Al-Wajiz fi Fiqh al-Imam al-Shafi'i
الوجيز في فقه الإمام الشافعي
Bincike
علي معوض وعادل عبد الموجود
Mai Buga Littafi
شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
1418 AH
Inda aka buga
بيروت
Nau'ikan
الوجيزُ
في فِقْه الإِمَامِ الشَّافِعِيّ
لِلْعَلَّامَةِ الْفَقِيهِ أَبِي حَامِدٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ الْغَزَالِيّ
وُلِدَ سَنَةَ ٤٥٠ هِـ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ٥٠٥ هـ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
تَحْقِيق
عَلِي مَعَوَّض
عَادِل عَبْد الْمَوْجُود
الجُزْءُ الأول
1
الوجيزُ
في فِقْه الإِمَامِ الشَّافِعِيّ
لِلْعَلَّامَةِ الْفَقِيهِ أَبِي حَامِدٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ الْغَزَالِيّ
وُلِدَ سَنَةَ ٤٥٠ هِـ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ ٥٠٥ هـ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
تَحْقِيق
عَلِي مَعَوَّض
عَادِل عَبْد الْمَوْجُود
الجزء الأول
2
الوجيز
في فقه الإمام الشافعي
3
جميع حقوق الطبع والصف والاخراج محفوظة لـ :
شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - لبنان
الطبعة الأولى
١٤١٨ هـ - ١٩٩٧م
شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
هاتف: ٤/ ٨٣٤٩٧٣ - ص.ب ٨٧٤ ٣
فاكس: ٦٠٣٠١٣ كود بيروت ٠٠٩٦١١ -
4
بسم الله الرحمن الرحيم
«إِضَاءَةٌ عَلَى العَصْرِ الَّذِي عَاشَ
فِيهِ الإِمَامُ الغَزَالِيُّ»
مما لا شَكَّ فيه أن تكوين شَخْصِيَّةِ الإنْسَان ما هي إلا مَجْمُوعَةٌ من الرَّوَافِدِ البيئية، والحياتية، والفكرية، والاجتماعية، والسياسية للزمن والمكان اللذين يعيش فيهما ذلك الإنسان.
فمن المَعْرُوفِ أن الإِنْسَانَ يتأثَّر ويؤثِّر في المجتمع، أو في العصر الذي يعيشه، فما هو إلا نِتَاجُ فِكْر أو مُحَصِّلة فكر هذا المجتمع، وهو بدوره أي الإنسانُ يؤثرُ في المجتمع ويَلعبُ دَوْراً في تحديدِ فكره، لا سيما إذا كان عالماً أو إماماً مثل الغزالي.
فلقد كان الغَزَاليُّ صُورَةً لعصره الذي عَاشَ فيه ويلاحظ القارىء لترجمته، أو لسيرته - بوضوح - أنَّ الغزالي تأثر بعصره، وأثر فيه.
ودِرَاسَةُ هذه المُؤَثِّرَاتِ لها دَوْرٌ في تَحْدِيدِ شَخْصِيَّة الكاتب، أو العالم، وتبيين الأعمدة الأساسية التي تَرْتَكِزُ عليها، والتي كوَّنت وجهة نَظَرِهِ في الحياة، وفي الناس، وفي المبادىء والأفكار.
مِن أجل هذا سنتكلَّم بشَيْءٍ مِنَ الإيجاز عن العَصْرِ الذي عاش فيه الغَزاليُّ، ونكتفي بوضع صُورَةٍ قَريبة من الواقع للحالة العامَّةِ في عَصْرِهِ، ليتمثّل القارىء زمان الغزالي ومَكانه، وليعرف ما تمسُّ الحاجة إليه مما أثر بالفعل في حياته العقلية.
وحيث أنَّ الإمَامَ الغزاليَّ من أبناء القَرْنِ الخامس الهجري، فإننا سوف نتكلّم بإيجاز عن هذا القرن لِنُحَدِّدَ بعض مَلاَمِحِهِ العامّة، ليضيء لنا ذلك كثيراً من جَنَبَاتِ حَيَاتِهِ وشخصيتِهِ.
يمتد القرن الخامس الهجري من سنة ١٠١٠ م، إلى سنة ١١٠٦ م، وفي هذا القرن ذهبت دول إسلامية وقامت دول إسلامية أخرى بدلها بحكم القوة، فقامت الدولة السلجوقية بالمَشْرِقِ سنة ٤٣١ هـ - ١٠٣٩ م، إذ توطد فيها ملك طغريل بك وأخيه داود ابنى ميكائيل بن سلجوق بخراسان، وقامت بين الدولة الغزنوية وهذه الدولةِ النَّاشِئَةِ حُرُوبٌ انتهت بِفَوْزِهَا عليها، ثم أَخَذ مُلْكُهَا يمتد إلى العراق إلى أن استولى طغريل بك على بغداد سنة ٤٤٧ هـ - ١٠٥٥ م، وأزال منها دولة بنى بُوَيه، وكان هذا في عهد القائم العَبَّاسي، وقد بلغت هذه الدولة غاية عظمتها في عَهْدِ ملك شاه بن ألب أرسلان، فبلغت من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن أقاصي بلاد الإسْلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن، وكان له إتاوة على دولة الروم الشرقية. وقد توفي سنة ٤٨٥ هـ - ١٠٩٢ م، ولكن حصل بعد وفاته انقسام بين ابنيه محمود وبركيارق على الملك، وقامت بينهما حروب كان لها أثر سيء في هذه الدولة.
5
فلم يَأْتِ آخر هذا القَرْن إلا وكانت دُوَلاً منقسمةً على نفسها، حتى أَمْكَنَ الصَّليبيين المستعمرين من أمم الفرنجة أن ينتزعوا منها كثيراً من بلاد الشام، ويستولوا على ((بيت المقدس)) وكان مسيرهم إلى الشام سنة ٤٩٠ هـ - ١٠٩٦ م.
وكان السلجوقيون أتراكاً يأخذون بمذهب أهل السُّنَّةِ على عادة غيرهم من الأَتْرَاكِ، وكانوا يدينون بالطَّاعَةِ لبني العباس، وإن لم يتركوا لهم شيئاً من السلطة الفعلية ولكن عَلَاقاتهم بهم كانت أحسن من علاقتهم بني بُويَه، لاتفاق العباسيين والسلجوقيين في الأَخْذِ بمذهبِ أهلِ السُّنة.
ومن الدول الإِسْلاَمِيَّةِ التي قامت بالمَشْرِقِ في هذا القَزْنِ الدولة الخوارزمية، وهي دولة تركية كالدولة السلجوقية، وكان بدء ظهورها سنة ٤٩٠ هـ - ١٠٩٦ م، وهي تنسب إلى مدينة خوارزم، لأنها كانت قَاعِدَة ملكها، وكانت أول أمرها تابعة لدولة بركيارق من ملوك السّلجوقيين، ثم انفصلت عنها بعد ذلك، وأخذت تقوى بالتدريج إلى أن استولت على بلاد خراسان وما وراء النهر.
وكذلك اضطرب أَمْرُ المُسْلمين بالمَغْرِبِ في هذا القَرْنِ، فانتهتِ دَوْلَةُ بني أمية بالأندلس سنة ٤٠٧ هـ - ١٠١٦ م، وقامت فيه دُوَلُ متفرقةَ يسمى مُلُوكها ((ملوك الطَّوَائِفِ)) وكان بعضها يُحَارِبُ بعضاً، حتى ضَعُفَ أَمْرُ المسلمين في ((الأندلس)) بهذه الحروب، وطَمِعَ فيهم أعداؤهم من الفرنجة بعد ضعفهم.
وقامت في المغرب الأقصى دولة المرابطين سنة ٤٤٨ هـ - ١٠٥٦ م، ويقال للمرابطين: المُلَّمُونَ أيضاً، وهم من قَبَائِلِ البَرْبَرِ المَغْرِبية، ومن أَقْوَى ملوكهم يُوسُفُ بن تاشِفين، وقد تولى الملك سنة ٤٦٢ هـ - ١٠٦٩ م، وهو الذي بنى مدينة مراكش واتخذها مقراً لملكه، ثم أخذ يستولى على ما جاوره من بلاد المغرب حتى دان له أكثرها، وفي سنة - ٤٧٩ هـ - ١٠٨٦ م - استنجد به أهل الأندلس بسبب تغلب الفرنجة عليهم، فَسَارَ إليهم بِجَيْشٍ كبير أَنْقَذَ ((الأندلس)) منهم، ثم رأى أن يضمه إلى ملكه، ليقضي على حكم ملوك الطَّوَائف الذين فرقوا كلمة المسلمين فيه، وكان فية ميل لجمع كَلِمَةِ المسلمين في هذا القَزْنِ، ولهذا دَعَا للملوك العَبَّاسيين في دولته على المنابر، وكان يأخذ مثلهم بمذهب أهل السُّنَّةِ، ولا شك أن هذه نية صالحة تذكر له في هذا القرن، وتدخل إلى حد ما في دعوة التجديد فيه. لقد عاصر الإمام الغزالي أَكْثَرَ مُلُوكِ الدَّوْلَةِ السّلجوقية الكبرى) حيث شهد عَهْدُ عضد الدين أبي شجاع أَلْب أرسلان، وجلال الدين أبي الفَتْحِ ملك شاه، وناصر الدين محمود، ورُكْن الدين أبي المظفر بركيارق، وركن الدين ملك شاه الثاني، ومحمد بن ملك شاه.
