اللآلي المرجانية في شرح القلائد البرهانية
اللآلي المرجانية في شرح القلائد البرهانية
(١)
اللآلئ المرجانية
في
شرح القلائد البرهانية
اللآلئ المرجانية في شرح القلائد البرهانية
المجلد الأول
لراجي عفو ربه الرحيم
علي بن ناشب يحيى الحلوي الشراحيلي
1
اللآلئ المرجانية
في شرح القلائد البرهانية
2
3
بسم الله الرحمن الرحيم
6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ أما بعد:
فقد طلب مني بعض طلاب العلم الفضلاء مدارسة متن القلائد البرهانية في علم الفرائض وألحوا في ذلك، وقد حاولت مراراً الاعتذار منهم فلم يجدِ الاعتذار، فأقدمت على تلبية طلبهم هذا بعد تردد طويل؛ لكثرة مشاغلي الوظيفية وارتباطاتي الأسرية، إلى جانب الدروس والدورات والبرامج المجدولة القائم بأدائها آن ذاك، فمنها ما هو مرتبط بالمكتب التعاوني بمحافظة أحد المسارحة كالبرنامج التعليمي للقرى والهجر بجامع قرية الحلحلة، وبجامع زيد بن ثابت بقرية الجعدية إضافة إلى الدورات الأولية التي ينظمها المكتب، والمحاضرات بين الفينة والأخرى، ومن هذه الارتباطات أيضاً ما هو مرتبط بمركز التنمية البشرية بمنطقة جازان؛ كبرنامج المعلم المقيم على مدى خمسة [٥] أيام في الأسبوع؛ من السبت إلى الأربعاء من بعد صلاة المغرب في جامع زيد بن ثابت، فلم يبقَ لي آن ذاك إلا يوم الجمعة ورغم ارتباطي فيه بالإمامة والخطابة فقد وافقت على مدارسة هذا المتن، على أن يكون من بعد صلاة العصر؛ حتى لا يتعارض مع الدروس المجدولة، ولما تجمعت لدي بعض الملزمات الورقية من شرحي لهذا النظم رأيت جمعها في كتاب؛ لحفظها من التلف، وصونها من العبث، وتسهيلاً لمطالعتها، وقد أسميته (اللآلئ المرجانية في شرح القلائد البرهانية) وقد جردته من الحواشي إلا ما جد من المراجع فربما ذكرته في ثنايا الشرح ، كما
5
جردته من تراجم الأعلام لوجودها مع المراجع في كتابيّ: (الوسيط بين الاختصار والتبسيط في فقه الفرائض وحساب المواريث) و(سنا البرق العارض في شرح النور الفائض) إلا ترجمة الناظم ومن صرح باسمه في ثنايا نظمه من الأعلام، سائلاً من العليم الخبير جلَّ في علاه التوفيق والسداد، والهدى والرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، فعليه اتكلت وبه استعنت ولا حول لي ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فهو حسبي ونعم الوكيل.
الشارح
6
قال الناظم رحمه الله تعالى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]
ابتدأ الناظم بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز، واتباعاً للنبي الكريم عليه الصلاة وأتم التسليم حيث كان يكتب (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) في أول رسائله إلى الناس وكان يبدأ أحاديثه مع أصحابه ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقد كان رسول الله ﷺ يكتب قبل البعثة كما كانت تكتب قريش باسمك اللهم حتى نزل قوله تعالى ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فكتب ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، حتى نزل قوله تعالى ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أو ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ فكتب ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ﴾، حتى نزل قوله تعالى ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ فكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وعملاً بحديث "كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فهو أقطع"، حسنه ابن الصلاح، وفي رواية "أبتر"، وفي رواية "أجدم"، قال الألباني رحمه الله تعالى وجملة القول أن الحديث ضعيف لاضطراب الرواة فيه عن الزهري والصحيح عنه مرسلاً.
والباء في ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ حرف جر أصلي و(اسم) مجرور بها والجار والمجرور وما أضيف إليه متعلق بمحذوف مقدر يجب أن يكون مؤخراً تقديره أستعين بسم الله الرحمن الرحيم في نظمي، [بسم] الاسم في اللغة هو المسمى، وفي الاصطلاح: كلمة دلت على معنى في نفسها ولم تقترن بزمان.
