Al-Andalus: From Conquest to Fall
الأندلس من الفتح إلى السقوط
Nau'ikan
سلسلة الأندلس_الطريق إلى الأندلس
دراسة تاريخ الأندلس خاصة والتاريخ الإسلامي عامة تمد المطلع برؤية واضحة لمسيرة الإسلام ومعرفة أسباب القوة والضعف وتدارك الأخطاء؛ ففي تلك الأخبار عبرة لأولي الألباب وعظة لذوي البصائر.
1 / 1
سنن الله في خلقه لا تتبدل ولا تتغير
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
تاريخ الأندلس من أهم الحقبات في تاريخ المسلمين.
قد يسأل سائل: لماذا الحديث عن التاريخ أصلًا؟ وكثير من الناس يلومون المسلمين عن كثرة الخوض في الحديث عن التاريخ، يقولون: أنتم تبكون على اللبن المسكوب، فهذا ماضٍ قد انتهى فلنعش في حاضرنا ولننظر إلى مستقبلنا.
إن ثلث كتاب الله ﷾ قصص بأسلوب رباني فريد في التربية، وأنا أنصح أن تشتمل مناهج التربية على ثلث المنهج في صورة قصص حتى تحاكي أسلوب رب العالمين ﷾ في تربية الخلق أجمعين.
فلماذا ثلث القرآن قصص؟ وما هو أسلوب الله ﷾ في القرآن الكريم في تعليم الناس وتربيتهم وإرشادهم إلى الطريق؟ قص الله ﷾ في القرآن الكريم قصصًا كثيرة من قصص الصالحين والطالحين، وقصص الأنبياء ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وقصص الذين خرجوا عن منهج الله ﷾، وكيف عاقبهم ربهم ﷾؟ وكيف كانت النهاية والخاتمة لهم ولمن كان على شاكلتهم؟ والقرآن الكريم فيه آيات تشير إلى منهج المسلم في تلقي القصص، يقول ﷾ في كتابه الكريم: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف:١٧٦]، كما يقول ﷾ في آية أخرى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [يوسف:١١١] أي: لأصحاب العقول والأفهام.
وعندما نقص القصص بصفة عامة سواء قصص القرآن، أو التاريخ الإسلامي، أو التاريخ غير الإسلامي لا بد أن نأخذه بمنطلق التفكّر والدراسة والتدبر والنظر في الأمور.
فالتحدث عن تاريخ الأندلس، ليس الغرض منه تحريك العواطف، ولا إلهاب المشاعر، ولا البكاء على ما سبق من الحضارات أو البكاء على اللبن المسكوب أو غيره؛ لكن هو دعوة للتفكر وللتدبر، وهي بداية الطريق لدراسة هذا التاريخ العظيم هو وغيره إن شاء الله من المجموعات اللاحقة.
نحاول في هذه المجموعة التي هي بعنوان: الأندلس من الفتح إلى السقوط أن نحلل التاريخ تحليلًا دقيقًا، وأن نقلب صفحات علا عليها التراب أعوامًا، وأن نرى أشياء حاول الكثيرون أن يطمسوها، وأن يظهروها الحق في صورة الباطل، أو يظهروا الباطل في صورة الحق، كثير من الناس يحاولون تزوير التاريخ الإسلامي، وهي جريمة خطيرة جدًا يجب أن يقف لها المسلمون.
وفي هذه المجموعة نتعرف على سنن الله ﷾ في خلقه، وفي أرضه، فالله ﷾ له سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل كما يقول ﷾: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر:٤٣]، فمثلًا: الماء يغلي عند درجة مائة، وسيظل يغلي إلى يوم القيامة عند نفس الدرجة، ومن رحمة ربنا ﷾ أن ثبت هذا الأمر، فلو كان هذا اليوم يغلي عند ثلاثين وغدًا عند خمسين، وبعد غد عند سبعين، فإن الناس لا تستقيم حياتهم مع هذا الأمر، لأن في كل يوم تغير، والنار تحرق وستظل تحرق إلى يوم القيامة، وهناك استثناءات، والمؤمن الحصيف لا يبني على الاستثناءات، إنما يبني على القواعد الأصولية، وإذا كانت النار لم تحرق إبراهيم ﵊، فليس معنى ذلك أن يضع المؤمن يده في النار ويقول: قد يحدث لي مثل ما حدث لإبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فلا يقول بهذا أحد.
والإنسان بصفة عامة لا يستطيع أن يعيش بغير طعام وشراب، ولو عاش بغير طعام وشراب أيامًا كثيرة فلا محالة مآله إلى الموت، فهذه من سنن الله ﷾ الثوابت.
كذلك تغيير الأمم هي سنن ثابتة، والله ﷾ جعل سننًا ثابتة لتغيير الأمم من الفاسد إلى الصالح، ومن الصالح إلى الفاسد، إن سارت في طريق معين كانت الخاتمة واضحة جدًا، وثابتة عند الله ﷾ وعلمها الناس.
وعندما تقرأ التاريخ، وتقلب في صفحاته تشاهد سنن الله ﷾ في التغيير، فالتاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة، وحين تقرأ أحداثًا حدثت منذ ألف عام أو أكثر فإنك تشعر وكأنها هي نفس الأحداث التي تحدث في هذا الزمن مع اختلاف في الأسماء فقط، وعندما تقرأ التاريخ كأنك تقرأ المستقبل، فالله ﷾ بسننه الثوابت قرأ لك المستقبل، وحدد لك كيف ستكون العواقب، والمؤمن الحصيف لا يقع في أخطاء السابقين، والمؤمن الناجح العاقل يكرر ما فعله السابقون ونجح معهم، ولا يقع في أخطاء من عارض منهج الله ﷾ أو وقع في خطأ من الأخطاء وإن كان غير مقصود.
1 / 2
سبب اختيار دراسة تاريخ الأندلس
والمسلم يدرس التاريخ بصفة عامة وتاريخ الأندلس بصفة خاصة لما يلي: أولًا: الأندلس تاريخ يشمل (٨٠٥) سنوات كاملة مرت بالتاريخ الإسلامي، من سنة (٩٢ هـ إلى سنة ٨٩٧ هـ) وكان له تداعيات بعد فترة ٨٩٧ هـ.
ومن العجيب أن المسلمين لا يعرفون هذه الفترة الكبيرة جدًا، والتي تمثل أكثر من ثلثي التاريخ الإسلامي، ولا يعرفون بتفاصيل هذا التاريخ.
ثانيًا: إن تاريخ الأندلس لكبر حجمه وجد فيه كثير من دورات التاريخ، فسنن الله فيه واضحة تمامًا، ففيه كثير من الدول قامت وسقطت، وكثير من الدول أصبحت قوية وفتحت ما حولها من البلاد، وكثير منها سقطت وتهاوت وأصبحت مع الدول المنهزمة التي نسمع عنها في هذه الآونة.
وظهر في تاريخ الأندلس المجاهد الشجاع، والخائف الجبان، والتقي الورع، والمخالف لشرع ربه ﷾، والأمين على نفسه وعلى دينه وعلى وطنه، والخائن لنفسه ولدينه ولوطنه فقد ظهرت كل هذه النماذج، سواء في الحكام أو المحكومين، أو العلماء أو عوام الناس.
إذًا: دراسة هذه الأمور تفيد كثيرًا في استقراء المستقبل القادم على المسلمين.
فالكثير من المسلمين لا يعرفون تفاصيل موقعة وادي برباط، وهي من أهم المواقع في التاريخ الإسلامي، فقد فتحت فيها الأندلس، فهي موقعة ضارية تشبّه بموقعتي اليرموك والقادسية، ولا يعرفون عن حرق السفن التي حدثت في عهد طارق بن زياد ﵀، وكثير من الناس لا يعلم من هو عبد الرحمن الداخل ﵀، الذي قال عنه المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام بالكلية من بلاد الأندلس.
ولا يعرفون تفاصيل حياة عبد الرحمن الناصر أعظم ملوك أوروبا في القرون الوسطى على الإطلاق، وكيف وصل إلى هذه الدرجة العالية، وكيف أصبح أكبر قوة في العالم في وقته.
وكذا يوسف بن تاشفين ﵀ القائد الرباني وصاحب موقعة الزلاقة، الذي نشأ نشأة إسلامية وربى الناس على حياة الجهاد، وتمكن من الأمور، وساد دولة ما وصل المسلمون إلى أبعادها في كثير من الفترات.
وأبو بكر بن عمر اللمتوني المجاهد الذي أدخل الإسلام في أكثر من خمس عشرة دولة إفريقية.
وأبو يوسف يعقوب المنصور صاحب موقعة الأرك الخالدة، التي دُكّت فيها حصون الصليبيين وانتصر فيها المسلمون انتصارًا ساحقًا.
فمن يسمع عن دولة المرابطين المجاهدة؟ ومن يسمع عن دولة الموحدين وكيف قامت؟ ومن يعرف مسجد قرطبة؟ وكيف كان أوسع المساجد في العالم في زمانه ولأزمان متلاحقة بعد ذلك؟ وكيف حوّل إلى كنيسة؟ وما يزال إلى اليوم كنيسة.
ومن يسمع عن مسجد إشبيلية العجيب؟ ومن يسمع عن جامعة قرطبة والمكتبة الأموية؟ ومن يسمع عن قصر الزهراء، ومدينة الزهراء، ومدينة الزاهرة، وقصر الحمراء، وغيرها من الأماكن الخالدة في الأندلس والتي إلى الآن تزار من عموم الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
ومن يسمع عن موقعة العقاب التي هزم فيها المسلمون هزيمة ساحقة، وكانوا يفضلون غيرهم في العدد والعدة، وكأن حنينًا تتكرر من جديد؟ قال عنها المؤرخون: بعد موقعة العقاب لم يُر في الأندلس أو في المغرب شاب صالح للقتال.
فقد هلك فيها أكثر من ثمانين ألف مسلم.
كيف سقطت الأندلس؟ وما هي عوامل السقوط التي إن تكررت في أمة المسلمين سقطت لا محالة؟ لأن لله سننًا ثابتة كما ذكرنا.