وقد وُلِدَ الغَزاليُّ في آخر عَهْد طغرل بك، الذي ملك ((بغداد))، وتقرب من الخليفة حتى تَزَوَّجَ الخليفَةُ بِنْتَ أخيه، والذي تطلع إلى أن يتزوج من البيت العباسي.
أما أَلْب أرسلان، فكان وَاسِطَةَ عِقْد الدولة السّلجوقية، وفي عهده أُسِّسَتِ المَدَارِسُ النظامية، صَاحِبَةُ الفَضْلِ على الغزالي، حيث فتحت له أبوابها ورُبُوعَهَا ليدرِّس فيها، وينشر علمه.
أما مُحَمَّدُ بن ملك شاه، فهو الذي وَضَعَ له الغَزاليُّ كتاب ((التبر المسبوك في نصيحة الملوك)).
6
في ذلك العَصْرِ أيضاً شُغِلَ النَّاسُ بالحديث عن البَاطِنِيَّةِ ودورها الخطير في تغيير مُجْرَیَاتِ الحياة؛ حيث انتشرت في كثير من البقاع الإسلامية لظروف سياسية، ثم تحوّلت إلى مذهب ديني، وقد شغل الغزاليُّ بهذه الفرقة؛ وكتب في الرَّدِّ عليهم، ونَقْدِ آرائهم ومعتقداتهم.
ويرجع خَطَرُ هذه الفرقة لتلك الآراء الهَدَّامَةِ التي كانت تَدْعُو إليها، مما كان يَسْتَهْدِفُ الدين الإسلامي نفسه، وما انطوت عليه تلك الدعاوى من المكر والدهاء، في السيطرة على الرءوس وملئها بالخرافات والأساطير التي ليس لها أي أساس من الصواب.
من ناحية أخرى فقد شهد هذا العَصْرُ كَثِيراً من الهَجَمَاتِ الشَّرسة التي قادها الصليبيون للسَّيْطَرَةِ على الشرق العربي، وبالفعل قد استولوا - آنذاك - على كثير من بلدان المسلمين في آسيا الصغرى والشام، وكونوا لهم فيها إمارات، سميت بالإمارات اللاتينية، نسبة إلى الأَجْنَاسِ التي كان يتألّف منها حَمَلَةُ الصليب.
وبهذا كان المُسْلِمُونَ في هذا القَزْنَ أَسْوَأَ حالاً منهم في القرون السَّابقة، حتى أمكن الفرنجة أن يُهَاجموهم في عُقْر دارهم بالمشرق، ويستولوا على بيت المقدس وكثير من بلاد ((الشام))، وحتى أخذوا يهاجمون ((الأندلس)) بالمغرب كما قلنا، ولولا يوسف بن تاشفين ملك المرابطين لضاع هذا القُطْرُ من المُسْلِمِينَ في هذا القَرْنِ، وإذا كان الفرنجة لم يمكنهم الاستيلاء في المغرب على الأندلس، فقد أمكنهم أن يستولوا على جزيرة ((صقلية))، فدخلوها سنة ٣٤٤ هـ - ١٠٥٢ م، وتم لهم الاسْتِيلاَءُ عليها كلها سنة ٤٨٤ هـ - ١٠٩١ م، وبقي بها كَثِيرٌ من المسلمين بعد استيلائهم عليها، وكانوا أرقى من الفرنجة ثقافة ومدنية، فكانوا يرجعون في ذلك إليهم.
ولكن المسلمين مع ما وصلوا إليه في هذا القرن كانوا لا يزالون بهم قوة تضاهي قوة الطامعين فيهم، وبها أمكنهم أن يصمدوا في المشرق للفرنجة في الشام، وأن يصمدوا في المغرب للفرنجة بالأَنْدُلِسِ، وأن يقابلوا هذا الهجوم عليهم بالهجوم على أعدائهم في نواحي ضعفهم. أما إذا تكلَّمنا عن الناحية التعليمية، فقد انْتَشَرَتْ بصورة ملحوظة المَدَارِسُ النِّظَامِيَّةُ، نسبة إلى نظام الملك، وكانت مهمته نشر التعليم والفكر واحتضان أئمة العلم ونابغيه، وقد أكثر نظام الملك من هذه المدارس، ووقف عليها الأوقاف، ورتب للطالب المسكن والمأكل، وظلت مدارسه بأوقافها زمناً ليس بالقليل، وتخرج منها كثير من العلماء والأدباء.
ولهذه المدارس النِّظامية فَضْلٌ على الغزالي، فقد تَلَّقى العلم في مدرسة نيسابور، وتولى التدريس في مدرسة بغداد.
بالإضافة إلى نبوغ الغزالي في هذا القرن، نجد أن هناك كثيراً من أئمة العلم قد نبغ فذكر بعضهم فيما يلي: إسحاق الإسفرائيني الشافعي.
وأبو عمر الطلمنكي المالكي.
7
وأبو زيد الدبوسي الحنفي.
وابن حزم الذي كان شافعي المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الظاهرية.
وأبو الوليد الباجي المالكي.
وأبو إسحاق الشيرازي الشافعي وإمام الحرمين الجويني الشافعي.
وعلي بن محمد البزدوي الحنفي.
ومن مطالعة تَرَاجِمِ هؤلاء الأصوليين تتبيَّنُ لنا مَرَاكِزُ النشاط العلمي في هذا القَزْن.
وأما أبو إسحاق الإسفرائيني الشَّافعي فقد كان نَشَاطُهُ في ((إسفرائين)) و ((نيسابور)) ببلاد الفرس.
وأما أبو عمر الطّلمنكي المالكي. فقد نشأ بـ ((طلمنكة)) بالأندلس وانتقل منها إلى ((قُرطبة)) ثم إلى ((مصر)). ثم إلى ((المريَّة))، و((مرسية))، و((سرقسطة)).
وأما أبو زيد الدبوسي: فقد نشأ بقرية بجوار ((بخارى)). وكان له نشاط علمي في ((سمرقند)) و ((بخاری)).
ونشأ ابن حزم في ((قرطبة)) عاصمة بلاد ((الأندلس))، ونشر مذهبه وعلمه في تلك الأصقاع.
وظهر أبو الوليد البَاجِيُّ بـ ((بطليوس))، إحدى مدن ((الأندلس))، ورحل إلى ((باجه))، ثم إلى (الحجاز)، و(بغداد))، وإلى ((دمشق))، و((الموصل))، و((مصر)). ثم عاد إلى ((بَاجه))، وكان في كل هذه الرحلات يتلقَّى، وينشر العلم.
ونشأ أبو إسْحَاقَ الشيرازي في ((شيراز))، وانتقل إلى ((بغداد))، حيث نشر علمه وألف كتبه. و توفی بها.
وإمام الحرمين الجويني ظهر بجهة ((نيسابور))، وسافر إلى الحجاز وجاوز ((مكة)) و ((المدينة)). وذاع صِيتُهُ بهما، كما انتقل إلى بغداد. وقضى آخر حياته بـ ((نيسابور).
واشتهر البَزْدَوِيُّ في ((سمرقند)) و((نسف))، وما حواليهما تلك بعض المَلَامِحِ العَامَّةِ للعصر الذي عَاشَ فيه الغزاليُّ لعلَّها تضيء لنا جَانِبَ البَحْثِ عن سيرته، وسرِّ نبوغه وعبقريته، وتكشف لنا عما انطوت عليه شخصيَّتُهُ من مبادىء وأفكار، والعوامل التي أسهمت بطريق مباشر أو غير مباشر في تكوين هذه الشخصية، وما تَهَيَّأْ له من ظروف، ومُلاَبَسَاتٍ حَدَّدت وَوَجَّهَتْ مَسَارَهُ العلمي، كما هو واضح في سيرة حياته.
8
التعريف بالإمام الغزالي(١)
اسْمُهُ ونَسَبُهُ:
هو الإمام الفقيه الحُجَّةُ الثَّبْتُ الأصوليُّ المتكلِّم أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغَزَّالِيُّ.
وكان لقبه حجة الإسلام.
وقد وافق عَمَّهُ في النِّسْبَةِ، والكُنْيَةِ، واسْمِ الأبِ؛ حيثُ كان اسمُ عمِّه: أحمد بن محمد الشيخ أبا حامد الغزالي الكبير القديم.
وقيل: إن هذا عَمُّ أبيه.
نِسْبَةُ الإمام الغَزَّالِيِّ:
هناك قولان للمحقّقين في نِسْبَةِ الإمامِ الغزَّالِيِّ:
أولاً: يرى بعضهم أنه يُنْسَبُ إلى قرية من قرى ((طُوس)) تُدْعَى: ((غَزَالَةَ))، وعليه فتكون نسبتُهُ: الغَزَاليّ، بتخفيف الزاي، جاء في ((شرح القاموس المسمَّى بـ ((تاج العَرُوسِ»، أن ((غَزَالَةَ)) كـ ((سَحَابَةَ)) قرية من قرى ((طُوس))، وإليها يُنْسَبُ أبو حامِدٍ.
