاراها أن تخطو خطوات معدودة إلى الوراء، تاركة ما بعد ذلك إلى ساحة الغيب التي يستوي في الوقوف دونها العلماء والجهلاء.
1 / 76
لا بدّ للعقل من الاعتراف:
ولكنّ هذا اليأس الإنساني من معرفة أطوار الكائنات تفصيلًا في ماضيها ومستقبلها، يقابله يقين إجمالي ينطوي كلّ عقل على الاعتراف به طوعًا أو كرهًا، وهو أنّه مهما طالت الأسباب الممكنة، وسواء أفرضت متناهية أو غير متناهية، فلا بدّ لتفسيرها وفهمها ومعقولية وجودها من إثبات شيء آخر يحمل في نفسه سبب وجوده وبقائه، بحيث يكون هو الأول الحقيقي الذي ليس قبله شيء، وإلا لبقيت كلّ هذه الممكنات في طيّ الكتمان (إن لم يكن لها مبدأ ذو وجود مستقل) .
الرد على شبهات الملحدين في نشأة الكون (المصادفة)
نسمع ونقرأ شبهات قيلت في القديم، وتقال اليوم، يحاول أصحابها أن يعللوا بها وجود الكون، وسنحاول أن نعرض لبعض هذه الشبهات، ثم نبين ما فيها من باطل.
ا- القول بالمصادفة
بعد توضيح الدليل القرآني الذي يخاطب العقول، ويلزمها بالاعتراف بوجود الخالق المعبود، يبدو القول إنّ هذا الكون خلق مصادفة من غير خالق ليس قولًا بعيدًا عن الصواب فحسب، بل قول بعيد عن المعقول يدخل صاحبه في عداد المخرفين الذين فقدوا عقولهم أو كادوا، فهم يكابرون في الدليل الذي لا يجد العقل بُدًّا من التسليم به.
لقد وجد من يقول: " لو جلست ستة من القردة على آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها بلايين السنين، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبتها قصيدة من قصائد شكسبير، فكذلك الكون الموجود الآن، إنما وجد نتيجة لعمليات عمياء، ظلت تدور في «المادة» لبلايين السنين ".
1 / 77
يقول وحيد الدين خان (١) بعد نقله لهذه الفقرة من كلام (هكسلي) (٢): " إنَّ أيّ كلام من هذا القبيل لغو مثير بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان، فإنّ جميع علومنا تجهل - إلى يوم الناس هذا - أية مصادفة أنتجت واقعًا عظيمًا ذا روح عجيبة، في روعة الكون ".
وينقل عن عالم آخر إنكاره لهذه المقالة قوله: " إنّ القول إن الحياة وجدت نتيجة حادث اتفاقي شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة ".
ويقرر وحيد الدين خان: " أنّ الرياضيات التي تعطينا نكتة المصادفة، هي نفسها التي تنفي أيّ إمكان رياضي في وجود الكون الحالي بفعل قانون المصادفة ".
وخذ هذا المثال الذي نقله وحيد الدين خان عن العالم الأمريكي (كريستي موريسون) يبين فيه استحالة القول بوجود الكون مصادفة:
قال: " لو تناولت عشرة دراهم، وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة، ثم رميتها في جيبك، وخلطتها جيدًا، ثم حاولت أن تخرج من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي كلّ درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى، فإمكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه واحد في المحاولة الأولى هو واحد في العشرة، وإمكان أن نخرج الدراهم من (١-١٠) بالترتيب واحد في عشرة بلايين ". (٣)
وعلى ذلك فكم يستغرق بناء هذا الكون لو نشأ بالمصادفة والاتفاق؟ إنَّ حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا الاحتمال خياليًا يصعب حسابه فضلًا عن تصوره.
_________
(١) الإسلام يتحدى: ص ٦٦.
(٢) (هكسلي) هو الكاتب الملحد الذي كتب كتابه المعروف (الإنسان يقوم وحده)، فسخّر الله له عالمًا من ملته هو (أ. كريستي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك وعضو سابق في المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة)، فسطر كتابه القيم (الإنسان لا يقوم وحده) ردًا على (هكسلي) وقد ترجم هذا الكتاب تحت عنوان (العلم يدعو إلى الإيمان) .
