الفوائد الفقهية - ضمن «آثار المعلمي»
الفوائد الفقهية - ضمن «آثار المعلمي»
Bincike
علي بن محمد العمران - نبيل بن نصار السندي
Mai Buga Littafi
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٣٤ هـ
Nau'ikan
الفوائد الفقهية
24 / 241
[شرح آية الوضوء] (^١)
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ مُحْدِثين كنتم أو غير مُحدثين ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ أي ــ والله أعلم ــ سواءٌ أكنتم محدثين أم لا ﴿أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ﴾ أصحَّاء حاضرين ولكن محدثين ﴿جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾.
فالحاصل أن الله تعالى أمر بالوضوء عند القيام إلى الصلاة مطلقًا، ثم رخَّص للمريض أن يتيمَّم مطلقًا أيضًا، ورخَّص للمسافر أن يتيمَّم مطلقًا بشرط عدم الماء، ورخَّص للصحيح الحاضر المحدث بشرط عدم الماء.
وفُهمَ من هذا الأخير أن الصحيح الحاضر غير المحدث العادم للماء يتيمَّم من باب أَوْلى، فبقي الصحيح الحاضر غير المحدث إذا وجد الماء، فيجب عليه الوضوء.
فإن قيل: فلو قيل في غير القرآن: «أو مرضى أو لم تجدوا ماء فتيمموا» يوفي بهذا المعنى الذي زعمته مع إيجازه ووضوحه، فلماذا عدل عنه إلى الإطناب مع ما فيه من الغموض؟ (^٢).
* * * *
_________
(^١) وقد سبق في قسم الفوائد التفسيرية كلام للشيخ على الآية والاستنباط منها.
(^٢) هنا توقّف قلم الشيخ. مجموع [٤٧٢٤].
24 / 243
[هيئات الصلاة والأصل في وضعها]
أعمال الصلاة أو أكثرها مستعمل بين الأمم تحيَّةً وتعظيمًا.
أما السجود والركوع والقيام فظاهر.
وهكذا التطبيق المنسوخ مستعمل عند أهل الهند تعظيمًا؛ يُطبِّق أحدهم كفَّيه مشيرًا بهما إلى من يعظِّمه، وأغلب ما يُستعمل عند الاسترحام.
ورفع اليدين مستعمل عند .... (^١)؛ يرفع أحدُهم يديه إذا دخل على مخدومه أو أراد الخروج من عنده، إلّا أنه يرفعهما مادًّا لهما إلى قدَّام منحنيًا.
والجلوس مفترشًا هو قريب من جلوس الإنسان بين يدي مَنْ يحترمه كالتلميذ بين يدي شيخه.
ووضع اليد على اليد أيضًا معروف يستعمله الناس أمام من يحترمونه.
وقبض الأصابع غير المسبِّحة يحتمل أن يكون له حظٌّ من هذا.
والظاهر أن الأصل في هذه الأعمال مِنْ وَضْع الباري ﷿ ليُعبد بها، ثمَّ تناهبها الملوك والرؤساء وغيَّروا فيها وبدَّلوا.
ويحتمل أن يكون بعضها اخترعه الناس لتعظيم رؤسائهم، ثم أمر الله ﷿ أن يُعبد به؛ لأن التعظيم لا يستحقّه سواه (^٢).
_________
(^١) بياض في الأصل مقدار كلمة.
(^٢) مجموع [٤٧١١].
24 / 244
[مشروعية جهر الإمام بآمين]
النِّيموي (^١) (ص ٩٤):
«لا تبادروا الإمام، إذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد». رواه مسلم (^٢).
قال النيموي: «يُستفاد منه أن الإمام لا يجهر بآمين؛ لأن تأمين الإمام لو كان مشروعًا بالجهر لما علَّق النبيُّ ﵌ تأمينهم بقوله: ولا الضالين. بل السياق يقتضي أنه لم يقل إلا هكذا: وإذا قال آمين فقولوا آمين». اهـ.
أقول: إنما لم يقل: «وإذا قال آمين فقولوا آمين»؛ لأن السنة موافقة الإمام، بأن يقولها معه لا بعده. وهذا المعنى إنما يؤديه قوله: «وإذا قال ولا الضالين فقولوا آمين».