ونقل أيضاً هذه النِّسبة الفيوميُّ في ((المِصْبَاح))، وخطَّأ من شدَّد حرف ((الزَّاي)).
وصرح بذلك الإمامُ النوويُّ في ((التبيان)).
وفي ((الوَافِي بالوَفَيَّات)): أنه قال في بعض مصنّفاته: ونسبني قَوْمٌ إلى الغَزَّال، وإنما أنا الغَزَالِيُّ؛ نِسْبَةً إلى قريةٍ يقال لها: ((غَزَالَة))؛ بتخفيف الزَّاي.
ثانياً: وذهب البعضُ الآخر إلى أن الإمام الغَزَّالِيّ يُنْسَبُ إلى ((غَزَّال))؛ بتشديد الزاي، فيقال له: الغَزَّالِيُّ، وهذه نسبة أبيه؛ لأن صنعته كانت غَزْلَ الصوفِ؛ فنسب إليها.
وأيضاً جرت هذه النّسبة على وَفْق ما يَنْسُبُ أهلُ ((خُوَارَزْم))، و ((جُرْجَان))؛ حيثُ كانوا ينسبون إلى الحِرْفَة والصَّنْعَة، فيقولونَ مثلاً: القَصَّارِيّ؛ نِسْبةً إلى القَصَّار، والعَطَّارِيّ، نسبةً إلى العَطَّار.
(١) انظر ترجمته في الأعلام ٢٤٧/٧ ووفيات الأعيان ٣٥٣/٣ وطبقات الشافعية للسبكي ١١٠/٤ والبداية والنهاية ١٧٣/١٢ واللباب ١٧٠/٢ وتبيين كذب المفتري ٢٩١ -٣٠٦ والنجوم الزاهرة ٢٠٣/٥ وآداب اللغة ٩٧/٣ وشذرات الذهب ١٠/٤ ومفتاح السعادة ١٩١/٢ - ٢١٠ ومراة الزمان ٢٥/٨ ومراة الجنان ١٧٧/٣ وكتاب العبر للذهبي ٤ / ١٠.
9
وحكى السُّبْكِيُّ نسبة ((الغَزَّالِيِّ)) بالتشديد، أي: تشديد الزاي في ((الطبقات الوسطى)).
وللسيِّد مرتضى الزَّبِيدِيّ في هذه النسبة التي بالتشْدِيد استقصاءٌ طويلٌ في كتابه «إتْحَاف السَّادة المتَّقين»؛ حيث يقولُ فيه: ((قال صاحبُ ((تُحْفَةِ الإرشَاد))؛ نقلاً عن النوويِّ في ((دقائق الرَّوْضَة)): التشديد في الغَزَّاليِّ هو المعروفُ الذي ذكره ابن الأثير.
وإلى هذه النِّسْبة أيضاً ذهب الذَّهَبِيُّ في ((العِبَر))، وابنُ خَلْكَانَ في ((التاريخ))؛ حيثُ قالا: عادة أهل خُوَارَزْمَ وجُرْجَانَ يقولون: القَصَّارِيُّ والحَبَّاريُّ، بالياء فيهما، فنسبوه للغَزْلِ، وقالوا: الغَزَّالِيّ؛ ومثلُ ذلك الشَّخَامِيّ.
وأنكر ابنُ السَّمْعَانِيِّ التخفيفَ، وقال: سألتُ أهْلَ طُوس عن هذه القرية، فأنكَرُوها، وزيادةُ هذه الياء، قالوا: للتأكید.
أَصْلُ الإمام الغَزَاليِّ:
مثلما اختلف المحقّقون في نسبة الإمامِ الغَزَّالِيِّ، اختلفُوا أيْضاً في تحقيقِ أصْله إلى فريقَيْنِ:
الأوَّل: فريقٌ يرى أنه من أصلٍ عربيٍّ عريقٍ، ينتمي إلى السُّلَاَلَة العربيَّة التي دخلت بلادَ الفُرْسِ أيامَ الفتوحَاتِ الإسلاميَّة، وبالتحديد في بدايتها.
الثاني: فريقٌ يرى أنه من أصلٍ فارسيٍّ.
وتحقيقُ القوْلِ في هذه المسألة، سواءٌ كان عربيًّا أو فارسيًّا - لا يؤثِّر على قيمةِ الغَزَّالِيِّ، كإمامٍ ورائدٍ، ولا ينقصُ من قَدْرِهِ شيئاً؛ لأنَّ الشريعةَ الإسلاميَّة - كما هو مقرَّر في نصوصها - لا تتفاضَلُ بين النَّاسِ من هذه الزاوية، بل المقياسُ هو التقوَىُ والعَمَلُ الصَّالح.
ولاَدَتَهُ وَنَشْأَتُهُ:
وُلِدَ الإِمامِ الغَّالِيُّ - رضي الله عنه - في مدينة ((طُوس)) التابعةِ لولاية (خُرَاسَانَ)) في عامٍ خَمْسِينَ وأربعمائة هجريَّةً، وتسعةٍ وخمسينَ وألْفٍ ميلاديةً.
ولقد أثَّرِ أَبُوهُ - رضي الله عنه - في تَنْشِئَته.، وغَرْسِ القيم والمبادىء السليمة في نفْسِهِ منْذُ أن وَطِئَتْ قدمُهُ الأرْضَ. حكى السُّبْكِيُّ في ((طبقاته))، أن أباه كان فقيراً صالحاً، لا يأكل إلا من كَسْب يده في عمل غَزْلِ الصوفِ، ويطوف على المتفقِّهة، ويجالسهم، ويتوفَّر على خدمتهم، ويَجِدُّ في الإحسان إليهم، والنفقَةِ بما يمكنه، وأنه كان إذا سمع كلامهم، بكى، وتضرَّعَ، وسأل الله أن يرزقه ابناً، ويجعله فقيهاً، ويحضر مجالس الوَعْظِ، فإذا طاب وقْتُهُ، بكَى، وسأل الله أن يرزقَهُ أبناً واعظاً.
في هذا الجو الإيمانيِّ الصُّوفِيِّ نشأ الإمام الغَزَّالِيُّ، وهو يستنشق عَبِيرَ التصوُّف، وشذَا الفقْهِ، وأريجَ الإِيمَانِ، فتأثَّر بذلك تأثُّراً كبيراً، وأَنْعكَسَ على شخصيته العلميَّة والفقهيَّة فيما بعْدْ حتى صار إماماً لكل درب سلَكَهُ، ورائداً لكلِّ علم اختطَّهُ.
10
ولقد استجابَ الله - عزَّ وجلَّ - دعوتَيْ أبِيهِ، فرزقَهُ ابنين، أحدُهُما واعظٌ، والآخر فقيهٌ.
أما الفقيه، فهو أبو حامدٍ الإمامُ الحُجّة، فارسُ المَيْدان، وإمامُ أهل الزمان، شهد بمؤلفاته القاصي والداني، والموافق والمخالف.
وأما الواعظُ، فهو الابنُ الثاني؛ واسمه: أحمدُ؛ حيثُ كان واعظاً تنفلِقُ الصمُّ الصخورُ عند استماع تحذيره، وترعد فرائصُ الحاضرِينَ في مجالِسِ تذكيره.
فلَّما دنا أَجَلُ الأبِ، دفع بابنَيِّهِ إلى أحد المتصوَّفة، - وكان يدعى أحمدَ بن محمَّدٍ الرَّازكاني - كي يرعاهُما الرعايةَ السليمةَ.
ولمَّا مات الأبُ، أقبل الصُّوفِيُّ على تعليمهما إلى أن فَنِيَ ما تركه الأبُ من قُوت الولَدَيْن، وتعذَّر على الصُّوفِيِّ القيام بقوتهما؛ فقال لهما: اعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجُلٌ من الفقْر والتجْريد؛ بحيثُ لا مال لي؛ فأواسيكما، وأصْلَحُ ما أرَى لكما أن تَلْجَأا إلى مدرسة، كأنَّكما من طلبة العلمِ، فيحصل لكما قوتٌ يغنيكما على وقتكما.
وبالفعْلِ فقد انصاعَ الولدَان لأمره، وكان التحاقُهُما بالمدرسةِ سَبَبَ سعادتهما، وعُلُوِّ درجتهما. وكثيراً ما كان يذكر الغَزَّاليُّ هذه الواقعة، ويحكيها بقولته الشَّهيرة: ((طَلَبْنَا العِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَبَى أنْ يكُونَ إلاَّ لِلَّهِ».
وتَحْكِي لنا كتبُ التاريخ والتراجمٍ، أن الإمام الغزَّالِيَّ تزوَّج قبل سنِّ العشرين، وكان له ثلاثُ بِنَاتٍ، اسم إحداهن: سِتُّ المُنَّى، وله ابنٌّ اسمه: عُبَيْد اللَّه.
