وإذا تقرَّر هذا فصورة هذه الحالة كصورة المعيد (^١) إذا امتحنه الشيخ عند حضور الطلبة، والمستفيدين منه؛ ليزيدوا طمأنينةً وثقةً في أنه يُعيد الدرس، ويُلقي إليهم المسألة كما سمعه من الشيخ بلا زيادة ولا نقصان، وفيه مسحة من قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم: ٣ - ٥]، وهذا معنى قوله ﷺ في آخر الحديث: "ذاك جبريل أتاكم يُعلِّمكم دينكم".
وأما سرّ إسناد ركبتيه إلى ركبتيه، ففيه إشارة إلى سابقة بينهما، وشدَّة إخلاص واتِّحاد كما بين المتحابّين، ولله دَرُّ القائل [من الطويل]:
أَخٌ طَاهِرُ الأَخلَاقِ حُلْوٌ كَأَنَّهُ … جَنَا النَّحْلِ مَمْزُوجٌ بِمَاءِ غَمَامِ
يَزِيدُ عَلَى الأَيَّامِ صَفْوَ مَوَدَّةٍ … وَشِدَّةَ إِخْلَاصٍ وَرَعْيَ ذِمَامِ
انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله تعالى.
قال الجامع: والمحاصل أن كون الضمير للنبيّ ﷺ متعيّن؛ لتصريح الرواية المذكورة، فلا مجال لتفسيره بفخذ جبريل ﵇، وأما الذين رجحوا كونه لجبريل ﵇ فلعدم اطلاعهم على الرواية المصرّحة بالأول، فتنبَّه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وقال في "الفتح": فيه إشارة لما ينبغي للمسئول من التواضع، والصَّفْح عما يبدو من جفاء المسائل، والظاهر أنه أراد بذلك المبالغه في تعمية أمره؛ ليقوي الظن بأنه من جُفَاة الأعراب، ولهذا تخطى الناس، حتى انتهى إلى النبي ﷺ كما تقدم، ولهذا استغرب الصحابة صنيعه، ولأنه ليس من أهل البلد وجاء ماشيًا، ليس عليه أثر سفر.
[فإن قيل]: كيف عَرَف عمر ﵁ أنه لَمْ يعرفه أحد منهم.
[أجيب]: بأنه يحتمل أن يكون استند في ذلك إلى ظنه، أو إلى صريح قول الحاضرين. وهذا الثاني - كما قال الحافظ - أولي، فقد جاء ذلك في رواية عثمان بن غياث، فإن فيها: "فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما نعرف هذا".