ثم كيف سطعت شمس الإسلام في القسطنطينية بعد سقوط الأندلس؟ وكيف كان التزامن بين سقوط الأندلس في الغرب وانتشار الإسلام في الشرق عند أوروبا من رحمة الله ﷾ بعباده؟ وما هي مأساة بلنسية وقتل ستين ألف مسلم في يوم واحد؟ وما هي مأساة أبدة وقتل ستين ألف مسلم آخرين في يوم واحد؟ وما هي مأساة بربشتر وقتل أربعين ألف مسلم في يوم واحد، وسبي سبعة آلاف بكر من فتيات بربشتر، وكأنها البوسنة والهرسك في تاريخنا، نشاهدها الآن لكن لا نعرف أن لها أصولًا وجذورًا قديمة، وكيف تصرف المسلمون وتخلصوا من هذه المآسي الضخمة؟ لو عرفنا لاستطعنا أن ننهض بأمتنا الآن.
تاريخ الأندلس ثروة حقيقية ضخمة جدًا من العلم والخبرة والعبرة، وصفحات طويلة جدًا أكثر من ٨٠٠ سنة.
تحتاج أن تقرأها في سنوات كثيرة، والأندلس ركن صغير بعيد في الدولة الإسلامية الضخمة، والعمل الذي يجب أن تفعله هو ألا تركن أبدًا إلى الدعة والسكون، فأمامك مشوار طويل جدًا حتى تتعرف على سنن الله ﷾.
وقبل الخوض في تاريخ الأندلس من حيث ترتيب الأحداث منذ الفتح وحتى السقوط، منذ عام (٩٢ هـ) إلى سنة (٨٩٧ هـ) هناك بعض الأسئلة قد تجول في خاطر الناس، وهي ما يلي:
1 / 3
الرد على من قال بأن الإسلام انتشر بالسيف
السؤال
الأندلس دولة مستقلة تُحكم بحكم النصارى في ذلك الزمن السحيق، والمسلمون دولة أخرى كبيرة جدًا مجاورة لهذه البلاد، فلماذا حمل المسلمون سيوفهم واتجهوا إلى فتحها ليعرضوا عليها الإسلام أو الجزية أو القتال، وهذا في الأعراف الدولية والشرعية الدولية يعتبر تجنيًا على حدود دولة مجاورة؟ وأصحاب المناهج العلمانية يقولون: كيف أن الإسلام انتشر بحد السيف وقد قال ﷾ في كتابه الكريم: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة:٢٥٦]؟ فكيف توفق بين هذا الأمر وذاك الأمر؟ لتفسير هذا الأمر نقول: إن الجهاد في الإسلام نوعان: جهاد الدفع، وجهاد الطلب.
النوع الأول: جهاد الدفع، وهو الدفاع عن الأرض، فلو أن أحد الأعداء هجم على أرضك فيجب عليك أن تدافع عن أرضك، وهذا أمر مقبول ومفهوم عند عوام الناس، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
النوع الآخر من الجهاد لا يستوعبه كثير من الناس حتى المسلمين، اسمه: جهاد الطلب، أو جهاد نشر الدعوة، أو تعليم الآخرين هذا الدين، والإسلام هو الدين الخاتم، وهو كلمة الله ﷾ الأخيرة للناس، والله ﷾ كلّف أمة الإسلام أن تنشر هذا الدين في ربوع العالم، وأن تعلم الناس ما طلبه ربهم منهم ﷾ على لسان رسوله الكريم ﷺ.
ومن سنن الله ﷾ أن هناك أقوامًا يحكمون الشعوب التي لا تدين بالإسلام، فهذه الأقوام -لا محالة- ستقف أمام هذه الدعوة، وستمنع وصول هذه الدعوة إلى غيرها من الناس، فالإسلام شرع للمسلمين أن يتجهوا بسيوفهم وجيوشهم لحماية الدعاة إلى الله ﷾ لنشر هذا الدين وتعليمه للآخرين.
فمن لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يعلمونهم أن المسيح هو الله؟ ومن لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يعلمونهم أن البقرة هي الإله؟ ومن لهؤلاء الذين يولدون في بلاد يتعلمون أنه ليس للكون خالقًا، وأنه خلق من العدم، أو أن الطبيعة هي رب الكون؟! فمن يعلمهم إذا لم يعلمهم المسلمون أصحاب الرسالة الخاتمة؟ وقد جُعل محمد ﷺ نبينا الكريم خاتم الأنبياء والرسل، وليس هناك مبعوث من بعده ﷺ.
فهذه هي مهمة هذه الأمة الشاهدة، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة:١٤٣]، ستشهد هذه الأمة على الأمم عند الله ﷾ أنها شرحت لهم دين الإسلام وعلمّتهم وذهبت إليهم وجاهدت في سبيل الله، فهذه الأمة شاهدة لهذا الجهاد ولإيصال هذه الدعوة.
لكن المشكلة أن الحكام سيقفون بسيوفهم وجيوشهم لمنع وصول الدعوة إلى هؤلاء الناس؛ لأنهم مستفيدون من عبادة هؤلاء الناس لغير الله ﷾، فإذا حُكّم شرع الله ﷾ انتقلت الحاكمية من هؤلاء الناس إلى الله ﷾، وهم لا يريدون ذلك، فعلى المسلمين أن يقفوا أمامهم بسيوفهم وجيوشهم حتى تنشر الدعوة إلى الله ﷾.
والمسلمون لا يقاتلون الشعوب، كان سيدنا عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه يقول للجيوش الفاتحة: اتقوا الله في الفلاحين، اتقوا الله في عموم الناس التي لا تقاتل، التي لا يهمها مصلحة الحاكم هذا أو ذاك، لكن تعيش لتعلم أين الخير وتتبعه، لا تقتلوا إلا من قاتلكم فكان المسلمون يتجنبون أن يؤذوا ولو أذى بسيطًا أحد الناس الذين لا يقاتلون؛ كالنساء والأطفال، والمعتكفين للعبادة، والضعفاء عن القتال، والأقوياء الذين لا يشاركون في قتال المسلمين، والمسلمون في حروبهم يقاتلون الجيوش فقط، ويقاتلون الحكام الذين عبّدوا الناس لغير الله ﷾.
وقد يقول قائل: وإذا سمحوا بالدعوة إلى الله ﷾ في بلادهم فلماذا الجيش؟ ولماذا لا نبعث مجموعة من الدعاة يدعون إلى الله ﷾ في بلادهم بالتي هي أحسن، ولا داعي للجيوش لعرض الإسلام أو الجزية أو القتال، اتركوا الناس أحرارًا تختار كما تشاء؟! لماذا المسلمون لم يبعثوا مجموعة من الدعاة لفارس أو الأندلس أو الروم؟ ألم يكف الدعاة إلى الله ﷾ أن الإسلام انتشر بالتجارة في أندونيسيا والفلبين وماليزيا وما إلى ذلك، فلماذا ينشر بالجيوش والحروب وما إلى ذلك؟ الحقيقة أن هذا افتراض غير واقعي أنهم يذهبون إلى هذه الأماكن بدون جيوش، فهذا افتراض غير عملي مخالف لسنن الله تعالى في أرضه وفي خلقه، حتى مع دراسة التاريخ والواقع، فنجد أن دولًا ضخمة جدًا دخلت في الإسلام عن طريق الفتوحات الإسلامية، والقلة الاستثنائية هي التي دخلت الإسلام عن طريق التجارة، مع أن بعض الناس يصورون الأمر بغير ذلك، حتى من المسلمين حياءً من فتح المسلمين للبلاد الأخرى، فدين الإسلام كامل شامل من عند الله ﷾، ليس فيه ثغرات، وليس فيه شيء نستحيي منه، أو نخفيه عن الآخرين فدولة فارس بكاملها والتي كانت تضم العراق وإيران وباكستان وأفغانستان وكل دول الإتحاد السوفييتي ا
1 / 4
الرد على شبهة من قال بأن الوقت الحاضر هو وقت السياسة والدبلوماسية لا السيف والمدفع
وبعض الناس يقولون: إن هذا الزمن ليس زمن الحروب العسكرية والتغيير العسكري والفتوحات، بل هو زمن الكلام والسياسات، لكن واقع الأمر أنك تشاهد حروبًا عسكرية في كل وقت، يلام المسلمون على فتوحاتهم الإسلامية السابقة في بلاد الشمال الإفريقي وفي فارس والروم والأندلس وفي غيرها، ولا تلام إسرائيل مثلًا على ما تفعله في فلسطين وعلى ما فعلته في ١٩٦٧م في مصر وسوريا، وعلى ما فعلته في لبنان على مدى ١٨ سنة، لكن المسلمون دخلوا إلى البلاد لينشروا فيها العدل والرحمة والدين، ويعبّدوا الناس لرب العالمين، وهؤلاء دخلوا ليقتلوا ولينهبوا وليسرقوا وليفعلوا كذا وكذا من الموبقات.
أيلام المسلمون على هذا الفتح المجيد الذي علموا الناس فيه دينهم، ولا تلام إسرائيل على ضرب المفاعل النووي في العراق أو على ضرب تونس، أو على ضرب أمريكا لمصنع الأدوية في السودان؟ ألا تلام أمريكا ودول الغرب على حروب متتالية ضد دولة العراق؟ ولا يتخيل أحد من المسلمين أو غير المسلمين أن الأمريكان دخلوا إلى العراق شفقة على الكويت، وغير معقول أنهم أتوا بنصف مليون جندي شفقة على شعب الكويت أبدًا! ألا تلام أمريكا على كل هذه الموبقات التي فُعلت في العراق وعلى تدمير كل الناس وكل البنية التحتية، وعلى وفاة أكثر من نصف مليون طفل عراقي لنقص التطعيمات والغذاء، ويلام المسلمون على نشرهم العلم والدين والرحمة والعدل في ربوع العالم أجمع؟! أيلام الصرب على ما فعلوا في البوسنة والهرسك، وعلى ما فعلوا في كوسوفا من قتل مائتين ألف أو أكثر، وعلى هتك عرض خمسين ألف فتاة مسلمة ويلام المسلمون على الحريات العظيمة التي أعطوها للنصارى ولليهود في زمن حكم الدولة الإسلامية؟ ألا تلام روسيا على اجتياح الشيشان وأفغانستان، وتدمير الكثير من المنشآت المدنية في هذه البلاد، وقتل المدنيين ليل نهار، ويلام المسلمين على نشر العلم في ذات البلاد وكانت من قبل تعبد النار؟ أيلام المسلمون على فتحهم لجمهوريات جنوب روسيا بصفة عامة ولا يلام الروس والصين الذين احتلوا أجزاء كثيرة وحكموا الناس بالحديد والنار أعوامًا، وقتلوا كل من كان يخفي في بيته مصحفًا؟ أهذا اللوم يتوجه للمسلمين أو لهؤلاء الذين حكموا باسم الحضارة الحديثة والمدنية والتقدم وما إلى ذلك؟ تاريخ المسلمين فيه أشياء كثيرة جدًا من الشرف والعزة والمجد، وهؤلاء يغيّرون من التاريخ حتى يشعر المسلمون بشيء من الاستحياء من تاريخهم، مع أن التاريخ يشرف المسلمين ويعلي من قدرهم، والاستحياء كل الاستحياء يجب أن يكون في صف هؤلاء الذين ادّعوا الحضارة وفعلوا كل هذه الموبقات.