أما أخو الإمامِ الغزّالي ((أحْمَدِ)) فقد تُوُفِّيَ بعد موت الغزاليِّ بخمسةَ عَشَرَ عاماً، أي: في عام عشرين، وخمسمائةدَّ ودُفِنَ بـ ((قَزْوِينَ)).
ولم تسعِفنا كتبُ التراجم بذِكْر شيْء عن الأمّ، فلا نعرف عنها شيئاً، سوَى أنها عَاشَتْ بعد موْتِ زوجها، ونعمت بشهرة ولَدَيْهَا في («بَغْدَاد)».
رحلاته في طلب العلم:
مما لا شك فيه، أن حاجة العلماء إلى الرحلة عظيمةٌ جدًّا؛ سَعْياً في تحصيل العلم، والسماع من الأشْيَاخِ؛ لأن في الرحلة إليهِمْ، والإلتقاءِ بهم، تثقيفاً للعقول، وتنقيحاً للعلوم، وتمحيصاً للمحفوظ. ولقد كانت الرحلة سُنَّةَ العلماء من لَدُنْ سيِّدنا محمد - عليه الصلاة والسلام - إلى أن وقع الناسُ فريسةً للتخلُّف والتكاسل، فقعد بهم ذلك عن طلب العلمِ، والسعي في تحصيله.
ولقد كان بعْضُ أصحاب رسُولِ اللَّه - صلَّى الله عَليْه وسلَّم - إذا تناءت به الدارُ، يركب إلى (المدینة))، فيسأل رسول الله - صلی الله عليه وسلم -
واستمر ذلك السعيُ والتَّزْحَال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ولما اتسعت رقعةُ الدولة
11
الإسلاميَّة بعد الفتوحات العظيمة، نجد أن الرحلة شاعَتْ، وأنتشَرَ أمرُها؛ لتفرِّق العلماء في شَتَّى بلدان الدولة الإسلامية.
ولقد ضحَّى سلفنا الصالح بكل غال ورخيص، ودفعوا المال والجهد، وتكبَّدوا العناء والمشاق؛ في سبيل طلب الحديث وجمعه، والعناية بسُنَّةِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
فهذا الصحابيُّ الجليلُ أبو أيوبَ الأنصاريُّ يرحَلُ من ((المدينة)) قاصداً عقبةَ بْنَ عامٍ بـ ((مِصْر))؛ ليسأله عن حديث سمعه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم-؛ حتى إذا وصل إلَى منزل عقبة بن عامر، خرج إليه عقبةُ، فعانقه، وقال: ما جاء بكَ، يا أبا أيوب؟ فقال: حديثٌ سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم لم يبق أحدٌ سمعه منه غيري وغَيْرُكَ، في ستر المؤمن، قال عقبة: نعم، سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: ((مَنْ سَتَرَ مُؤْمِناً فِي الدُّنْيَا عَلَى خِزْيَةٍ، سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ))(١).
فقال أبو أيُّوب: صدقْت، ثم انصرفَ أبو أيُّوب من توّه إلى راحلته، راجعاً إلى ((المدينة))، متحملاً مشقّة السفر، ووعثاءَ الطريق، وأخطارَ المقاوز والقفار.
ويقولُ سعيد بن المسيِّب: إني كنتُ لأُسَافِرُ مسيرةَ الأيّامِ والليالي في الحديثِ الواحِدِ.
وذاتَ مرَّة قال عمرو بن أبي سلمة للأوزاعيِّ: يا أبا عمرو، أنا ألزمك منذ أربعةِ أيّامٍ، ولم أسمَعْ منك إلا ثلاثين حديثاً! قال: وتستقلُ ثلاثين حديثاً في أربعة أيامٍ؟ لقد سار جابرُ بْنُ عبدالله إلَى مصْرَ، واشترى راحلةً، فركبها، حتى سأل عقبةَ بْنَ عامٍ عن حديثٍ واحدٍ، وانصرف إلى ((المدينة)) وأنت تستقلُّ ثلاثين حديثاً في أربعةِ أيام؟(٢).
ممَّا سبق يتبيَّن أن للرحلة أثراً ملحوظاً في تمحيص العُلُوم، وتنقيحها، وتثبيتها في أذْهَان العلماءِ، وأنَّ طلاب العلْم نَزَحوا من قُطْرِ إلى قطرٍ، تحملُهم ظهورُ الفيافي والقفار؛ تنقيباً عن الحديث، أو المسألة الفقهيّة، أو السماعِ من شيخٍ مشهُورٍ، أو التَّلْمَذَةِ على يدِ عالمٍ إمامٍ.
ولم يكن الإمامُ الغَزَّالِيُّ بِدْعاً في هذه الشأن، بل سار علَى دَربِ أسلافِهِ من العُلَمَاءِ، وأقرانه من طلاب العلمٍ في السعي والسفَرِ، رغبةً في تحصيل العلم، وطلب مسائله وقضاياه.
وتروي لنا كتبُ التراجمِ، أنَّ حياة الغَزَّالِيِّ كانت حافلةً بالتَّرْحَالِ والتنقلِ، من بلد إلى بلد، يفتح قلبه ووجدانه لمزيدٍ من فنون المعرفة والعلوم المختلفة، وينشد ضالّته، ويشبع نهمته التي لا تهدأ، ويروي الظمأ الذي لا ينقطعُ، للوصول إلى الحقيقة المُطْلَقة، وأعلَى مراتبِ اليقين.
فلقد انتقَلَ - رضي الله عنه - من مَسْقِطِ رأسِهِ ((طوس)) إلى ((جُرْجَان))، ثم رحل إلى (نَيْسَابُور))،
(١) أخرجه الحميدي (١٨٩/١) رقم (٣٨٤) وأحمد (١٥٣/٤) والخطيب في .. الرحلة في طلب الحديث (ص - ١١٨) والحاكم في .. معرفة علوم الحديث .. (ص - ٧) وابن عبدالبر في .. جامع بيان العلم .. (٩٤/١).
(٢) روى هذه الآثار الحاكم في علوم الحديث ص ٨،٧.
12
ومنها إلى ((بَغْدَاد))، ثم ((دِمشق))، و((بَيْتِ المَقْدِس))، و((مَكَّة))، ثم عرَّج على ((مصر)) وعاد في آخر تطوَافه إلَى وطنه الأصليِّ ((طوس))؛ طوداً شامخاً من العلم، وبحراً زاخراً من المعرفة، يرمي النَّاسَ بأمواجِهِ المتلاطمة.
طَلَبُهُ العِلْمَ في ((طُوس)):
لقد كان بديهيًّا أن تكون ((طُوس)) أوَّلَ بَلَدٍ يتلقَّى الغَزَّاليُّ العِلْمَ على يدِ علمائها؛ وذلك لأنها موطنه الأصليُّ الذي ولد فيه.
وكان أوَّل ما تلقَّى العلْمَ علَى يد شيخه أحْمَدَ بْنِ محَمد الرَّاذَكَانِيِّ؛ حيث قرأ عليه طَرَفاً من الفقْهِ.
طَلَبُهُ الْعِلْمَ فِي ((جُرْجَانَ)):
ولما كبر الغَزَّالِيُّ وترعْرَعَ، انفتحت شهيّته لمزيد من العلوم والمعرفة، وتطلَّعت نفْسُهُ إِلَى آفاقٍ رَحْبَةٍ، رحل إلى ((جُرْجَان)) إلى الإمام أبي نَصْرٍ الإسماعيليِّ؛ حيث سمع منه، ودوَّن كلَّ ما تلقَّاه منه في ((مذكِّراته)) التي سمّيت بـ ((التَّعْلِيقَة))، دون أن يُودِعَهُ الذاكرة، أو يحفَظَه.
وفي أثناء رجوعه إلى ((طُوس))، خرج عَلَيْه جماعةٌ من قُطَّاع الطرق، فأخذوا ما كان معه، ومنْهم تعلَّم الغَزَّاليُّ درساً في الحياة، أثمر وأَجْدَى فيما بعدُ.
حكى السُّبْكيُّ في ((طبقاته))، أنَّ الإمام أسْعَدَ الْمِيهَنِيَّ قال: سمعت الغَزَّالِيَّ يقولُ: قطعت علينا الطريق، وأخذ العَيَّادُون جميعَ ما معي، ومَضَوْا، فتبعْتُهُم، فالتفتُ إلى مُقَدَّمِهِم، وقال: ارْجِعْ، ويحَكَ، وإلا هلكْتَ.
فقلْتُ له: أسألك بالذي ترجُو السلامَةَ منه؛ أن تَرُدَّ عليَّ تعليقَتي فقطْ، فما هي بشيْءٍ تنتفعونَ به.
فقال لي: وما هي تعليقتك؟.
فقلت: كُتُبٌ في تلك المِخْلاَة، هاجَرْتُ لسماعها، وكتابتها، ومعرفةِ عِلْمها.
