Al-Hadith wal-Muhaddithun
الحديث والمحدثون
Lambar Fassara
الأولى ١٣٧٨ هـ
Shekarar Bugawa
١٩٥٨ م مطبعة مصر شركة مساهمة مصرية
Nau'ikan
مقدمات
الإهداء
...
الإهداء:
إن أولى من يهدى إليه هذا الكتاب، هو أولى الناس بالمؤمنين، نبينا "محمد" الصادق الأمين، الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
فإليك يا منقذ الخلق من الضلال.
إليك يا نبي الرحمة ومنبع العلم والنور والعرفان.
إليك يا من حدثت فصدقت، وحكمت فعدلت، وجاهدت فأبليت أحسن البلاء.
إليك يا من أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.
أهدي كتابي هذا راجيا من الله ﷿ أن يمن علي بشفاعتك: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ .
1 / 3
الداعي لنشر هذا الكتاب:
نال المؤلف بهذا الكتاب "شهادة العالمية مع لقب أستاذ في علوم القرآن والحديث" عام ١٣٦٥هـ-١٩٤٦م من الجامع الأزهر الشريف. "قسم تخصص المادة بكلية أصول الدين".
والذي دعا إلى نشره الآن، هو ظهور بعض مؤلفات، يحمل أصحابها على السنة حملة شعواء، ويشككون المسلمين فيها؛ بالطعن في صحابة رسول الله ﷺ، والنيل من أئمة الحديث ورواته، ورميهم بالتفريط في حفظ السنة وفهمها، وما لهؤلاء الطاعنين بذلك من علم إلا ما يتلقفونه من كتب المستشرقين، ومن سلك طريقهم من المغرضين: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ .
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف:
الحمد لله رب العالمين. بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، الذين رفعوا منار الهداية، وحملوا راية السنة، وأعلوا شأن الرواية، وأحاطوا أحاديث نبيهم بسياج من الصيانة والرعاية؛ فنفوا عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وبعد فإن الله جلت حكمته، أنزل على رسوله محمد ﷺ كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، ثم وكل سبحانه إلى رسوله الأمين تبيان هذا الكتاب فقال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، والرسول ﷺ في بيانه للقرآن الكريم لا ينطق عن الهوى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ لذلك أوجب الله علينا طاعته، وحذرنا معصيته، فقال ﵎: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، وقال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، فالقرآن والسنة هما أساس الدين، والنور الهادي إلى الصراط المستقيم.
ولما كان للسنة النبوية هذه المكانة العظمى، عرف السلف الصالح
1 / 5
للسنة قدرها ومكانتها، فرعوها حق رعايتها، وحفظوها في الصدور، وأودعوها سويداء القلوب، ودونوها في المصنفات والكتب، وحكموها في شئونهم، وكانوا بها مستمسكين، وعلى نهجها سائرين، وما زال العلماء في كل عصر يعنون بالسنة عناية تامة علما وعملا، حتى جاءت عصور ضعف فيها المسلمون، فخلف من بعد هؤلاء الأعلام خلف تهاونوا بشأنها، وتقاعدوا عن حفظها، فاستعجم عليهم فهمها، واستغلق لديهم الوقوف على أسانيدها ومتونها، وكان من أثر ذلك أن رأينا أرباب الأديان المبدلة، والعقائد الزائفة، والأهواء المتبعة، يطعنون في سنة نبينا، ويغضون من شأن الأحاديث النبوية، فمن قائل: لا يعتمد عليها الآن لانقطاع أسانيدها، ومن قائل: إن السنة ليست دينا عاما دائما، ومن قائل: إن الأغلبية العظمى من الأحاديث ليست إلا من وضع الوضاعين، واختلاق الكذابين، ومن طاعن في صحابة رسول الله وهم الحلقة الأولى في سلسلة الإسناد، الذي يصلنا بصاحب الشريعة ﷺ، ومن مشوه للحقائق التاريخية الثابتة فتراه يخلط الحق بالباطل، ويحمل البريء تبعة المذنب، ويغلب الشر على الخير، ومن متلمس للهفوات يضخم من شأنها، فيرفعها إلى درجة العظائم، لينال من هذه الملة المطهرة، والسنة النبوية المشرفة، إلى غير ذلك من أنواع المكايد والطعون التي يبثها أعداء الإسلام.