1 / 5
الرد على شبهة من قال أن الأصل ترك الناس يعبدون ما يشاءون ولا حاجة لدعوتهم
كثير من الناس يقولون: نترك الناس يعبدون ما يشاءون؛ لأنهم لا يريدون الدخول في هذا الدين، فنقول: إن الله ﷾ جعل للمسلم رسالة، لخصها لنا سيدنا ربعي بن عامر ﵁ وأرضاه في حواره اللطيف الذي دار بينه وبين رستم قائد الفرس في موقعة القادسية، فقال: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وهكذا تحرك الجيش المسلم لمصلحة ومنفعة الناس، وفي صحيح البخاري يقول أبو هريرة ﵁ وأرضاه معلقًا على الآية الكريمة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:١١٠] قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام.
فمعظم الناس يريدون الدخول في الإسلام، لكن يأتي بهم في السلاسل حتى يدخلوا في الإسلام، فينقذوا من الخلود في جهنم، ومن أن يعيشوا في جور الأديان وفي ظلم الحكام فيدخلوا في عدل الإسلام وفي سعة الدنيا والآخرة، فلو أن رجلًا رمى بنفسه من الدور العاشر، وأتيت بسرعة وأخذت بيده وأنقذته من أن يرمي بنفسه من الدور العاشر، فهل يلام عليك أنك مسكت يده بقوة حتى آلمته وآذيته؟ أبدًا لا، فأنت أنقذت حياته، فالكافر كان سيتردى في هاوية الجحيم، وأنت أنقذته من أن يدخل جهنم وأن يُخلّد فيها، وعلمته هذا الدين، وأتيته بجيش يؤثر فيه حتى يسمع كلام الله ﷾، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وكثير من الناس لا يسمعون منك إلا إذا كنت محاطًا بقوة وبجيش، فتبدأ تسمع وتفكر، فتجد أن ما كانت ترفضه هو النجاة، وما كانت تريد اتباعه هو الهلكة المحققة التي لا فكاك منها، فكثير من الأمم دخلت في الإسلام لما فتحها الفاتحون غير مكرهين وغير مضطرين، قال الله ﷾ في كتابه الكريم: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة:٢٥٦] فهذه الآية الكريمة لا تتعارض مطلقًا مع هذا الفتح الإسلامي، والمسلمون كانوا يخيرون أهل تلك البلاد بأن يظلوا على إيمانهم بمعتقداتهم كما يريدون أو يعبدوا الله ﷾، وكانوا يعلمونهم في البداية دين الله ﷾، فإن أرادوا البقاء في ظل الشرك وفي ظلم الجاهلية يتركوا فيها، وإن أرادوا الدخول في نور الإسلام دخلوا فيه وكانت السعادة لهم في الدنيا والآخرة.
وعموم الناس في حاجة إلى الإسلام وإن أبت هذا الأمر، والعالم يتجه إلى كارثة محققة، والدول العظمى التي تتحكم في هذه الأمم في هذا الزمن الذي نعيش فيه تكيل بأكثر من مكيال، وتجعل الظلم قاعدة من القواعد التي ترسّخها في العالم، والأدواء والأمراض الأخلاقية لا حصر لها، ولعلكم قرأتم آخر مؤتمر عُقد عن مرض الإيدز أنه في غضون العشرين سنة السابقة من سنة ١٩٨٠م إلى سنة ٢٠٠٠م قُتل من البشر عشرين مليون نسمة، وهذا مرض أخلاقي نتج عن غياب دين الله ﷾ عن الناس، وإنكارهم منهج الله، وبعدهم عن شرعه ﷾، وأقل معدلات الإيدز في البلاد الإسلامية لأن المسلمين مرتبطون بشرع الله ﷾ وإن كان هذا الارتباط ضعيفًا، وكل الفتوحات والمعارك الإسلامية وما إلى ذلك لا تجد الرقم يقترب من واحد على عشرين أو واحد على مائة من هذه الأرقام المبالغ فيها في الإيدز فقط، غير السبعة والثلاثين مليون حاملي الفيروس، الذين ينتظرون الموت من الإيدز.
والمذابح التي تحدث في أفريقيا وفي أمريكا الجنوبية وفي غيرها من البلاد، بسبب الظلم والانقلابات والقتل في بشاعة منقطعة النظير؛ لأنه ليس هناك إسلام يحكم هذه البلاد، فالإسلام دين رحمة وعدل وتقريب للناس أن يعيشوا في سعادة في دنياهم وآخرتهم، وفوق كل هذه الأمور ظلم الإنسان لنفسه بأنه يُشرك بربه غيره ﷾، قال تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:١٣].
1 / 6
الاسم المعاصر للأندلس، ومن أول من سكنها، وسبب تسمية الأندلس
أما الأندلس فتسمى الآن أسبانيا والبرتغال، أو ما يسمى بشبه الجزيرة الأيبيرية، ومساحتها ستمائة ألف كيلو متر مربع، أي: أقل من ثلثي من مصر، ثم تناقصت الأرض عليهم مع مرور الزمان، أما مساحة فرنسا فهي حوالي نصف مليون كيلو متر مربع، وإن شاء الله سيكون للمسلمين أيضًا فتوحات مرتبطة بفرنسا، وفرنسا في ذلك الزمن كان اسمها مملكة الفرنجة، أو مملكة غاليا.
سكن الأندلس منذ القرن الأول الميلادي بعض القبائل الهمجية التي جاءت من شمال اسكندنافا من بلاد السويد والدنمارك والنرويج وما إلى ذلك، وهجمت على منطقة الأندلس وعاشت فيها فترة من الزمان، ويقال: إن هذه القبائل جاءت من ألمانيا، وهذه القبائل كان اسمها قبائل الفندال، وباللغة العربية تحرف أحيانًا إلى الوندال، فسميت هذه البلاد بفندلسيا لأن قبائل الفندال عاشت فيها فترة من الزمان، ثم حُرّف الاسم بعد ذلك إلى أندلسيا، وهذه القبائل كانت وحشية حتى يعلم الناس كيف انصلح الحال في هذه البلاد بعد دخول الإسلام، وفي اللغة الإنجليزية فإ، كلمة فندلزم تعني همجية أو وحشية أو أسلوب غير حضاري أو بدائي في الحياة، فقبائل الفندال عاشت فترة من الزمان فسميت هذه البلاد بفندلسيا، ثم خرجت هذه القبائل وحكم الأندلس طوائف أخرى من النصارى عُرفت في التاريخ باسم القوط الغربيين، وهي التي كانت تعيش فيها حتى دخول المسلمين.
واتجه المسلمون لفتح بلاد الأندلس في ذلك الوقت، لأنهم وصلوا في الفتح إلى المغرب الأقصى، أي: أنهم فتحوا الشمال الأفريقي كله: مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، والناظر إلى خريطة هذه المنطقة يجد أنه بعد دولة المغرب مباشرة المحيط الأطلسي، فإما أن تصعد شمالًا وتعبر مضيق جبل طارق وتدخل في بلاد أسبانيا والبرتغال التي كان اسمها الأندلس، وإما أن تنزل جنوبًا في الصحراء الكبرى، والمسلمون ليس من همّهم جمع الأراضي والممتلكات -والصحراء الكبرى قليلة السكان جدًا- وإنما يبحثون عن البشر حتى يعلموهم دين الله ﷾، فلما انتهوا من المغرب انتقلوا إلى الدولة المجاورة مباشرة التي هي دولة الأندلس، وعندما انتهوا من الأندلس انتقلوا إلى الدولة المجاورة التي هي فرنسا، وكان عندهم العزم -لو ربنا ﷾ فتح عليهم وأكملوا الفتوح- أن يفتحوا الدول المجاورة التي هي: إيطاليا وألمانيا وهكذا، فالمسلمون كانوا قد وصلوا إلى الأندلس واستتب لهم الأمر أواخر الثمانيات من الهجرة، كما سيأتي بالتفصيل إن شاء الله في شرح الطريق إلى الأندلس.
والله ﷾ يقول لنا في كتابه الكريم: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة:١٢٣]، ومعنى: ﴿الَّذِينَ يَلُونَكُمْ﴾ [التوبة:١٢٣] أي: البلاد المجاورة لكم.
وقد دار حوار لطيف بين معاذ بن جبل ﵁ وأرضاه صاحب رسول الله ﷺ وبين ملك الروم قبل موقعة اليرموك عن طريق المفاوضات بين الفريقين والرسل، فسأل ملك الروم معاذ بن جبل ﵁ فقال له: ما الذي دعاكم إلى الولوغ في بلادنا، وبلاد الحبشة أسهل عليكم؟ فالعالم القديم كان مقسمًا بين الروم وفارس، أي: أنها القوة العظمى في ذلك الزمن.
فقال معاذ بن جبل ﵁ وأرضاه: قال لنا ربنا في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة:١٢٣]، وأنتم البلاد التي تلينا، ثم بعد الانتهاء من بلاد الروم سنفتح الحبشة وغيرها من البلاد، فالمسلمون كانوا قد وصلوا إلى المغرب الأقصى، وأول بلاد مجاورة هي بلاد الأندلس، وهي الخطوة التالية للفتح مباشرة.
1 / 7
زمن فتح الأندلس
وقد فتحت الأندلس في سنة (٩٢ هـ) في الدولة الأموية، خصوصًا في خلافة الوليد بن عبد الملك ﵀ الخليفة الأموي الذي حكم من سنة ٨٦ هـ إلى سنة ٩٦ هـ، أي: أن فتح الأندلس كان في منتصف خلافة الوليد بن عبد الملك ﵀.