فضَحِكَ، وقال: كيف تدَّعِي أَنَّك عرفْتَ علمها، وقد أخذْنَاهَا مِنْكَ، فتجرَّدْتَ من معرفتها، وبقيتَ بلا علْمٍ. ثم أمر بعضَ أَصحابِهِ، فسلَّم إليه المِخْلَة.
قال الغزاليُّ: فقلْتُ: هذا مُسْتَنْطَقٌ، أنطقَهُ اللَّه؛ ليرشدني به في أمْرِي، فلمّا وافيْتُ ((طوس))، أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين، حتى حفظتُ جميعَ ما علَّقْتُهُ، وصِرْتُ بحيث لو قطع عليَّ الطريقُ، لم أتجرَّد من علمي.
طَلَبُهُ الْعِلْمَ فِي نَيْسَابُورَ:
بعد ذلك قَدِمَ الغزّاليُّ إلى مدينة ((نَيْسَابُورَ)) مع بعض الرُفْقَةِ، قاصداً إمامَ الحرمَيْنِ أبا المَعَالي
13
الجُوَيْنِيَّ ، وكان حينئذٍ أستاذاً للمدرسة النِّظَامِيَّةِ؛ حيث عهد نِظَامُ المُلْكِ له بالإشْرَاف عليها. وعلى يد امام الحرمَيْنِ جَدَّ الغَزَّالِيُّ، واجتهدَ، وبَرَعَ في المذهب، والخلاف، والجَدَلِ، والأَصْلَيْنِ، والمنطِقِ، وقرأ الحِكْمَةَ، والفَلْسَفَةَ، وأحكمَ كُلَّ ذلك، حتَّى مات إمامُ الحرمَيْنِ في الحادي عَشَرَ من شهر ربيعِ الآخر، عام ثمانية وسبعين، وأربعِمِائَةٍ هجريةً.
وممَّا يُذْكَر أنَّ الغزّاليَّ الَّضَحَتْ مكانّتُهُ في ((نيسابور)؛ حيث لمع من بين أقرانِهِ، بل كان ينوبُ كثيراً عن أستاذه في التعليمِ، يقرأ علَى رفاقِهِ وإخوانِهِ. يقولُ إمام الحرمين يصفُ تلميذَهُ النَّجِيبَ الغزَّالِيَّ، ويصور مكانته العِلْمِيَّة: ((الغَزَّالِيُّ بَحْرٌ مُغْدِقٌ)).
بل كان يوازِنُ بين تلاميذِهِ، ويقارِنُ بينهم، فيقول: ((التحقيق لعلها الخُوارَزْمِيِّ، والجزئيّاتُ للغَّالِيِّ، والبَيَانُ لِلْكِيَا)) ولمَّا مات إمامُ الحَرَمَيْن، تغيّرت الحالُ بالنسبة للغَزَّالي، فخرج من ((نيسابور)) ميمِّماً وجْهَهُ نحْوَ مُعسْكِرٍ نظَامِ المُلْك؛ حيث كان نِظَامُ المُلْك وزيراً، وكان مجلسُهُ مَجْمَعَ أهْلِ العلْم، وملاذَهُم، ومَحَطَّ رجال السَّلاَطين السَّلْجُوفِيِّينَ، وتمتع الغزّاليُّ في كنف الوزير نظَامِ المُلْك بالرعاية والاهتمام، فناظر الأئمّة الأعلامَ في مجْلِسِه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، وتلقَّاه نظامُ المُلْكِ بالقَبُول.
طَلَبُهُ الْعِلْمَ في «بَغْدَاد»:
لما ذاع صيتُ الغَزَّاليِّ، ولمع اسمه على الرءُوسِ والأسْمَاء، تلقَّاه نظامُ المُلْك بالتعظيم، وولاً، التدريسَ بَمْدَرَسَتِهِ بـ (بَغْدَاد))، وكان ذلك في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وكانت بغداد في ذلك الوقْتِ عاصِمةَ العَالَمِ الإسلاميِّ في الشرق.
وأقام الغزّاليُ على التدريس، ونشْرِ العلمِ، والفُتْيًا، والتصنيف، وكانت ((بَغْدَاد)) نقطة انطلاقِهِ نحو عالَمِ الشهرة في شتَّى الآفاق والأنْحَاء.
وفي ((بَغْداد)» أُعْجِبَ الناسُ بِحُسْنِ كلامه، وكَمَالِ فضله، وفصاحةٍ لسانه، وضُرِبَتْ بِهِ الأمثالُ، وشُدَّت إليه الرحالُ من كلِّ صوْب وحَدَبٍ يتحلَّقُونَ حوله، ويستمعُونَ إلى علْمِه الغزير، وموْجِهِ المتلاطمِ.
وتحدِّثنا كتُبُ التراجِمِ، أنه في أثناء هذا النُُّوعِ والنجاحِ الباهر - مَرِضَ الإِمامُ الغزّاليُّ، حتى يئسَ الأطبّاء من شفائِهِ، وذلك لأنَّه أصيبَ بمَرَضٍ غريبٍ، حتى اعتقلَ لسَانُهُ، وجافَى الطعامَ، وبَطَلَتْ قوَّته؛ وذلك بسبب إجهادِ ذهْنِهِ، وإرهاقِ نَفْسِهِ في تحصيلِ المسَائِلِ العلميّة والفقهيّة من جانب، وموالاة التدريس لطلّبِ العلمِ من جانبٍ آخَرَ.
ولما شَفَاه اللَّه، وقام مِنْ مرضه، أدْرَكَ أنَّ هذه الحياة التي يعيشها لا تروقه، وأدْرَكَ أنَّ الجاه العريضَ، والمصِبَ الرفيعَ الذي يتمتعُ به لا يتلاءَمُ مع طبيعته السلوكيَّة الزاهرة.
14
فأنقلَبَ الغزّاليُّ من حالٍ إلى حالٍ، وترك كرسيَّ التدريسِ بالمدرسة النِّظَامِيَّة في بغداد، وقد أعطى كل ما معه من مال للفقراء والمُعْوِزِينَ، وقَطَعَ علائقَهُ بالدنيا، وساحَ في الأَرْضِ.
حكى الزَّبيديُّ في شرح الإِحْيَاء، أنَّ سبب سياحَةِ أبى حامدِ الغَزَاليِّ، وزهْدِهِ في الدنيا؛ أنَّه كان يوماً يعظ الناسَ، فدخَلَ علَيْه أخوه أحْمَدُ، فأنشده: [المتقارب]
أَخَذْتَ بِأَعْضَا دِرهمْ إِذْ وَنَوْا وَخَلَّفَكَ الْجَهْدُ إِذْ أَسْرَعُوا
فكأنَّ شقيقه أحْمَدَ قد نَبَّهَهُ إلى فِكْرَةٍ كانَتْ تراودُ خاطرَهُ، وكانت الحافزَ الَّذي جعَلَ الغزاليَّ ينطلقُ انطلاقَةً مغايرةً ما كانَ عليه سَلَفاً.
يقول أبو الفداء الواعظُ الشَّافعيُّ: إِنَّه سمع من عليٍّ المَوْصِلِيَّ يحكي عن أبي منصورِ الرَّزَّاز الفقيهِ، قال: ((دخَلَ أبو حامدٍ (بَغْدَاد))، فقوَّمنا مَلْبُوسَهُ، ومركوبَهُ خمسَمائَةِ دينارٍ، فلما تزهَّدَ، وسَافَر، وعاد إلى بَغْدَادَ، فَقَوّمنا ملبوسَهُ خمسةَ عَشَرَ قِيرَاطاً».
إذَنْ كانت الأسباب الدينيَّةُ هي الباعثَ الأوَّلَ لتركه بغداد، وتركه ذلك الجَاهَ العريض، والصِّيت المُدَوِّي، والمكانةَ المرموقَةَ، والانهماكَ في طَلَب المال والمَنْصِب، فولى كلَّ ذلك ظَهْرَهُ، طلباً للمعرفة والحقيقةِ، وسَعْياً للوصول إلى الله.
وهناك أيضاً بواعثُ سياسيَّةٌ ساهَمَتْ في تحضيره لتركه بَغْدَادَ، حيثُ كانت الأحوالُ السياسيّة مضطربَةً، بعد قَتْلِ نظَامِ المُلْكِ الوزيرِ السَّلْجُوقِيِّ سنةٍ خمْسٍ وثمانينَ، وأربعمائة هجرية، وموتِ السُّلْطَان ملك شاه ابْنِ أَلَّب أرسلان في نفْسِ العامِ أيضاً، ومَوْتَ الخليفة المُقْتَدى بأمْرِ اللَّه عام سبعةٍ وثمانين وأربعمائة.
