Al-Bid‘ah: Its Guidelines and Harmful Effects on the Ummah
البدعة ضوابطها وأثرها السيء في الأمة
Mai Buga Littafi
الجامعة الاسلامية
Lambar Fassara
الثانية ١٤١٤ هـ
Nau'ikan
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ١.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ ٢.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظ﴾ ٣.
أما بعد:
فقد أمر الله عباده بالاجتماع، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، فقال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ ٤.
وللمحافظة على هذه الوحدة والاعتصام بحبل الله وعدم التفرق، فقد أمر الله ﷿ عباده باتباع ما أنزله على رسوله ﷺ فقال تعالى: ﴿المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ٥.
كما نهى عن اتباع ما وُجد عليه الآباء، ومثلهم الشيوخ وأهل البدع والأهواء في الأمور المخالفة لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ
_________
١ سورة آل عمران، الآية: ١٠٢.
٢ سورة النساء، الآية: ١.
٣ سورة الأحزاب، الآيتان: ٧٠ ـ٧١.
٤ سورة آل عمران، الآية: ١٠٣.
٥ سورة الأعراف، الآيات: ١ - ٣.
1 / 7
لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ﴾ ١، وقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ ٢.
وكما جاء في كتاب الله العزيز الأمر باتباع ما أنزله الله في كتابه، والنهي عن اتباع ما وجد عليه الآباء ودعاة الهوى والشيطان كما في الآية السابقة: ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة الصريحة عن رسول الله ﷺ تحثُ الأمة على التمسك بالكتاب والسنة، وأن فيهما النجاة والعصمة، كما قال ﵊: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي" ٣، فقد ضمن ﷺ للمتمسك بكتاب الله وسنته الهداية والنجاة، وعدم الضلال المؤدي للهلاك في الدنيا والشقاء في الآخرة، وفي مقابل ذلك نهى عن الابتداع في دين الله، وحذر من البدعة، وبيّن لأمته أن كل بدعة في دين الله ضلالة، فقال صلى الله عليه وسلمكما في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أبو داود٤ والترمذي ٥ وقال: حديث حسن صحيح قال: وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسّمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة".
_________
١ سورة البقرة، الاية: ١٧٠.
٢ سورة لقمان، الآية: ٢١.
٣ الموطأ، القدر ص ٥٦٠ ح٣.
٤ أبو داود في السنة / باب في لزوم السنة ح ٤٤٤٣.
٥ الترمذي في العلم/ باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة ٧/٤٣٨ ح٢٨١٥.
ابن ماجه/ المقدمة / باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين رقم ٤٢.
أحمد / في المسند ٤/١٢٦، ١٢٧.
1 / 8
فهذا الحديث يبين لنا جانبًا عظيما من جوانب الحفاظ على كيان الأمة، والحرص على سلامتها من التفرق المؤدي للفتنة، وذلك بحثها على لزوم الجماعة والتمسك بالسنة، والابتعاد عن كل المحدثات في الاعتقاد، والأفعال، والأقوال، والمناهج، التي تجر الأمة إلى الشقاق والنزاع المؤدي إلى الاختلاف والفرقة؛ لأن رسول الهدى ﷺ لم يفارق هذه الدنيا حتى بلغ أمته ما أوحاهُ الله إليه من شرائع دينه، فبين للأمة كل ما فيه صلاح دينها ودنياها، تركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك ولأن الله ﷿ أكمل لنبيه الدين، وأتم عليه النعمة، ورضي للبشرية كلها الإسلام دينا، فقال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا﴾ ١، وقال: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ٢.
فالدين كمل بنص هذه الآية الكريمة، والرسول ﷺ بلغ البلاغ المبين. كما قالت عائشة أم المؤمنين ﵂ لمسروق كما في صحيح مسلم، قالت: (ومن زعم أن محمدًا ﷺ كتم شيئا من مما أنزله الله عليه فقد أعظم على الله الفرية) ٣، والله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ ٤.