ولفظ الجلالة [الله] هو عَلَمٌ على الذات المقدسة وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء، ومعناه: ذو الألوهية والعبودية على الخلق أجمعين في عالم السماوات والأرضين وما بينهما وهو الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلا ولا يسمى به غير الرب سبحانه وتعالى ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ اسمان لله تعالى يتضمنان الرحمة، والرحمة صفة من صفات الله تعالى تليق بجلاله وعزيز سلطانه ليست كرحمة المخلوق وإنما هي كسائر صفاته تعالى نصفه بها كما وصف بها نفسه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فالرحمن رحمة عامة لجميع المخلوقات حتى الكفار والبهائم والدواب إنما تعيش برحمة الله حتى أن البهيمة ترفع رجلها عن ولدها رحمة به.
والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين كما قال الله تعالى ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾ وقال ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ولم يجيء قط رحمن بهم.
7
قال الناظم رحمه الله تعالى:
ترجمة الناظم
محمد البرهاني: هو الشيخ محمد بن حجازي بن محمد الحلبي الشافعي المعروف بابن برهان ولد سنة [١١٤١] هـ فقيه أصولي فرضي نحوي صرفي جدلي ناظم، اشتغل بالأخذ والقراءة، فقرأ على أبي الثناء محمود بن شعبان الباذستاني الحنفي وأبي عبد الله محمد بن كمال الدين الكبيسي، ولازم تاج الدين محمد بن طه العقاد وبه تخرج في أكثر العلوم، وسمع منه أكثر صحيح البخاري وشيئاً من صحيح مسلم وغيرها من كتب الحديث، وأخذ القراءات من طريق الشاطبية وانتفع به، وأخذها أيضا عن أبي عبد اللطيف محمد بن مصطفى البصري شيخ القراء بحلب وأبي محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المصري، وقرأ على أبي السعادات طه بن مهنا الجبريني شيئاً من أصول الحديث وشيئا من صحيح البخاري وحضره في دروسه الفقهية، وقرأ المنطق وأخذه عن الشهاب أحمد بن إبراهيم الكردي الشافعي مدرس الأحمدية بحلب، وقرأ المختصر في المعاني والبيان على أبي الحسن علي بن إبراهيم العطار وألفية الأصول للسيوطي وشرح السراجية، وقرأ على أبي محمد عبد القادر الديري المنهاج بطرفيه وشرح المنهج للقاضي زكريا، وقرأ الكثير على الأجلاء قال المحقق: من جملتهم المحدث الشيخ إسماعيل ابن الشيخ محمد المواهبي الحلبي، فقد رأيت إجازة منه للمترجم بخطه بجميع مروياته محررة سنة ١٢٠٥ وذكر فيها أنه قرأ عليه كثيراً ولازمه في دروسه الخاصة والعامة وسمع منهم، وأتقن وفضل ومهر ونبل ودرس وأفاد وأقرأ جماعة كثيرين وأخذوا عنه، وما منهم إلا من انتفع به واستفاد.
وكان من العلماء المشهورين والفضلاء المذكورين. وكان يحترف ويأكل من شغله ولا يقبل من أحد إلا ما دعت إليه الضرورة، يغلب على حاله الزهد والعفاف والرضا برزق الكفاف. وكان قليل الاختلاط بغيره، لا يألف إلا ما يفوز منه بخيره، كثير العبادة والتقوى، شديد الإقبال على عالم السر والنجوى، دائم التفكر في الله، لا يشغله عنه سواه، مات سنة خمس ومائتين وألف (١٢٠٥ هـ) انتهى (من كتاب حلية البشر).
قال: محمد راغب الطباخ: وله من المؤلفات منظومة في علم الفرائض سماها ((العقود البرهانية)) شرحها الشيخ عبد الله الميقاتي
8
المتوفى سنة ١٢٢٣ هـ وشيخ مشايخنا العلامة أحمد الترمانيني المتوفى سنة ١٢٩٣ هـ في أربع كراريس، وشرحها شيخنا الفاضل الشيخ كامل الهبراوي شرحاً حسناً أفاد فيه وأجاد، وقد قرظت هذا الشرح المفيد في جملة من قرظه. انتهى من كتاب (إعلام النبلاء).
قلت وشرحها الشيخ العلامة محمد بن علي بن سلوم النجدي الزبيري أسماه الفواكه الشهية شرح المنظومة البرهانية، واختصر هذا الشرح في مختصر سماه وسيلة الراغبين وبغية المستفيدين، كما شرحها الشيخ العلامة الحبر الفهامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله رحمة الأبرار - أسماه شرح نظم القلائد البرهانية.