ولقد تكلَّم الإمامُ الغَزَّالِيُّ - رحمه الله - عن خروجه من بغداد، وسَبّب رحيله، شارحاً كلَّ ذلك في إسهَابٍ طويلٍ في كتابِهِ المُنْقِذِ مِنَ الضَّلال، وواصفاً تجربتَهُ الدينيّة الرائِعة للوُصُولِ إلى الحقِّ، واليقينٍ، والخروج من الماديَّة المظلمَةِ - التي وصفها بأنَّها بحرٌ عميقٌ غَرِقَ فيه الأكْثَرُونَ - إلى الصَّفاء الأَبَدِيِّ. يقول في كتابه المنقذ من الضَّلَال:
ولم أزِلٍ في عُنْقُوَان شبابي منذ رَاهَقْتُ البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أَنَافَ السِّرُّ على الخمسين؛ أَقتحم لَُّةَ هذا البَحْرِ العميق، وأخوض غَمْرَتَهُ خَوْضَ الجَسُور، لا خَوْضَ الجَبَانِ الحَذُور، وأتوغَّل في كل مُظْلِمَةٍ، وأتهجَّم على كل مُشْكِلَةٍ، وأقتحم كل وَرْطَةٍ، وأتفخَّص عقيدةَ كلِّ فرقة، وأستكشف أسرارَ مذْهَب كل طائفة؛ لأميّز بين مُحِقٍّ ومُبْطِلٍ، ومستنٌّ ومبتدعٍ، لا أغادر بَاطِنِيّاً إلا وأحبُّ أن أَطَّلِعَ على بِطَانَتِهِ، ولا ظَاهِرِيّاً إلا وأريدُ أن أَعلَمَ حَاصِلَ ظِهَارَتِهِ، ولاَ فَلْسَفِيّاً إلا وأقصدُ الوقُوفَ على كُنْهِ فَلْسَفَتِهِ، ولا مُتَكلِّماً إلا وأجتهدُ في الاطّلاع على غاية كَلاَمِهِ ومُجَادلتِهِ، ولا صُوفِيّاً إلا وأَخْرِصُ على العُثُور على سِرِّ صُوفَّتِهِ، ولا متعبِّداً إلا وأَتَرصَدُ ما يرجعُ إلَيْه حاصلُ عبادِهِ، ولا
15
زِنْدِيقاً معطّلاً إلا وأتجسَّسُ وراءَهُ للتبُّه لأسبابِ جراءته؛ في تعطيلِهِ وَزْنَدَقَتِهِ، وقد كان التعُّش إلى دَرْكِ حقائق الأمور دَأَبِى ودَيْدَنِى من أول أمري، وَرَيْعَانِ عمري؛ غريزة، وفطرة من الله - تعالى - وُضِعَتَا فِي جِبِلَّتِى، لا بأختباري وحيلَتي؛ حتى أنحلَّتْ عني رَابِطَةُ التقليدِ، وانكسرتْ عليَّ العقائدُ الموروثةُ علَىْ قُرْب عَهْدٍ بسن الصّبًا؛ إذ رأيتُ صبيانَ النَّصَارَىْ لا يكونُ لهم نُشُوءٌ إلا على التنصُّر، وصبيانَ اليهودِ لا نَشُوءَ لهم إلا على التهؤُّد، وصبيانَ المسلمِينَ لا نُشُوءَ لهم إلا على الإسْلامِ، وسمعتُ الحديثَ المَزْوِيَّ عن سيِّدنا رسول الله - صلَّى اللَّه علَيْه وسلَّم -؛ حيثُ قال: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ وَيَمُجِّسَانِهِ)).
فتحرَّك باطِنِي إِلَىْ حقيقةِ الفِطْرةِ الأصليَّة، وحقيقةِ العقائدِ العارِضةِ، بتقليد الوالِدِيْنَ والأستاذين، والتَّميُّز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفي تميُّز الحقِّ منها على الباطل، ثم يظهر ما خامره من الشَّكِّ، كما هو ظاهر في قوله.
فإذا أُورِدْتَ تلك الحالةَ، تيقَّنْتَ أن جميعَ ما توهَّمْتَ بعقلكَ خيالاتٌ لا أصل لها، ولعلَّ تلك الحالة ما يدَّعيها الصُّوفيَّة؛ أنها حالتهم؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي إذا غاصُوا في أنفسهم، وغابوا عن حواسِهِمْ أحوالاً لا توافِقُ هذه المَعْقُولاتِ، ولعلَّ تلك الحالة هي الموتُ؛ إذْ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم: ((النَّاسُ نِيَامٌ، فَإِذَا مَاتُوا أَنْتَبَهُوا))(١)، فلعلَّ الحياة الدنيا نَوْمٌ، بالإضافةِ إلى الآخرة، فإذا ماتَ، ظهرَتْ له الأشْيَاءُ على خلافِ ما شاهَدَهُ الآن، ويقالُ له عند ذلك: ((فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ، فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ)) [ق: ٢١].
فلمَّا خَطَرتْ لي هذه الخواطِرُ، وأنقدحَتْ في النّفْسِ حاوَلْتُ لذلك علاجاً، فلم يتيسّر، إذ لم يمكنْ دفْعُه إلاَّ بالدليلِ، ولم يمكنْ نَصْبُ دليلٍ إلا من تركيبِ العلومِ الأوليَّة، فإذا لم تكنْ مسلَّمة، لم يمكن ترتيبُ الدليلِ، فأعضَلَ هذا الداءُ، ودَامَ قريباً من شهْرَيْنِ أنا فيهما على مذْهَبِ السَّفَسَطَةِ؛ بحكم الحالِ، لا بحكْمِ المِنْطِقِ والمَقَال.
ولمَّا أردتُ أن أنخرطَ في سلْكِ القومِ، وأشربَ من شرابهم، نظرتُ إلى نفْسي فرأيتُ كثرةَ حُجُبِهَا، ولم يكن لي شيخٌ إذ ذاك، فدخلْتُ الخَلْوَةً، واشتغلتُ بالرياضَةِ والمُجَاهَدَةِ أربعين يوماً، فأنقْدَعَ لي من العلْمِ ما تأكَّد عنْدي أصفَى وأرقَّ مما كنتُ أعرِفُهُ، فنظرْتُ فيه، فإذا فيه قوةٌ فقهيَّة، فرجعْتُ إلى الخَلوَة، واشتغلْتُ بالرياضةِ والمجاهدَةِ أربعينَ يوماً، فأنقدحَ لي علْمٌ آخر أرقُ وأصفَى ممَّا حصل عنْدي أوّلاً، ففرحْتُ به، ثم نظرتُ فيه، فإذا فيه قُوَّةٌ نظريَّة، فرجعْتُ إلى الخَلْوة ثانياً أربَعِينَ يوماً، فانقدحَ لي علْمٌ آخر، هو أرقُ وأصفَى، فنظرتُ فيه؛ فإذا فيه قوةٌ ممزوجةٌ بين علْمٍ الظاهرِ، وعلْمِ الباطِنِ، ولم أَلْحَقْ بأهْلِ العلومِ اللَّدُنَّة، فعلمْتُ أن الكتابة على المَحْوِ ليستْ كالكتابةِ مع الصفاءِ الأوَّلِ، والطهارةِ الأولَى، ولم أتميَّزَ عن النُّظَّار إلا ببعْضِ أمورٍ.
ويتمم حكايتَهُ في المنْقِذِ بقوله: (أقبلْتُ بهمَّتي علَى طريق الصوفيّة، وعلمتُ أنَّ طريقَتَهُمْ إنما
(١) قال الحافظ العراقي في ((تخريج الإحياء)) (٢٠/٤) لم أجده مرفوعاً وإنما يعزى إلى علي بن أبي طالب.
16
تتمُّ بعلْمٍ وعملٍ، وكان حاصلُ عملهم قطع عقباتِ النّفْسِ، والثَّتُّه عن أخلاقِهَا المذمومَةِ، وصفاتِها الخبيئةِ، فعلمْتُ يقيناً أنهم أرباب أحوالٍ، لا أصحابُ أقوالٍ، وأن ما يمكنُ تحصيله بطريقِ العلْمِ فقد حصَّلته، ولم يبقَ إلا مالا سبيلَ إِلَيْه بالسمَاعِ والتَعْلِيمِ، بلْ بالذَّوْقِ والسُّلُوك، وكان قد حصل مَعِي من العلومِ الشرعيَّةِ والعقليَّة إيمانٌ يقينيٌّ باللَّه تَعالَى وبالنُّوَّة، وباليومِ الآخِرِ، فهذه الأصولُ الثلاثَةُ من الإيمانِ، كانت قد رَسَخَتْ في نفسي لا بدليلٍ معيَّن محرَّر، بل بأسبابٍ، وقرائنَ، وتَجَارِبَ، لا تدخلُ تحت الحَضْرِ تفاصيلُهَا.
وكان قد ظهر عندي؛ أنه لا مَطْمَعَ لي في سعادةِ الآخرِة إلا بالتقْوَى، وكَفِّ النّفْسِ عن الهوَىُ، وأنَّ رأْسَ ذلك كلِّه قَطْعُ علاقةِ القَلْب عن الدنيا بالتجافِي عن دارِ الغُرُور، والإنابةِ إلَى دار الخلود، والإقبالِ بكُنْهِ السُّهْمَةِ على اللَّه تعالَىُ، وأن ذلك لا يتمُّ إلا بالإعراضِ عن الجَاهِ، والحَالِ، والهَرَبِ، عن الشواغلِ والعلائقٍ، ثم لاحَظْتُ أحوالي، فإذا أنا مُنْغَمِسٌ في العَلَائِقِ، وفد أَحْدَقَتْ بي من الجوانِب، ولاحظْتُ أعمالي، وأحسنُهَا التدريسُ والتعْلِيمُ، فإذا أنا فيها مُقْبِلٌ على علومٍ غير مُهِمَّةٍ، ولا نافعةٍ في طريقِ الآخرة.