فكون الدين كمل، والرسول ﷺ بلغ، كما سبق الحديث بذلك، وكما جاءفي حجة الوداع، حين قال الرسول ﷺ للناس وهو يبلغهم شرائع الإسلام وأحكامه، ويبين لهم الحلال والحرام، وحرمة الدماء والأعراض، وكل ما أمر الله به ونهى عنه، ويقول لهم: "ألا هل بلغت، فيقولون: نعم. فيرفع يده إلى السماء وينكتها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد"، فإذا جاءنا بعد ذلك شخص من الناس، فأحدث لنا شيئا في دين الله لم يكن
_________
١ سورة المائدة، الآية: ٣.
٢ سورة آل عمران، الآية: ٨٥.
٣ البخاري، التوحيد، فتح الباري ١٣/٥٠٣ ح ٧٥٣١.
ومسلم، الإيمان ١٠/١٥٩ ح ٢٨٧.
٤ سورة المائدة، الآية: ٦٧.
1 / 9
موجودًا في كتاب الله ولا في سنة رسوله ﷺ. ولا في سنة الخلفاء الراشدين، سواء كان هذا الأمر المحدث اعتقادًا، أوعملًا، أوقولًا، أو منهجا، يخالف منهج الرسول ﷺ وسيرته، فكأنه يقول: إن الدين ناقص لم يكمل، وهذا يرده قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، أو أنه كامل ولكن بقي شيءٌ لم يبلغه الرسول ﷺ، وهذا يرده حديث عائشة ﵂ الذي سبق ذكره، وكذلك إبلاغه ﷺ للأمة جميعا في حجة الوداع، وقال: فليبلغ الشاهد الغائب فربّ مبلغٍ أوعى من سامع، فهذا محصول حال المبتدع، أومقاله، فكأنه يقول: إن الشريعة لم تتم، وأنه بقى شيء يجب أو يستحب استدراكه؛ لأنه لو كان معتقدًا لكمال الشريعة وتمامها من كل وجه لم يبتدع، ولا استدرك عليها، وقائل هذا معتقده ضال عن الصراط المستقيم.
قال ابن الماجشون: (سمعت مالكا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا ﷺ خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا١.
ويقول الإمام الشاطبي في كتابه القيم (الاعتصام):
(إن المبتدع معاند للشرع ومشاق له؛ لأن الشارع، قد عيّن لمطَالب العبد طُرقا خاصة، على وجوه خاصة، وقصرَ الخلق عليها، بالأمر والنهي، والوعد، والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، والشر في تعديها؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم وأنه إنما أرسل الرسول ﷺ رحمة للعالمين. فالمبتدع رادٌّ لهذا كله، فإنه يزعم أن ثَمَّ طرقا أٌخَر، ليس ماحصره الشارع بمحصور، ولا ماعينه بمتعين، كأنّ الشارع يعلم، ونحن أيضا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع، أنه علم مالم يعلمه الشارع، قال:
_________
١ الاعتصام، للشاطبي ١/٤٩.
1 / 10
وهذا العمل من المبتدع، إن كان مقصودًا، فهو كفر، وإن كان غير مقصود فهو ضلال.
٢ ثم إن المبتدع بعمله هذا قد نزّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري عل سننها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون، فالشرع ليس من مدركات العقول، حتى يضع كل إنسان تشريعا من عند نفسه، ولو كان الأمر كذلك لما احتيج إلى بعثة الرسل إلى البشريه، فكأن هذا المبتدع في دين الله قد صيّر نفسه نظيرًا ومضاهيا للشارع، حيث عمل تشريعا مثله، وفتح باب الاختلاف والفرقة.
٣ ثم إن هذا العمل من المبتدع أيضا، اتباع للهوى، والشهوات والله يقول: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ﴾، فمن لم يتبع هدى الله في هوى نفسه، فلا أحد أضلُّ منه) .
إن هذا المبتدع في دين الله ﷿، الذي جعل نفسه مضاهيا للشارع، قد جاء ذمُّهُ في كتاب الله ﷿ لأنه من زاغ أزاغ الله قلبه، إذ الجزاء من جنس العمل فالله يقول: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾، وذلك باتباعهم المتشابه من القرآن، وترك محكمه، وابتغائهم تأويله، أي تحريفه، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ ١، فقد صح عن عائشة ﵂ أنها قالت: سئل رسول الله ﷺ عن هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ إلى آخر الآية، فقال رسول الله ﷺ: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم" وفي رواية قال: "فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عَنَى الله فاحذروهم"، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾، قال ابن كثير: (أي: فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله قد برأ
_________
١ سورة آل عمران، الآية: ٧.