قوله: [حمداً لربي] الحمد في اللغة: الثناء باللسان على الجميل الاختياري على وجه التعظيم والتبجيل.
وفي الاصطلاح: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد أو عزته، و(ال) في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما عليه الجمهور، ففي الحديث (اللهم لك الحمد كله)، فالمراد بالحمد كلمة ثناء أثنى الله تعالى بها على نفسه، وعلّم عباده ليثنوا بها عليه فقال ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وغيرها من الآيات القرآنية التي علَّم الله تعالى فيها عباده ليثنوا عليه ثناءً بألسنتهم مستمداً من الإيمان في قلوبهم، قال العلماء رحمهم الله تعالى يستحب البداءة بالحمد لله لكل مصنف ودارس ومدرس وخطيب وخاطب ومزوج ومتزوج وبين يدي سائر الأمور المهمة.
قوله: [لربي] الرب هو الله جلا جلاله رب كل شيء ومليكه، وقال بعض العلماء هو اسم الله الأعظم لكثرة دعوة الداعين به وتأمل ذلك في القرآن الكريم، ولا يقال الرب في غير الله إلا بالإضافة وكل من ملك شيئاً فهو ربه فيقال رب الدابة ورب الدار، وهو يطلق في اللغة على المالك والسيد والمدبر والمربي والقيم والمنعم وقد نظم بعضهم المعاني التي يطلق عليها الرب فقال:
قريب ومحيط ومالك ومدبر مرب كثير الخير والمولى المنعم
وخالقنا المعبود جابر كسرنا ومصلحنا والصاحب الثابت القدم
وجامعنا والسيد أحفظ فهذه معان أتت للرب فادع لمن نظم.
قوله: [منزل القرآن] الإنزال الإهواء بالأمر من علو إلى سفل ذكره الحرالي وقال غيره نقل الشيء من علو إلى سفل.
[القرآن] من القراءة والتلاوة، وسمي قرآن لجمع وضم بعضه إلى بعض، وحسبك أنه كلام الله جل في علاه المعجز، نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله الكريم محمد بن عبد الله عليه أفضل
9
الصلاة وأتم التسليم، المحفوظ في الصدور المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر المتعبد بتلاوته المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس ﴿كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾، ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾، ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُ الْأَلْبَابِ﴾، ﴿كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ﴾، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً، بلسان عربي مبين ألفاظه ومعانيه، ﴿قُرْآنًاً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾، ﴿تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ﴿هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، هدىً وبشرى ونور وشفاء ورحمة للمؤمنين، مهيمناً، وتبياناً لكل شيء، يهدي للتي هي أقوم، صرّف وضرب الله فيه للناس من كل مثل، يسره الله تعالى للذكر ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾، نزل في ليلة القدر من شهر رمضان إلى السماء الدنيا كاملاً فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئاً أنزله منه حتى جمعه في ثلاثة وعشرين سنة ﴿وَقُرْآنَاً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأْهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً﴾، تحدى الله به ملوك الفصاحة وأرباب البلاغة بل تحدى به كل الثقلين فقال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾.
ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال ﴿أَمْ يَقُولُونَ اقْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
ثم تحداهم إلى أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ اقْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ بل وصرح لهم بعجزهم الأبدي عن ذلك فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فعجزوا وأخبرهم أنهم عاجزون عن معارض، وقال جل وعز ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾، ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾، نزل على سبعة أحرف ففي صحيح البخاري وغيره قال رسول الله صلي الله عليه و سلم : [أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف].
10
قال الناظم رحمه الله تعالى:
٢ - الواحد الفرد القديم الوارث وشارع الأحكام والموارث
قوله [الواحد] ذاتاً وصفة وفعلاً فلا شريك له في شيء منها، فالواحد: أحد أسماء الله الحسنى ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
قوله: [الفرد القديم الوارث]: قال الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله تعالى رحمة الأبرار - [الفرد]: لم يرد من أسماء الله فيما أعلم ولكن ورد بدله أحد ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ (الإخلاص: ١).