(٣) انظر: العلم يدعو إلى الإيمان: ص ٥١.
1 / 78
إنَّ كلَّ ما في الكون يحكي أنَّه إيجاد موجد حكيم عليم خبير، ولكنَّ الإنسان ظلوم جهول (قتل الإنسان ما أكفره - من أي شيء خلقه - من نطفةٍ خلقه فقدره - ثم السبيل يسره - ثم أماته فأقبره - ثم إذا شاء أنشره - كلا لمّا يقض ما أمره - فلينظر الإنسان إلى طعامه - أنا صببنا الماء صبًا - ثم شققنا الأرض شقًا - فأنبتنا فيها حبًا - وعنبًا وقضبًا - وزيتونًا ونخلًا) [عبس: ١٧-٢٩] .
كيف يمكن أن تتأتى المصادفة في خلق الإنسان وتكوينه، وفي صنع طعامه على هذا النحو المقدّر الذي تشارك فيه الأرض والسماء، وصدق الله في وصفه للإنسان (إنَّه كان ظلومًا جهولًا) [الأحزاب: ٧٢] . (١)
٢- قالوا الطبيعة هي الخالق
وهذه فرية راجت في عصرنا هذا، راجت حتى على الذين نبغوا في العلوم المادّية، وعلل كثيرون وجود الأشياء وحدوثها بها، فقالوا: الطبيعة هي التي تُوجد وتُحدِث.
وهؤلاء نوجه لهم هذا السؤال: ماذا تريدون بالطبيعة؟ هل تعنون بالطبيعة ذوات الأشياء؟ أم تريدون بها السنن والقوانين والضوابط التي تحكم الكون؟ أم تريدون بها قوة أخرى وراء هذا الكون أوجدته وأبدعته؟
إذا قالوا: نعني بالطبيعة الكون نفسه، فإننا لا نحتاج إلى الردّ عليهم، لأنّ فساد قولهم معلوم ممّا مضى، فهذا القول يصبح ترديدًا للقول السابق إنّ الشيء يوجد نفسه، أي: إنّهم يقولون الكون خلق الكون، فالسماء خلقت السماء، والأرض خلقت الأرض، والكون خلق الإنسان والحيوان، وقد بيّنا أنّ العقل الإنساني يرفض التسليم بأنّ الشيء يوجد نفسه، ونزيد الأمر إيضاحًا فنقول: والشيء لا يخلق شيئًا أرقى منه، فالطبيعة من سماء وأرض ونجوم وشموس وأقمار لا تملك عقلًا ولا سمعًا ولا بصرًا، فكيف تخلق إنسانًا سميعًا عليمًا بصيرًا! هذا لا يكون.
_________
(١) وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة عند الكلام على الآيات الكونية إن شاء الله تعالى.
الرد على شبهات الملحدين في نشأة الكون (الطبيعة)
1 / 79
فإن قالوا: خُلق ذلك كله مصادفة، قلنا: ثبت لدينا يقينًا أن لا مصادفة في خلق الكون، وقد تبينا ذلك فيما سبق.
نظرية التولد الذاتي (شبهة ثبت بطلانها):
وكان مما ساعد على انتشار الوثنية الجديدة (القول إنّ الطبيعة هي الخالق) هو ما شاهده العلماء الطبيعيون من تكون (دود) على براز الإنسان أو الحيوان، وتكوّن بكتيريا تأكل الطعام فتفسده، فقالوا: ها هي ذي حيوانات تتولد من الطبيعة وحدها.
وراجت هذه النظرية التي مكنت للوثن الجديد (الطبيعة) في قلوب الضالين التائهين بعيدًا عن هدى الله الحق، لكنّ الحق ما لبن أن كشف باطل هذه النظرية على يد العالم الفرنسي المشهور (باستير) الذي أثبت أنّ الدود المتكون، والبكتيريا المتكونة المشار إليها لم تتولد ذاتيًا من الطبيعة، وإنّما من أصول صغيرة سابقة لم تتمكن العين من مشاهدتها، وقام بتقديم الأدلة التي أقنعت العلماء بصدق قوله، فوضع غذاء وعزله عن الهواء، وأمات البكتريا بالغليان، فما تكونت بكتيريا جديدة، ولم يفسد الطعام، وهذه النظرية التي قامت عليها صناعة الأغذية المحفوظة (المعلبات) . (١)
الطبيعة هي القوانين التي تحكم الكون:
ويرى فريق آخر أنّ الطبيعة هي القوانين التي تحكم الكون، وهذا تفسير الذين يدّعون العلم والمعرفة من القائلين إنّ الطبيعة هي الخالق، فهم يقولون: إنّ هذا الكون يسير على سنن وقوانين تسيّره وتنظم أموره في كل جزئية، والأحداث التي تحدث فيه تقع وفق هذه القوانين، مثله كمثل الساعة التي تسير بدقة وانتظام دهرًا طويلًا، فإنها تسير بذاتها بدون مسيّر.