فلما رأيت هذا الخلط والتلبيس، وذلك الطعن والأزراء، دون برهان ولا دليل، وغالب ذلك من المستشرقين، ومن حذا حذوهم من المفتونين، ورأيت القوم مسرفين في تبجح واسترسال؛ توجهت رغبتي إلى تأليف كتاب في تاريخ الحديث والمحدثين، يكشف القناع عن وجه الحقيقة، التي طالما شوه جمالها أصحاب الأهواء، ويوضح الحق من
1 / 6
الضلال ويميز الخطأ من الصواب، فأكون بذلك -إن شاء الله- منتظما في سلك المناضلين عن سنة خير المرسلين، ومنضويا تحت لواء البررة المجاهدين.
هذا ولما كانت السنة النوية قد تواردت عليها عصور مختلفة، وتدرجت في أطوار متباينة، ولكل طور منها طابعه الخاص؛ رأيت أن أرتب هذا الكتاب على مقدمة وسبعة أدوار وخاتمة.
المقدمة: في معنى السنة ونسبتها إلى الوحي، ومنزلتها في الدين وبيانها للقرآن الكريم.
الدور الأول: السنة في حياة النبي ﷺ.
الدور الثاني: السنة في عهد الخلافة الراشدة.
الدور الثالث: السنة بعد الخلافة الراشدة إلى منتهى القرن الأول الهجري.
الدور الرابع: السنة في القرن الثاني.
الدور الخامس: السنة في القرن الثالث.
الدور السادس: السنة من مبدأ القرن الرابع إلى سقوط بغداد عام ٦٥٦هـ.
الدور السابع: السنة من عام ٦٥٦هـ إلى عصرنا الحاضر.
الخاتمة: في ذكر أنواع من علوم الحديث ناطقة بجهود الأمة في خدمة السنة.
والله تعالى أسأل أن يوفقنا لخدمة العلم والدين، وأن يديم به النفع العميم إنه على ما يشاء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد محمد أبو زهو
1 / 7
مقدمة الكتاب
المبحث الأول: معنى السنة لغة واصطلاحا
...
مقدمة الكتاب:
وتشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول - معنى السنة لغة واصطلاحا.
المبحث الثاني - السنة من الوحي.
المبحث الثالث - منزلة السنة في الدين.
المبحث الرابع - السنة مبينة للقرآن الكريم.
المبحث الأول: معنى السنة لغة واصطلاحا
السنة في اللغة: الطريقة حسنة كانت أم سيئة، ومنه قوله ﷺ: "من سن سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"، رواه مسلم. قال في لسان العرب "السنة السيرة حسنة كانت أو قبيحة. قال خالد بن عتبة الهذلي:-
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها
وسننتها سنا واستننتها سرتها، وسننت لكم سنة فاتبعوها، وفي
1 / 8
الحديث "من سن سنة حسنة" إلخ يريد عملها ليقتدَى به فيها. وكل من ابتدأ أمرا عمل به قوم بعده قيل: هو الذي سنه.
قال نصيب:-
كأني سننت الحب أول عاشق ... من الناس إذ أحببت من بينهم وحدي
وقد تكرر في الحديث ذكر السنة، وما تصرف منها والأصل فيه الطريقة والسيرة. وإذا أطلقت في الشرع، فإنما يراد بها ما أمر به النبي ﷺ، ونهى عنه وندب إليه قولا وفعلا مما لم ينطق به الكتاب العزيز؛ ولهذا يقال في أدلة الشرع الكتاب والسنة أي القرآن والحديث". اهـ.
السنة في لسان أهل الشرع:
يختلف معنى السنة عند أهل الشرع حسب اختلاف الأغراض التي اتجهوا إليها من أبحاثهم، فمثلا علماء أصول الفقه عنوا بالبحث عن الأدلة الشرعية وعلماء الحديث عنوا بنقل ما نسب إلى النبي ﷺ، وعلماء الفقه عنوا بالبحث عن الأحكام الشرعية من: فرض وواجب ومندوب وحرام ومكروه. والمتصدرون للوعظ والإرشاد، عنوا بكل ما أمر به الشرع أو نهى عنه. لذلك اختلف المراد من لفظ السنة عندهم، بل وقد يقع الاختلاف أيضا بين علماء الطائفة الواحدة منهم.