والدولة الأموية مظلومة في التاريخ الإسلامي، فقد أشيع عنها كثيرًا من الذين شوهوا التاريخ الإسلامي فقالوا: إنه ما كان تاريخ إلا في عهد أبي بكر وعمر ﵄، حتى أن كثيرًا من الناس يطعنون في تاريخ أبي بكر وعمر مع علم الجميع بفضلهما، وغرضهم في ذلك عدم إقامة دولة إسلامية، فإذا كان السابقون القريبون من عهد رسول الله ﷺ وهم دولة بني أمية والدولة العباسية وغيرها من الدول لم تستطع أن تقيم حكمًا إسلاميًا صالحًا ناجحًا، فكيف بالمتأخرين؟ وهذه الرسالة يريدون أن يصلوا بها إلى كل المسلمين، فالدولة الأموية كانت دولة لها كثير من الأيادي البيضاء على المسلمين، فقد دخلت كثير من البلاد في الإسلام في عهد بني أمية، كشمال أفريقيا ابتداء من ليبيا إلى أواخر المغرب، نعم بدأت الفتوحات لهذه البلاد في عهد عثمان بن عفان ثم انتقضت وارتدت على عاقبها، وفُتحت من جديد في عهد بني أمية، وأفغانستان وجمهوريات جنوب روسيا دخلت في الإسلام في عهد بني أمية، وكثير من البلاد وكثير من الناس دخلوا في الإسلام في عهد هذه الفترة الناجحة جدًا في تاريخ الأمة الإسلامية، ودوّنت السنة في عهد بني أمية، ورُغّب في الجهاد في عهد بني أمية حتى صار الجهاد أمرًا طبيعيًا، وأنه في كل سنة سيكون جهاد في الصيف وجهاد في الشتاء فالمجاهدون كانوا يخرجون للجهاد كما يخرجون إلى أعمالهم، والشرع كان مطبّق في عهد بني أمية، ولا نقول أنهم كانوا بلا أخطاء ولا عيوب، ومن المؤكد أن كل البشر يخطئون، ومن المؤكد أن هناك أخطاء كثيرة في تاريخ بني أمية، لكن بلا شك أن هذه الأخطاء تذوب في بحر حسناتهم وأفضالهم على المسلمين.
حكمت دولة بني أمية من سنة (٤٠ هـ إلى سنة ١٣٢ هـ) أي: أنه استمر الحكم في بني أمية ٩٢سنة، ومؤسس دولة بني أمية الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان ﵄، وكثير من الناس يطعنون في خلافة معاوية بن أبي سفيان وفي تاريخه وكذبوا، وليتهم يصلون إلى معشار ما فعله معاوية بن أبي سفيان للإسلام والمسلمين، وإن شاء الله تكون بيننا محاضرات وجولات مع تاريخ معاوية بن أبي سفيان وتاريخ الدولة الأموية، وليس المجال الآن في الخوض والحديث بالتفصيل عن تاريخ بني أمية لكن نذكر مقدمة قد تفيد إن شاء الله في الحديث عن الأندلس.
تتابع الحكام بعد معاوية بن أبي سفيان وأشهرهم عبد الملك بن مروان ﵀، وتبعه من أولاده: الوليد وسليمان ويزيد وهشام، ثم الخليفة الخامس الراشد المشهور عمر بن عبد العزيز ﵁ وأرضاه، الذي ملأ الأرض عدلًا ورحمة وأمنًا ورخاء، وآخر سبع سنوات فقط في بني أمية هي التي كانت فيها الكثير من المآسي والاختلافات عن المنهج الإسلامي، وكسنة من سنن الله ﷾ قامت دولة أخرى لما فسد الأمر في بني أمية وهي دولة بني العباس، لكن فتح الأندلس حسنة من حسنات بني أمية.
1 / 8
حال أوروبا أثناء الفتح الإسلامي للأندلس
سؤال آخر قد يخطر على الذهن وهو: كيف كان الوضع في بلاد الأندلس وأوروبا؟ وكيف تغيرت بعد دخول المسلمين إليها؟ الواقع أن أوروبا في ذلك الوقت كانت تعيش في فترة من فترات الجهل العظيم المنتشر في كل الأرض، وبعد كبير جدًا عن كل مناهج العدل التي نشرها الإسلام بعد ذلك، وظلم بيّن من الحكام للمحكومين فالأموال الكثيرة والخيرات في يد الحكام أما الشعوب فهي تعيش في بؤس كبير.
والحكام اهتموا كثيرًا ببناء القصور والقلاع والحصون بينما يعيش عامة الشعب في فقر شديد، وعموم الناس يزرعون الأراضي وكانوا يباعون ويشترون كالمتاع في هذا الزمان، وهناك انتهاك للحرمات وأخلاق متدنية، وبعد حتى عن مقومات الحياة الطبيعية، فالنظافة مختفية بالمرة، لدرجة أن الناس كانوا يتركون شعورهم تنسدل على وجوههم ولا يقصونها، ولا يغتسلون في العام إلا مرة أو مرتين، ويظنون أن هذه الأوساخ التي تتراكم على أجسادهم هي صحة لهذا الجسد، وهي خير وبركة لهذا الجسد! والمشكلة الكبيرة جدًا هي عندما يذهب أحدهم ليغتسل، والرحالة المسلمون الذين دخلوا إلى اسكندنافا وجدوا الناس يتفاهمون بالإشارة، أي: ليست لهم لغة منطوقة فضلًا عن أن تكون مكتوبة، فهذه البلاد كانت تعيش في جهل وفي ظلم وفي فقر، وكان في هذه البلاد بعض أفعال الهنود والمجوس من حرق للمتوفى عند موته، وحرق لزوجة المتوفى معه وهي حية، أو الحرق لجاريته، أو من يحبه من الناس معه وهو حي والناس تشاهد وتعلم هذا الأمر، وكانت هذه البلاد تعيش في ظلم وفقر وضياع كبير جدًا عن أي وجه من وجوه الحضارة، ثم لننظر ماذا فعل الإسلام في هذه البلاد؟ كانت هذه مقدمة لدراسة تاريخ الأندلس، وبإذن الله من الحلقة القادمة نتحدث عن تاريخ الأندلس بالترتيب الزمني منذ الفتح سنة ٩٢ هـ إلى السقوط في سنة ٨٩٧ هـ.
وكما ذكرنا نؤكد ونعيد ونقول أن هذه المحاضرات ما هي إلا فتح الطريق لدراسة تاريخ الأندلس وليست هي كل تاريخ الأندلس، فتاريخ الأندلس يضم أكثر من ٨٠٠ سنة كما ذكرنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيرًا كثيرًا.
1 / 9
سلسلة الأندلس_عهد الفتح الإسلامي
موسى بن نصير من قواد المسلمين الفاتحين المشهورين في التاريخ الإسلامي، فقد فتح شمال أفريقيا وبلاد الأندلس، وكان من أبرز قواده طارق بن زياد البربري القائد الفعلي والمباشر لفتح الأندلس والذي قاتل النصارى القوط في الأندلس وانتصر عليهم في معركة وادي برباط الشهيرة مع قلة عدد المسلمين وعدتهم.
2 / 1
نبذة يسيرة عن موسى بن نصير ووالده
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
مع الحلقة الثانية من حلقات الأندلس من الفتح إلى السقوط.
تحدثنا في الحلقة السابقة عن بعض المقدمات الخاصة بفتح الأندلس والآن ندخل في تفصيلات هذا الفتح، واليوم نتحدث عن أول فترات الأندلس ما يسمى: بعهد الفتح الإسلامي الأندلسي الذي بدأ في سنة ٩٢ من الهجرة، ولكي نفهم الفتح الإسلامي للأندلس في سنة ٩٢ من الهجرة لا بد أن نفهم الوضع في الشمال الأفريقي الملاصق للأندلس في ذلك الزمن، فبلاد الشمال الأفريقي دخلها الإسلام عبر سنوات عديدة تصل إلى ٧٠ سنة، ابتداء من سنة ٢٣ من الهجرة، وهناك فتوحات في الشمال الأفريقي، لكن كانت دائمة الارتداد عن دين الله ﷾.
يسكن في هذه المناطق قبائل ضخمة جدًا اسمها: قبائل البربر وسنفصل إن شاء الله عنها خلال الحلقات اللاحقة، كانت قبائل البربر كثيرة الارتداد عن الإسلام، حتى دارت بينها وبين المسلمين جولات كثيرة حتى استقر الإسلام فيها في أواخر سنة ٨٥ أو ٨٦ من الهجرة على يد موسى بن نصير ﵀، وموسى بن نصير ﵀ ذلك القائد المسلم البارع التقي الورع الذي ثبت أقدام الإسلام في هذه البلاد المترامية الأطراف في الشمال الأفريقي.
كان من التابعين، روى عن بعض صحابة رسول الله ﷺ، وأبوه نصير كان غلامًا نصرانيًا، أسر في موقعة عين التمر، وكان قائد المسلمين خالد بن الوليد ﵁ وأرضاه، وكان نصير يتعلم الإنجيل والدراسات النصرانية في كنيسة من الكنائس، ثم عرض عليه الإسلام، فأعجب بالإسلام ودخل فيه، ونصير هو أبو موسى بن نصير وكان معه أيضًا في نفس الفترة وفي نفس المكان سيرين والد محمد بن سيرين التابعي المشهور.
فانظر كيف فعل الإسلام بهؤلاء؟ فلو كان نصير نصرانيًا لظل على ما هو عليه في زمانه، ولأصبح راهبًا من الرهبان موجودًا في منطقة في العراق أو في فارس، لكن انظر كيف من الله عليه وعلى ابنه بعد ذلك وأصبح في حسنات خالد بن الوليد ﵁ وأرضاه، فبعد وفاته بسنوات فتحت بلاد الأندلس والشمال الأفريقي على يد موسى بن نصير ﵀، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت:٣٣].