1 / 11
رسول الله ﷺ مما هم فيه) ١.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، فصراط الله المستقيم، هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة التي سنها رسول الله ﷺ وهو الإسلام، وهو القرآن، أما السُبل المتفرقة فهي سُبُل أهل الاختلاف، الحائدين عن الصراط المستقيم، وهم أهل الأهواء والبدع في الدين، وليسوا هم أهل المعاصي من حيث هي معاصي، فإن صاحب المعصية لم يضعها طريقا تسلك دائما على مضاهات التشريع كما يفعل المبتدع في الدين. وقد دل على أن المقصود به المبتدع في الدين حديث عبد الله بن مسعود ﵁ الذي أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه، قال: خط رسول الله ﷺ خطا بيده، ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما"، ثم خطَّ خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: "وهذه السُّبل ليس منه سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ هذه الآية ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، قال بكر بن العلاء: (أحسبه أراد شيطانا من الإنس وهي البدع)، وقال مجاهد: (﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ قال: البدع والشبهات) .
وكما جاء ذمّ المبتدع وبيان زيغ قلبه في كتاب الله ﷿، فكذلك ورد ذمّه في أحاديث كثيرة عن رسول الله ﷺ جاء فيها ذم المبتدعة وبيان ضلالهم وآثامهم، ورد أعمالهم، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة ﵂ قالت: قال رسول الله ﷺ: "من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رَدٌّ"، وفي رواية مسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ"، أي: مردود عليه ٢.
_________
١ ابن كثير، التفسير ٣/٣٧٢.
٢ البخاري، البيوع، فتح الباري ٤/٣٥٥ باب ٦٠.
البخاري، الصلح، فتح الباري ٥/٣٠١ ح ٢٦٩٧.
البخاري، الاعتصام، باب ٢٠ فتح الباري ١٣/٣١٧.
مسلم الأقضية، ٣/١٣٤٣ ح ١٧، ١٨.
1 / 12
وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: "من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" ١.
ومثله حديث حذيفة الذى سنذكره فيما بعد.
_________
١ مسلم، العلم، ٤/٢٠٦٠ ح ١٦.
1 / 13
البدعة ضوابطها وأثرها السيء في الأمة
تأليف: علي بن محمد ناصر الفقيهي
تمهيد
الحمد لله القائل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ .
والصلاة والسلام على خير خلقه وأفضل رسله، البشير النذير والسراج المنير، القائل: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي".
أما بعد:
فقد طلب مني قسم النشاط الثقافي بعمادة شؤون الطلاب بالجامعة الإسلامية، المشاركة بمحاضرة في موسمها الثقافي لعام ١٤١٢ هـ بعنوان: (البدعة ضوابطها وأثرها السيء في الأمة) .
وقد ألقيت هذه المحاضرة بقاعة المحاضرات الكبرى، مساء الأربعاء الموافق ٢٦ شوال ١٤١٢ هـ.
وقد اقترح بعض الإخوة المشرفين على النشاط، وغيرهم، طبع هذه المحاضرة لتعم بها الفائدة، فلبيت طلبهم، وها أنا أقدمها للشباب طلاب العلم الحريصين على التمسك بالكتاب والسنة، السالكين مسلك السلف الصالح، المتقيدين بمنهجهم في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها.
وقد قسمت المحاضرة إلى قسمين تضمنت أمورًا مهمة، قديمة ومعاصرةً، يجد القارئ تفصيلاتها في هذه الورقات التي تقرأ في جلسة واحدة.
والله من وراء القصد.
1 / 5
المبحث الأول: تعريف البدعة
...
البدعة ضابطها وفيمَ تكون؟
وبعد أن عرفنا النهى عن البدع، والتحذير منها.
فما البدعة؟ وما ضابطها، أو حدها الذى تعرف به؟ وفيمَ تكون؟.
١ تعريف البدعة:
البدعة لغة: الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، أى: مخترعهما من غير مثال سابق، ويقال: ابتدع فلان بدعة، يعني: ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق، وهذا أمر بديع، يقال، في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن.
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة.
فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة.
فالبدعة في الشرع: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه.
