ولم أحاول مرة أن أجره للحديث أو أسأله، كان يبدو كالمقاد إلى هدف قوي بعيد يجذبه ويعيشه، ولا يدع له وقتا للكلام أو الوقوف، ويتخطى بي كباري، ويلف حول خلجان ويزحف على يديه في بطون أحواض، وكأنما هو لا يراني أو يسمعني أو يحس أصلا بوجودي. في الأحيان النادرة التي تكلم فيها كان يقول: إيه ... هيه ... بتقول إيه؟
فإذا حاولت استيضاحه، أجابني بغمغمة أدرك معها أنه مستغرق في تفكير من العبث أن أحاول استخراجه منه. كان الليل هائلا كبيرا كخيمة مأتم كللت بالسواد؛ حدادا على وفاة النهار، وليس فيها سوى أنوار قمر شاحب ونجوم أضيئت لتهدي المعزين. وكانت الغيطان واسعة ممتدة أوسع من غيطان النهار ... نترك حقول القمح المحصود لندخل حقول الأذرة، ونخرم وسط أقطان، ونرقب خيالاتنا المعتمة في الأرض الغارقة بالماء تنتظر زراعة الأرز. أرض كثيرة شاسعة وممتدة، كل شبر منها مزروع ومعتنى به، وعرق من أجله هؤلاء الغلابى الراقدون في بيوتهم، وكأنما ناموا من الحزن، يتقلبون في انتظار أن يأتي النهار، ويغترفهم بقبضته، ثم بكل عزمه يبذرهم ليفرش بهم وجه الأرض، فيقلبوا سوادها خضرة، وخرابها عمارا، وطميها خبزا ... إلى أن يجيء الليل وبمنجله يحصدهم، وبأسراره وخفاياه يخزنهم في صوامعهم الآدمية المصنوعة هي الأخرى من الطين. ما كان أبعدنا عن أولئك الذين يبذرهم النهار ويحصدهم الليل، وتنبتهم الأرض ليعودوا ينبتونها! ما كان أبعدنا عنهم وهم نائمون، بعيدين ينعمون بطاعتهم الشاملة للكون وأرضه ونهاره وليله! ما كان أبعدنا ونحن نخترق عالمهم وجهدهم في استخدامه وتجميله! الغريب أمامي قصير صغير اليد قوي الذراع ... الذي ناضل حتى أفلت من قبضة النهار ومنجل الليل، ويريد أن يخضع الكون لنواميسه، وليكون له على الناس سلطان الكون ونواميسه، فيخشونه كما يخشون الله والآخرة وبرد طوبة. وأنا وراءه أتأمل حجمه الصغير حتى المدفع المعلق في كتفه، وأتأمل حجم الليل الكبير، وأجده أحيانا أضأل كثيرا من أن يملك زمام الليل ويصبح سلطانه.
ولكنا لم نكن وحدنا ... كان يحدث أن أسمع الغريب يغمغم بخفوت، ثم يقول: دستوركم يا رجالة.
وأتفرس حينئذ فيما حولي، وبالكاد ألاحظ رجلين، أو بضعة رجال قد انتحوا من الليل ركنا تحت كوبري أو في مدار ساقية، لا تدري لأي شيء هم جالسون ينتظرون، ولا لأي هدف يتحدثون في صمت ويتشاورون، ولا ما الذي جعلهم يتركون، هم الآخرون، مضاجعهم ويسهرون في تلك البقع المخيفة ورغم هذا الليل الشامل البهيم؟ ولكني كنت أهز رأسي وأقشعر، وأقول هم أولاد الليل الحريصون على تقاليد الليل حرص الغريب، والذين حين يحييهم تحيته تلك يأمنون ويؤمنونه، وكأنما ألقى عليهم كلمة السر، ويردون عليه قائلين: دستورك معاك.
وفيهم أيضا كرم الفلاحين، فما أكثر ما كانوا يردفون: اتفضل.
وما أكثر ما كنت أفرح وأنتشي حين يلحظون وجودي، ويقولون: دستوركم معاكم، اتفضلوا يا رجالة.
شيئا فشيئا وبعد توغل طويل في الليل، وغوص أكثر في ظلامه ولقاء لأبنائه، بدأت أرى الغريب بعين جديدة، بدأت أراه بعين الليل الذي نحن فيه، فأحس أنه مع الليل أكثر انسجاما. وكأن كلا منهما جزء متمم للآخر ... حتى ليستحيل على المرء أن يتصور الليل بغير الغريب والغرباء زملائه، أو يتصور الغرباء بلا ليل يحجبهم ويسترهم ويحيون في كنفه ... هؤلاء الهاربون من أبوة النهار الواضحة إلى أبوة الليل الخفية، هؤلاء الذين يجذبهم الليل بكل وضوحه وقانونيته، من يراهم ويرى ألفتهم مع الليل وترويضهم لوحوشه يخيل إليه أنه من المستحيل أن ينتهي أمرهم، حتى ولو ملأ العمران كل الأرض. سيظل هناك أولاد ليل ما دام هناك ليل، وما دام لليل سحره وجاذبيته التي لا تقاوم، فما ذنبهم؟ الليل هو الذي يجذبهم ويخلقهم وينتزعهم من النهار، وسيظل الليل يخلقهم ما وجد هناك ليل وما ظل الماء يخلق السمك، والصحراء تخلق الرعاة، والغربة تخلق الحنين. منذ الأزل كان هناك الغرباء وإلى الأزل سيظلون. ومنذ الأزل وأشد العقاب ينزل بهم ويهلكهم، ورغم العقاب يعودون يوجدون. فكما فقد الليل غريبا جذب من أهل النهار آخر ... ربما لكي تظل الدائرة تدور، ولكي يظل هناك أهل ليل وأهل نهار، ولكي يظل أهل النهار هم الكثرة وأهل الليل قلة، أو حتى ربما لنظل من أهل الليل أو النهار عن طواعية واختيار.
حين أوقفني الغريب بذراعه وواجهته، وراح يتفرس في، تساءلت بيني وبين نفسي ما الذي يمنع رجلا كهذا أن يقتلني والبقعة نائية، ولن يشهد فعلته أحد سوى الليل الذي لا يرى ولا يسمع ولا يفتن؟ والحجة موجودة - حكاية وردة - بل حتى بلا حجة، ما الذي يمنعه من قتلي إلا أنه يعرفني؟ ألأن بيني وبينه صلة هي التي تجعلني أحس بالأمان؟ من يدري؟ ربما لو عرف الناس بعضهم بعضا معرفة وثيقة ما جرؤ أحد على قتل أحد ... ما خاف أحد من أحد. كنت أفكر في هذا حين سألني الغريب بصوت أجش، قد خشنه الصمت الطويل، وبله الندى: إنت خايف؟
قلت على الفور: لا.
قال: مستعد لأي حاجة؟
Shafi da ba'a sani ba