فلما رأيت ذلك كبر على نفسي. أيحمل أبو النور كل هذا إلي وهو رجل رقيق الحال لا يكاد يستطيع أن يعيش مستورا؟ وتجرأت فكلمته في هذا، وما كدت أخرج صوتي حتى خرجت علي ريمة كأنها نمرة تنطلق من عرينها، وقالت بصوتها الجهوري: أكنت تريد أن نموت جوعا؟ ألا فاعلم أيها الرجل أنه لولا هداياه في هذين الأسبوعين لهلكنا كلنا جوعا.
ولم أدرك إلا عند ذلك حقيقة قولها. لقد مضى علي أسبوعان حقا لم أجد في جيبي درهما، ولم أعط امرأتي دانقا، فكيف كنا نأكل ومم كنا ننفق؟
ولا أستطيع أن أبين مقدار ألمي عندما تبينت هذه الحقيقة الطاحنة. لقد انحدرت وهويت وصرت حملا على صديقي.
وخرجت من الدار أسير كالأعمى والثورة تملأ جوانحي. لئن كانت ماهوش لا تفسح لي مكانا فيها فإني لن أحمل صديقي وحده مئونتي. إن لي حقا على ماهوش؛ فأنا جحاها، أنا الذي إذا ذكرت ماهوش قال عنها الناس إنها وطني. أنا الذي يبعث الملوك إلي لكي أسير إليهم فآبى. أنا الذي يطلبونه لكي يسامرهم ويعلمهم - كما يقولون - الحكمة فيأبى إلا أن يعيش بين قومه الذين ينكرونه. أنا الذي أتنفس في حماقات ماهوش بضحكي وأهدهد من سخافاتها بعفوي، وأستقبل السماء في الصباح والمساء من أجلها بدعائي، فلآخذن من ماهوش حقي وإن أبت أن تبذل لي حقي.
ولما صرت بين الحقول تلفت حولي، فلم أجد سوى بساتين فسيحة تمتد إلى مدى البصر عن يميني وشمالي، فيها من كل فاكهة ومن كل بقلة. فعزمت على السرقة عمدا. فليقل الناس ما يقولون، فلست أسميها سرقة؛ فأنا لا آخذ إلا رزقي. أنا جحا، وما ينبغي لها أن تنساني. وقفزت فوق السور وجعلت أقطف وأقطع وأخلع في شيء من الحنق. ولست أنكر أنني مع كل حنقي لم أخل من خوف أن يراني الناس فيقولوا إنني أسرق. ونزعت شملة كانت علي فجعلت فيها الفاكهة والبقل وجعلتها صرة كبيرة. ولما عزمت على حملها شعرت بوخزة في قلبي، ألست سارقا؟ ألم أدخل البستان خفية أتلفت لا يراني صاحبه؟ وفيما كنت أفكر مضطربا مرتبكا شعرت بيد على كتفي وسمعت صاحب البستان يقول: ما هذا يا جحا؟
ففزعت ولكني تماسكت وفكرت مليا وقلت في نفسي إنها عاصفة هوجاء، ألم تكن ثورة نفسي كالعاصفة؟
وأجبت الرجل بغير وعي: هي عاصفة هوجاء حملتني فوق السور قسرا.
فتضاحك الرجل خبثا كأنني كنت أمازحه، ثم قال: وأين تلك العاصفة؟ فالجو صاف والشمس تبسم في وداعة!
فقلت في مرارة: إنك لا تعرفها، إنها عاصفة لا يحسها أمثالك.
فضحك الرجل وكأنه ظن بي تخليطا، ثم قال: آمنا يا سيدي جحا، هي العاصفة قد حملتك، ولكن ما الذي قلع هذا وقطف ذاك؟ وجعل يشير إلى ما في صرتي. فقلت مبادرا: دفعتني العاصفة فكلما تشبثت بشيء خرج في يدي.
Shafi da ba'a sani ba