المسعودي اخبار الزمان دار الندلس اخبار الزمان ومن أباده الحدثان، وعجائب البلدان والغامر بالماء والعمران تصنيف المؤرخ الكبير أبى الحسن على عبد الحسين بن على المسعودي المتوفى سنة 346 هجرية الطبعة الثانية اشرف على الطبع والتصحيح لجنة من الاساتذة مكتبة النجف الاشرف الشياح - الفبيري - تأسست سنة 1951 دار الانداس للطباعة والنشر - بيروت بيروت - لبنان 1386 ه.
Shafi 3
1966 م بسم الله الرحمن الرحيم كلمة الناشر
Shafi 4
انطلاقا بالرسالة التي أخذنا على عاتقنا تحقيقها منذ أول تأسيس دار الاندلس، وهي الاسهام في إحياء التراث العربي القديم، والسعي في إنعاش الحركة الثقافية عن طريق نشر الكتب المفيدة، وما لقيناه من تشجيع وتقدير، في طبعتنا الجديدة لكتاب (مروج الذهب) للمسعودي...نتقدم اليوم بمجهود يضيف إلى تلك السلسلة الطويلة حلقة جديدة، وهو كتاب (أخبار الزمان) للمسعودي.
Shafi 5
وسرور " دار الاندلس " هو أنها إذ تضع لبنة جديدة في صرح الثقافة العربية الخالصة من طريق إحياء التراث القديم، وكل رجائها أن يكون التوفيق حليفها في المستقبل، والله من وراء القصد حسين عاصي صاحب الاندلس للطباعة والنشر بيروت - لبنان مقدمة الطبعة الاولى بقلم عبد الله الصاوي للمسعودي كتابان جليلان في التاريخ،، ظهر أولهما مروج الذهب في عدة طبعات تداولها اكثر علماء هذا الجيل، فعرفوا من المسعودي عالما، جليلا، فلكيا، حاسبا، منجما، جغرافيا، أخباريا، فقيها، محدثا، جدليا، نظارا، ديانيا، مؤرخا، نسابة، فيلسوفا، أديبا، راوية.
وانه كان ملما بعدة لغات، وكان ذا حظ وافر من الثقافات التي انتهى إليها علم الانسان، منذ بدأ الله الخلق إلى عصره.
وظهر ثانيهما، وهو التنبيه والاشراف في طبعة واحدة قبيل نهاية القرن
التاسع بسبع عشرة سنة في مطبعة بريل بمدينة ليدن بهولانده، ضمن المكتبة الجغرافية، التي عني بنشرها البروفسور " دي جوجي ".
ويندر أن يعرف علماء العصر الحاضر عن هذا الكتاب شيئا، إذ لم يصدر منه سوى هذه الطبعة الاوربية، وطبعات أوربا من الغلاء بحيث لا يستطيع الرجل المتوسط الثراء أن يقتنيها.
وقد قمت بنشر هذا الكتاب وسيذاع بين يدي الجمهور بعد بضعة أيام، ريثما أتمم طبع فهارسه المطولة.
Shafi 7
وسوف يرفع هذا الكتاب من منزلة مؤلفة العلامة المسعودي، ويحله الذروة بين الرجال النابهين، ذوي الثقافات الواسعة والمعلومات الكثيرة، وسيرى العلماء قدرة المسعودي الفائقة وبراعته وعلمه الغزير الذي بدا لهم في ثنايا كتابه مروج الذهب، سيرون أنه قد عاد فظهر فيه بأوضح وأجلى مما ظهر في صنوه المروج من قبل.
وكتاب " أخبار الزمان " هذا، ثالث كتاب يبرزه عالم الطبع من مؤلفات ذلك الامام الكبير.
وقد يلاحظ من يقرأ كتاب مروج الذهب أو كتاب التنبيه والاشراف أن المسعودي أكثر من الثناء عليه، وأحال عليه في مواضع كثيرة.
وأنه أوفى كتاب التاريخ، وأوسع المراجع العلمية الاسلامية التي وضعت في أواسط العصر العباسي ويظهر أن المسعودي ضمنه كل ثروته العلمية، إذ هو أول ما ألف من كتب، ثم راعته ضخامة الكتاب، فعمد إلى اختصاره عدة مرات، ثم عمد إلى تلك الثروه العلمية الهائلة فبعثرها في كتبه، وفرقها بين مصنفاته،
تفرقة عادلة، وقسمة مرضية، راعى فيها أن يكون في كل مؤلف منها ما يحببه إلى القراء، ويرفع قدره ويسني منزلة بين العلماء.
فكثيرا ما يرى الباحث في كتب المسعودي أنه يعرض إلى إجمال بعض الموضوعات الطريفة، والاحاديث الغريبة، في مختلف العلوم والفنون في هذين الكتابين، يلم بالموضوع إلمامة سريعة، ثم يذكر أنه بسطه مفصلا، وذكره بتمامه في كتاب " أخبار الزمان " فلا يزال الباحث يبحث عن ذلك الكتاب ضمن ما طبع أو ما لم يطبع، وربما دعاه الشوق إلى البحث في مكاتب أوربا، والمكاتب العامة الخاصة.