وأما قوله في الحديث: «إذا كبر فكبروا» فالمشروع أن يكون تكبير المأموم بعد تكبير الإمام، وهكذا الركوع، وقول سمع الله لمن حمده (^٣).
* * * *
_________
(^١) هو ظهير أحسن النيموي الحنفي (ت ١٣٢٥ هـ). والنقل من كتابه «آثار السنن مع التعليق الحسن».
(^٢) (٤١٥) من حديث أبي هريرة ﵁.
(^٣) مجموع [٤٧٢٦].
24 / 245
[مناقشة الشافعية في قولهم بركنيَّة الصلاة على النبي ﵌ في التشهد]
الحمد لله.
احتجَّ الشافعية على أن الصلاة على النبي ﵌ في التشهُّد ركن بحديث فَضالة بن عُبيد قال: «بينما رسول الله ﵌ قاعد إذ دخل رجل فصلَّى فقال: اللَّهم اغفر لي وارحمني، فقال رسول الله ﵌: «عجلتَ أيها المصلِّي! إذا صلَّيتَ فقعدت فاحْمد الله بما هو أهله وصلِّ عليَّ ثم ادْعُه». قال: ثم صلَّى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلَّى على النبي ﵌، فقال له النبى ﵌: «أيها المصلِّي ادعُ تُجَبْ» (^١).
ورُدَّ بأنه دليل عليكم؛ إذ لو كانت ركنًا لأَمَره بالإعادة كما أمر المسيء صلاته. فأما كونه لم يأمر الذي تكلَّم في صلاته جاهلًا، فلأن مثل ذلك الكلام يُعذر به الناسي والجاهل بخلاف ترك الركن فإنه لا يُعذر ناسيه ولا جاهله؛ وهذا مذهبكم.
ومع هذا فلا ندري هل كان دعاء الرجل ودعاؤه (^٢) بعد الفراغ من الصلاة أم فيها، فإن كان الأول فلا علاقة له بالمسألة، إلا أن الأشبه الثاني.
واحتجُّوا بحديث الحاكم على شرط مسلم عن ابن مسعود قال: «أقبل
_________
(^١) أخرجه أحمد (٢٣٩٣٧)، والترمذي (٣٤٧٦، ٣٤٧٧) ــ واللفظ لأُولى روايتيه ــ، والنسائي (١٢٨٤)، وابن خزيمة (٧٠٩)، وابن حبَّان (١٩٦٠). وقال الترمذي: «هذا حديث حسن». وقال في الرواية الثانية: «حسن صحيح».
(^٢) كذا في الأصل.
24 / 246
رجل حتى جلس بين يدي رسول الله ﵌ ونحن عنده فقال: يا رسول الله أما السَّلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلِّي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ــ صلى الله عليك ــ؟ قال: فصَمَت حتى أحببْنا أن الرجل لم يسأله، ثم قال: إذا صليتم عليَّ فقولوا ...».
وحملوا قوله «في صلاتنا» على ذات الركوع والسجود، وهو محتمل كما أنه يحتمل أن يكون المراد: في صلاتنا عليك؛ كأنه قال: كيف نقول في صلاتنا عليك؟ وربَّما يؤيِّده جوابه ﵌ بقوله: «إذا صليتم عليَّ فقولوا»، ولم يقل: إذا صلَّيتم عليَّ في صلاتكم ...
وعلى كلِّ حال، فلا دلالة فيه على الوجوب فضلًا عن الركنيّة؛ فإن قوله: «إذا صلَّيتم عليَّ» معناه: إذا أردتم الصلاة عليَّ، فقوله: «فقولوا» أمر إرشاد وتعليم لتعليقه على إرادتهم. وأيضًا فكونه تعليمًا لسائل التعليم ظاهر في كونه إرشادًا فقط.
واستدلُّوا أيضًا بالآية، والأمر للوجوب.
وأجيب بتسليم الوجوب، ولكن لا تتعيَّن الصلاة. كما أن الله ﷿ أمرنا بالاستغفار، ولم يقل أحدٌ: إنه ركن من أركان الصلاة.
ويظهر لي وجهٌ آخر وهو أن قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٥٦] معناه: ادعوا له، وفي التشهُّد الدعاء له: «السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته».