قوله: [القديم] كذلك لم يرد من أسماء الله عز وجل، ولكنه جاء ما هو خير منه في قوله تعالى ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾، الوارث لم يرد بهذا اللفظ من أسماء الله ولكنه ورد بلفظ الجمع الدال على التعظيم في قوله تعالى ﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: ٥٨) انتهى.
قوله [وشارع الأحكام والموارث] شارع الأحكام أي واضع الأحكام وسنها وبينها ومنه قوله تعالى ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ... ﴾.
قوله: [الأحكام] الأحكام: جمع حكم وهو القضاء والإبرام، وشرعاً خطاب الشرع المتعلق بالمكلفين.
قوله: [المواريث] المواريث جمع ميراث وإرث وهو ما خلفه الميت وهو مصدر ورث يرث إرثا وميراثا وهو البقاء ومنه الوارث أي الباقي وفي الحديث في سنن الترمذي وغيره قال ﴾ (اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم إبراهيم) - أصله وبقية منه - قال أبو عيسى حديث حسن صحيح.
وشرعاً: هو حق قابل للتجزئ ثبت لمستحق بعد موت من كان له ذلك لقرابة بينهما أو نحوها.
قال الناظم رحمه الله تعالى:
٣- ثم الصلاة والسلام أبدا على الرسول القرشي أحمدا
أصل الصلاة في اللغة الدعاء هذا قول جمهور العلماء من أهل اللغة وغيرهم، وقال الزجاج رحمه الله تعالى الصلاة أصلها اللزوم.
وقال الجوهري وآخرون رحمهم الله تعالى الصلاة من الله تعالى الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ومن الآدمي تضرع ودعاء.
قال الشنشوري رحمه الله تعالى (الصلاة لغة الدعاء والصلاة المطلوبة من الله هي رحمته وقيل مغفرته وقيل كرامته وقيل ثناؤه
11
عند الملائكة ؛ ذكر هذه الأوجه الشيخ شهاب الدين أحمد بن الهائم رحمه الله تعالى ).
قال أبو العالية صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاة الملائكة الدعاء قال ابن عباس رضي الله عنهما يصلون يبركون.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى قولهم الصلاة من الله بمعنى الرحمة باطل من ثلاثة وجوه --- وقولهم الصلاة من العباد بمعنى الدعاء مشكل وذكر ثلاثة أوجه في ذلك أيضاً ، ويُطلب الموضوع في مظانه. قوله: [والسلام] أي سلمه الله من كل سوء ومكروه وبرأه من جميع النقائص والرذائل والعيوب.
قوله [أبدا] ظرف لما استقبل من الزمان.
قوله [على الرسول] الرسول من البشر ذكر أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه فإن لم يؤمر فنبي فحسب ، وهو أفضل من النبي إجماعاً لتميزه بالرسالة التي هي - على الأصح خلافاً لابن عبد السلام - أفضل من النبوة.
وقد اختُلِف في عدد الأنبياء والمرسلين والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل قال : قلت يا رسول الله كم الأنبياء ؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً قلت : يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاث عشر جمٌ كثير طيب غفير.
ومراد الناظم رحمه الله تعالى بالرسول هنا نبينا محمد ﴾.
قوله [القرشي] نسبة إلى قبيلة قريش حيث ينحدر منهم وهم من أشرف العرب ، وأشرفهم بنو هاشم كما أخبر* بذلك عن نفسه فقال إن الله اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم ، وقال الربيع: قال رسول الله * : إن الله اصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ، أخرجه مسلم في الصحيح من حديث الأوزاعي.
قوله [أحمدا] أحمد هو أحد أسماء رسولنا محمد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة حيث بشر به رسول الله عيسى - عليه الصلاة والسلام - قومه بني إسرائيل في سورة الصف ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾
ومحمد هو أشهر أسماءه وبه سمي في التوراة صريحاً بما يوافق عليه كل عالم من مؤمني أهل الكتاب وقد تكرر في القرآن ومن ذلك قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالُهُمْ {٢}) وقوله
12
تعالى ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ﴾ وقوله تعالى ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ قوله تعالى ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلْتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾.