فعلماء الأصول يطلقون لفظ السنة على أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته، وبعض الأصوليين يطلق لفظ السنة على ما عمل عليه أصحاب رسول الله ﷺ، سواء أكان ذلك في الكتاب
1 / 9
العزيز أم عن النبي ﷺ أم لا، كما فعلوا في جمع المصحف وتدوين الدواوين ونحو ذلك. ويدل على هذا الإطلاق قوله ﷺ، فيما رواه مسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وذهب إلى هذا أيضا طائفة من المحدثين.
وعلماء الفقه، يريدون بالسنة الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب.
وعلماء الوعظ والإرشاد يريدون بالسنة ما قابل البدعة، فيقال عندهم فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي ﷺ، سواء كان ذلك ما نص عليه في الكتاب العزيز، أم لا ويقال: فلان على بدعة إذا عمل على خلاف ذلك.
وعلماء الحديث يريدون بالسنة -على ما ذهب إليه جمهورهم- أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية وسيره، ومغازيه وبعض أخباره قبل البعثة مثل تحنثه في غار حراء، ومثل حسن سيرته؛ لأن الحال يستفاد منها ما كان عليه من كريم الأخلاق ومحاسن الأفعال؛ كقول خديجة أم المؤمنين له ﷺ: "كلا والله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق"، ومثل أنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وأنه عُرف بالصدق والأمانة، وما إلى ذلك من صفات الخير وحسن الخلق، فمثل ذلك يُنتفع به في إثبات نبوته ﷺ كثيرا، كما حصل من هرقل في حديثه المشهور. والسنة بهذا المعنى مرادفه للحديث النبوي عندهم.
1 / 10
المبحث الثاني: السنة من الوحي
السنة النبوية بالمعنى السابق ما أضيف إلى النبي ﷺ، من قول أو فعل أو تقرير هي أحد قسمي الوحي الإلهي، الذي نزل به جبريل الأمين على النبي الكريم ﷺ. والقسم الثاني من الوحي هو القرآن الكريم. فالسنة النبوية من الوحي، بذلك نطق الكتاب العزيز: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، وبذلك جاءت السنة نفسها، فقد روى أبوداود والترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب أنه قال: قال رسول الله ﷺ: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا وإن ما حرم رسول الله ﷺ كما حرم الله"، وعن حسان بن عطية أنه قال: "كان جبريل ﵇ ينزل على رسول الله ﷺ بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن"، وعن مكحول قال: قال رسول الله ﷺ: "آتاني الله القرآن ومن الحكمة مثليه"، أخرجهما أبو داود في مراسيله.
هذا ولما كانت السنة صنو الكتاب العزيز، ونوعا من وحي رب العالمين؛ رأينا أن نتكلم عن الوحي وأقسامه بإيجاز، حتى يتضح المقام، ويتبين لنا الفرق بين السنة والكتاب، فنقول:
1 / 11
الوحي وأقسامه:
الوحي يطلق ويراد منه الإيحاء، ويطلق ويراد منه الموحَى به، ولا بد من بيانهما.
الوحي بمعنى الإيحاء:
الوحي بمعنى الإيحاء معناه لغة: الإعلام بالشيء على وجه الخفاء والسرعة، ولذا كانت الكتابة والإشارة والرمز والكلام الخفي من قبيل الوحي عند أهل اللغة.
ومعناه في لسان الشرع: إعلام الله لأنبيائه ما يريد إبلاغه إليهم من الشرائع، والأخبار بطريق خفي بحيث يحصل عندهم علم ضروري قطعي، بأن ذلك من عند الله جل شأنه. فهو أخص من المعنى اللغوي باعتبار مصدره، وهو الله سبحانه ومورده وهم أنبياؤه الكرام.