وإن ادُّعي أن قوله: ﴿صلُّوا﴾ أراد به: انطقوا بلفظ الصلاة.
24 / 247
قلنا: أفلا يحتمل أن يكون المراد الصلاةَ أو ما يرادفها، وهو الرحمة؛ فإنَّ في الصلاة الإبراهيمية: «كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد [مجيد] ... كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد». وهو مأخوذ من قوله تعالى حاكيًا عن الملائكة في خطابهم لآل إبراهيم: ﴿رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ (^١) ... حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ [هود: ٧٣]. فأنت ترى كيف أبْدَلَ الرحمةَ بلفظ الصلاة، وهو يدلُّ على ترادفهما.
ثم إن العبارة التي في التشهُّد: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» مطابقة للآيتين.
أما آية: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦]، فلأنّ قولنا: «السلام عليك» يقابل قوله: ﴿وَسَلِّمُوا﴾. وقولنا: «ورحمة الله» يقابل قوله: ﴿صَلُّوا﴾ كما مرَّ.
وأما آية: ﴿رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ فظاهر. والله أعلم (^٢).
* * * *
_________
(^١) في الأصل: «إنك» سبق قلم.
(^٢) مجموع [٤٧١٦].
24 / 248
[بحث في فرضية التشهُّد الأول، وما الذي شُرِع له سجود السهو؟]
الحمد لله.
الحق ــ إن شاء الله ــ أن التشهُّد الأول فرض، بمعنى أن تركَه عمدًا مبطلٌ للصلاة، وتركَه سهوًا موجبٌ سجودَ السهو. والدليل على فرضيته هو الدليل على فرضيَّة التشهد الثاني.
وأما كون النبي ﵌ تَرَكَه مرَّة وسجد للسهو، فذلك لا ينفي فرضيته بالمعنى الذي قلنا، كما أن كونه سلَّم مرَّة قبل التمام ثم رجع فأتمَّ وسجد للسهو لا ينفي كون السلام قبل التمام مُبطل (^١) لو وقع عمدًا، وهكذا زيادة ركعة. بل فعله ﵌ ذلك دليل على الفرضيَّة إذ لم يثبت أنه سجد للسهو إلا لفعلِ ما يبطل عمدُه.
وقد قال إسحاق بن راهويه في الصلاة على النبي ﵌ في التشهُّد الثاني: إنها فرض بهذا المعنى، أي أنَّ تركها عمدًا مبطل للصلاة بخلاف تركها سهوًا.
وقول أصحابنا: إنه سنَّة، دعوى لا دليل عليها، بل قد أبطلناها. ونزيد فنقول: إن كانت سنَّة فلماذا سجد النبي ﵌ لِتَرْكها؟ وما الفرق بينها وبين دعاء الافتتاح والتعوُّذ والتكبيرات وأذكار الركوع والاعتدال والسجود والجلوس بين السجدتين؟
ولم يأتوا بفرق إلا أنه نُقل عن الغزالي أن التشهد الأول من الشعائر
_________
(^١) كذا في الأصل، والوجه: «مبطلًا».
24 / 249
الظاهرة المخصوصة بالصلاة وليس ما تقدَّم مثل ذلك.
فيقال له: إنْ أردتَ بالشعائر الظاهرة ما لها صورة فهذا خاص بالجلوس لا بالتشهُّد، فلو جلس (^١) ولم يتشهَّد لا يسجد للسهو، وأنتم لا تقولون به.
وأيضًا فإنّ جلسة الاستراحة كذلك، وأيضًا فـ «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» كذلك لأنه يُجهر بها. وإن أردتَ غير ذلك، فما هو؟
فإن قلتَ: «الظاهرة» لغو، والمقصود الشعائر الخاصة بالصلاة، فـ «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» كذلك، وجلسة الاستراحة كذلك.
وإن أردتَ أن الخاص بالصلاة هو لفظ التشهُّد، فإن «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» مثل [ذلك]؛ لأن كلًّا منهما ذِكرٌ لم يُشْرَع إلا في الصلاة، ومع ذلك لو قاله إنسان في غير الصلاة لم يُمنع.