ثم تفكّرْتُ في نيَّتي في التدْرِيس، فإذا هي غَيْرُ خَالِصَةٍ لوجْه اللَّه تعالَى، بل باعثها ومحرِّكُها طَلَبُ الجَاهِ، وانتشارُ الصِّيتِ.
فتيقَّنت أني علَى شفا جُرْفٍ هَارٍ، وأنى قد أشْرَفْتُ على النَّار، إن لم أشْتَغِلْ بتلافي الأحوال، فلم أزلْ أتفكّرُ فيه مدَّة، وأنا بعْدُ على مقامِ الاختيارِ أصمِّمُ العَزْم على الخروج من ((بَغْدَاد))، ومفارقةٍ تلك الأحوالِ يوماً، وأحلُّ العزْمَ يوماً، وأقَدِّمُ فيه رِجْلاً، وأوخِّر عنه أخرَى، لا تَصْدُقُ لي رغبةٌ في طلب الآخرة بُكْرَةً، إلاَّ وتَحْمِلُ عليها، جُنْدُ الشِهْوَةِ حَمْلَةً فَتَفْتُرْهَا عَشِيَّةً، فَصَارَتْ شهواتُ الدنْيَا تُجَاذِبُنِي سَلَاَسِلُهَا، إلى المقام، ومُنَادِي الإيمانِ ينادي: الرَّحِيلَ، الرَّحِيلَ فلم يبقَ من العُمْرِ إلا القليلُ، وبيْن يَدْيكَ السفر الطويلُ، وجميع ما أنت فيه من العلْمِ والعملِ رِيَاءٌ وتَخْبِيل.
فإنْ لم تستعدَّ الآن للآخرةِ، فمتَى تستعدُّ؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائقَ، فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعثُ الذَّاعيَةُ، وينجزم العَزْمُ على الهرَبِ والفِرَار، ثَم يعودُ الشيطانُ، ويقول: هذه حالةٌ عارضةٌ، إيّاك أن تطاوعها، فإنَّها سريعةُ الزوال، فإن أذعنْتَ لها، وتركْتَ هذا الجَاه العريضَ، والشأنَ المنظومَ الخاليَ من التكرير والتنقيص، والأمرَ المسلَّمَ الصافِيَ عن منازعة الخصومِ، ربَّما اٌلْتَفَتَتْ إلَيْه نفسُك، ولا يتيسّر لك المُعَاوَدَةُ.
فلم أزل أتردّدُ بين تَجَاذُبِ شهواتِ الدنيا، ودواعي الآخرةِ قريباً من سنَّة أشهرٍ، أولها رجَبٌ سنةً ثمانٍ وثمانينَ وأربَعِمِائَةٍ، وفي هذا الشهْرِ جاوَزَ الأمرُ حَدَّ الاختيارٍ إلى الاضطرارِ، إذْ أقفل اللَّهُ عَلىَّ لسانِي حتَّى أعتقَلَ عن التدريسِ، فكنت أجاهدُ نفسي أن أدَرِّس يوماً واحداً تطْييباً للقُلُوب المختلفةِ إلىّ، فكان لاَ ينْطِقُ لساني بكلمَةٍ واحدةٍ، ولا أستطيعُها ألبتَّة، ثم أوْرَثَتْ هذه العُقْلَةُ في اللسانِ حُزْناً في القَلْبِ، بِطَلَتْ معه قُوَّةُ الهَضْمِ، ومَرَاءَةُ الطعامِ والشرابِ، فكان لا يَنْسَاغُ لي ثَرِيدٌ، ولا يَنْهَضِمُ لي
17
لُقْمَةٌ، وتعدَّى إلى ضعف القُوَى؛ حتى قَطَع الأطبّاءِ طَمَعَهُمْ من العلاج، وقالوا: هذا أمْرٌ نزل بالقلب، ومنه سَرَى إلى المِزَاجِ، فلا سبيلَ إلَيْهِ بالعلاج، إلا بأن يتروَّحَ السِّرُّ عن الهَمِّ المُلِمِّ. ثم لما أحسستُ بِعَجْزِي، وسقَطَ بالكَلِيَّة اختياري، التجأتُ إلى الله - تعالى - الْتِجَاءَ المضطَرِّ الذي لا حِيلَةَ له، فأجابَني الذي يجيب المضطَرَّ؛ إذا دعاه، وسَهَّلَ عَلَى قلبى الإغْرَاضَ عن الجاهِ، والمالِ، والأولادِ، والأصحاب، وأظهرتُ عزْمَ الخروج إلى ((مَكّة))، وأنا أدبّر في نفْسِي سفَر الشَّام؛ حذراً من أن يَطَّلِعَ الخليفَةُ، وجملةُ الأصحابِ على عَزْمَي في المُقَامِ بِالشَّام.
فتلطَّتُ بلَطَائفِ الحَيَلِ في الخروجِ من ((بَغْدَاد)) على عَزْمٍ ألاَّ أعاودَهَا أبداً، واستهدفْتُ لأثمَّة أهل ((العراقِ)) كافَّة، إذْ لم يَكُنْ فيهم من يجوز أن يكونُ الإعراضُ عمَّا كنت فيه سبباً دينيّاً، إذ ظَنُّوا أن ذلك هو المنْصِبُ الأعلَى في الدِّين، وكان ذلك مَبْلَغَهُمْ من العِلْمِ.
ثم آرْتَبَكَ الناسُ في الاستثباطَاتِ، وظَنَّ مَنْ بَعُدَ ((العراق))؛ أن ذلك كان لاستشعار من جهة الوُّلاَةِ، وأمَّا من قَرُبَ من الوُّلاَةِ، فكان يشاهد إلحاحَهُم في التعلُّقِ بي، والانكبابِ علَيّ، وإعراضِي عنهم، وعن الالتفاتِ إلَى قولهم، فيقولُونَ: هذا أَمْرٌ سماوىّ، وليس له سَبَبٌ إلا عَيْنٌ أصابت أهْلَ الإسْلام، وزُمْرَة العِلْمِ.
ففارقْتُ ((بَغْدَاد)) وفَرَّقْتُ ما كان معي من المالِ، ولم أدَّخِرْ إلا قَدْرَ الكَفَافِ، وقوتَ الأطفالِ؛ ترخُّصاً بأن مَالَ ((العراق)) مرصدٌ للمصالِحِ، لكونِهِ وَقفاً على المسلمين، فلم أرَ في العالَمِ مالاً يأخذه العالِمُ لعيالِهِ أصلَحَ منه)) وهكذا رحل الإمَامُ الغزّاليُّ من ((بَغْدَاد))؛ كما وصفها بنفسه من كتابه العظيم ((المُنْقِذِ من الضَّلال))، وانتقلَ بعد ذلك من مكانٍ إلَى آخر، لا يدفَعُه إلا البَحْثُ عن الحقيقة واليقين، والوصول إلى اللَّه الذي كان غايَتَهُ الأُولَى، وكم جاهَدَ - رحمه الله - فيْ سَبِيلِ تحقيقِ هذه الغايَةِ.
رِحْلَتُهُ إِلَى «دمَشْقَ»:
رحلَ الغزَّالِيُّ إلى الشام وأقام بها سنَتَيْنٍ، ولم يكن له همّ سوَى العبادة والتأمُّل والخَلْوَةِ وتَصْفِيَة القلبِ بذكْرِ اللَّهِ - عز وجل -، والرياضةِ والمجاهدةِ.
وكان يعتكفُ في مسْجِد ((دِمَشْق»، ويصعد منَارَةَ المَسْجِد طولَ النَّهار، ويغلق بابَها على نَفْسِهِ، وقد سُمِّيَتْ تلك المنارةُ فيما بعد بِالمَنَارَةِ الغَزَّالِيَّةِ.
وحكى السُّبْكِيُّ في ((طبقات الشَّافِعِيَّةِ)) أن الغزّاليَّ كان يكثر الجلوسَ في زاوية الشَّيْخِ نَصْرٍ المَقْدِسي، بالجامع الأموي المعروفة اليَوْم بالغَزَّلِيَّة نسْبةً إليه، وكانتْ تُعْرَفُ قبله بالشَّيْخِ نَصْرٍ المَقْدِسِيِّ.
ويُرْوَى أيضاً أنَّ الغَزَّالِيَّ جلَسَ، يوماً في صَحْن الجامع الأمويِّ، وجماعةٌ من المفتينَ يتمشُّون في الصَّحْن، وإذا بقَرَوِيٍّ أتاهم مستفتياً، ولم يَرُدُّوا عليه جواباً، والغَزَّاليُّ يتأمَّل، فلما رأى الغزّاليُّ أنه لا أحَدَ عنده جوابُهُ، ويعزُّ عليه عَدَمُ إرشادِهِ، دعاه، وأجابه.
