فنظرت إليه وقلت في حزن: أبا النور.
وسرت وهو إلى جانبي يجر الجلد حتى بلغنا مربط الثور، فوجدنا به فوضى تشبه آثار موقعة في حرب ضروس؛ وجدنا رأس الثور المسكين والأكارع والفرث والمصران وكومة من الأوساخ جعلت الهواء عفنا يكاد يخنق الأنفاس. فرمى صديقي الجلد إلى ناحية، وأخذ يرفع الحطام ويكنس الأقذار، وأسرعت أساعده حتى مضت ساعة وكلت منا الأيدي، وتألمت فقرات الظهر من الانحناء، فرفعت رأسي لأستريح، ورفع صديقي رأسه كذلك، وتقابلت نظراتنا، ووقفنا حينا ينظر كل منا في وجه صاحبه صامتا. ثم انفجرت بيننا ضحكة في وقت واحد، في لحظة واحدة، كأنها ضحكة شخص واحد، وامتدت الضحكة وطالت حتى كدنا نقع على الأرض من الإعياء، وجعل كل منا يضرب بيده على ركبته.
لقد كانت فكاهة عظمى.
الفصل السابع
ما أشد ضيقي بالحياة في ماهوش وطني؛ فإني لم أجد حولي فيه إلا جشعا وظلما. ولكني أرحم هؤلاء الذين يظلمونني، فإنهم جديرون بالرثاء. وأي قيمة للحياة إذا هي خلت من الكرم والإيثار والمحبة والصدق؟ إن الذين يفقدون هذه الخلال لا تبقى لهم في الحياة فضلة تستحق الحياة. ولكني مع هذا قد كدت أضيق بالحياة في ماهوش.
وحاولت أن أعتزل الناس قانعا بالصورة التي أسمو معها إلى السماء في خيالي، فكنت كل يوم أخرج إلى الحقول حتى أصل إلى شجرة الجميز، فأصعد فوقها وأختبئ بين فروعها حتى لا يراني الناس وأنجو من فضولهم. فكنت أقضي هناك الأيام أو الليالي خاليا إلى نفسي، أطلع على الناس بغير أن يروني، وأخلو هناك إلى طيف علية ابنة علاء الدين فأناجيه وأحدثه بالمعاني التي لا أجد في الأحياء من يفهمها. ولكني بعد حين ضقت بمجلسي فوق الشجرة لأنه ملأ صدري بعيوب غيري؛ إذ كنت أرى الناس يمرون تحتي وهم لا يفطنون إلى وجودي، فيظهرون ما يبالغون في إخفائه عن العيون ولا يتحرجون من كشف خلجات الضمائر. وقد خرجت من كل ما رأيته وأنا فوق الشجرة على حقيقة واحدة؛ هي أن الإنسان جدير بالرثاء، وليس في ذنوب الناس ما يستحق العقاب.
لقد بدا لي وأنا فوق الشجرة أن الله خالق هذه الأكوان العظيمة لن يضيق بالعفو ولن يكبر على رحمته ذنب. فلما لم يجدني اعتزالي فوق الشجرة حاولت الاعتزال في الفلوات، فكنت أخرج إلى تلال ماهوش وأشرف منها على واديها، فأراه خطا أغبر ضئيلا تحت قدمي، ويخيل إلي أن الأنفاس تضيق فيه من الضباب الذي يجثم عليه. فإذا وقفت حينا أنظر إلى ماهوش من فوق التلال لاحت لي صغيرة تافهة، بكل ما فيها من نضال وضجيج. ولكني مع ذلك كنت أعود إليها وأحس أنني لا أستطيع الاستغناء عنها، فإذا حاولت أن أجد لي موضعا فيها لم أعد إلا بالخيبة، فأرتد إلى عزلتي وتأملي. ولو كنت في غنى عن الطعام والملبس، أو لو كان أهلي وولدي في غنى عما يحتاج إليه أمثالهم، لما برح بي الضيق من حياتي في ماهوش وطني، ولكني بشر كسائر الناس، وأهلي وولدي لا غنى لهم عن أن يصيبوا من الحياة نصيبا. فكيف أجد ذلك النصيب وقد بحثت عنه في كل أركان ماهوش فلم أجد لي فيها مكانا.
ولقد أبى لي حيائي أن أشكو إلى الناس، فلست أحب أن أحمل أحدا ثقل همي. ولولا كلمة أقولها لصديقي أبي النور لأنفس بها عن صدري لزاد الأمر على طاقتي. وقد أشار ذلك الصديق علي أن أذهب إلى القاضي، وهو صديق كان لأبي، لعلي إذا شكوت إليه حالي ساعدني على أن أجد عملا ألتمس منه القوت لنفسي وأهلي. فترددت طويلا ولكن الحاجة كانت تدفعني، وغرتني من القاضي كلمات كان يقولها لي إذا لقيني. فذهبت إليه على استحياء وسألته مساعدتي، ولكنه نظر إلي نظرة فيها دهش وعجب، ولم يجبني بحرف على مقالي، وتشاغل عني ببعض أمره حينا، ثم التفت إلي وقال: «إن الأرزاق موفورة لمن أقبل على التماسها.» ثم أضاف سائلا: لم لا تشتغل بالتجارة يا جحا؟
ولو كان عندي مال لما انتظرت حتى يقترح علي السيد القاضي؛ فإني لا أملك من الدنيا ما أعيش به يوما بعد يوم . ولو كان عندي رأس المال لما احتجت إلى أن أكون تاجرا. فسكت حينا وأنا مطرق. فأعاد القاضي سؤاله كأنه يريد ألا أنصرف عنه حتى يفتح لي متجرا.
يا للنفاق والرياء! لقد كان في يده أن يجعلني محتسبا أو مأذونا، ولو كان جادا في عنايته بأمري لما رد على سؤالي بسؤال، ولما حملني مئونة الاعتذار. فلما لم أجد عند القاضي جوابا لم أجد حاجة إلى أن أجيب عن سؤاله. وانطلقت مني آهة ثم أعقبتها كلمة «يا ألله»، ثم مضيت عنه.
Shafi da ba'a sani ba