وبينا هو غافل عن كل شيء، حتى وجوده، إذا به يسمع صوتا يناديه، وقد نزل في مسامعه نزول المطر على زهرة أضناها حر النهار: حبيبي أين أنت؟ - أنا هنا يا زهرتي الذكية. - حبيبي، وماذا تفعل وحدك في الغابة؟ أما خفت من الذئاب؟! - وكيف أخاف الذئاب وأنا بينهم؟ - وماذا جئت تعمل هنا؟ - أناجي الله لعله يسمع صوتي. - والذئاب قلت لك؟! - ولأجل الذئاب الداجنة أناجي ربي. ما هربت إلى هنا؛ إلا لأنهم سيتغلبون علي. لقد دنت الساعة ومن ينجيني منها؟
وكان المتكلم فتاة سماوية الجمال، إلهية الحسن، كالتي رآها سليمان وهام بها في نشيد أنشاده، ولكنها غير ملتحفة بالشمس والقمر والنجوم؛ لأنها ليست بطالعة من البحر. هي جبلية مثلنا، خطبها هذا الشبح المسكين قبل أن يصير الشبح الذي سبق وصفه، وقبل أن يصاب بدائه العضال، ولكنها لم تتخل عنه لشدة حبها له، ولم يبعدها عنه الداء القتال الذي ألم به فأحاله عن العهد.
آثرت هذه الفتاة الموت على حياتها بدون حبيبها. وها هي قد دنت منه، ورسمت على جبينه قبلة المحبة التي هي أقوى من الموت.
وبعد سكوت لا تصفه الأقلام هتفت به: هيا بنا يا حبيبي، إلى العش الذي أحسسنا فيه بالدفء. ألا ترى أنك ترتجف كهذه الأوراق التي تتساقط حولنا وعلينا؟ قم ولا تيأس، لا تقنط من رحمة الله. - أي عش بقي لنا يا حبيبي؟ لقد مزقته الرياح، والفراخ مهيضو الجناح. - قم قلت لك، انتصر على هذه السويداء بالرجاء. - عبث، دعيني أرقد هنا مستريحا، ما بقي من عمري إلا دقائق معدودة، اتركيني هنا وامضي إلى البيت وحدك.
فانتحبت الحبيبة وكادت تولول لو لم يزجرها بقوله: ابلعي صوتك، وإلا اهتدوا إلينا وقتلونا معا شر قتلة.
وتهاوت عليه وطرقت عنقه، فصرخ: إياك، ابعدي عني، ألا ترين سائر الأصدقاء والخلان الأوفياء قد هجروني ونبذوني؟ لم يعودوا يكترثون لي، فاتركيني وشأني، دعيني أموت وأنا أنظر إلى هذا الصنم الضخم الذي يلجئون إليه خدعة واحتيالا ... لا أجدف ولا ألعن، ولكني أقول: الويل للذين يأكلون اللباب ويلهون المساكين بالقشور. - قم معي، والله لا أروح ولا أدعك وحدك، الليل كافر يا حبيبي. - ليس أكفر من هؤلاء ...
ولما أعيتها الحيلة، قعدت حد رأسه تداعب شعره الذهبي بأناملها الفضية.
وبعد سكوت طويل، زمجرت الرياح، فارتعدت فرائص الشبح، وبكل تعب وجهد رفع رأسه والتفت نحو الشجرة التي قبالته. وبعد تأوه وتنهد قال لصاحبته: انظري إلى هذه الشجرة التي هي أمامنا. ألا ترين أن الرياح لم تبق من أوراقها سوى خمس ورقات؟ انظري إليها جيدا، تفرسي بها.
وظلت تظنه يهذي حتى قال: إن ساعتي الأخيرة مرهونة بسقوط هذه الأوراق الخمس، ومع سقوط آخر ورقة ألفظ آخر نفس من أنفاسي. - ماذا؟ أنت تموت؟ هذا لا يكون، لا يا حبيبي.
قالت هذا وطوقت عنقه بذراعيها وأردفت قائلة: أنت تموت؟ أنت تفارق الحياة وأنا أبقى؟
Shafi da ba'a sani ba