وقول غيره: الفرق بين التشهُّد وبين غيره ممّا مرَّ أنه بعضٌ، فلذلك ألحقت به الأبعاض في السجود للسهو عند تركها.
فيقال له: وما البعض؟
قالوا: السنن التي تُجْبَر بسجود السهو.
فيقال لهم: هذا دور! إذا سألناكم الدليل على أن هذه الأشياء تُجبر بسجود السهو، قلتم: لأنها أبعاض، فإذا سألناكم الدليل على أنها أبعاض دون غيرها، قلتم: لأنها تُجبر بسجود السهو. والحاصل أنهم لم يأتوا بشيء!
فأما القنوت في الصبح فهو غير مشروع أصلًا، كما بيَّن أهل العلم أدلَّة ذلك.
_________
(^١) في الأصل: «فإذا لو جلس».
24 / 250
وأما الصلاة على النبي ﵌ في التشهُّد الأول، فالصواب ــ إن شاء الله تعالى ــ أنها غير مشروعة أصلًا لما جاء في حديث ابن مسعود، و[...] (^١).
وهم إنما يثبتونها بالقياس، ولا قياس مع النصِّ، على أن القياس في العبادات ضعيف جدًّا.
ثم إن الحديث الذي يستدلون به على الأمر بالصلاة على النبي ﵌ في التشهُّد الأخير= يدلُّ أنها إنما شُرعت لتكون مقدِّمة للدعاء، ولا دعاء في التشهُّد الأول. وأيضًا فذلك الحديث يدل على عدم ركنيَّتها في التشهُّد الثاني؛ فإن النبي ﵌ لم يأمر المصلِّي الذي لم يأت بها بالإعادة.
فإن قلتم: كان جاهلًا. قلنا: الجاهل لا يُعذر في ترك ركن من الأركان.
فإن قلتم: لعلَّه كان في نفل. قلنا: كان الظاهر أن يبيِّن له النبي ﵌ ركنيَّتها حتَّى لا يتركها مرَّة أخرى في الفرض أو في نفل فيأتيَ بصلاة غير صحيحة، وهي حرام، ولو نفلًا. على أن ذلك الرجل يحتمل أنه ترك أصل التشهُّد؛ فإن قوله ﵌: «إذا قعدت فاحمد الله بما هو أهله، وصلِّ عليَّ ثم ادعه»، فأول التشهد: «التحيَّات لله والصلوات والطيبات»، وهذا حَمدُ الله (^٢).
ثم: «السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته»، وهذه صلاة عليه ﵌؛ لأن الرحمة هي الصلاة كما ترجمها هو ﵌ بذلك فقال: «اللهم صلِّ
_________
(^١) بياض في الأصل بمقدار أكثر من سطرين.
(^٢) كذا في الأصل، ولعل الصواب: «حمدٌ لله».
24 / 251
على محمد، وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك ...»، أراد ﵌ قولَ الملائكة لأهل بيت إبراهيم [في] قوله تعالى: ﴿رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ (^١) ... حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ [هود: ٧٣].
ثم: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وهذا الدعاء.
وغاية ما في الأمر أن يثبت به أن الصلاة على النبي ﵌ بلفظ الصلاة مأمور به في التشهُّد الثاني. وهذا ــ مع عدم بيانه ﵌ الركنية ــ يصدق بالفرضية على ما قال إسحاق.
فوُجد فرق بين التشهُّد والصلاة على النبي ﵌، فلا يجوز مع ذلك قياسها عليه لإثبات مشروعيتها في الجلوس الأول.
ثمَّ إنهم أثبتوها في القنوت بغير نصٍّ من الإمام، بل قياسًا على ثبوتها في التشهُّد، وهذا قياس على مقيس، وهو ضعيف جدًّا.
على أنه لا مشابهة بين القنوت والتشهُّد، هذا فضلًا عن كون القنوت لم يثبت من أصله.
نعم، احتجُّوا بما رواه النسائي (^٢) عن الحسن بن علي في قنوت الوتر،
_________
(^١) في الأصل: إنك، سبق قلم.