وهذا التعريف يشمل كل ما أحدث في الدين مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه.
فأما ما له أصل في الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعا، وإن سمي بدعة لغة،
_________
البخاري، الاعتصام، فتح الباري ١٣/٣٠٢.
1 / 13
المبحث الثاني: أقسام البدعة
...
تقسيم البدعة إلى بدعة حقيقية، وبدعة إضافية
القسم الأول: وهو: البدعة الحقيقية، والبدعة الإضافية.
أ- البدعة الحقيقة:
هى التي لا يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ومن أمثلتها: تحريم الحلال، وتحليل الحرام، استناد ًا إلى شبهة وبدون عذر شرعي، أو قصد صحيح، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: (كنا نغزوا مع النبي ﷺ، وليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي، فنهانا عن ذلك،
1 / 14
فرخص لنا بعد ذلك، أن نتزوج المرأة بالثوب، ثم قرأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾) ١.
وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لاتتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم، قالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل هذا عمل الجاهلية، فتكلمت فقالت: من أنت؟، قال: امرؤ من المهاجرين ٢.
ومن أمثلتها أيضا: اختراع عبادة ما أنزل الله بها من سلطان، كصلاة الظهر مثلا بركوعين في كل ركعة، أو الصلاة بغير طهارة، أو إنكار الاحتجاج بالسنة، أو تقديم العقل على النقل وجعله أصلًا والشرع تابع، ومثل القول بارتفاع التكاليف عند الوصول إلى مرحلة معينة من التجرد، مع بقاء العقل وشرط التكليف، فلا تجب عند ذلك طاعات، ولا تحرم محرمات، وإنما الأمر على حسب الهوى والرغبات، وإشباع الشهوات، كما يزعمه بعض زعماء الطرق الصوفية.
هذه نماذج من البدع الحقيقية التي يخترعها أصحابها من عند أنفسهم.
ب- البدعة الإضافية:
وأما البدعة الإضافية، فلها جانبان:
جانب مشروع: ولكن المبتدع يُدْخِل على هذا الجانب المشروع أمرًا من عند نفسه فيخرجها عن أصل مشروعيتها بعمله هذا، وأكثر البدع المنتشرة عند الناس من هذا النوع.
ومن أمثلتها: الصوم، الذّكر، الطهارة، إسباغ الوضوء على المكاره، الصلاة، هذه عبادات مشروعة أمر بها الشارع وحث عليها، فلو جاء شخص فقال: أنا أصوم قائما لا أجلس، وفي الشمس لا استظل، أو قال: أنا أصوم الدهر فلا أفطر، أو في الذكر فقال: نحن نلتزم في الذكر بكيفيات وهيئات معينة، فنذكر
_________
١ البخاري، التفسير، فتح الباري ٨/٢٧٦ ح ٤٦١٥، طرفاه في ٥٠٧١، ٥٠٧٥.
٢ البخاري، مناقب الأنصار، فتح الباري ٧/١٤٧ ح ٣٨٣٤.
1 / 15
الله بهيئة اجتماع على صوت واحد، أو التزم بعبادات معينة في أوقات معينة، من غير أن يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيامه، وفي الطهارة كأن يكون عند شخص ماء ساخن، وماء بارد شديد البرودة، في أيام شديدة البرد، فيترك الماء الساخن، ويأخذ بالطريق الأصعب فيأخذ الماء الشديد البرودة، وهذا تشديد على النفس، فلم يعطها حقها، ولا حجة له في الحديث الذي ورد فيه رفع الدرجات بإسباغ الوضوء على المكاره، فإن هذا لمن لم يجد وسيلة لتسخين الماء، فيجاهد نفسه ويتوضأ بالماء البارد.
فهذه العبادات: الصوم، والذكر، والصلاة، والطهارة، كلها عبادات مشروعة، أمر بها الشارع، ورغب فيها، وحث عليها، وبين جزيل ثوابها، ولكن هذه الكيفيات والهيئات التي أدخلت عليها، عمل لا دليل عليه من الشارع، والبدعة في الدين كيفما كانت صفتها فهي استدراك على الشرع وافتيات عليه، والله يقول ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا﴾ ١.