وهؤلاء في واقع الأمر لا يجيبون عن السؤال المطروح: من خلق الكون؟
ولكنهم يكشفون لنا عن الكيفية التي يعمل الكون بها، هم يكشفون لنا
_________
(١) كتاب التوحيد، للزنداني ٢/٧٤.
1 / 80
كيف تعمل القوانين في الأشياء، ونحن نريد إجابة عن موجد الكون وموجد القوانين التي تحكمه.
يقول وحيد الدين خان: " كان الإنسان القديم يعرف أنّ السماء تمطر، لكننا اليوم نعرف كلّ شيء عن عملية تبخر الماء في البحر، حتى نزول قطرات الماء على الأرض، وكلّ هذه المشاهدات صور للوقائع، وليست في ذاتها تفسيرًا لها، فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟ وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة، حتى إنّ العلماء يستنبطون منها قوانين علمية.
إنّ ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنّه قد كشف تفسير الكون ليس سوى خدعة لنفسه، فإنّه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة.
إن الطبيعة لا تفسّر شيئًا (من الكون) وإنّما هي نفسها بحاجة إلى تفسير.
واقرأ هذه المحاورة التي يمكن أن تجرى بين رجل نابه، وأحد الأطباء الأفذاذ في علمهم:
السائل: ما السبب في احمرار الدم؟
الطبيب: لأنّ في الدّمِ خلايا حمراء، حجم كل خلية منها: ١/٧٠٠ من البوصة.
السائل: حسنًا، ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء؟
الطبيب: في هذه الخلايا مادة تسمى (الهميوجلوبين)، وهي مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالأكسجين في القلب.
السائل: هذا جميل، ولكن من أين تأتي هذه الخلايا التي تحمل (الهميوجلوبين)؟
الطبيب: إنها تصنع في كبدك.
1 / 81
السائل: عجيب! ولكن كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدّم والخلايا والكبد وغيرها، بعضها ببعض ارتباطًا كليًا وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدّقة الفائقة؟
الطبيب: هذا ما نسميه بقانون الطبيعة.
السائل: ولكن ما المراد بقانون الطبيعة هذا يا سيادة الطبيب؟
الطبيب: المراد بهذا القانون هو الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية والكيماوية.
السائل: ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائمًا إلى نتيجة معلومة؟ وكيف تنظم نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء، ويعيش السمك في الماء، ويوجد إنسان في الدّنيا، بجميع ما لديه من الإمكانات والكفاءات العجيبة المثيرة؟
الطبيب: لا تسألني عن هذا، فإنّ علمي لا يتكلم إلا عما يحدث، وليس له أن يجيب: لماذا يحدث؟
يتضح من هذه الأسئلة مدى صلاحية العلم الحديث لشرح العلل والأسباب وراء هذا الكون: إن مثل الكون كمثل آلة تدور تحت غطائها، لا نعلم عنها إلا أنّها تدور «ولكن لو فتحنا غطاءها فسوف نشاهد كيف ترتبد هذه الآلة بدوائر وتروس كثيرة، يدور بعضها ببعض، ونشاهد حركاتها كلّها. هل معنى هذا أنّنا قد علمنا خالق هذه الآلة بمجرد مشاهدتنا لما يدور بداخلها؟ كيف يفهم منطقيًا أن مشاهدتنا هذه أثبتت أن الآلة جاءت من تلقاء ذاتها، وتقوم بدورها ذاتيًا؟! ". (١)
_________
(١) الإسلام يتحدى، لوحيد الدين خان: ٢٩-٣١، وقد ضمّن كلامه نقولًا عن غيره من علماء الغرب.