أقسامه: إعلام الله لأنبيائه ما يريد يقع على أحوال ثلاثة، أشار الله إليها بقوله ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾، وإليك بيانها:-
أولا: الإعلام بطريق الإلهام، وهو إلقاء المعنى في قلب النبي، دفعة مع العلم اليقيني بأن ذلك من الله ﷿، وقد يكون هذا الإلهام في المنام كما يكون في اليقظة، وهذا النوع من الوحي هو المراد من قوله تعالى في الآية السابقة ﴿إِلَّا وَحْيًا﴾ بدليل مقابلته بالقسمين بعده.
ثانيا: الكلام من وراء حجاب، أي بدون رؤية النبي لربه ﷿ وقت التكلم بحيث يسمع كلامه، ولا يراه كما حصل ذلك لموسى ﵇ في بدء رسالته، وقد رأى نارا فقال لأهله امكثوا: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ الآيات، وعند مجيئه للميقات كما قال تعالى:
1 / 12
﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ الآيات. وكما حصل ذلك لنبينا محمد ﷺ، ليلة المعراج عند فرض الصلاة عليه وعلى أمته، ومراجعته ربه فيها على ما صرحت به الأحاديث الصحيحة.
ثالثا: إعلام الله للنبي ما يريد أن يبلغه إليه بواسطة الملَك في اليقظة أو المنام، ثم الإعلام بواسطة الملك يقع على وجهين: لأن النبي تارة يشاهد الملك عند الوحي، إما على صورته الحقيقية، وهذا نادر. وإما متمثلا في صورة بشر كما كان جبريل يتمثل للنبي ﷺ في صورة الصحابي الجليل دحية الكلبي، وتارة لا يرى النبي الملك عند الوحي، وإنما يسمع عند قدومه دويا وصلصلة شديدة، يعلم الله كنهها ومصدرها فيعتريه حالة روحية غير عادية، لا يدرك الحاضرون منها إلا أماراتها الظاهرية، كثقل بدنه وتفصد جبينه عرقا.
روى البخاري في الصحيح عن عروة، عن عائشة ﵂ أن الحارث بن هشام، سأل النبي ﷺ، فقال يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة ﵂: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
وربما سمع الحاضرون عند وجهه الكريم دويا كدوي النحل عند مجيء الوحي. أخرج الترمذي، عن عمر ﵁ أنه قال: كان رسول الله ﷺ، إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل ... الحديث.
1 / 13
الوحي بمعنى الموحى به:
الوحي بمعنى الموحى به ينقسم إلى متلو وإلى غير متلو:
١- فمن الوحي المتلو القرآن الكريم، الذي جعله الله آية باهرة ومعجزة قاهرة، وحجة باقية على نبوة سيدنا محمد ﷺ، وتكفل بحفظه من التبديل والتحريف إلى قيام الساعة، فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾، نزل به جبريل الأمين على النبي ﷺ بلفظه ومعناه، من غير أن يكون لواحد منهما مدخل فيه بوجه من الوجوه، وإنما هو تنزيل من الله العزيز الحكيم، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ .
وقد انعقد الإجماع على أن القرآن الكريم، نزل على النبي ﷺ في اليقظة بواسطة جبريل ﵇، وأنه لم ينزل عليه منه شيء في النوم، ولا بطريق من طرق الوحي الأخرى. وليس ذلك لأن طرق الوحي الأخرى يعتريها اللبس، أو يلحقها الشك. كلا، فالوحي بجميع أنواعه في اليقظة أو المنام يصاحبه علم يقيني ضروري بأنه من الله سبحانه. وإنما كان الإجماع على ما ذكرنا؛ لأنه الواقع الذي تفيده الأحاديث، والآثار الواردة في أسباب النزول، فإن قيل: روى مسلم عن أنس أنه قال: "بينا رسول الله ﷺ بين أظهرنا، إذ غفا إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزل علي آنفًا سورة، فقرأ سورة الكوثر"، فهذا يفيد أن سورة الكوثر، نزلت في النوم قلنا: أجاب العلماء عن ذلك بأن الإغفاءة الواردة في الحديث ليست إغفاءة نوم، وإنما هي ما كان يعتريه عند نزول الملك من الوحي وشدته، وقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا عند نزول الوحي عليه؛ لتغلب روحيته على بشريته ﷺ.
1 / 14
ومن خصائص القرآن الكريم، أنه متعبد بتلاوته في الصلاة وخارجها، وأنه لا تجوز روايته بالمعنى وأنه معجز بلفظه، ومعناه: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ .
٢- ومن الوحي غير المتلو السنة النبوية لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، وقوله: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾، إلى غير ذلك من الأدلة، وقد تقدم بعضها غير أن السنة النبوية تفارق القرآن الكريم بأمور كثيرة، أهمها أنها منزلة بالمعنى، ولفظها من النبي ﷺ، ومن هنا جاز روايتها بالمعنى للخبير بمقاصدها العارف بمعانيها وألفاظها عند من يرى ذلك من العلماء، وأنها ليست معجزة بألفاظها، ولا متعبدا بتلاوتها، وأنها نزلت بطرق الوحي السابقة في المنام، أو اليقظة بواسطة الملك أو غيره.
وقد يشكل على أن السنة بأقسامها: أقوالها وأفعالها وتقريراتها من الوحي ما قرره العلماء من جواز الاجتهاد له ﷺ، وأنه اجتهد في كثير من الوقائع في الحروب وغيرها، فجعل السنة بأقسامها الثلاثة موحى بها من الله سبحانه يعارض ما قرره جمهور العلماء، فضلا عن أنه يسلبه ﷺ خصائصه ومزاياه من الفهم الثاقب والرأي الصائب، والجواب عن ذلك أنه ﷺ، وإن اجتهد في كثير من المواطن، التي لم ينزل عليه فيها وحي، بمقتضى ما فطر عليه من العقل السليم والنظر السديد، إلا أن الله سبحانه لا يتركه وشأنه، ولكن يقره إذا أصاب وينبهه إن أخطأ، ومن هنا كان اجتهاده ﷺ إذا أقره الله عليه وحيا حُكْما. فلا تعارض بين ما قرره العلماء، وما قررنا
1 / 15
من أن السنة بأقسامها وحي من الله سبحانه، ثم إن ذلك لا يسلبه ﷺ شيئا من خصائصه ومزاياه، كما قيل: بل يؤكدها ويقررها.
الحديث القدسي، ومن أي أقسام الوحي هو؟
هناك طائفة من الأحاديث نقلت إلينا آحادا عنه ﷺ، مع إسنادها إلى الرب عز اسمه تعرف بالأحاديث القدسية، أو الإلهية أو الربانية، فهل هي من كلامه تعالى وقوله، أو هي من كلامه ﷺ ولفظه؟ وإذا كانت من كلامه تعالى أفيثبت لها خصائص القرآن الكريم أم لا؟ والجواب عن ذلك: أن للعلماء قولين في الأحاديث القدسية:
الأول: أنها من كلام الله تعالى، وليس للنبي ﷺ، إلا حكايتها عن ربه ﷿، وربما يستأنس لذلك بأمور:
١- أن هذه الأحاديث أضيفت إلى الله تعالى، فقيل: فيها قدسية وإلهية وربانية، فلو كان لفظها من عنده ﷺ لما كان لها فضل اختصاص بالإضافة إليه تعالى دون سائر أحاديثه ﷺ.
٢- وأنها اشتملت على ضمائر التكلم الخاصة به تعالى كقوله: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي"، وكقوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بالكواكب".
٣- وأن هذه الأحاديث تروى عن الله تعالى متجاوزا بها النبي ﷺ، فتارة يقول الراوي: "قال رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه"، وتارة يقول الراوي: "قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله ﷺ"، فلو كان اللفظ من النبي ﷺ لانتهى بالرواية إليه كما هو الشأن في الأحاديث النبوية.
1 / 16
هذا والأحاديث القدسية، وإن كانت من كلام الله تعالى على هذا القول، لكن ليس لها خصائص القرآن الكريم. فقد نقل القرآن إلينا بطريق التواتر معجزا بلفظه ومعناه متعبدا بتلاوته، يحرم على المحدث مسه وعلى نحو الجنب قراءته مسمى باسم "القرآن" متعينا للصلاة به. الجملة منه تسمى آية وسورة، ولا تجوز روايته بالمعنى، وهو بجميع آياته وسوره نزل به جبريل الأمين على قلب النبي ﷺ كما سبق.