فعن عبد الله بن مسعود ﵁ وقد رأى قوما اجتمعوا على الذكر فقال لهم: لقد جئتم ببدعة ظلما، أو لقد فضلتم أصحاب محمد ﷺ علما، أو إنكم لتمسكون بذنب ضلالة.
ومنها: بدعة المولد، فإن محبة النبي ﷺ واجبة على كل مسلم، ولا يتم إيمان المسلم حتى يكون رسول الله ﷺ أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، كما في صحيح البخاري، ولكن محبته هي طاعته ومتابعته، أي: امتثال أمره، واجتناب نهيه، وقد نهى عن البدع وحذر منها، وقال: "كل محدثة بدعة"، وقال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" حديث متفق عليه، ولم يثبت عنه ولا عن خلفائه، ولا عن الصحابة، ولا علماء السنة المتبوعين من عمل مولدًا، وإنما هذا المولد أحدثه الفاطميون العبيديون الرافضة الذين يرجع نسبهم إلى المدّعي النسب الفاطمي وهو يهودي من سلمية.
_________
١ سورة المائدة، الآية: ٣.
1 / 16
النهي عن مجالسة أهل البدع
وقد جاء عن عدد من علماء التابعين، النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء، وذلك خوفا من أن يؤثر صاحب البدعة في جليسه؛ لأن الرسول ﷺ قد حث إلى اختيار الجليس الصالح، وحذر من جليس السوء، ومثّلهما بحامل المسك أو بائع المسك، ونافخ الكير، فالجليس الصالح كبائع المسك، إما أن تشتري منه، أو يعطيك، أو تشم منه رائحة طيبة، وأما جليس السوء، فكنافخ الكير، إما أن يحرق ثوبك وإما أن تشم منه رائحة كريهة ١، وهكذا صاحب البدعة، إما أن يقذف في قلبك بدعته بتحسينه إياها، وإما أن يمرض قلبك ويؤلمه، لما تشاهد من أعماله، وتسمع من أقواله من الأمور المخالفة للشرع. ولهذا قال الحسن: (لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك، أو تخالفه فيمرض قلبك)، وعنه: (لا تجالس صاحب بدعة فيُمرض قلبك)، وعن أبي قلابة قال: (لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم ماكنتم تعرفون)، قال أيوب عن أبي قلابه: (وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب)، وعنه قال: (إن أهل الأهواء أهل ضلالة، ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار)، وعنه قال: (ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف) ٢، وعن أيوب السختياني أنه كان يقول: (ما ازداد صاحب بدعة اجتهادًا إلا ازداد بُعدًا من الله)، وكان يسمي أهل البدع خوارج، ويقول: (إن الخوارج اختلفوا في الاسم، واجتمعوا على السيف) ٣.
_________
١البخاري، البيوع، فتح الباري ٤/٣٢٣ ح ٢١٠١ طرفه ٥٥٣٤.
مسلم، البر، ٤/٢٠٢٦ ح١٤٦.
٢ الاعتصام، الشاطبي ١/٨٣.
٣ الاعتصام، الشاطبي ١/٨٣.
1 / 17
وعن يحيى بن كثير قال: (إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر) .
وبما سبق لنا من أقوال العلماء يتبين لنا أن المجالسة لأهل البدع تختلف عن دعوتهم إلى الخير وبيان الحق لهم، ومناظرتهم لإبطال شبههم؛ لأن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أصل من أصول الدعوة إلى الله أمر الله به في كتابه فقال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ .
وقال رسول الله ﷺ موجها أمرًا عامّا لكل المسلمين كل بحسب طاقته: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
فإذا جاء النهي من العلماء عن مجالسة أهل البدع، فليس معناه أن العالم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ لا يدعو هؤلاء إلى الخير ولا يناظرهم، ولا يقرب مجالسهم لهذا الغرض، وإنما مقصود العلماء الخوف على من لا يستطيع أن يدفع شبههم عن نفسه فتؤثر في قبله، كما سبق ذكر قول أبي قلابة.
1 / 18
توبة المبتدع
وأما توبة المبتدع، فيرى بعض علماء التابعين بُعدها، وأن المبتدع لا ينتقل من بدعة إلا إلى شر منها؛ لأن الجزاء من جنس العمل، والله يقول: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ .
فعن يحيى بن أبي عمر الشيباني قال: "كان يقال: يأبى الله لصاحب بدعة توبة، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها".