1 / 82
الطبيعة قوة:
فإن وجد من يقول: إن الطبيعة قوة أوجدت الكون، وإنها قوة حيّة سميعة بصيرة حكيمة قادرة ... فإنّنا نقول لهم: هذا صواب وحقّ، وخطؤكم أنكم سمّيتم هذه القوة (الطبيعة)، وقد دلتنا هذه القوة المبدعة الخالقة، على الاسم الذي تستحقه وهو (الله)، الله عرّفنا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فعلينا أن نسميه بما سمّى به نفسه ﷾.
كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم:
هؤلاء الذين نسبوا الخلق إلى الطبيعة لهم سلف قالوا قريبًا من قولهم، وهم الدهرية الذين نسبوا الأحداث إلى الدهر، فقد شاهدوا أنّ الصغير يكبر، والكبير يهرم، والهرِم يموت بمرور الزمان، وتعاقب الليل والنهار، فنسبوا الحياة والموت إلى الدهر (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علمٍ إن هم إلا يظنون) [الجاثية: ٢٤] .
أولئك نسبوا الأحداث إلى الزمان، وهؤلاء إلى ذوات الأشياء فهما صنوان في الضلال.
الرد على شبهات الملحدين في نشأة الكون (دارون)
٣- نظرية دارون (١)
حاول أصحاب هذه النظرية أن يعللوا بها وجود الأحياء، وقد شاعت هذه النظرية، وعمل كثيرون على نشرها بحسن نية، لظنّهم أنّها حقيقة علمية، وعمل آخرون على نشرها بسوء نية، لأنّها وافقت أهواءهم، فهي تكذب بالأديان التي وصفت خلق الإنسان، وبذلك يجد الطاعنون في الدِّين دليلًا من العلم يرتكزون عليه، ويدلِّسون على النَّاس به.
_________
(١) كتاب التوحيد، للزنداني: ٣/٨١.
1 / 83
ماذا تقول هذه النظرية؟
تزعم هذه النظرية أنّ أصل المخلوقات حيوان صغير، نشأ من الماء، ثم أخذت البيئة تفرض عليه من التغييرات في تكوينه ممّا أدّى إلى نشوء صفات جديدة في هذا الكائن، أخذت هذه الصفات المكتسبة تورث في الأبناء حتى تحولت مجموع هذه الصفات الصغيرة الناشئة من البيئة عبر ملايين السنين إلى نشوء صفات كثيرة راقية جعلت ذلك المخلوق البدائي مخلوقًا أرقى، واستمر ذلك النشوء للصفات بفعل البيئة والارتقاء في المخلوقات، حتى وصل إلى هذه المخلوقات التي انتهت بالإنسان.
أساس النظرية:
١- تعتمد النظرية على أساس ما شوهد في زمن «دارون» من الحفريات الأرضية، فقد وجدوا أنّ الطبقات القديمة تحتوي على كائنات أولية، وأنّ الطبقات التي تليها تحتوي على كائنات أرقى فأرقى. فقال «دارون»: " إنّ تلك الحيوانات الراقية قد جاءت نتيجة للنشوء والارتقاء من الحيوانات والكائنات الأولى ".
٢- وتعتمد أيضًا على ما كان معروفًا في زمن «دارون» من تشابه جميع أجنّة الحيوانات في أدوارها الأولى، فهو يوحي بأنّ أصل الكائنات واحد، كما أنّ الجنين واحد، وحدث التطور على الأرض كما يحدث في أرحام الكائنات الحيّة.
٣- كما تعتمد النظرية على وجود الزائدة الدودية في الإنسان التي هي المساعد في هضم النباتات، وليس لها الآن عمل في الإنسان مما يوحي بأنّها أثر بقي من القرود لم يتطور؛ لأنها تقوم بدورها في حياة القرود.
1 / 84
شرح «دارون» لعملية التطور وكيف تمّت:
١- الانتخاب الطبيعي: تقوم عوامل الفناء بإهلاك الكائنات الضعيفة الهزيلة، والإبقاء على الكائنات القوية، وذلك ما يسمّى بزعمهم بقانون «البقاء للأصلح»، فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته القوية لذريته، وتتجمع الصفات القوية مع مرور الزمن مكونة صفة جديدة في الكائن، وذلك هو «النشوء» الذي يجعل الكائن يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى كائن أعلى، وهكذا يستمر التطور، وذلك هو الارتقاء.