أما الأحاديث القدسية، فليس لها شيء من تلك المزايا بل هي أحاديث تروى آحادا، عن النبي ﷺ عن ربه ﷿، تترجم عن عظمة الباري جل علاه، وسعة رحمته، وعظيم سلطانه، وفيض عطائه، وهي خاضعة لقواعد القبول والرد، أدرجها المحدثون في عداد الأحاديث النبوية، وخلطوها بها في المؤلفات والتصانيف، وأجمعوا على أنها غير معجزة بألفاظها ولا متعبد بتلاوتها، وأنها لا تسمى باسم القرآن والراجح أنها لم يلتزم فيها طريق خاصة من طرق الوحي السابقة، وأنه يجوز روايتها بالمعنى للعارف بالمعاني والألفاظ.
القول الثاني في الأحاديث القدسية: أنها من قوله ﷺ ولفظه كالأحاديث النبوية، وممن قال ذلك أبو البقاء في كلياته وعبارته: "القرآن ما كان لفظه ومعناه من عند الله بوحي جلي، وأما الحديث القدسي، فهو ما كان لفظه من عند الرسول ﷺ، ومعناه من عند الله بالإلهام أو بالمنام"، واختاره أيضا الطيبي وعبارته:
"القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل على النبي ﷺ، والحديث القدسي إخبار الله معناه بالإلهام أو بالمنام، فأخبر النبي صلى الله
1 / 17
عليه وسلم أمته بعبارة نفسه وسائر الأحاديث لم يضفها إلى الله تعالى، ولم يروها عنه تعالى"، وحكمة أضافتها إليه تعالى على هذا القول دون بقية الأحاديث، زيادة الاهتمام بمضمونها، وتوجيه النفوس إلى ما اشتملت عليه من المعاني والآداب.
"الحكمة في أن الوحي المحمدي منه ما نزل باللفظ، ومنه ما نزل بالمعنى".
من آثار رحمة الله تعالى أن جعل الشريعة المحمدية من دون الشرائع السابقة شريعة باقية خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فأنزل القرآن الكريم وحيا يتلى إلى قيام الساعة، محفوظا من التبديل والتغيير: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، فكان دليلا قائما وبرهانا ساطعا على إثبات نبوة محمد ﷺ إلى يوم الدين، وكان خير حافظ للشريعة المحمدية من عبث العابثين، وتحريف الغالين وانتحال المبطلين، وكان وما يزال نورا ساطعا وضياء للمتقين: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ .
وكما حفظ الله شريعته بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه رفع الإصر والحرج عن خلقه، فأنزل على نبيه الكريم إلى جانب القرآن العزيز نوعا آخر من الوحي، هو السنة أنزلها عليه بالمعنى، وجعل اللفظ إليه إيذانا بأن في الأمر سعة على الأمة، وتخفيفا عليها، وأن المقصود هو مضمونها لا ألفاظها، فيجوز لصحابته ومن بعدهم أن يبلغوها عنه ﷺ باللفظ النبوي، وهو الأولى والأحوط لما في قوله ﷺ من أنوار النبوة، وضياء الرسالة والفصاحة العربية، التي لا يلحق شأوه فيها، ويجوز لهم أن يبلغوها عنه ﷺ
1 / 18
بعبارات ينشئونها، وأقوال تفي بالمعنى المقصود، ولا يكون ذلك إلا للماهر في لغة العرب وأساليبها العارف بمعاني الشريعة، ومقاصدها حتى لا ينشأ عن الرواية بالمعنى خلل، يذهب بالغرض المقصود من الحديث وفي ذلك من الخطر ما فيه، فإن السنة تبيان للقرآن العزيز، ووحي من رب العالمين وثاني مصادر التشريع، فالخطأ فيها أثره جسيم وخطره عظيم، ولذلك يقول رسول الله ﷺ: "من كذب علي، فليتبوأ مقعده من النار".
وإنك لتلمس آثار رحمة الله، وحكمته في أن جعل الوحي على قسمين، قسما لا تجوز روايته بالمعنى، بل لا بد فيه من التزام الألفاظ المنزلة، وهو القرآن الكريم وقسما تجوز روايته بالمعنى لمن يستطيع ذلك، وهو السنة النبوية المطهرة وفي ذلك صون الشريعة، والتخفيف عن الأمة، ولو كان الوحي كله من قبيل القرآن الكريم في التزام أدائه بلفظه لشق الأمر، وعظم الخطب ولما استطاع الناس أن يقوموا بحمل هذه الأمانة الإلهية.