وهذه ثمرة من ثمرات الجهاد الإسلامي في فارس أن فتحت بلاد الأندلس بعد ذلك بعشرات الأعوام، وخالد بن الوليد إن شاء الله مشارك في الأجر لمن فتح بلاد الأندلس، ونصير لما أسلم أخذ يتدرج في الإسلام حتى أصبح عالمًا ومجاهدًا من المجاهدين، وكان فارسًا مغوارًا حتى أنه ترقى في المناصب حتى أصبح في زمن الدولة الأموية هو قائد جيوش معاوية بن أبي سفيان ﵁ وأرضاه، فتولى القيادة لمدة سنوات كثيرة حتى أن ابنه موسى بن نصير أصبح يتربى في بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الأمراء والخلفاء، فتربى موسى بن نصير على حياة الجهاد والدين ونشر الإسلام وما إلى ذلك، ثم كبر بعد ذلك وأخذ يتولى المناصب حتى أصبح قائد جيوش الأمويين في منطقة مصر، وكان الوالي على مصر عبد العزيز بن مروان أخو عبد الملك بن مروان، ثم بعد ذلك أصبح واليًا على أفريقيا في سنة ٨٥هـ، وهو الذي ثبت أقدام الإسلام في أفريقيا بعد ارتداد الناس عن الإسلام، وقد كانوا دخلوا في الإسلام من قبل على يد عقبة بن نافع ﵀.
2 / 2
الأخطاء التي وقعت أثناء فتح بلاد المغرب العربي والتي تجنبها موسى بن نصير
ارتد الناس عن الإسلام فترة من الزمان بعد أن اغتيل عقبة بن نافع في القيروان على يد البربر وهو في طريق عودته من المغرب الأقصى، فنظر موسى بن نصير في سبب ارتداد الناس عن الإسلام بصورة متكررة، فوجد خطأين للسابقين وتجنبهما ﵀ موسى بن نصير ولذلك ثبت الإسلام في عهده في تلك البلاد بعد ذلك.
الأمر الأول: أن عقبة بن نافع ومن معه كانوا يفتحون البلاد فتحًا سريعًا، ولا يحمون ظهورهم في أماكن كثيرة إذا توغلوا فيها، فانقلب عليه الناس وأحاطوا به وقتلوه، فبدأ موسى بن نصير يفتح البلاد في هدوء وفي حذر، وبدأ يتقدم خطوة خطوة ويؤمن ظهره ثم يدخل خطوة أخرى ويؤمن ظهره فتم فتح البلاد في ٧ سنوات أو في ٦ سنوات، بينما عقبة بن نافع فقد تم له الأمر في شهور معدودة.
الأمر الثاني: أن هؤلاء القوم لم يعرفوا الإسلام حق المعرفة، فبدأ يعلمهم الإسلام، فأتى بالتابعين من منطقة الشام والحجاز ليعلموا الناس الإسلام، فأحب الناس الإسلام ودخلوا في دين الله ﷾ أفواجًا، وبدأ يأخذ في صبر شديد يعلم الناس هذا الدين حتى أصبح البربر في المنطقة هم جند الإسلام وأهله.
موسى بن نصير ﵀ بعد أن استتب له الأمر في شمال أفريقيا فكر في قوله ﷾: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة:١٢٣]، فقال: البلاد المجاورة لشمال أفريقيا هي بلاد الأندلس، إذًا: لابد أن أفتح بلاد الأندلس، كان موسى بن نصير ﵀ قد أتم فتح الشمال الأفريقي كله إلا مدينة سبتة، وهي مدينة من المدن المغربية، تقع على مضيق جبل طارق مباشرة، وبلاد الأندلس يفصل بينها وبين المغرب مضيق جبل طارق، ومضيق جبل طارق ليس مضيقًا هينًا بسيطًا، فإن عرضه في بعض المناطق ١٣ كيلو ويصل عرضه في بعض المناطق الأخرى ٣٧ كيلو، وعلى ساحله ميناءان شهيران كبيران هما: ميناء طنجة وميناء سبتة.
فتح كل الشمال الأفريقي ما عدا ميناء سبتة، وميناء طنجة فتح في الإسلام، ولخطورة هذا المكان ولى على ميناء طنجة رجل من القواد المهرة المشهورين جدًا في التاريخ الإسلامي وهو طارق بن زياد ﵀، وطارق بن زياد من قبائل البربر الأصلية التي تعيش في مناطق الشمال الأفريقي أي: أنه ليس بعربي ﵀، ونحن لما تأتي في رءوسنا كلمة البربر نظن أن وجوههم سوداء وأنهم من الزنوج أو ما إلى ذلك.
فالبربر شعوب شعورهم شقراء وأعينهم زرقاء وألوانهم أبيض حتى أن بعض المحللين يقول: أنهم من أصول أوروبية لأنهم شديدي الشبه بالأوروبيين، كان طارق بن زياد ﵀ ضخم الجثة، شعره أشقر، عيناه زرقاوان، ومع ذلك فإن كل هذه الأمور لم تقف في طريق جهاده إلى الله ﷾، فتولى طارق بن زياد ﵀ ولاية مدينة طنجة القريبة جدًا من سبتة التي لم تفتح والقريبة من بلاد الأندلس، وموسى بن نصير ﵀ لما فكر في فتح الأندلس لم تكن هذه الفكرة فكرة جديدة بل هي فكرة قديمة جدًا من أيام سيدنا عثمان بن عفان ﵁ وأرضاه.
فالقسطنطينية كانت قد استعصت على الحملات الإسلامية في أيام سيدنا عثمان بن عفان عندما وصل الفتح إلى كل آسيا الصغرى، واستمرت القسطنطينية فترات طويلة لم تفتح إلا بعد قدوم الخلافة العثمانية الراشدة، فقد تم فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح ﵀، يقول سيدنا عثمان بن عفان ﵁: إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل البحر وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر، يعني: يريد أن يفتح المسلمون الأندلس ومن ثم يتجه الفاتحون إلى أقصى غرب أوروبا حتى يفتحوا القسطنطينية من الغرب وليس من الشرق من قبل البحر الأسود في ذلك الوقت.
إذًا: فكرة فتح الأندلس فكرة قديمة راودت المسلمين منذ عهد سيدنا عثمان بن عفان، لكن المسلمون لم يستطيعوا أن يصلوا إلى هذه المنطقة في المغرب العربي إلا في زمن الدولة الأموية في فترة حكم موسى بن نصير على الشمال الأفريقي.
2 / 3
العقبات والعراقيل التي اعترضت موسى بن نصير في فتح بلاد الأندلس
كانت المشكلة الأولى عند موسى بن نصير أن المسافة بين المغرب والأندلس ١٣ كيلو متر على الأقل، وليس عند المسلمين سفن كافية لعبور هذه العقبة المائية الكبيرة، ومعظم فتوحاتهم كانت برية باستثناء بعض المواقع مثل ذات الصواري وفتح قبرص وما إلى ذلك، وليست لهم سفن ضخمة تحمي الجيوش وتعبر بها مضيق جبل طارق في ذاك الوقت.
أما المشكلة الثانية: أن جزر البليار في شرق الأندلس كانت مملوكة للنصارى، ولو أن موسى بن نصير فتح الأندلس ستكون هذه الجزر من وراء ظهره، وهو يريد أن يحمي ظهره حتى لا يقع في أخطاء السابقين، فجزر البليار مشكلة بالنسبة له، لازم أن يحلها قبل أن يدخل على بلاد الأندلس.
المشكلة الثالثة: أن ميناء سبتة الذي يطل على مضيق جبل طارق لم يفتح، ويحكمه رجل اسمه: يوليان أو جوليان، وهو رجل نصراني، وكانت له علاقات طيبة بملك الأندلس الأسبق غيطشة، والذي حدث عليه انقلاب وتولى الحكم في الأندلس من بعده رجل اسمه: لذريق أو ردريكو، لكن العرب كانوا يسمونه لذريق.
ولم يستطع موسى بن نصير أن يعبر إلى منطقة الأندلس ومن خلفه يوليان الذي كان على خلاف مع لذريق لكن الذي يخشاه هو أنه ينقلب عليه ويساعد لذريق في حربه مقابل أجر مادي أو ما إلى ذلك.
المشكلة الرابعة: أن قوات الفاتحين المسلمين التي جاءت من جزيرة العرب والشام واليمن قوات محدودة قليلة منتشرة في كل بلاد الشمال الأفريقي، فكيف يأخذ من هذه القوات وينتقل إلى منطقة الأندلس؟ قد تنتقض عليه بلاد الشمال الأفريقي وقد لا يستطيع أن يفتح بلاد الأندلس بهذا العدد القليل من المسلمين.
المشكلة الخامسة: أن قوات النصارى في الأندلس ضخمة جدًا، فقد كانت النصارى تحكم بلاد الأندلس تحت قيادة لذريق، وكانت كميات الجيوش فيها كبيرة، والرجل كان قويًا ومتكبرًا، والقوات ضخمة ومعهم عدة كبيرة وقلاع وحصون.
والمشكلة السادسة: أن أرض الأندلس بالنسبة لـ موسى بن نصير ومن معه مجهولة تمامًا، فهي أرض لم تعبرها سفن المسلمين من قبل، فلا يعرفون أي شيء عن أرض الأندلس أو جغرافية الأندلس وما إلى ذلك، وإن كانت الأنباء تترامى أن هذه البلاد صعبة جدًا في الفتح؛ لأن الأندلس أرض كلها جبال، والجبال شاقة جدًا على الجيوش وبالذات في تلك الآونة لأنهم كانوا يعتمدون على نقل عتادهم بالخيول والبغال والحمير وما إلى ذلك، فكان من الصعب جدًا حركة هذه الدواب في الجبال، إضافة إلى أن فيها أنهار وبحيرات كثيرة وهذه تعتبر عوائق ضخمة في عبور الجيوش.
2 / 4
فتح بلاد الأندلس
فهذه مشاكل ضخمة جدًا أمام موسى بن نصير ﵀، ومع ذلك فهو يصر على فتح بلاد الأندلس، فقد واجه كل هذه المشاكل الضخمة التي أمامه، ولم يكسل أبدًا عن فتح بلاد الأندلس مع كل هذه العوائق، فبدأ في أناة يرتب الأمور، فأول شيء بدأ ينشئ سفنًا ويبني مواني، وهذا أمر قد يطول لكن سبحان الله! كان عنده همة عالية جدًا، فقد بنى أكثر من ميناء في منطقة الشمال الأفريقي أشهرها ميناء القيروان التابع لمدينة القيروان والتي أسسها قبل ذلك عقبة بن نافع ﵀، ثم بدأ يعلم البربر الإسلام في مجالس خاصة، ويعطيهم دورات مكثفة لتعليم الإسلام، وبدأ يكون فرقًا من البربر حتى تكون جيش الإسلام.