(^٢) (١٧٤٦)، وفي الكبرى (١٤٤٧ و٨٠٤٧). قال النووي في «الخلاصة»: (١/ ٤٥٨): إسناده صحيح أو حسن. وحسَّنه ابنُ الملقن في «تحفة المحتاج»: (١/ ٤١٠). وضعَّفه الحافظ ابن حجر بالانقطاع، وبالاختلاف في إسناده. انظر «التلخيص»: (١/ ٢٦٤ - ٢٦٥).
24 / 252
وفيه: «وصلَّى الله على النبي». فعلى العين والرأس ما ثبت عن رسول الله ﵌، ولكن هذا الحديث فيه اضطراب معروف.
وهبْه صحَّ، فإن أصل القنوت في الصبح لم يصحَّ. وهبه صحَّ، فمن أين زدتم الصلاة على الآل؟
قالوا: قياسًا على الصلاة عليه ﵌. قلنا: قياس مسلسل، ومع ذلك لِمَ لم تفعلوه في التشهُّد الأول؟
قالوا: التشهُّد الأول مبني عل التخفيف. قلنا: والاعتدال عندكم ركن قصير يبطل تطويله.
قالوا: قياسًا على التشهُّد الثاني. قلنا لهم: تارة تقيسونه على الأول وتارة على الثاني؟ ! فاختاروا أحدهما! إما أن تقيسوه على الثاني وتقولوا: هو ركن، فلا تجبروه بسجود السهو، أو على الأول فلا تزيدوا فيه الصلاة على الآل.
ثم بالغوا فقالوا: «وصحبه» مع أن الصلاة على الصحب ليست مشروعة في الأول ولا في الثاني!
قالوا: قياسًا على الآل. قلنا: ما جعل هذا القياس المسلسل أولى من القياس المباشر؟ أعني إثباتها في الثاني.
ثم إن هذه الزيادات التي جلبتموها جعلتموها كلها تُجبَر بسجود السهو، مع أن سجود السهو إذا وقع لغير سببٍ مبطلٌ، فكيف تجرؤون على شرع المبطل لمثل تلك التمحُّلات؟
24 / 253
والحاصل أن القنوت من أصله لم يثبت، فكفى الله المؤمنين شرَّ القتال.
وسجود السهو ليس له إلا سبب واحد، وهو فعل ما يُبطل عَمْده ولا يُبطل سهوه، ولو احتمالًا، أعني بأن لم يتيقَّن فعل المبطل ولكنه شكَّ في فعله.
ثمَّ قالوا: إذا قرأ الفاتحة أو السورة أو التشهد أو الصلاة على النبي ﵌ في غير محلها، سجد للسهو على تفريعٍ في ذلك. ولا دليل لهم على هذا.
قالوا: لأنه يدل على عدم الاعتناء بالصلاة بحيث شبَّه ترك التشهد الأول. قلنا: أما التشهُّد الأول فقد ثبت أن تركه عمدًا مبطل، ونَقْل تلك الأشياء غير مبطل. ثم لِمَ لم تقولوا في أذكار الركوع والاعتدال والسجود والجلوس بين السجدتين مثل ذلك؟
والظاهر أنَّ أول من طرق ذلك إنما قاسها على السلام قبل التمام؛ فإنه ركن وقع في غير محلِّه، فقاس عليه الفاتحة والتشهُّد والصلاة على النبي ﵌. ولكن المتأخرين لم يوجِّهوه بذلك، لعلمهم أن السلام قبل التمام إنما سُجد له لكون فِعْله عمدًا مبطلًا، لا لإيقاعه في غير محلِّه، فوجهوه بما وجهَّوا، وألحقوا بعض ما يناسب توجيههم، ولم يجرؤوا على إلحاق الجميع خوف الشناعة.
فالحق ــ إن شاء الله تعالى ــ في سجود السهو أنه إنما شُرع لترك التشهُّد الأول، وللسلام قبل التمام، وللزيادة، أو الشك فيها. ومن يقول بالقياس فيُلحق بها كلَّ شيء أبطل عمدُه لا سَهْوُه، سواء أكان فعلًا أم تركًا.
24 / 254
وإذًا فلا معنى للسجود لعمد تلك الأشياء؛ إذ قد تبيَّن أن عمدها مُبطل، فأما الشكُّ فإنه لا يتصوَّر عمده.