ولو كان الوحي كله من قبيل السنة في جواز الرواية بالمعنى، لكان فيه مجال للريب ومثار للشك، ومغمز للطاعنين ومنفذ للملحدين إذ يقولون: لا نأمن خطأ الرواة في أداء الشريعة، ولا نثق بقول نقلة العقائد والأحكام والآداب، ولكن الله جلت حكمته صان الشريعة بالقرآن، ورفع الأصر عن الأمة بتجويز رواية السنة في الحدود السابقة؛ لئلا يكون للناس على الله حجة.
1 / 19
المبحث الثالث: منزلة السنة النبوية في الدين
١- وجوب اتباعها، والتحذير عن مخالفتها:
السنة النبوية وحي من الله إلى نبيه محمد ﷺ، وهي أصل من أصول الدين، وركن في بنائه القويم يجب اتباعها وتحرم مخالفتها، على ذلك أجمع المسلمون وتضافرت الآيات على وجه لا يدع مجالا للشك. فمن أنكر ذلك فقد نابذ الأدلة القطعية، واتبع غير سبيل المؤمنين.
ومن الآيات في ذلك:
أ- قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ .
ب- قوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ .
ج- قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ .
د- قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ .
هـ- قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ .
وقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .
ز- قوله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ .
1 / 20
٢- الرد على من ينكر الاحتجاج بالسنة، وأنها من أصول الدين:
المنكرون لذلك طائفتان: طائفة ردوا السنة جملة، سواء كانت متواترة أم آحادية زعما منهم أن لا حاجة إليها، وفي القرآن غنية عنها وأن النظر فيه يوصل إلى مقاصده، بدون الرجوع إليها، وبنوا هذا الزعم على شبه منها:-
أ- ما فهموه من قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ .
ب- وما فهموه من قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ .
ج- وما نسبوه إلى النبي ﷺ: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله. فإن وافق كتاب الله فأنا قلته. وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله".
وطائفة ردوا أخبار الآحاد، فقط زعما منهم أن الراوي ليس معصوما من الكذب، وأنه يجوز عليه الخطأ والنسيان.
الرد على من ينكر الاحتجاج بالسنة جملة:
هؤلاء القوم محجوجون بالأدلة السابقة، وبغيرها مثل قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، فلو كان القرآن في غنى عن السنة لما كان لهذه الآية معنى، ونحن إذ نستمسك بالسنة، ونعمل بما جاء فيها إنما نعمل بكتاب الله. قيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال: والله ما نبغي بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن. وقال عبد الله بن مسعود ﵁: "لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله"، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، فقالت: يا أبا عبد الرحمن بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله ﷺ
1 / 21
وهو في كتاب الله. فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف، فما وجدته فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. أما قرأت: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه رسول الله ﷺ.
ورُوي أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن عباس: اتركهما فقال: إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة. فقال ابن عباس: قد نهى رسول الله ﷺ، عن صلاة بعد صلاة العصر، فلا أدري أتعذب عليهما أم تؤجر؛ لأن الله ﵎ قال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾، وعن عمران بن حصين أنه قال لرجل: "إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعا، لا يجهر فيها بالقراءة، ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا. ثم قال: أتجد ذلك في كتاب الله مفسرا. إن كتاب الله أبهم هذا، وإن السنة تفسر ذلك". ذكر هذه الآثار كلها ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" "٢-١٨٨".
وأما ما استندوا إليه فشبه واهية نجيب عنها بما يأتي:-
١- المراد من قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ أن القرآن بيان لأمور الدين، إما بطريق النص أو بالإحالة على السنة، وإلا لناقض قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ .
٢- وأما قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾، فالمراد بالكتاب فيه اللوح المحفوظ لا القرآن بدليل السياق. قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾، أي مكتوبة أرزاقها وآجالها، وأعمالها كما كتبت أرزاقكم، وآجالكم، وأعمالكم
1 / 22