وسبحان الله! فإن أي دولة من الدول حاربت غير دول الإسلام مستحيل أن تغير من طبائع الناس وولائهم وحبهم حتى يقاتلوا معها بعد سنتين أو ثلاث سنوات فقط من فتح الإسلام حتى أصبح كل هم معتنقيه أن ينصر هذا الدين، فإن فرنسا استمرت ١٣٠ سنة في الجزائر وخرجت منها والناس ما زالوا مسلمين وما زالوا متحمسين للإسلام والصحوة الإسلامية، ونسأل الله ﷾ لهم العافية في هذه المشاكل التي تقابلهم في هذه الآونة الأخيرة.
أما الإسلام فقد انتشر في البربر وبدأ موسى بن نصير يعلم الناس الجهاد في سبيل الله، وبذل النفس لله ﷾، فكثر المسلمون، وصار معظم الجيش الإسلامي الموجود في الشمال الأفريقي من البربر في مدة تتراوح من خمس إلى ست سنوات، فأصبحوا محاربين لهذا الدين، وأصبحوا عماده وجنده.
الأمر الثالث: ولى طارق بن زياد على قيادة الجيش الإسلامي المتجه إلى فتح بلاد الأندلس، لأنه جمع بين التقوى والورع والكفاءة الحربية والجهاد في سبيل الله والرغبة في أن يموت في سبيل الله، وهو بربري ليس بعربي، فليس لعربي على أعجمي وليس لأعجمي على عربي فضل إلا بالتقوى.
وقد قدمه موسى بن نصير على العرب لما له من الكفاءة والفضل، إذ ليست دعوة الإسلام دعوة عنصرية أو قبلية، إنما هي دعوة للعالمين، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٧] ﷺ.
ثم إن طارق بن زياد لكونه كان من البربر يستطيع أن يقود البربر، فليس هناك أي موانع نفسية لديه تجاه الإسلام، ثم إنه يفهم لغة البربر ويتقن الحديث باللغة العربية.
الأمر الرابع: الذي عمله موسى بن نصير والذي يدل على حنكة وحكمة هذا القائد الذي أغفل دوره في التاريخ الإسلامي، هو أنه فتح جزر البليار لأجل أن يأمن ظهره قبل أن يدخل بلاد الأندلس، ففتح جزر البليار وضمها لأملاك المسلمين وأصبح ظهره محميًا من ناحية الشرق إذ أن جزر البليار تقع في شرق بلاد الأندلس في البحر الأبيض المتوسط.
لكن بقيت عنده مشكلة سبتة، وكان يحكمها يوليان، وسبتة ميناء حصين جدًا، ومشكلة أخرى هي مشكلة الجيش البربري، ومشكلة السفن فهو يحتاج إلى سفن كثيرة، فبدأ في بناء السفن في سنة ٨٧ أو ٨٨هـ، وهو لا يعرف أرض الأندلس فإنها مجهولة لديه فيريد يحل كل هذه المشاكل، ولما استنفذ موسى بن نصير الوسع والطاقة وفعل كل ما عليه تدخلت عناية رب العالمين ﷾ وتدبيره، قال تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال:١٧]، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج:٣٨]، ففي قلب يوليان حقد كبير على لذريق حاكم الأندلس في ذلك الوقت؛ لأن لذريق قتل غيطشة الذي كان قبله وكانت هناك علاقات طيبة بين غيطشة ويوليان، وأولاد غيطشة استنجدوا بـ يوليان لكي يساعدهم في حرب لذريق، إذ ليست لهم طاقة بـ لذريق وكذلك يوليان ليست له طاقة بـ لذريق.
وأيضًا أن أولاد غيطشة كانت لهم ضياع ضخمة في أرض أسبانيا وقد صودرت وأخذها لذريق، الذي أذاق الشعب سوء العذاب، فقد فرض عليهم كثيرًا من الضرائب حتى أن شعب أسبانيا كان يكرهه، لأن لذريق كان متنعمًا وشعبه في بؤس شديد.
كل تلك الأفكار خالجت ذهن يوليان، فأرسل رسلًا إلى والي طنجة طارق بن زياد ﵀ من أجل تتفاوض معه، وهذا من تدبير رب العباد ﷾، فعرض عليه ثلاثة أمور وهي: الأمر الأول: أن يسلمه ميناء سبتة، والأمر الثاني: أن يمده ببعض السفن لتساعد الجيش في عبور مضيق جبل طارق إلى الأندلس، فـ موسى بن نصير ما كانت عنده سفن كافية، الأمر الثالث: أن يعطيه معلومات كافية عن أرض الأندلس، فانحلت كل المشاكل التي كانت تعيق طارق بن زياد والي طنجة وكذا
2 / 5
معركة وادي برباط الشهيرة
ثم بدأ هذا الجيش يعبر مضيق جبل طارق في شعبان سنة ٩٢ من الهجرة، ونزلوا على جبل عرف في التاريخ بعد ذلك بجبل طارق والمضيق جبل طارق، ويعرف بهذا الاسم إلى زماننا الحاضر حتى في اللغة الأسبانية بمضيق جبل طارق، ثم انتقل منه إلى الجزيرة الخضراء وهناك قابل الجيش الجنوبي للأندلس وجيش النصارى الضخم، وقد كانت هناك حامية في منطقة الجنوب فقابلها طارق بن زياد ﵀ وعرض عليهم أمورًا وهي: إما أن تدخلوا في الإسلام ولكم ما لنا وعليكم ما علينا ونترك كل أملاككم في أيديكم على أن تدينوا بدين الله ﷾، أو تدفعوا الجزية للمسلمين ونترك لكم أيضًا كل ما في أيديكم، أو أن تدخلوا معنا في قتال ولا نؤخركم إلا ثلاثة أيام، هكذا كانت دعوة المسلمين.
فالنصارى القوط الموجودين في ذاك المكان أخذتهم العزة فتجهزوا لقتال المسلمين، فقاتلهم طارق بن زياد ﵀ فانتصر عليهم، وقد كانت الحرب إلى حد ما سجالًا بين الفريقين، وقوة النصارى أو قوة القوط في ذاك الزمن لم تكن بالقوة الكبيرة، ولم يكن هو جل الجيش القوطي في هذه المنطقة فانتصر عليهم طارق بن زياد، فأرسل زعيم القوط في تلك المنطقة رسالة سريعة إلى لذريق في طليطلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمن، وكانت تقع في منتصف بلاد الأندلس كالقاهرة بالنسبة لجمهورية مصر العربية فإنها تقع في منتصف البلد، فقال في رسالته: أدركنا يا لذريق فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟! والشيء الغريب عند أهل الأندلس أنهم يدخلون في دين الإسلام وأن يترك لهم كل شيء، وما كانوا متعودين على ذلك، فهذه السياسة ليست معروفة عندهم، والمعروف عندهم هو أن الفاتح أو المحتل لبلد ما يأخذ من خيراته وأمواله ثم يترك هذا البلد بعد أن يقتل ويذبح أبناء هذا البلد، أما أن يدخلوا ويترك لهم في دينهم كل شيء أو يدفعوا الجزية لهم ويترك لهم كل شيء فهذا لم يعهدوه من قبل، ثم إن المسلمين في ليلهم من القوام لله ﷾، يعني: أنه وجد طائفة عجيبة جدًا من البشر فإنهم في الصلاة وكأنهم من الرهبان، وفي القتال وكأنهم من المحاربين الأشداء الذين تمرسوا على القتال طيلة حياتهم، فلا يدري أهل الأندلس أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء؟ وصلت الرسالة إلى لذريق فجن جنونه وأخذه الغرور وجمع من الناس مائة ألف مقاتل، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب، أما طارق بن زياد فإن عدد جيشه سبعة آلاف رجل ليست معهم إلا خيول قليلة، فأرسل رسالة إلى موسى بن نصير يطلب منه المدد، فأرسل له موسى بن نصير خمسة آلاف رجل آخرين رجالة على رأسهم طريف بن مالك ﵀ الذي اكتشف أرض الأندلس منذ عام قبل ذلك.
فأصبح جيش المسلمين قوامه ١٢٠٠٠ مقاتل، فأخذ طارق بن زياد ﵀ يتجول في المنطقة ويبحث عن أرض تصلح للقتال حتى وصل إلى منطقة عرفت في التاريخ: بوادي برباط، وتسمى في بعض الكتب: وادي لبتة أو وادي لكة أو وادي لكة، فوجد أن هذا المكان مناسب؛ لأن في خلفه وعن يمينه -أي: في الجنوب والشرق- جبلًا ضخمًا يحمي خلفه ويحمي الميمنة فلا يستطيع أحد أن يلتف من حوله، وفي ميسرة الوادي بحيرة عظيمة جدًا فلا يستطيع أحد أيضًا أن يلتف من جهة اليسار ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي فرقة لحمايته بقيادة طريف بن مالك حتى لا يدخل أحد عليهم من هذا المدخل الجنوبي فيباغت ظهر المسلمين، وأصبح أمامه الشمال مفتوحًا للنصارى حتى يستدرج قوات النصارى للحرب في هذه المنطقة فلا يلتف أحد من حوله في هذه الأرض التي تعتبر إلى حد كبير مجهولة بالنسبة للمسلمين مهما درسوها أو عرفوها.
جاء لذريق ومعه مائة ألف فارس، جاء ومعه البغال محملة بالحبال، لتقييد المسلمين وأخذهم عبيدًا بعد موقعة وادي برباط، وقد جلس على سرير محلى بالذهب يحمل على بغلين، وهو يلبس التاج الذهبي والثياب المغشاة بالذهب، فهو لم يستطع أن يتخلى عن دنياه حتى في لحظات القتال والحروب.
وقد تم اللقاء بينهما في ٢٨ رمضان سنة ٩٢ من الهجرة، والحقيقة أن شهر رمضان شهر معارك أو فتوحات وانتصارات وشهر قيام وصيام وقرآن، ولا يدري الإنسان لماذا تحول شهر رمضان إلى شهر مسلسلات وأفلام جديدة، وفوازير وسهر للفجر، ونوم إلى حد منتصف النهار، وهروب من العمل ومضاربات ومشاكل؟ وأصبحت نفسية الصائم ضيقة، بخلاف المسلمين في ذلك الزمان، فإن رمضان لديهم شهر جهاد، فقد دارت معركة من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين وهي موقعة وادي برباط في ٢٨ رمضان لسنة ٩٢هجرية.