ولهذا كان العوام بن حوشب يقول لابنه: "يا عيسى، أصلح قلبك، وأقلل مالك"، وكان يقول: "والله لأن أرى عيسى في مجالس أصحاب البرابط - أي: المزهر والعود والأشربة والباطل، أحبُّ إلي من أن أراه يجالس أصحاب الخصومات"، قال ابن وضَّاح: "يعني: أهل البدع".
ولماذا يقول ذلك؟، لأن البدعة يعتقدها صاحبها دينا، فيبقى متمسكا بها تمسكه بدينه، وإذا خرج من بدعته خرج إلى بدعة شر منها، وأما أصحاب المعاصي كأصحاب المزهر والعود من المغنين، وأصحاب الشراب فهم أصحاب شهوات، ويعلمون أن تلك الأعمال معاصي دفعتهم إلى ارتكابها شهواتهم ونفوسهم الأمارة بالسوء، فقد يتركونها يوما من الأيام لاعتقادهم حرمتها، فصاحب المعصية تُرجى له التوبة والإقلاع عنها أكثر من صاحب البدعة التي يعتقدها دينا.
ويظهر أن المقصود به صاحب البدعة الذي أُشربَ قلبه البدعة حتى بلغت من قلبه مبلغا عظيما، بحيث أصبح يطرح ما سواها في جنبها، حتى أصبح ذا بصيرة فيها وحب لها فلا يَنثني عنها، فهي عنده في غاية المحبة، ومن أحب شيئا من هذا النوع من المحبة؛ والى وعادى بسببه، ولم يبال بما لقي في طريقه، كأصحاب البدع القدامى والمعاصرين، فالقدامى كالخوارج الذين لم يرجعوا عن بدعتهم وأهوائهم، من التكفير لأصحاب الكبائر، فمن ارتكب كبيرة، حكموا بكفره في الدنيا والآخرة، مخالفين نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء﴾، وقوله ﷺ في حديث أبي ذر الذي أخرجه البخاري: "أن من مات على التوحيد دخل الجنة وإن زنى وإن سرق"
1 / 19
كررها ثلاثا-".وقد قال أهل السنة والجماعة بما تضمنته هذه النصوص من أن مرتكب الكبيرة تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنبه، ومآله إلى الجنة.
وغيرهم من دعاة البدع الحاملين للوائها كبشر ومن تبعه في السابق يخالفونهم.
وكأصحاب البدع المعاصرين، ممن ولد وعاش في هذه البلاد، ودرس مناهجها في جميع مراحل الدراسة، ثم تجده بعد ذلك يتمسك بما عاش عليه الأباء والأجداد من البدع والخرافات المخالفة للكتاب ولسنة رسول الله ﷺ، وسنة خلفائه الراشدين المهديين.
ومن بدعهم المشهورة المعاصرة إقامة الموالد؛ التي يستجلبون بها قلوب الناس أصحاب العواطف الطيبة التي يجب على الداعية أن يوجه تلك القلوب إلى العمل بالسنة ومتابعة رسول الله ﷺ، وطاعته في أمره ونهيه، وكذلك متابعة خلفائه الراشدين؛ لأن عملهم سنة، ولكنهم عدلوا عن ذلك بدعواهم محبة رسول الله ﷺ والتعبير عن تلك المحبة بإقامة المولد.
ومعلوم أن محبته ﷺ فرض على كل مسلم، وأنه لايتم إيمان المسلم حتى يكون رسول الله ﷺ، أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، كما في صحيح البخاري١.
ولكن ما هي محبة رسول ﷺ؟.
إنها بتعبير شامل طاعته فيما أمر، واجتناب مانهى عنه وزجر.
فهل المولد الذي يقيمه هؤلاء الناس طاعة لرسول الله ﷺ أو مخالفة لنهيه وزجره؟.
إن إقامة المولد مشاقة لرسول الله ﷺ ومخالفة صريحة لنهيه، فهو يقول في الحديث المتفق عليه: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، ويقول في الحديث الصحيح: "كل محدثة بدعة"، فهذا المولد محدث، لم يعمله رسول الله ﷺ، ولا خلفاؤه الراشدون الأربعة،
_________
١ البخاري، الإيمان، فتح الباري ١/٥٨ ح١٤.