٢- الانتخاب الجنسي: وذلك بوساطة ميل الذكر والأنثى إلى التزوج بالأقوى والأصلح، فتورث بهذا صفات الأصلح، وتنعدم صفات الحيوان الضعيف لعدم الميل إلى التزاوج بينه وبين غيره.
٣- كلما تكونت صفة جديدة، ورثت في النسل.
تفنيد الأساس الذي قامت عليه النظرية:
علم الحفريات لا يزال ناقصًا، فلا يدّعي أحد أنّه قد كمل التنقيب في جميع طبقات الأرض وتحت الجبال والبحار، فلم يجد شيئًا جديدًا ينقض المقررات السابقة.
وعلى فرض ثبات مقررات هذا العلم فإنّ وجود الكائنات الأولى البدائية أولًا، ثم الأرقى ليس دليلًا على تطور الكائنات الراقية من الكائنات الأدنى، بل هو دليل على ترتيب وجود هذه الكائنات فقط عند ملاءمة البيئة لوجودها على أي صورة كان هذا الوجود، وإذا كانت الحفريات في زمن «دارون» تقول: إنّ أقدم عمر للإنسان هو ستمائة ألف سنة، فإنّ الاكتشافات الجديدة في علم الحفريات قد قدّرت أنّ عمر الإنسان يصل إلى عشرة ملايين من السنين.
أليس هذا أكبر دليل على أنّ علم الحفريات متغيّر لا يبنى عليه دليل قطعيّ، وأنّه قد ينكشف في الغد من الحقائق عكس ما كنّا نؤمل؟
1 / 85
ولقد كتب الدكتور مصطفى شاكر سليم تعليقًا على كتاب «الإنسان في المرآة» للمؤلف (كلايد كلوكهون) حول إنسان (يناندرتال) الذي يزعم أنصار نظرية (دارون) أنّه أوّل إنسان تطور من القرود أو الغوريلا. فقال الدكتور مصطفى: ويتصف (إنسان يناندرتال) بالصفات الطبيعية الرئيسة الآتية: مخ أكبر حجمًا من مخ الإنسان المعاصر، وجمجمة كبيرة عريضة. إلى أن قال: إلى جانب أنّ السلسلة التي تغطيها الحفريات مقطعة غير متصلة بما يسمى (الحلقات المفقودة) .
يقول الدكتور (سوريال) في كتابه «تصدّع مذهب دارون»:
١- إنّ الحلقات المفقودة ناقصة بين طبقات الأحياء، وليست بالناقصة بين الإنسان وما دونه فحسب، فلا توجد حلقات بين الحيوانات الأولية ذات الخلية الوحيدة والحيوانات ذوات الخلايا المتعددة، ولا بين الحيوانات الرخوية وبين الحيوانات المفصلية، ولا بين الحيوانات اللافقرية وبين الأسماك والحيوانات البرمائية، ولا بين الأخير وبين الزحافات والطيور، ولا بين الزواحف وبين الحيوانات الآدمية، وقد ذكرتها على ترتيب ظهورها في العصور الجيولوجية.
٢- تشابه أجنة الحيوانات: ذلك خطأ كبير وقع فيه بعض العلماء، نتيجة لعدم تقدم الآلات المكبّرة التي تبين التفاصيل الدقيقة التي تختلف بها أجنة الحيوانات بعضها عن بعض في التكوين والتركيب والترتيب، إلى جانب التزييف الذي قام به واضع صور الأجنّة المتشابهة العالم الألماني (أرنست هيكل) فإنّه أعلن بعد انتقاد علماء الأجنة له أنّه اضطرّ إلى تكملة الشبه في نحو ثمانية في المئة من صور الأجنّة لنقص الرسم المنقول.
٣- أما وجود الزائدة الدودية في الإنسان كعضو أثري للتطور القردي فليس دليلًا قاطعًا على تطور الإنسان من القرد، بل يكون سبب وجودها هو وراثتها من الإنسان الجدّ الذي كان اعتماده على النباتات، فخلقت لمساعدته في هضم تلك النباتات، كما أنّ العلم قد يكشف أنّ لها حقيقة لا تزال غائبة عنّا حتى اليوم.
1 / 86