ثمَّ الحق في سجود السهو أنَّه فرض لأنه تداركٌ لفعل مبطل، إلا أن البطلان سقط لأجل السهو.
والظاهر ــ والله أعلم ــ أن تارك الشيء منها جهلًا لا يُؤمر بسجود السهو لحديث الرجل الذي علَّمه النبي ﵌ الصلاة عليه؛ فإننا نختار أن الصلاة عليه ﵌ في التشهد الثاني فرض لا ركن، وهذا هو مذهب إسحاق.
وأيضًا في حديث معاوية بن الحكم أنه تكلَّم في الصلاة، ولم يأمره النبي ﵌ بالسجود للسهو مع أنَّ عمد الكلام مبطلٌ. قالوا: إنما لم يأمره لأنه كان مأمومًا، والمأموم يتحمَّل عنه إمامه. قلنا: وما دليلُ أنَّ المأموم يتحمَّل عنه إمامه؟ لم نجد لهم دليلًا في ذلك (^١).
* * * *
[فائدة حول التشهد وعطف اسم النبي ﵌ على لفظ الجلالة]
جاء في بعض روايات التشهد: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله».
وفي بعضها: «وأن محمدًا عبده ورسوله».
وفي أخرى: «وأشهد أن محمدًا رسول الله».
_________
(^١) مجموع [٤٧١٦].
24 / 255
فقال بعضهم: يُفهم منه جواز: «وأن محمدًا رسول الله» بناءً على أن كلمة «أشهد» أُسقطت في روايةٍ، وكلمة «عبده» أُسقطت في أخرى، فيجوز حذفهما معًا.
وهو عندي خطأ، فإسقاط كلّ منهما وحدها لا يدلّ على جواز إسقاطهما معًا.
ثم من الحكمة في ذلك ــ والله أعلم ــ أنه إذا أسقط كلمة «أشهد» صار قوله: «وأن محمدًا» إلخ داخلًا تحت «أشهد» الأولى، فوجب حينئذ أن يُؤتى بكلمة: «عبده» حفظًا لمقام الربوبية ودفعًا لما يُوهمه إدخال الجملتين تحت «أشهد» واحدة من التسوية.
وأما إذا جاء بـ «أشهد» أخرى فهذا الإيهام مندفع، فجاز حينئذ إسقاط كلمة «عبده». ومما يرشد إلى هذا إنكاره ﵌ على من قال: «ومن يعصهما فقد غوى» (^١) وعلى قائل: «ما شاء الله وشئت» (^٢) (^٣).
* * * *
_________
(^١) أخرجه مسلم (٨٧٠) من حديث عديّ بن حاتم.
(^٢) أخرجه أحمد (١٨٣٩)، والنسائي في «الكبرى» (١٠٧٥٩)، وابن ماجه (٢١١٧)، والبخاري في «الأدب المفرد» (٧٨٣)، والبيهقي: (٣/ ٢١٧) وغيرهم من حديث ابن عباس ﵄. وفي سنده الأجلح الكندي مختلف فيه، وله شواهد يتقوَّى بها.
(^٣) مجموع [٤٧١١].
24 / 256
[جمع الصلوات في الحضر]
الحمد لله.
في «الصحيح» (^١) عن ابن عباس وأبي هريرة: «أن النبي ﵌ جمع بأصحابه في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء لغير عذر ولا سفر». وفي رواية: «ولا مطر».
فأخذ بهذا بعض التابعين وغيرهم. وتأوَّله الجمهور؛ فمنهم من تأوَّله بأنه كان لعذر. ورُدَّ بأن الصحابي قد قال: «بغير عُذرٍ»، وفعله ابن عبَّاس لغير عذر.
ثم ما هو العذر؟ فقيل: مرض، ورُدَّ بما تقدَّم، وبأن ابن عبَّاسٍ فعله وهو يخطب في الجامع، وبأن المرض تُحِيل العادة أن يعمَّ، ولو كان خاصًّا بالنبي ﵌ لم يكن عذرًا في حقِّ غيره.