1 / 20
ولا أحد من أصحابه، وهم أعلم بسنته، وأحرص منا على تعظيم رسول الله ﷺ وتوقيره، وإنما أحدث هذا المولد وغيره من الموالد لغير النبي ﷺ الفاطميون الرافضة، يقول الإمام أبو حفص تاج الدين الفاكهاني ﵀ في رسالة "المورد في عمل المولد": "أما بعد: فقد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه المولد، هل له أصل في الدين؟، وقصدوا الجواب عن ذلك مبينا والإيضاح عنه معينا.
فقلت وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلًا في كتاب الله ولا سنة نبيه ﷺ، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعةأحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون" اهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: "وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى ﵇، وإما محبة للنبي ﷺ وتعظيما من اتخاذ مولد النبي ﷺ عيدًا مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف، ولو كان هذا خيرًا محضا أو راجحا لكان السلف ﵃ أحقّ به منا، فإنهم كانوا أشد محبة للنبي ﷺ وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص، وإنما محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته، واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان" ١ اهـ.
وأما من لم يشرب البدعة قلبُه، وإنما استحسنها، وظن أنها تقربه إلى الله ﷿ ثم ظهر له الدليل على خلافها، وتعقل ذلك، فالغالب رجوعه وتوبته، ويمثل العلماء لمثل ذلك بمن رجع من الخوارج بعد مناظرة ابن عباس لهم، وبرجوع المهتدي والواثق عن بدعتة القول بخلق القرآن.
_________
١ اقتضاء الصراط المستقيم ٢/٦١٥، تحقيق الدكتور ناصر العقل.
1 / 21
حكم المبتدع
المبتدع: هو الذي يحدث البدعة، ويدعو إليها، ويوالي ويعادي عليها.
والبدعة: قد تكون مكفّرة، وغير مكفّرة.
وإن الحكم على من ثبت إسلامه بالفسق، أو التبديع، أو التكفير، من الأمور التي حذر الشارع منها، فقد ثبت عن رسول الله ﷺ قوله: "من قال لأخيه: ياكافر، إن لم يكن كذلك، وإلا رجعت عليه" ١.
ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة" ٢.
أما من كان خارجا عن الهدى ودين الحق، فتراه يرتكب الأمور المخالفة للشرع، فله حكم آخر بحسب ما يرتكبه من مخالفات، فإما الكفر الصريح أو النفاق، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في حق مثل هؤلاء: "إن من كان خارجا عن الهدى ودين الحق من المتنسكة، والمتفقهة، والمتعبدة، والمتزهدة، والمتكلمة، والأطباء، وغيرهم، فمن خرج من هؤلاء عن الحق الذي بعث به رسوله ﷺ، لا يقر بجميع ما أخبر الله به على لسان رسوله، ولا يحرم ما حرم الله ورسوله، مثل: من يعتقد أن شيخه يرزقه، أو ينصره، أويهديه، أو يغيثه، أو يعينه، أو كان يعبد شيخه، أو كان يفضله على النبي ﷺ تفضيلًا مطلقا، أو مقيدًا في شيء من الفضل الذي يقرب إلى الله، أو أنه مستغن هو وشيخه عن متابعة الرسول ﷺ، قال: فكل هؤلاء كفار إن أظهروا ذلك، ومنافقون إن لم يظهروه".
ثم ذكر أن كثرة هؤلاء الأجناس في زمانه سببه قلة دعاة العلم والإيمان.
ثم انتقل إلى ذكر القسم الثاني من المبتدعة، والذين هم في حاجة إلى التثبت في إصدار الحكم عليهم، لأن الكفر قد يكون عمليّا، أو اعتقاديّا، ولكل منهما
_________
١ مسلم، الإيمان، ١/٧٩ح ١١١.
٢ الفتاوى، ١٢/٤٦٦.
1 / 22
حكمه في الشرع، فقال: "وأصل ذلك: أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع، يقال: هي كفر، قولًا يطلق، كما دل على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله ﷺ، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم"، ثم قال: "ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه"، ثم مثل لذلك فقال: "مثل من قال: إن الخمر والربا حلال لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة ١.