ومحمد من باب التفعيل للمبالغة، قال النووي رحمه الله تعالى: وأما تسمية رسول الله ﷺ محمداً فقال أهل اللغة: رجل محمد ومحمود إذا كثرت خصاله المحمودة: قال أبو الحسين أحمد بن فارس في كتابه المجمل وبذلك سمي رسول الله ﷺ محمداً يعني ألْهَم اللهُ تعالى أهله تسميته به لما علم من خصاله المحمودة، وأنشد أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري في صحاحه وغيره قول الشاعر:
إليك أبيت اللعن كان كلالها إلى الماجد القرم الجواد المحمد
وأما أحمد فمن باب التفضيل وقيل: سمي أحمد لأنه علم منقول من صفة وهي أفعل التفضيل ومعناه أحمد الحامدين وسبب ذلك ما ثبت عنه أنه قال: في حديث الشفاعة (ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحدٍ قبلي) متفق عليه
وقيل الأنبياء حمادون وهو أحمدهم أي أكثرهم حمداً أو أعظمهم في صفة الحمد.
ومحمد منقول من صفة الحمد أيضاً وهو بمعنى محمود وفيه معنى المبالغة
وعلى كلٍ فأحمد أحد أسمائه ففي حديث جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال: رسول الله ﷺ لي خمسة أسماء: أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب (متفق عليه)
وأسماؤه أكثر من ذلك ومنها ما ورد في صحيح البخاري وغيره (أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل)، بل حكى الشنشوري ما نقله ابن الهائم عن أبي بكر بن العربي والنووي - رحمهم الله تعالى جميعاً - أنها ألف اسم.
أما من حيث النسب فهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - واسمه شيبة الحمد على الصحيح - ابن هاشم - واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي - واسمه زيد - بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهذا النسب الذي سقناه إلى عدنان لا مرية فيه ولا نزاع وهو ثابت بالتواتر والإجماع.
قال الناظم رحمه الله تعالى:
٤- و اله و صحبه الأعيان وتابعيهموا على الإحسان
13
[آله] الآل في الأصل هم من ينتمون إلى الشخص بصلة نسب ونحوها وإضافة الآل إلى مضمر صحيح وموجود في الكلام الفصيح واستعمله العلماء من جميع الطوائف.
وقال أبو جعفر النحاس وأبو بكر الزبيدي لا يجوز إضافة آل إلى مضمر فلا يقال صلى الله على محمد وآله وإنما يقال وأهله أو وآل محمد وهذا مذهب الكسائي وهو أول من قاله،
وليس قوله ولا قولهما بصحيح لأنه لا قياس يعضده ولا سماع يؤيده قال وقد ذكر أبو علي البغدادي أنه يقال وآله في قله وذكر المبرد في الكامل حكاية فيه إضافة آل إلى مضمر ثم أنشد أبياتاً كثيرة للعرب في إضافة آل إلى مضمر ومنها قول عبد المطلب:
لا هم أن المرء يحـ ـمي رحله فأمنع حلالك
يعني قريشاً وكانت العرب تسميهم آل الله لكونهم أهل البيت
واختلف العلماء من أهل اللغة والفقهاء في آل النبي ﷺ على أقوال منها ما يلي:
أنهم بنو هاشم وبنو المطلب.
أنهم عترته المنتسبون إليه.
أنهم أهل دينه كلهم وأتباعه إلى يوم القيامة.
قال الأزهري رحمه الله تعالى وهذا القول أقربها إلى الصواب واختاره أيضاً آخرون وهو ما نص عليه الإمام أحمد وعليه أكثر الأصحاب رحمهم الله تعالى جميعاً، وعلى هذا فهم أتباعه ﷺ الناصرون لما جاء به، والداعون إليه بصدق وإخلاص إلى يوم القيامة سواءً كانوا من العرب، أم من العجم، ومنه قوله ﷺ (سلمان منا أهل البيت)، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً أهل بيته وقرابته وأزواجه وذريته، ثم يدخل أيضاً أصحابه الكرام من المهاجرين والأنصار.
وقديماً قيل:
آل النبي هم أتباع ملته على الشريعة من عجم ومن عرب
قوله [وصحبه] الصحب جمع صاحب كراكب وركب وفي الصحابي خلاف على النحو الآتي:
١ - أن الصحابي كل مسلم رأى النبي ﷺ وهو الصحيح وهو قول المحدثين وبه قطع البخاري في صحيحه وسواءً جالسه أم لا - يعني -
14
( من لقي النبي مؤمناً به ولو لحظة ومات على ذلك ولو تخللت ردة على الأصح.
٢- أن الصحابي من طالت صحبته للرسول ﷺ ومجالسته على طريق التبع اختاره جماعة من أهل الأصول.
