ومرة سرت قصة تقول إن الشيخ شيخة ليس ابن رجل كبقية الآدميين ولكنه ابن قرد، وإن إحدى نساء بلدنا اللاتي أعياهن البحث عن الخلف، لجأت إلى غجرية، فوصفت لها «صوفة» تستعملها. واستعملتها ولحظها السيئ كان فيها نطفة قرد، جعلتها تحمل وتلد الشيخ شيخة، وتفزع منه ساعة ولادته، فتعطيه للغجرية، وتعطيها نقودا ثمنا لسكوتها ولكفالتها له. وتأخذ الغجرية المولود وتلف به في بلاد الله، ثم تعود به وقد كبر، فتتركه عند حافة البلدة وتمضي.
وفي العام التالي تسري قصة أخرى ضاحكة لتؤكد العكس، ولتهمس أن الشيخ شيخة ما هو إلا ابن عبده البيطار الذي يقص شعر الحمير ويقلم حوافرها ويركب لها «الحدوات» الحديد. والذي يشاع - والعهدة على الرواة - أنه من عشاق إناثها، وبالذات حمارة الشيخ البليدي المأذون، وأن الشيخ البليدي هو الذي تخلص من المولود؛ مخافة أن تلصق التهمة به، أو على الأقل بابنه الذي كانوا يشيعون أنه مصاب بنفس الداء.
أقاويل وقصص وإشاعات هشة وخافتة ومتباعدة، ولكنها لا تنقطع. وكأنما يؤكد بها الناس إصرارهم على محاولة تفسير هذا اللغز الحي؛ فلا بد لوجوده بينهم من تفسير وسبب؛ إذ لا بد لكل شيء من سبب، حتى الشيء غير المعقول لا بد لوجوده من سبب معقول، ولكنها إشاعات وحكايات لا تفسر ولا توضح ... وبعضها يقال للترويح عن النفس لا غير.
وكان من الممكن أن يظل الشيخ شيخة يحيا في بلدنا يمثل شخصية الحاضر الغائب والراكب الماشي والكائن غير الكائن، لولا أنه ذات ليلة من عام مضى جاء ولد من أولاد العبايدة يجري من ناحية الجامع ويلهث. وما كاد يجد الجمع الذي يسهر عند زقاق الطاحونة، حتى انهار يجلس بينهم ويرتجف ويغمى عليه. - ما لك يا ولد جرى إيه؟
قال بتهتهة العبايدة وحشرجتهم: إنتم بالكم إيه!
قالوا: إيه؟
قال: دا أتبن الشيخ شيخة بيسمع وبيتكلم زي البربند. - إزاي يا ولد؟ مش معقول ... دا من رابع المستحيل ... عرفت إزاي؟
والولد يقسم برحمة أبيه إنه كان فائتا من ناحية الخرابة، فسمع اثنين يتكلمان بصوت منخفض ما لبث أن ارتفع، فاقترب وإذا به يجد الشيخ شيخة يكلم العرجة، كلام مضبوط مثل كلام الناس، ولم يصدق نفسه، فاقترب أكثر، ولكن نعسة كشت فيه، فجرى وجاء يلهث ويرتجف ويروي الحكاية. •••
وطبعا لم يصدقه واحد من الجالسين ولا حتى من الذين سرى لهم الخبر، كلهم أجمعوا على أن كلام الولد تخريف في تخريف، وأنه لا بد قد أرعبته الخرابة فتصور ما تصور. أو من الجائز جدا أن المتحدثين كانا من الجان ... فهو احتمال أقرب كثيرا من أن يكون الشيخ شيخة يتحدث أو يتكلم أو يعقل الكلام. وهل من المعقول أن يخدعوا فيه كل هذه السنين الطوال؟ ثم ما فائدة أن يخدعهم وماذا يستفيد؟ ولأي شيء يعذب نفسه ويقف بالساعات وينام كالحيوانات ويحيا كالديدان؟
ولكن رغم قوة الحجج واستنكار الناس لصحة أي حرف مما قاله الولد، فرغما عنهم وبدون قصد راحت نظرتهم إلى الشيخ شيخة كلما رأوه أو تسمر قريبا من أحد مجالسهم ... راحت نظرتهم تختلط بتساؤل شاك بمجرد احتمال، ولو كان احتمالا غير معقول: ماذا لو كان كلام الولد صحيحا، وكان الشيخ طول عمره يرى ويسمع ويعقل كل ما دار ويدور أمامه؟
Shafi da ba'a sani ba