وقد بسط القول في قضية الحكم على المبتدع، وبيّن أنه لا بد من إقامة الحجة عليه، وإزالة الشبهة عنه، ثم ذكر بدعة القول بخلق القرآن، وذكر ما جرى للإمام أحمد بن حنبل مع المأمون والمعتصم، وأنه عذرهما لوجود الشبهة عندهما وأن الإمام أحمد دعا لهما، ولو كان يعتقد كفرهما لما دعا لهما٢.
ويقول الشيخ حافظ الحكمي في كتابه معارج القبول: "٢/٥٠٣ ٥٠٤": "ثم البدع بحسب إخلالها بالدين قسمان: مكفرة لمنتحلها، وغير مكفرة.
فضابط البدعة المكفرة: من أنكر أمرًا مجمعًا عليه، متواترًا من الشرع، معلوما من الدين بالضرورة، من جحود مفروض، أو فرض ما لم يفرض، أو إحلال محرم، أو تحريم حلال، أو اعتقاد ما ينزه الله ورسوله ﷺ وكتابه عنه.
والبدعة غير المكفرة: هي ما لم يلزم منه تكذيب بالكتاب، ولا بشيء من مما أرسل به رسله.
ثم مثل لذلك فقال: "مثل بدع المروانية أي: بدع حكام الدولة من بني مروان التي أنكرها عليهم فضلاء الصحابة، ولم يقروهم عليها، ومع ذلك لم يكفروهم بشيء منها، ولم ينزعوا يدًا من بيعتهم لأجلها، كتأخير بعض الصلوات عن وقتها، وتقديمهم الخطبة قبل صلاة العيد.".
_________
١الفتاوى، ٣/٣٥٤.
الفتاوى، ١٠/٣٢٩.
٢ الفتاوى، ١٢/٤٦٦ وما بعدها ويحسن بطالب العلم مراجعتها.
1 / 23
حكم المخطئ
سبق تعريف المبتدع، وأنه: الذى يحدث البدعة، ويدعو إليها ويوالي ويعادي عليها، وأن البدعة تنقسم إلى: بدعة مكفرة، وبدعة غير مكفرة، وذكرنا أقوال العلماء في حكم مرتكبها.
أما المخطىء في بعض المسائل، المعروف بمنهجه وسلوكه الحميد وعلمه الشرعي، فإن خطأه لا يحط من شأنه، ولا ينقص من قدره، فإن كان حيّا يرزق، فيجب تنبيهه على خطئه بالأسلوب الحكيم، المتعارف عليه بين العلماء، المبني على التعاون على البر والتقوى؛ لأن الدين النصيحة، فتقدم النصيحة لطالب العلم بحسب مقامه بأدب واحترام، وبيان للحق بدليله، من غير عنف ولا تعال، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى تؤدي النصيحة غرضها، فتبقى الكلمة واحدة، والمحبة والأخوة في الله باقية، فإنما المؤمنون إخوة.
وإن كان المخطىء قد أفضى إلى ربه، فيدعى له؛ لأن العصمة للأنبياء وحدهم ويبين للناس خطأهم، حتى لا يتبعونهم في ذلك الخطأ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في وصفه لأئمة الهدى وما يصدر منهم من أخطاء، يقول: "ومن له في الأمة لسان صدق عام، بحيث يثنى عليه، ويحمد في جماهير أجناس ١ الأمة، فهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم، وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون فيها، وهم الذين يتبعون العلم والعدل، فهم بعداء عن الجهل، وعن اتباع الظن وما تهوى الأنفس" ٢.
_________
١ وهذا يعني: أن من هذا وصفه، فهو متجرد لقول الحق فلا يختلف عليه أحد من الناس، وإن قال بخلاف ما يهواه، إذ لا يقتصر الثناء على هذا العالم من الذين يأتي قوله موافقًا لما يريدون ويرغبون، وإنما يأتي من جميع الناس على اختلاف مشاربهم.
وقد دل على هذا المعنى الحديث الذي أخرجه البخاري وهو: أن الله إذا أحب عبدًا قال لجبريل: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، قال: وفي البغض مثل ذلك.
قلت: وأرجو أن ينطبق هذا المعنى في عصرنا الحاضر على سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وفقه الله لكل خير، آمين.
٢ الفتاوى ١١/٤٣.
1 / 24