قوله [الأعيان] هم علية القوم وعين الشيء أفضله وأنفسه.
[وتابعيهم على الإحسان] التابعي: هو من أدرك الصحابي ولم يدرك النبي وقيل من لقي الصحابة مؤمناً بالنبي ﷺ ومات على الإسلام ومراد الناظم رحمه الله تعالى الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ من المتأخرين من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة، وحذوا حذوهم واقتدوا بهم وساروا على أثرهم مقتفين بالحسن من أفعالهم وأقوالهم.
قال الناظم رحمه الله تعالى:
٥- وبعد فالعلم بذي الفرائض من أفضل العلم بلا معارض
قوله: [وبعد] هي فصل الخطاب الذي أوتيه داود ﷺ كما قاله أبو موسى الأشعري والشعبي رحمه الله تعالى، وقال المحققون فصل الخطاب الفصل بين الحق والباطل واختلفوا في المبتدئ بكلمة أما بعد فقيل المبتدئ بها داود ﷺ ففي أثر أبي موسى الأشعري قال: أول من قال: أما بعد داود عليه السلام وهو فصل الخطاب، وقيل قس بن ساعدة الأيادي أو كعب بن لؤي أو يعرب بن قحطان أو سحبان فصيح العرب حيث قال شعراً:
لقد علم الحي اليمانون أني إذا قلت أما بعد أني خطيبها
وقال الشاعر:
جرى الخلف أما بعد من كان بادئاً بها عد أقولها وداود وأقرب
ويعقوب أيوب الصبور وآدم وقس وسحبان وكعب ويعرب
ويؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر وأتى بها الناظم رحمه الله تعالى تأسياً بالرسول ﷺ، فإنه كان يأتي بها في خطبه ونحوها كما يصح عنه بل رواها عنه اثنان وثلاثون صحابياً.
قوله [فالعلم] الفاء جواب بعد، ووهي لازمة له كما قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:
أما كمهما يك من شيء وفا لتلو تلوها وجوباً ألفا
وقد جاء حذفها في الشعر كقول الحارث بن خالد المخزومي:
فأما القتال لا قتال لديكم ولكن سيراً في عراض المواكب
15
أي: فلا قتال.
كما جاء حذفها في النثر أيضاً بكثرة وبقلة فالكثرة عند حذف القول معها كقوله تعالى ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أي فيقال لهم أكفرتم بعد إيمانكم.
والقليل ما كان بخلافه كقوله: (أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) هكذا وقع في صحيح البخاري (ما بال) بحذف الفاء والأصل أما بعد فما بال رجال فحذفت الفاء.
قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:
وحذف ذي الفاء قل في نثر إذا لم يكن قول معها نبذا
قوله [العلم] العلم: يطلق على إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع، ويطلق على حكم الذهن الجازم المطابق للواقع؛ وهذا هو العلم الضروري أي الذي لا يحتاج في تحصيله إلى دليل.
ويطلق على حكم الذهن الجازم المطابق لموجب أي دليل. وهو المراد هنا سواءً وافق الواقع أم لا، و(أل) فيه للعموم والاستغراق حتى يشمل كل علم.
قوله [ذي الفرائض] ذي اسم إشارة للقريب.
والفرائض في اللغة: جمع فريضة؛ بمعنى مفروضة مأخوذة من الفرض وله في اللغة معانٍ منها:
الحز ومنه فرض القوس وهو الحز الذي يقع في طرفه حيث يوضع الوتر.
القطع يقال فرضت لفلان كذا من المال أي قطعت له شيئاً من المال ونحوه.
التقدير ومنه قوله تعالى ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ أي قدرتم وسمّيتم.
الإنزال ومنه قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ أي أنزله عليك.
التشريع والتبيين ومنه قوله تعالى ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ أي شرع لكم تحلة أيمانكم وبين لكم ذلك.
الإباحة والإحلال ومنه قوله تعالى ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ﴾ أي فيما أحل الله له.
البيان كقوله تعالى ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾.
ومن معاني الفريضة الآتي:
الواجب فمن دلالتها على معنى الواجب قوله تعالى ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ أي مفروضة لازمة.
16
العطية يقال فرضت الرجل وأفرضته إذا أعطيته.
السنة فرض رسول الله ﷺ أي سنه.