وقيل: مطر، ورُدَّ بما تقدَّم من إطلاق الصحابي أنه لغير عذر، وأن ابن عبَّاس فعله وهو يخطب في الجامع، وبأنه ثبت في بعض الروايات: «ولا مطر». وأيضًا فابن عبَّاس جمع تأخيرًا، وجمع المطر في الحديث من مذهب الشافعي خاصٌّ بالتقديم، وهو الذي يقتضيه النظر. على أن الجمع للمطر لم تقم عليه حجَّة، وإنما يحتجُّون عليه بهذا الحديث، وهو كما ترى.
وقيل ــ وهو أقرب ما قيل ــ: لعلَّه جمعٌ صوري، ورُدَّ بأن ابن عبَّاس لمَّا سُئل عن سبب ذلك قال: «أراد أن لا يُحرج أمَّته».
_________
(^١) أخرجه البخاري (٥٤٣) عن ابن عباس، ومسلم (٧٠٥) من حديثهما.
24 / 257
والجمع الصوري أحرج من التوقيت. وهذا الرد محتمل ولكن ظهر لي ردٌّ أوضح منه وأبْيَن، وهو أن الصحابي أطلق الجمع، والمفهوم عند الإطلاق: الجمع الحقيقي. ولو أراد الجمع الصوري لقال: أخَّر الصلاة إلى آخر وقتها.
وأيضًا ــ وهو أظهر ــ أنه قال: «جمع ... من غير عذر ولا سفر» فظهر من فحواه أنه أراد الجمع الذي يكون للسفر، وهو الحقيقي. كما لو قال قائل: قصَّر فلان الصلاة، لاحتمل إرادة القصر المعروف في السفر ــ وهو أن يصلِّي الرباعية ثنتين ــ، وإرادةَ القصر المقابل للتطويل. فإذا قال: قصَّر فلانٌ الصلاةَ من غير سفر= تعيَّن الأول، وهو صلاة الرباعية اثنتين.
وقيل: إن هذا الحديث منسوخ بأحاديث التوقيت، وفيها النص على تحديد وقت الظهر ووقت العصر ووقت المغرب ووقت العشاء. وهذا جيِّد لو ثبت تأخُّر أحاديث التوقيت عن هذا الفعل، ولا يثبت.
ثم في هذا الحديث أن ابن عبَّاس حضره، وهو إنما حضر المدينة أخيرًا. وكذا أبو هريرة. والظاهر أن أحاديث التوقيت متقدِّمة. ثمَّ فِعل ابن عبَّاس له واحتجاجه بهذا الحديث وتصديق أبي هريرة له يُبعد النسخ.
فأقوى ما بيد الجمهور أن عمل النبي ﵌ الغالبَ التوقيتُ، وعمل الأئمة مستمرٌّ عليه. ولكن غايته أن يكون الجمع مكروهًا فقط. وفَعَله ﵌ لبيان الجواز، وتَرَكه الأئمةُ لكونه مكروهًا، فلا يلزم من هذا عدم الجواز. والله أعلم (^١).
_________
(^١) مجموع [٤٧١٦].
24 / 258
[مسألة قضاء الصلوات المتروكة عمدًا]
احتجاج من يرى قضاء الصلاة المتروكة عمدًا بقوله ﵌: «فدَين الله أحق أن يُقضى» (^١) = فيه نظر؛ لأن لفظ الدَّيْن موضوع لما في الذمَّة مما يلزم أداؤه، فالحجُّ كان دَينًا في ذمّة أبي الخثعمية يلزمه أداؤه بحيث لو تُكلِّف حمله إلى مكة لصحَّ حجُّه اتفاقًا.
وإنما خفي عليها هل يصحُّ أن تحجَّ هي عنه؟ فبيَّن لها النبي ﵌ المثل (^٢) أن ذلك في معنى الدين؛ لأنه شيء ثبت في الذمة يلزم أداؤه.
فإذا كان الشيء الثابت في الذمَّة كذلك للبشر ينبغي للوارث أداؤه ــ ويراه صحيحًاـ (^٣)، فأولى منه الثابت لله ﷿ كذلك.
وبهذا يتبيَّن أنه يلزم القائلين بقضاء الصلاة المتروكة عمدًا أن يجيزوا للوارث قضاء الصلاة عن مورّثه؛ لأنها عندهم دين، ودين الله أحق بالقضاء.