وقد يشفق الناظر إلى الجيشين على جيش المسلمين البالغ عددهم ١٢٠٠٠ مقاتل في مقابل ١٠٠٠٠٠ مقاتل من النصارى القوط، لكن الناظر المحلل يجد أن الشفقة كل الشفقة على جيش النصارى في تلك الموقعة، قال تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَ
2 / 6
مناقشة قضية حرق طارق بن زياد للسفن الحربية
وقبل الانتقال من موقعة وادي برباط إلى ما بعدها من المواقع في الأندلس نناقش قضية اشتهرت كثيرًا في التاريخ الإسلامي والتاريخ الأوروبي وهي قضية حرق طارق بن زياد ﵀ للسفن التي عبر عليها من المغرب إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي برباط.
يقولون: إن طارق بن زياد حرق السفن كلها حتى يحمس الجيش على القتال وقال لهم: البحر من ورائكم والعدو من أمامكم فليس لكم نجاة إلا في السيف، هكذا تصور الرواية.
وبعض المؤرخين يصدقون الرواية والبعض الآخر يبطلونها، والحق أن هذه الرواية لا يجب أبدًا أن تستقيم، فهذه رواية من الروايات الباطلة التي أدخلت على تاريخ المسلمين، والرد عليها كما يلي: أولًا: أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح بالنظر إلى الروايات الإسلامية الأخرى، فهناك علم اسمه: علم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، ولابد أن تكون الروايات عن أناس موثوقين، فهذه الرواية لم ترد أبدًا في كتابات المسلمين الموثوق في تاريخهم، إنما جاءت فقط في الروايات الأوروبية التي كتبت عن موقعة وادي برباط، فهذه الرواية ليس لها سند صحيح.
ثانيًا: أنه لو حدث حرق لهذه السفن كان سيكون هناك رد فعل من موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك؛ لأن هذا أمر غريب جدًا أن قائدًا يحرق سفنه، وقد يكون هنالك حوار بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، أو يكون هناك تعليق من الوليد بن عبد الملك أو من علماء المسلمين، هل يجوز هذا الفعل أم لا؟ فلذلك خفي تمامًا رد الفعل لهذه الحادثة في كتب العلماء مما يعطي شكًا كبيرًا في حدوثها.
ثالثًا: أن المصادر الأوروبية أشاعت هذا الخبر لأمر واضح جدًا، وهو أن المحللين الأوبيين ما استطاعوا أبدًا أن يفسروا كيف ينتصر ١٢٠٠٠ من الرجال الذين ليس معهم خيول على ١٠٠٠٠٠ فارس وهم في بلادهم وفي عقر دارهم وفي أرض عرفوها وألفوها، وكيف ينتصر هؤلاء القلة على هذه الكثرة العظيمة جدًا من البشر؟ فقالوا: إن طارق بن زياد حرق سفنه وأصبح أمام المسلمين حل واحد فقط للهروب من الموت، ولذلك استماتوا في القتال فانتصروا، أما لو لم يحرق السفن فإنهم قد ينسحبون من البلاد ويرجعون إلى بلادهم، وهذا لأن الأوروبيين لا يستطيعون أبدًا أن يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمعروفة والمسجلة في كتابه ﷾: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:٢٤٩].
والناظر إلى صفحات التاريخ الإسلامي يجد أنه من الطبيعي جدًا أن ينتصر المسلمون بأعداد قليلة على غيرهم من الجيوش، بل إن الأصل المتكرر في معظم المعارك الإسلامية أن يكون المسلمون أقلة والكافرون كثرة، ويهزم أعداء المسلمين بهذا العدد القليل من المسلمين، بل إنه من العجب العجاب أنه لو زاد المسلمون في العدد كتبت عليهم الهزيمة كما حدث في حنين، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة:٢٥]، وهذا الأمر سوف نتعرض له إن شاء الله في حوادث الأندلس اللاحقة.
إذًا: الأوروبيون يحاولون أن يشيعوا هذه الشائعة حتى يدخلوا في روع الناس أن المسلمين ما انتصروا إلا لظروف خاصة جدًا، وليس من الطبيعي أن ينتصروا.
رابعًا: أن المسلمين ما هم محتاجون للتحميس بحرق السفن، فقد جاءوا إلى هذه الأماكن راغبين في الجهاد في سبيل الله، وطالبين للموت في سبيل الله، فما يحتاج القائد أن يحرق السفن لكي يشجعهم في سبيل الله! وبعض الناس يقولون: هذا الحدث مسبوق بما حدث قبل هذا في فتح الفرس لليمن، فإن القائد الفارسي الذي فتح اليمن حرق السفن لكي يحمس الجنود الفرس،
و
الجواب
هذا ممكن يحصل من القائد الفارسي أن يحمس الناس بحرق السفن، وقد كان الفرس يجبرون جنودهم على الحرب ضد المسلمين بربطهم في سلاسل كما حصل في موقعة ذات السلاسل المشهورة، وقد كان قائد جيش المسلمين خالد بن الوليد ﵁ وأرضاه.
وهذا ممكن أن يحصل بالنسبة لأهل الدنيا، أما جيش المسلمين فما هو محتاج لهذا التحميس عن طريق هذا الحرق.
خامسًا لا يعقل أن قائدًا محنكًا مثل طارق بن زياد ﵀ يحرق سفنه، ويحرق خط الرجعة عليه، وماذا يصنع لو هزم في هذه الموقعة؟ وهذا أمر وارد جدًا، فالأيام دول، فقد تحدث الكرة على المسلمين لفترة من الفترات، وربنا ﷾ يقول في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ [الأنفال:١٥ - ١٦]، وننتبه هنا للاستثناء: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُ
2 / 7
بيان القول في الجزية
والجزية: هي ضريبة يدفعها أهل الكتاب بصفة عامة أو يدفعها المجوس أو المشركون في رأي بعض الفقهاء وإن كان هذا هو الرأي الغالب أنهم يدفعونها مقابل أن يدافع عنهم المسلمون، ولا يحمل الذين يدفعون الجزية سلاحًا ليدافعوا به عن أنفسهم، لكن على المسلمين أن يدافعوا عنهم مقابل هذه الجزية، بل إن فشل المسلمون في الدفاع عنهم ردت إليهم الجزية، وقد تكرر ذلك في بعض المواقف في التاريخ الإسلامي وسنتعرض لها إن شاء الله في أحاديث لاحقة.
والجزية تؤخذ فقط من الرجال والبالغين لا النساء والأطفال، وتؤخذ من الأصحاء لا المرضى الغير قادرين على القتال وأصحاب العاهات كالأعمى والكسيح، ولا تؤخذ من المعتكف للعبادة والذي لا يقاتل، ولا تؤخذ إلا من القادرين على القتال والغني لا الفقير، بل إن الفقير الذي هو من أهل الكتاب نصرانيًا كان أو يهوديًا أو مشركًا قد يأخذ من بيت مال المسلمين إن كان في بلد تحكم بالإسلام، والجزية في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون ومع ذلك فهي أقل بكثير مما يدفعه المسلمون، إذا أن الرجل الذمي يدفع دينارًا واحدًا في السنة الكاملة جزية للمسلمين بينما المسلم يدفع زكاة ٢.
٥% من إجمالي الدخل الذي عنده إن كان قد بلغ نصابًا وحال عليه الحول.
فالمبالغ التي يدفعها المسلمون في الزكاة أضعاف ما يدفعه أهل الكتاب وغيرهم من الجزية، وفي حالة إذا أسلم الذمي سقطت عنه الجزية، وإذا شارك مع المسلمين في حروبهم دفعوا له أجرة على حربه مع المسلمين، والجزية أقل بكثير من الضرائب التي كان يفرضها عليهم أصحاب الحكم في بلادهم والذين كانوا من أبناء جلدتهم ومن أبناء شعوبهم، والجزية أقل من أي ضريبة في العالم، بل إن الزكاة نفسها أقل من أي ضريبة في العالم، فلا يوجد في الدنيا من يدفع ضريبة ٢.
٥% فقط، بل الناس إن يدفعون ١٠ و٢٠ و٣٠ و٥٠% وأحيانًا ٧٠% ضرائب، بينما الزكاة والجزية في الإسلام أقل من ذلك، كما أن رسول الله ﷺ أمر ألا يكلف أهل الكتاب فوق طاقتهم، فقال ﷺ في الحديث الشريف: (من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه) صدق رسول الله ﷺ.
فالإسلام دين رحمة، لغير المسلمين فهو يدافع عنهم، وكانوا يستفيدون من كل مقدرات البلد في مقابل هذه الجزية البسيطة التي يدفعونها للمسلمين.
وإن شاء الله في الدرس القادم نكمل الفتوح مع طارق بن زياد وموسى بن نصير كيف تم لها فتح بلاد الأندلس؟ وكيف كان رد فعل موسى بن نصير من هذه الانتصارات المتتالية لـ طارق بن زياد؟ وكيف دخل المسلمون بلاد فرنسا وكانت لهم فيها صولات وجولات؟ وكيف وصلوا إلى مسافة ٣٠ كيلو متر فقط من باريس التي هي في أقصى شمال فرنسا؟ وكيف تأسس ما يسمى في التاريخ بعهد الولاة؟ هذا ما نتحدث عنه إن شاء الله في الحلقة القادمة.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وجزاكم الله خيرًا كثيرًا.
2 / 8
سلسلة الأندلس_عهد الولاة
تم فتح الأندلس بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد رحمهما الله تعالى غير نزر يسير منها لم يتسن فتحه لعودتهما إلى دمشق عاصمة الخلافة الإسلامية، بأمر الوليد بن عبد الملك، وبرجوعهما يبدأ عهد جديد سمي بعهد الولاة، وفيه تم استكمال الفتح الكامل لبلاد الأندلس، والزحف باتجاه فرنسا.
3 / 1
فتح طارق بن زياد لمدينة إشبيلية وإستجة وغيرهما
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد: فمع الحلقة الثالثة من حلقات الأندلس من الفتح إلى السقوط.