القراءة فرضت حزبي : قرأته.
واصطلاحاً : عرف الفرضيون علم الفرائض بعدة تعريفات منها الآتي :-
أنه فقه المواريث وما يضم إلى ذلك من حسابه ونوقش هذا التعريف بأنه مجمل حيث لم يوضع فيه المراد بعلم المواريث ولا ما يراد به من قوله من حسابها.
أنه علم يعرف به كيفية قسمة التركات على مستحقيها ونوقش أنه غير جامع أيضاً لأنه لا يتناول أحكام المواريث.
أنه علم يعرف به من يرث ومن لا يرث ومقدار ما لكل وارث قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: وهذا أحسن ما عُرِّف به هذا العلم لأنه تعريف جامع مانع من حيث أنه ينطبق على أقسام المعرف ويمنع دخول غيرها معها ، وهذا هو التعريف الراجح.
وقالوا : هو معرفة الورثة وحقوقهم من التركة.
قال بعضهم التعريف المختار هو الرابع لأنه مانع جامع وإن كان الثالث لا يبعد عنه لأنه بمعناه فيكون المختصر أولى بالاختيار.
فقوله : يعرف به من يرث ومن لا يرث لأن معرفة الوارث تكفي عما سواه فلا داعي لذكر من لم يرث ، وما لم يرث لا ينحصر إلا إذا أريد به من يقوم به مانع من موانع الإرث وهذا بعيد الفهم.
أيضاً يتضح من قوله معرفة الورثة أن من لم يرث مستبعد سواءً من قبل المانع أو غيره.
وقوله وحقوقهم من التركة يكفي بمعرفة الحساب المخصص للتركات وهو مقدار نصيب كل وارث ، فيتبين أن التعريف الرابع جامع مانع ومختصر مع سلامة اللفظ.
قلت: التعريف الراجح في نظري هو التعريف الثالث الذي رجحه الشيخ الفوزان - حفظه الله تعالى - وغيره ، وأما ما فيه من بعض الزيادة في اللفظ - كما يراه مختاروا التعريف الرابع - فهو لزيادة البيان والله تعالى أعلم وأحكم.
أما وجه تسمية علم الفرائض بهذا الاسم : فلأن الله تعالى قدره بنفسه ولم يفوض تقديره إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل وبين نصيب كل واحد من النصف والربع والثمن والثلثين والثلث والسدس بخلاف
17
سائر الأحكام كالصلاة والزكاة والحج وغير ها فإن النصوص فيها مجملة كقوله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)
وكقوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وأمره بمتابعة السنة، فكان ابن حزم رحمه الله يقول: نصت المورثين باسم الفارض لقوله تعالى (فريضة من الله) أي مقدرا أو معلوما أو مفروضا عن غيره.
فسمي هذا الفن من العلم بالفرائض تلبية لأكمل الفرض والتعصب كما سيأتي بيانه في بابه إنشاء الله تعالى في مسألة الخلاف في أيهما أقوى الإرث بالفرض أو بالتعصيب.
ولذا للعلم بعلم الفرض فرضي وفرض وفرض كمال، وفرض عليه قاله الميرد وفرض وفرض سيكون إن أ، وفرض فرضي، وقال جماعة أن فرضي خطأ.
قال ابن الهائم رحمه الله تعالى: قد أشار لمجموعة بعضهم وهو الصواب إلى عنوان لأن الجمع إذا صار بتغلب الاستعمال اسما، ينسب إلى الفرض كقولهم في النسبة إلى الأنصار أنصاري، والفرضى نسبة علما بالقلب على هذا الفن فجوز النسبة إليه لفظة.
قال: ابن أفضل الفرض بلا محا ضرة) إذا كان محا ضرة ولا مدافع إذا كان من علم الشريعة المحمدية والأصل فيه الكتاب، فالنسبة موضوعة في المورثين وحسبت القرابات لإيصال الحقوق إلى أصحابها، وهي هذا العلم شرع أن الله تعالى تولى فرضه وتفصيله، ومباديه بحكمته البالغة، وقسم المواريث برحمته الواسعة، ولم يكله لملك مرسل، ولا لملك مقرب، حيث فصله في ثلاث آيات من سورة النساء من كتابه العزيز، فبين جل وعلا في هذه الآيات الثلاث ما كان مبهمًا في آية الميراث الأولى وبين ما كان مجملا، وقدرت الفروض على ما كان مبهما، فآية الميراث الأولى من الأي الثلاث في ميراث الأولاد والأبوين حيث قال جل في علاه (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما) (١١).
