ومن الظلام المخفف بظلال العيدان سمعت ضحكة ... بالضبط لم تكن ضحكة ممكن أن يقاس نوعها وطولها ... كانت إذا قيست بالضحك الحقيقي، حسبتها حبة من مسبحة ... أو قطرة من ماء، أو عينة من ثوب قماش ... وآخر ما كنت أتوقعه من نفسي هو أن أغضب لسماعها ... غضبت، بل أكثر من هذا، أحسست أني أكظم غيظي، ولكني سكت. - إنت ابن مين يا شاطر ...؟
وكاد غضبي يتحول إلى حركة وقول لدى سماعي السؤال، وخاصة لدى كلمة «شاطر»، ولكني لا أعرف لماذا هدأت للسؤال، وحل الاطمئنان في قلبي ... وقلت: أنا ابن فلان. - أبوك رجل طيب.
والحقيقة لم أسمع بقية إجابته ... فقد وجدت العيدان تشخشخ وتتأرجح، ثم يبرز على أثر الكلام من بينها امرأة قصيرة القامة ترتدي ثوبا أسود، وطرحة سوداء، وبرقعا ذا قصبة ذهبية لمعت بشحوب تحت شعاع القمر الأصفر.
5
من الممكن أن يعتقد البعض أنه كان حريا بزيه هذا أن يبعث في نفسي السخرية والاستهانة بصاحبه، ولكن العكس بالضبط هو ما حدث ... فقد أحسست فعلا بشعري يقف، وقشعريرة ملتهبة تغمر فروة رأسي، وأنا أرى الغريب قتال القتلة ومدوخ المديرية يرتدي ثوب النساء الأسود، ويضع مثلهن البرقع ... وأن يظهر لنا العفريت كعفريت شيء يخيف، أما أن يظهر في صورة «عرسة» فشيء لا بد أن يبعث على الرعب المميت.
وخطا الغريب بضع خطوات ناحيتي، وهاتف الجري عند كل خطوة يعلو نداؤه وترجع رأسي صداه، ولكنه فجأة جلس وقال: اقعد ... وفي الحال قعدت، وإن كنت قد افتعلت البطء والتؤدة وأنا أجلس ... كانت حافة «القيد» الذي تروى منه الأرض، والذي جلسنا عليه لأتهيأ مكانا لجلسة مريحة، ولكن مشكلتي لم تكن في الجلسة. مشكلتي كانت فيما يريده الغريب مني، هو يريد الناس لقتلهم مثلا أو ليعورهم أو ليأخذ منهم نقودا، فماذا يريد مني وهو لم يقتلني، ولا يعقل أن يكون معي نقود، ويطلب مني أن أجلس!
جلست في صمت، وهممت أن أتكلم ولكني أمرت بالسكوت. أمرني ذلك الكائن الغريزي الذي يتولى أمرنا وحكمنا في أوقات كتلك، أوقات لا نعرف فيها نوايا وأهداف من نكون معهم ... خاصة إذا كانوا من زملاء الليل أو أمثال الغريب.
لم أكن حتى ذلك الوقت قد رأيته ... كنت قد لمحته وحدقت فيه، وكنت أعرف أنه أمام عيني وبجواري، ولكني لم أكن قد رأيته ... السياج الرهيب الذي كان يحيط به ... الذين قتلهم والذين طاردهم والذين طاردوه، والحكومة التي يعاندها والحكومة التي تريده، وتاريخ طويل من القصص والروايات والأحاديث منسوجة وملونة ومحبوكة كانت تحيط به من كل جانب، ولا أستطيع معها أن أراه حتى وهو في ملابس النساء تلك، بل لم تفعل ملابسه أكثر من أنها أضافت للسياج الوهمي سياجا حقيقيا، وتفاعل السياجان ليجعلاني أحس به موجودا وغير موجود، هو الجالس بجواري ويكلمني، ولا يمكن أن يكون هذا شخصه أو الكلام كلامه ... أمعقول هذا؟ الغريب هو الجالس على حافة القيد يحادثني؟ كان يخيل لي في لحظة أن من أراه في تلك الثياب السوداء ليس سوى ظل لعملاق رهيب لا يزال كامنا في الأذرة، وفي أحيان يخيل إلي أن الثوب خال من الداخل، وأن الغريب ما هو إلا نقطة زئبقية داخلية لا يمكن إمساكها أو القبض عليها.
وأخرج علبة الدخان من جيبه أو هكذا تمنيت، فأي حركة منه كانت ترعشني، وتجعلني أنتفض مترقبا غرزة السكين المربوطة على فخذه في صدري، وقال: تاخد سيجارة؟
قلت: كتر خيرك.
Shafi da ba'a sani ba