فإذ لم يقولوا بهذا، تبيَّن أنها ليست بدَين، فكيف يصحُّ قضاؤها؟
وقولهم: إن الحديث متروك الظاهر بالنسبة إلى الصلاة= كلام غير مقبول، بل نقول: هو على ظاهره، والصلاة لا تكون دَينًا، وإنما منزلتها في وقتها الأدائي (^٤).
_________
(^١) أخرجه البخاري (١٩٥٣)، ومسلم (١١٤٨) من حديث ابن عباس ﵄.
(^٢) غير محررة في الأصل ولعلها ما أثبت.
(^٣) كلمتان غير محررتين ولعلها ما أثبت.
(^٤) بعده كلامٌ ضرب عليه المؤلف، ونصُّه: «منزلةُ الحجِّ في أشهره، فمن ترك الحجَّ حتى انقضت أيامه، لا يستطيع أن يؤدِّيه في المحرَّم مثلا. ولا يقال: إنه يُقضى حينئذ لأنه وإن كان دينًا إلا أنه دين موقَّت، بمنزلة الإيمان في العمر، فمن لم يؤ [من] ...». مجموع [٤٧١٦].
24 / 259
[المسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام فأكثر، هل يتم؟]
الحمد لله.
احتجاج المالكية والشافعية وغيرهم على أن المسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام أتمَّ بما رُوي من إذن النبي ﵌ للمهاجر أن يقيم بمكة ثلاثًا فقط. وَجْهُه كما قيل: إنه دلّ على أن المسافر إذا أقام ثلاثًا لم يرتفع عنه اسم السفر؛ بخلاف ما إذا زاد.
فيُردُّ عليهم بأن النبي ﵌ مكث خمسة عشر يومًا أو أكثر يقصر.
وقولهم: إنه كان يتوقَّع السفر، بحيث لم ينو إقامة أربعة أيام سواء= يردُّه أن ارتفاع السفر ليس من شرطه النية، بل إذا حصلت الإقامة بالفعل، ارتفع. وهذا محل نظر، والله أعلم (^١).
* * * *
وجوه الأفضلية في قيام الليل
يحصل أصل السُّنَّة بالصلاة أوله وأوسطه وآخره، والأفضل بعد نصف الليل.
يحصل أصل السُّنَّة بأي مقدار كان من الليل يكون فيه صلاة،
_________
(^١) مجموع [٤٧١٧].
24 / 260
والأفضل قيام داود من نصف الليل إلى أن يبقى سدسه، وذلك سدساه الرابع والخامس، والمراد بالليل الليل الشرعي.
يحصل أصل السُّنَّة بالصلاة قبل النوم أو بعده، والأفضل قيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه (أي السدسان الرابع والخامس كما مرَّ) وينام سدسه، وقد صحَّ هذا مِن فِعْل النبي ﷺ في حديث عائشة في «الصحيح» (^١).
يحصل أصل السُّنَّة بأي عدد كان، والأفضل أن لا يزيد على إحدى عشرة، ولا ينقص عن سبع كما صَّح مِنْ فعل النبي ﷺ .
يحصل أصل السُّنَّة بأن تكون الصلاة مثنى مثنى، وبغير ذلك كأربع وغيرها، والأفضل ما أمر به النبي ﷺ سائله بقوله: «صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل» (^٢). وقد صحّ مِنْ فعله ﷺ غير ذلك، ولكن الفعل إذا عارض القول فالمتعين على الأمة العمل بالقول.
يحصل أصل السُّنَّة بأن يكرر المصلِّي سورة واحدة مثلًا، والأفضل خلاف ذلك.
يحصل أصل السُّنَّة بالصلاة في المسجد، والبيت أفضل.
يحصل أصل السُّنَّة بالصلاة في جماعة، والمنفرد أفضل (^٣).
_________
(^١) البخاري (١١٣٣).
(^٢) أخرجه البخاري (٤٧٢)، ومسلم (٧٤٩) من حديث ابن عمر ﵄.
(^٣) مجموع [٤٧١١]. وانظر مكمّلات قيام الليل التي ذكرها الشيخ في رسالة «قيام رمضان» ضمن مجموع رسائل الفقه (ص ٣٨١ وما بعدها).
24 / 261