والآية الثانية في ميراث الزوجين، وولد إن لم يكن له ولد فلكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما
18
تَرَكْتُمْ إِنِ لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلْهُنَّ الثَّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنِ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالة أو امْرَأةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنِ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةْ مِّنَ اللّهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴿١٢﴾.
والآية الثالثة من سورة النساء في ميراث الإخوة والأخوات لأبوين أو لأب قال فيها ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالةِ إن امْرُؤُ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إن لَمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإن كَانَتَا اثنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإن كَانُواْ إخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظْ الأنثيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أن تَضِلُّواْ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿١٧٦﴾.
ووعد من وقف عند حدوده بجزيل الثواب ، ومن تعدى شيئاً منها بأليم العقاب فقال عز وجل ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (١٣) أي هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه هي حدود الله فلا تعتدوها ولا تتجاوزوها ولهذا قال ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولُهُ﴾ أي فيها فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضها بحيلة ووسيلة بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته ﴿يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ ، كما توعد من تعدى شيئاً منها بأليم العقاب ؛ فقال تعالى ﴿وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾
والآية التي ختم الله بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض مما جرت به الرحم من العصبة حيث قال تعالى ﴿وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
ثم بين الرسول ﷺ بسنته ما احتيج إلى بيان وحث على تعلم هذا العلم وتعليمه ومما روي عنه من الأحاديث المرغبة في هذا العلم والآمرة به الآتي :-
روي عن ابن مسعود عن رسول الله ﷺ (تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها فإني امرؤ مقبوض والعلم مرفوع ويوشك أن يختلف اثنان في الفريضة والمسألة فلا يجدان أحداً يخبرهما ذكره الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله.
وفي السنن الكبرى للبيهقي روي عنه ﷺ (تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا العلم وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها الناس
19
فإن العلم سينقضي وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في فريضة فلا يجدان من يفصل بينهما).
٣- وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله ﷺ (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة) رواه أبو داود وابن ماجة رحمهما الله تعالى.
٤-وروي عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ (تعلموا الفرائض وعلموها فإنها نصف العلم وهو ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي) رواه ابن ماجة والدارقطني.
ومما روي عن صحابة رسول الله ﷺ في الحث على تعلم الفرائض ما أخرجه الدارمي عن عمر بن الخطاب ﷺ موقوفاً: تعلموا الفرائض كما تعلمون القرآن، وفي لفظ عنه تعلموا الفرائض فإنها من دينكم، وعنه أيضاً ﷺ إذا تحدثتم فتحدثوا في الفرائض وإذا لهوتم فالهوا بالرمي.
وفي سنن الدارمي - رحمه الله تعالى - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: تعلموا الفرائض والحج والطلاق فإنه من دينكم، وعنه أيضاً من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: الذي يقرأ القرآن ولا يحسن الفرائض كالبدن بلا رأس وفي لفظ كمثل الرأس لا وجه له وقال عقبة بن عامر رضي الله عنه: تعلموا قبل الظانين؛ يعني الذين يتكلمون بالظن.
إذاً فعلم الفرائض من أهم علوم الأمة الإسلامية والصناعة الدينية والأصل فيه الكتاب والسنة المحمدية وهو من أجل علوم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فكثرت مناظراتهم فيه فمن استكثر منه فقد اهتدى بهداهم وهو إلى جانب ذلك من أجل العلوم خطراً وأرفعها قدراً وأعظمها أجراً.
قال بعضهم:
علم الفرائض لا نظير له يكفيك أن قد تولى قسمه الله
وبين الحظ تبياناً لوارثه فقال سبحانه يوصيكم الله
قال الناظم رحمه الله تعالى:
٦- إذ هو نصف العلم فيما وردا في خبر عن النبي مسندا
قوله: [إذ] تعليلية.
قوله: [هو] اسم إشارة للغائب؛ عائد هنا على علم الفرائض.
قوله: [نصف العلم] يشير الناظم - رحمه الله تعالى - إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق في الحث على تعلم الفرائض وتعليمها (تعلموا الفرائض وعلموها فإنها نصف العلم وهو ينسى وهو أول شيء ينزع
20