18
فأخذ القَرَوِيُّ يَهْزَأ به، ويقولُ: إنَّ كبار المفْتِينَ ما أجابُوني وهذا فقيرٌ عامِّيّ، كيف يجيبُنِي؟ وأولئكَ المفتُونَ ينِظِرونَهُ.
فلما فَرَغَ من كلامه معَهُ، دَعَوُا القَرَويَّ، وسألوه: ما الذي حدَّثَكَ به هذا العامِّيُّ؟
فشرَحَ لهُمُ الحال.
فَجَاءُوا إِلَيْهِ، وتعرَّفوا به، واحْتَاطُوا به، وسألُوه أن يعقد لهم مجْلِساً، فوعَدَهُمْ إلَى ثاني يَوْمٍ، وسافر من ليلته، رضي الله عنه.
رِحْلَتُهُ إلَىْ بَيْتِ المَقْدِس وَمَكَّة:
ارتحل الغَزَّاليُّ بعد ذلك إلَى بَيْتِ المَقْدِس؛ حيث كان كثيرَ الاعتكافِ هناك، وبخاصَّة في مسْجد قُبَّة الصَّخْرَةِ، وزار قَبْرَ إبراهيمَ الخليل - عليه السلام -، ثم ارتحل إلَى مَّة؛ لأداء فريضةِ الحَجِّ.
رحْلَتُهُ إِلَى «مِصْرَ»:
واستمرَّ الغَزَّالِيُّ - رحمه الله - يجولُ في البُلْدان، ويطُوفُ على المساجد يعتكفُ فيها، ويأوى إلى الْقِفَارِ، يروِّض نفْسَه، ويجاهِدُها بعزيمةٍ صادِقَةٍ، ويكلِّفها بأنواع القُرَب والطَّاعَاتِ.
أما رخلتُه إلى ((مِصْر))، فقد ذكرها كثير مِنْ كُتُب التراجِمِ والتارِيخِ، غير أن الغَّالِيَّ لم يُشِرْ إلى هذه الرحْلَة، ولعلَّه قد أُنْسِيَ الإشارة إلَيْها، أو أنَّه تعمَّد عَدَم الإشَارَةِ إلى ذلك، لكراهيته الحُكْمَ الفاطِمِيَّ الذي كانَتْ تحته مصر في ذلك الوقْتِ، حيث إن كُتُبُهَ لم تُنْتَشَر فيها، لمخالفتها عقيدةَ الدَّوْلَة، إذْ مِنَ المعلومِ أنَّه كان أشْعَرَيّاً أميناً لِمَذْهَبِهِ، حَرِيصاً عَلَيْهِ.
عَوْدَةُ الإِمَامِ الغَزَّاليِّ إلَىْ وَطَنِهِ ((طُوسَ)):
ثم رجَع الإمامُ الغزّاليُّ إلى مَسْقطِ رأسِهِ ((طُوس))، بعدأن رحل من الإسكندرية إلى دمَشْقَ، ثم نَيْسَابُور، ثم بَغْدَاد، وانتهَى به التَّرْحَالُ بعد ذلك إلَى أن استقَرَّ في وطنه الأوَّل ((طُوس)).
يقول الشُّبْكيُّ في ((طبقاته)): ((ثُمَّ رجع إلى مدينة ((طُوس))، واتخذ إلَى جانِبِ دَارِهِ مدرسةً للفقهاء، وخانِقَاه للصوفيَّة، ووزّع أوقاتَهُ في وظائفَ؛ مِنْ خَتْم القرآنِ، ومجالسَةِ أربابِ القُلُوب، والتذْرِيسِ لطلَّبَةِ العلْمِ، وإدامَةِ الصَّلاة والصِّيَامِ، وسائرِ العبادات .. ))
ويقولُ عبْدُ الغَفَّارِ الفَارِسيُّ: ((وكانَتْ خاتمةُ أمره إقبالَهُ على حديث المصطفَى - صلَّى اللَّه عَليْه وسلَّم - ومجالَسَةِ أهْلِهِ، ومطالعَةِ الصَّحِيحَيْن: البخاريِّ ومُسْلِمٍ، اللَّذَيْنِ هما حُجَّةُ الإسلامِ)).
وكان سَبَبُ اهتمام الغَزَّالِيِّ - رحمه الله - بالحديثِ النبويِّ الشريفِ في آخر حياتِهِ بعْد استقْرَارِهِ في ((طُوس)) - هو أنَّهُ لم يتوفّر على دراسَةِ الحديثِ مِنْ ذِي قَبَلُ.
يقولُ ابنُ النَّجَّار: ولم يكنْ له إسنادٌ، ولا طَلَبَ شيئاً من الحديث، وَلم أرَ لَهُ إلَّ حديثاً
19
واحِداً .... وتحقيقاً لهذا الغرض، فإنَّنا نجدُ الإمامَ الغزّاليَّ أَنَّصَلَ بأبي الفِتْيَانِ عُمَرَ بْنِ أبِي الحَسَنِ الرَّوَّاسِ الطُّوسِيِّ، وقرأ عليه صحيح البخاريِّ، وصحيحَ مُسْلِمٍ. وذكر الحافظُ ابْنُ عَسَاكِرِ؛ أنَّه سمع ((صحيحَ البخاريِّ) من أبي سهْلٍ محمَّدِ بْنِ عُبيدِ اللَّهِ الحَفْصِيِّ.
وقد ذكَر عبْدُ الغَفَارِ الفَارِسيُّ مسموعاتٍ له سنَسُوقُ بعضها: يقول عبد الغَفَّار: ((وقد سَمِعْتُ أنه سمع من سنن أبي داود السِّجِسْتَانِيِّ عن الحاكمِ أبي الفَتْحِ الحالِمِيِّ الطَّوسيِّ، وما عثرت على سماعه.
وسمع من الأحاديث المتفرِّقة اتِّفاقاً مع الفقهاء.
فممَّا عَثَرْتُ عليه ما سَمِعَهُ من كتاب مَوْلِدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم) من تأليف أبي بكرٍ أحْمَدَ ابْنِ عمرو بن أبي عاصِمِ الشَّيْبَانِيِّ، رواية الشيخ أبي بكرٍ محمَّدِ بنِ الحارِثِ الأصْبَهانِيِّ الإمام، عن أبي محمدٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ محمَّدِ بنِ جعفر بن حَيَّانَ، عن المُصَنَّف.
وقد سمعه الإمامُ الغَزَّالِيُّ، من الشيخ أبي عبْدِ الله محمَّدِ بْنِ أحْمَدَ الخُوَارِيِّ، خُوَار طَبَران - رحمه الله - مع ابْنَيْهِ الشيخيْنِ: عبدِ الجَبَّارِ، وعبدِ الحَمِيدِ، وجماعة من الفقهاء.
ومِنْ ذلك ما قال: أخبرنا الشَّيْخُ أبو عبدِ الله محمَّدُ بْنُ أحمدَ الخُوَارِيُّ، أخبرنا أبو بكرٍ ابنُ الحارِثِ الأصْبَهانِيُّ، أخبرنا أبو محمد بن حيّان أخبرنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، حدثنا إبراهيمُ بْنُ المنذِرِ الْحِزَاميّ، حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابتٍ، حدثنا الزّبَيْرِ بْنُ مِوسَى، عن أبي الحُوَيْرِثِ، قال: سمعْتُ عَبْدَ الملِكِ بْنِ مَرْوَانَ سأَلَ قَبَاثَ ابْنَ أَشْيَمَ الْكِنَانِيَّ: أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمِ (١)؟
فقال: رَسُولُ الله - صلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّم - أكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا أَسَنُ مِنْهُ، وُلِدَ رسُولُ الله - صلَّى الله عَلَيْهِ وسلَّم - عَامَ الْفِيلِ، وتمام الكتابِ في جُزْأين مسموع له.
انتهى ما ذكره عبد الغافر الفَارِسيُّ.
وفي آخر حياة الغزّاليِّ - رضي الله عنه - بـ ((طُوس)) ضعفت صحَّتُهُ، وَأُنْهِكَتْ قُوَاهُ، كما يحدِّثُنا المؤرِّخُونَ بذلك، ولعلَّ السَّبَبَ هو كثرةُ جولاتِهِ في البلاد، وتطوافه في البقَّاعِ؛ إذْ إنه كان سَائِحاً أمِيناً، تَجَشَّمَ مشاقَّ السَّفَرِ، ووَغْثَاءَ الطَّريق، وألامَ الوَحْدَة إلَى أن انتقل إلَى رَحْمَةِ الله تعالَى، طيِّب الثَّنَاء، أعلَى منزلةً مِنْ نَجْمِ السماءِ، لا يكرهُهُ إلا حاسدٌ أو زنديقٌ، ولا يسومُهُ لسُوءٍ إلا حائدٌ عن سواءِ الطريقِ.
(١) أخرجه الترمذي (٥٥٠/٥) كتاب المناقب رقم (٣٦١٩) ولكن فيه أن السائل هو عثمان لا عبد الملك بن مروان وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
20