وأطال السبكي في مدحه حتى نقل عن بعض المحققين أنه قال: «لو لم يكن للناس في الكتب التي صنفها الفقهاء الجامعون في تصانيفهم بين النقل والنظر والفكر والأثر غيره لكفى.» ثم قال: «وهو من الكتب التي ينبغي للمسلمين الاعتناء بها وإشاعتها ليهتدي بها كثير من الخلق، وقلما ينظر فيه ناظر إلا ويتعظ به في الحال».
ويدل على مبلغ تأثير «الإحياء» عناية العلماء به، فإنا نجد الحافظ العراقي يخرج أحاديثه في كتابين: أحدهما كبير الحجم في مجلدين، وهو الذي صنفه في سنة 751ه ثم اختصره في مجلد وسماه «المغني عن حمل الأسفار». ثم أتى تلميذه شهاب الدين بن حجر العسقلاني فاستدرك عليه ما فاته في مجلد. وصنف الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي كتابا سماه: «تحفة الأحياء فيما فات من تخريج أحاديث الإحياء» وقد سبقت كلمتنا فيما نقل السبكي من الأحاديث الموضوعة.
وممن اختصر «الإحياء» أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي المتوفى بقزوين سنة 520ه وسماه «لباب الإحياء» وأحمد هذا هو أخو الغزالي. ثم اختصره أحمد بن موسى الموصلي المتوفى سنة 622ه. ثم محمد بن سعيد اليمني، ويحيى بن أبي الخير اليمني، ومحمد بن عمر بن عثمان البلخي وسماه «عين العلم وزين الحلم» (انظر نمرة 109 من فهرست دار الكتب المصرية). واختصره عبد الوهاب بن علي الخطيب المراغي وسماه «لباب الإحياء» واختصره الشمس محمد بن علي بن جعفر العجلوني المشهور بالبلالي شيخ خانقاه سعيد السعداء بمصر المتوفى سنة 820ه.
واختصره ابن الجوزي في كتابه سماه: «منهاج القاصدين» ومنه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية نمرة 167.
وللإحياء شرح مطول يقع في عشر مجلدات، وفيما شاء الله من الصفحات، ألفه الزبيدي، وقد اعتمدت على هذا الشرح في تحقيق كثير من مواطن الخلاف.
ولم يقف الأمر عند شرح الإحياء، واختصاره، وتخريج أحاديثه، بل وضعت الأبحاث المفردة، لشرح كلمة وردت في الإحياء، وهي: «ليس في الإمكان أبدع مما كان» وممن شرح هذه الكلمة: عبد الوهاب الشعراني، وعبد الكريم الجبلي، ومحمد المغربي شيخ الجلال السيوطي، وأحمد بن مبارك السجلماسي، وأبو بكر بن عربي. ووضع ناصر الدين بن المنير الإسكندري رسالة في هذه المسألة سماها: «الضياء المتلالي في تعقب الإحياء للغزالي» وفي مناقضة هذه الرسالة ألف السيد السمهودي رسالة تقع في سبعة كراريس كما قال الزبيدي. وألف البرهان البقاعي رسالة في هذه المسماة سماها «تهديم الأركان» وألف الجلال السيوطي رسالة ناقض بها البقاعي سماها «تشييد الأركان». (7) الانتفاع بمؤلفات الغزالي
ولقد تتبعت العصور التي تلت عصر الغزالي فوجدت الانتفاع بمؤلفاته ظاهرا كل الظهور في حياة علماء الدين والتصوف والأخلاق. ولقد رأيت من بينهم من هم يحفظ كتاب الإحياء عن ظهر قلب. ورأيت منهم من كان يتقرب إلى الله بنسخ هذا الكتاب. وتجد في ص69 ج3 من «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» مظهرا لأثر الغزالي في ذلك العصر، إذ تجد من العلماء من يتخذ وردا من الإحياء كما يتخذ وردا من القرآن ولولا خوف الإطالة لضربت للقارئ عشرات الأمثال.
وفي العصر الحاضر يدرس كتاب الإحياء في الأزهر والمعاهد الدينية، وكان الأستاذ الشيخ محمد عبده قرر أن يدرس معه كتاب ابن مسكويه في تهذيب الأخلاق، ولكن رأى العلماء فيه آراء فلسفية، فقرروا لذلك حذفه، لئلا يفسد الطلاب.
والأستاذ الشيخ يوسف الدجوي ينصح لتلامذته دائما بالانتفاع بكتاب الإحياء. وكنت ممن أوصاهم بذلك، ولكن الله لم يشأ أن أكون كما أراد الأستاذ، فقد رأيت كيف صورت الغزالي بصورة الذي قد يخطئ وقد يصيب، وهذا من مثلي كثير!
وأثر الغزالي ظاهر في مؤلفات الشيخ الدجوي، وهو أيضا سبب ضعف تلك المؤلفات: فإن كتاب «سبيل السعادة» الذي وضعه الأستاذ منذ بضع سنين يشبه أن يكون خلاصة مشوهة للآراء الحديثة في فهم أصول الأخلاق، وفضيلة الشيخ معذور لأنه لا يعرف لغة أجنبية، ولأنه يبغض المدنية الحديثة من أعماق صدره، ويستبعد الاهتداء بآراء الفلاسفة المحدثين!
Shafi da ba'a sani ba