إنني أسمو بذلك الحب كما يسمو العابد في صلاته. وهل الحياة كلها جسد ومادة؟ إن روحي تهيم وتستطيع أن تقضي الأيام والليالي في الأفق الأعلى، تتغذى من ذلك الشجن الطاهر الذي يشملها، وتتصفى من ذلك الهيام الحار الذي يصهرها ... يا علية ابنة علاء الدين!
لن أكف عن التطلع إليك والتسبيح باسمك، والتماس الحياة العليا من محبتك، وإن لم تقع عيني عليك مرة أخرى.
الفصل الثالث
لو استطعت أن أقضي كل حياتي في أحلامي لكنت رجلا سعيدا، ولكن أنى لي ذلك وأنا إنسان لا بد لي من أن أصحو ومن أن أرى وأسمع وأسير؟ أنى لي أن أعتزل في أحلامي وأنا مرتبط بهذه الأرض وبأهلها ممن هم قريبون مني ومن هم بعيدون عني؟ ولو كنت وحيدا معتزلا لهان علي الأمر، ولكني أعيش في الناس ومع الناس ولا سيما إذا كانت لي امرأة مثل ريمة.
لقد سمعت امرأتي بما يقوله الناس عني في حب علية، وكنت أحسب أنها إذا سمعت ذلك أصلحت من شأنها وقومت من اعوجاجها. ولكنها ما كادت تسمع ما يقوله الناس حتى ركب الشيطان كتفيها كأعنف ما ركبها منذ عرفتها، فلم تدع نوعا من أنواع الأذى إلا ألحقته بي، ولا صنفا من صنوف الخبث إلا صبته على رأسي، وأرادت فوق كل هذا أن تذلني فأذاعت هي الأخرى أنها قد عزمت على الزواج من السلطان نفسه.
لكم ضحكت عندما سمعت الناس ينقلون إلي قولها! ريمة تريد أن تتزوج من السلطان! لم يثر قولها في إلا ضحكا.
فلما رأت أن قولها لم يثر غيظي عمدت إلى حيلة خبيثة للانتقام مني، فأثارت ضجة يتحدث بها العاطلون في ماهوش يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر؛ فإنها أذاعت في الجيران أنها قد عزمت على الانتحار. ولو كان أمرها قد أدى إلى غايته لكان ذلك قضاء الله وانتهى إلى نهايته. والزواج من مثل ريمة ما هو إلا سباق على الموت بين الزوجين، فإذا كان ولا بد من الموت فليكن لها إذا شاءت، ولكن ريمة لم تهتد إلى ما يجب عليها أن تفعل، وقنعت بأن صاحت وسبت واصطرعت وتخبطت، ثم خرجت من الدار تجري، ولم أدر ما كان قصدها من وراء هذا كله، فتركتها وقعدت في الدار هادئا، وأحسست أنني استطعت أن أتنفس حرا، وقد هدأ الجو بعد خروجها.
وانصرفت إلى صورة علية ابنة السلطان أناجيها، فلم أشعر بشيء حتى سمعت هيعة عالية وأصوات ولولة تطرق أذاني. فشردت أفكاري وقمت فزعا، فإذا بالحارة قد غصت بمن فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، وما كادوا يرونني حتى علت منهم صيحة عالية: «الحق يا جحا.»
فدهشت لهذه المفاجأة ولم أفهم المقصود من قولهم، وما الذي ألحقه؟ إنني رجل لم أستطع في حياتي أن ألحق شيئا، فكيف لي أن ألحق شيئا لم يقدر كل هؤلاء على أن يلحقوه، ووقفت ثابتا أقلب فيهم بصري.
فصاحوا بي مرة أخرى صيحة أعنف وأكثر حنقا، ففتحت عيني وفمي وأشرت بيدي مستفهما، فعلت منهم صيحة ثالثة فقالوا: «الحق امرأتك!» فانطلق لساني قائلا: «وكيف ألحقها؟»
Shafi da ba'a sani ba