تحدثنا في الحلقة السابقة عن حلقة مجيدة جدًا من حلقات التاريخ الإسلامي، ورأينا صفحة من صفحات التاريخ المشرق للمسلمين، وكيف أنهم انتصروا انتصارات باهرة على قوات النصارى الموجودة في الأندلس؟ فقد استطاع طارق بن زياد ﵀ باثني عشر ألفًا من الرجال عديمي الخيول أن ينتصروا على مائة ألف فارس من النصارى في موقعة وادي برباط الشهيرة؛ واستشهد من المسلمين (٣٠٠٠) رجل، وهذا يمثل ربع الجيش المسلم، ومع ذلك لم يفت ذلك في عضد طارق بن زياد ﵀، بل انطلق من وادي برباط إلى الشمال ليفتح المدينة تلو المدينة، وكانت المدينة العظيمة التالية لمنطقة وادي برباط هي مدينة إشبيلية، وهذه المدينة مع حصانتها وقوتها ومجدها وحاميتها دفعت الجزية وفتحت أسوارها لـ طارق بن زياد ﵀؛ وذلك مصداق حديث رسول الله ﷺ: (نصرت بالرعب مسيرة شهر).
وبعد فتح إشبيلية توجه طارق بن زياد ﵀ إلى مدينة إستجة، وهي أيضًا من مدن الجنوب، أي: وادي برباط وإشبيلية وإستجة وغيرها من المدن في منطقة الجنوب، ونحن نعلم أن منطقة الجنوب الأندلسي هي المنطقة الملاصقة لمنطقة المغرب العربي، وفي منطقة إستجة قاتل المسلمون قتالًا عنيفًا، ولكنه بلا شك أقل من قتال وادي برباط؛ لأن معظم قوة النصارى كانت قد هلكت في وادي برباط، ثم قبل أن ينتصر المسلمون في أواخر الموقعة فتح النصارى أبوابهم وصالحوا على الجزية، وهناك فرق بين أن يصالح النصارى على الجزية وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحًا؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة لأخذوا كل ما فيها وملكوا البلد، أما إن صالح النصارى على الجزية، فإنهم يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلا الجزية، والتي تقدر بدينار واحد في كل عام على الرجل القادر المستطيع للقتال الغني، فلا تفرض الجزية على المرأة، والوليد الصغير، والمعتكف للعبادة، والضعيف غير القادر على القتال، والأعمى، والكسيح، وهكذا فإنها لا تفرض إلا على المستطيعين للقتال فقط.
وكان عدد جيش طارق بن زياد ٩٠٠٠ مقاتل فقط، فأرسل السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى، وانطلق بقوة الجيش الرئيسية في اتجاه الشمال، حتى وصل إلى طليطلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمان، فبث سرية إلى قرطبة، وسرية إلى غرناطة، وسرية إلى ملقة، وسرية إلى مرسية، فهذه مدن الجنوب المنتشر على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والموجودة بالقرب من مضيق جبل طارق، مع العلم أن كل سرية لا يزيد عدد الرجال فيها عن (٧٠٠) رجل، ومع ذلك فقد فتحت قرطبة -على الرغم من عظمتها وكبرها- بسبعمائة رجل فقط من المسلمين، قال رسول الله ﷺ: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وقال تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال:١٧].
ثم توجه طارق بن زياد ﵀ اتجاه الشمال حتى فتح مدينة أخرى تسمى مدينة جيان، وهي من المدن الحصينة جدًا للنصارى في ذلك الزمن.
ويبدو أن موسى بن نصير ﵀ كان قد أوصى طارق بن زياد ألا يتجاوز مدينة جيان وقرطبة، وأمره ألا يسرع في الفتح حتى يصل إلى طليطلة؛ وذلك حتى لا يحاصره جيش النصارى بعد أن يتقدم بجيشه القليل البسيط في العدة والعتاد والذي يبلغ (٩٠٠٠) رجل فقط، لكن طارق بن زياد وجد الطريق أمامه مفتوحًا إلى طليطلة العاصمة، وهي أحصن مدن النصارى على الإطلاق، وفيها من الضعف الشديد للنصارى، فلو هاجمها فقد تفتح، وإن امتنع عن فتحها كما هو رأي موسى بن نصير فقد لا يستطيع أن يفتحها مرة أخرى، فاجتهد طارق بن زياد ﵀ فخالف رأي الأمير الأعلى موسى بن نصير، والأفضل في هذا الموقف أن يستشير طارق بن زياد مرة أخرى موسى بن نصير، ويرسل له رسالة يبين له فيها أنه يرى أن الطريق مفتوح، وأنه سوف يفتح طليطلة، فما رأيه وما رده على ذلك، لكن طارق بن زياد أسرع في اتجاه طليطلة دون استئذان من موسى بن نصير ﵀، فعلم موسى بن نصير بتقدم طارق بن زياد إلى طليطلة، ولكن لطول المسافات لم يستطع أن يلحق بـ طارق بن زياد إلا بعد أن وصل إلى طليطلة، فوجد طارق بن زياد طليطلة المدينة الحصينة جدًا من أحسن وأحصن مدن الأندلس على الإطلاق، محاطة بجبال طبيع
3 / 2
رسالة الوليد بن عبد الملك لموسى بن نصير بالعودة مع طارق بن زياد إلى دمشق
كان موسى بن نصير ﵀ يريد أن يفتح منطقة الصخرة، لكن وصلته رسالة من دمشق من الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين في ذلك الوقت، يطلب منه ومن طارق بن زياد أن يعودا إلى دمشق ولا يستكملا الفتح، فحزن موسى بن نصير حزنًا شديدًا لهذا الطلب؛ لأنه لم يكمل الفتح، وكان رأي الوليد بن عبد الملك أن المسلمين قد توغلوا كثيرًا في بلاد الأندلس في وقت قليل، وخشي ﵀ أن يلتف النصارى من جديد حول المسلمين، فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في تلك البلاد فهي قليلة، فلا يريد أن يتوغل المسلمون أكثر من ذلك.
وهناك أمر آخر وهو صحيح: وهو أن سبب إصرار الوليد بن عبد الملك على استجلاب موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق، هو أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير ﵀ يريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوروبا، حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب، فإن مدينة القسطنطينية كانت قد استعصت على المسلمين من الشرق، فإن جيوش الدولة الأموية لم تستطع أن تفتحها.
وفعلًا فإن موسى بن نصير هذا الرجل العجيب كان يفكر في أن يخوض كل بلاد أوروبا؛ فيفتح فرنسا ثم إيطاليا ثم يوغسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم تركيا حتى يصل إلى القسطنطينية، فيفتحها من الغرب، ويتوغل بكل هذا الجيش الإسلامي في هذا العمق العجيب في قارة أوروبا، منقطعًا عن كل مدد، وهذا أمر أرعب الوليد بن عبد الملك، فإن هذا الجيش لو احتاج إلى مدد، فإنه سيحتاج إلى شهور، بل وسنوات حتى يصله هذا المدد، لما يفصل بينها وبين المسلمين من مسافات ضخمة من بحار وجبال وأراض واسعة، وخشي الوليد بن عبد الملك على جيش المسلمين من الهلكة.
وقد كان موسى بن نصير يبلغ من العمر (٧٥) سنة، فهو شيخ كبير، ومع ذلك كان يركب الخيول ويجاهد في سبيل الله، ويفتح المدينة تلو المدنية ويحاصر إشبيلية شهورًا، ثم يحاصر مردا شهورًا، ثم يفتح برشلونة وسرقسطة والشمال الشرقي، ثم يتجه إلى الشمال الغربي ويحاصر الصخرة، ثم يريد أن يفتحها ويتجه إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها، حتى يصل إلى القسطنطينية، فأي همة عند هذا الشيخ الكبير موسى بن نصير؟ أما في زماننا فإن من بلغ هذا السن فإنه يصبح مقعدًا غير عامل في المجتمع، ويعتبر أن رسالته قد انتهت، فمن لتعليم الأجيال، ولتوريث الخبرات، ولتصحيح المفاهيم؟ إذًا: حزن موسى بن نصير حزنًا شديدًا على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه لأرض الجهاد، فقد كان متشوقًا جدًا إلى الجهاد؛ ولأن الصخرة التي في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تفتح بعد؛ ولأنه لم يستكمل فتح القسطنطينية من قبل الغرب، ثم لم يجد إلا أن يسمع ويطيع للوليد بن عبد الملك ﵀، فقطع المسافات الطويلة في شهور حتى وصل إلى دمشق، وهناك وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت، وما هي إلا ثلاثة أيام ومات الوليد بن عبد الملك ﵀، وتولى الخلافة من بعده سليمان بن عبد الملك والذي كان على فكر أخيه؛ فقد رفض أن يعيد موسى بن نصير خشية أن يستكمل الفتوح داخل بلاد أوروبا ويصل إلى القسطنطينية في حركة عسكرية قد تؤدي إلى هلاك الجيش الإسلامي، فأبقاه عنده في دمشق، وأبقى طارق بن زياد كذلك.
وبعدها بعام ذهب سليمان بن عبد الملك إلى مكة للحج، فـ موسى بن نصير اشتاق للحج، لأنه منذ سنوات طويلة وهو في أرض الجهاد، يفتح البلاد ويعلم الناس الإسلام أكثر من عشر سنين، فتشوق للحج فرافق سليمان بن عبد الملك إلى الحج في عام (٩٧) من الهجرة، وفي طريقه إلى هناك قال: اللهم إن كنت تريد لي الحياة، فأعدني إلى أرض الجهاد وأمتني على الشهادة، وإن كنت تريد لي غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله ﷺ.
فحج ثم سافر إلى مدينة رسول الله ﷺ فمات فيها.
فهذا حال القلوب الموصولة برب العالمين ﷾، وهذا من حسن الخواتيم، فقد وصل إلى هذه المرتبة العظيمة بحيث يدعو ربه ﷾ فيستجيب لدعائه، فيموت في مدينة رسول الله ﷺ، ويدفن هناك مع صحابة رسول الله ﷺ، فهذه همة عظيمة جدًا، فهو نبراس لكل المسلمين.
الأمر اللافت للنظر في التاريخ أن طارق بن زياد ﵀ انقطعت أخباره بالكلية عند هذه المرحلة، فقد عاد إلى دمشق مع موسى بن نصير، لكن لا أحد يدري هل عاد مرة أخرى إلى بلاد الأندلس، أم أنه بقي في بلاد دمشق؟ وإن كان هناك بعض الروايات التي لا يثق المؤرخون من صحتها أنه قد مات في عام ١٠٢ من الهجرة، يعني بعد هذا الرجوع بحوالي بخمس أو ست سنوات، لك
3 / 3