Shafi 8
ثم لا تكون نتيجة هذا البحث إلا الخيبة والفشل، والتحسر الدائم على ما فقد وضاع من تراث الآباء. ذلك كان موقفي عند ما قرأت مروج الذهب للمسعودي لاول مرة، ولطالما أمضيت الايام في البحث، وأضنيت النفس في التنقيب عن كتبه، ولا سيما عن كتاب أخبار الزمان الذي هام به العلماء، لا فراط المسعودي في تقريظه، وإلماعه بما تضمنه من علوم وأبحاث مفيدة - اعتقدت أن في العثور عليه إشباعا لرغباتي العلمية، بل ظننت أن سعادة العالم رهينة بما قد ضمنه ذلك الكتاب من حلول لمسائل علمية معقدة، ومشكلات لم يصل العلم إلى حلها، ولا سيما مسائله الفلسفية، وما وراء الطبيعة، وأخباره الطريفة.
ولم أكن فريدا في الشعور بتلك الحالة، بل ذلك شأن كل من يقرأ كتب المسعودي، أو يلم بها بعض الالمام.
ولقد حدثت أن مستشرقا استهواه علم المسعودي، وأسلوبه الجذاب،
وفتنته إحالاته العجيبة، فبحث أولا بنفسه، ثم لجأ إلى حكومته فأمدته بالمال، فظل يبحث ويتابع البحث، حتى عثر على نسخة من كتاب " أخبار الزمان " في مدينة شنقيط بصحراء افريقية، فرام شراءها، وبذل فيها ثمنا عاليا، فما سمحت أنفس الشناقطة ببيعها، ولا رضوا أن يستبدلوها بالذهب الوفير.
فلما أعياه شراؤها عرض عليهم أن يصورها بالفتوغرافيا نظير مبلغ من المال جسيم، فما اعاروا عرضه ذلك التفاتا، بل منعوه النظر إليها والاستمتاع بها.
Shafi 9
فرحل عنهم حقبة من الدهر، ولما استيقن أن القوم قد أنسوا شخصه، وما كان قد جاء لاجله، عاد إليهم خائفا يترقب، وقد عزم استنساخها، فاكترى رجلا منهم عهد إليه باستنساخها. لكنهم إذ فطنوا إلى الامر، لم يجدوا جزاءا لهذا المستشرق - الذي أحب العلم، وضحى بوقته وراحته ولذاته في سبيله، واستمات في تحصيل فكرة قد يصل نفعها إلى جميع المسلمين في مشارق الارض ومغاربها - إلا القتل، فذهب ضحية إحالات المسعودي، والبحث عن كتبه ! وهذا الذي فعله المستشرق بعض ما يجب نحو كتاب " أخبار الزمان، لان المسعودي أفرط في تقريظه والثناء عليه، وقال إنه أوعى كتاب وأجمعه في التاريخ.
ولندع المسعودي يحدثنا عنه قال " أما بعد فانا صنفنا كتابنا في أخبار الزمان وقد قطعنا القول فيه على هيئة الارض ومدنها، وعجائبها وبحارها وأغوارها، وجبالها وأنهارها وبدائع معادنها، وأصناف مناهلها وأخبار
غياضها وجزائر البحار والبحيرات الصغار، وأخبار الابنية المعظمة والمساكن المشرفة، وذكر شأن المبدأ وأصل النسل وتباين الاوطان، وما كان نهرا فصار بحرا، وما كان بحرا فصار نهرا، وما كان برا فصار بحرا على مرور الايام وكرور الدهور، وعلة ذلك وسببه الفلكي، وانقسام الاقاليم بخواص الكواكب ومعاطف الاوتاد ومقادير النواحي والآفاق، وتباين الناس في التاريخ القديم، واختلافهم في بدئه وأوليته من الهند وأصناف الملحدين، وما ورد في ذلك عن الشرعيين وما نطقت به الكتب وورد على الديانيين.
Shafi 10
ثم أتبعنا ذلك بأخبار الملوك الغابرة والامم الدائرة والقرون الخالية والطوائف البائدة على ممر سيرهم وأوقاتهم، وتضيف أعصارهم من الملوك والفراعنة العادية والاكاسرة واليونانية، وما ظهر من حكمهم ومقائل فلاسفتهم وأخبار ملوكهم وأخبار العناصر إلى ما في تضاعيف ذلك من أخبار الانبياء إلى أن أفضى الله بكرامته وشرف برسالته محمدا نبيه صلى الله عليه وسلم. فذكرنا مولده ومنشأه وبعثته وهجرته ومغازيه وسراياه إلى أوان وفاته واتصال الخلافة واتساق المملكة بزمن زمن، ومقاتل من ظهر من الطالبين إلى الوقت الذي شرعنا فيه في تصنيف كتابنا هذا من خلافة المتقي لله أمير المؤمنين وهي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.
ثم أتبعناه بكتابنا الاوسط في الاخبار على التاريخ، وما اندرج في السنين الماضية، ومن لدن البدء إلى الوقت الذي عنده انتهى كتابنا الاعظم وما تلاه من الكتاب الاوسط، رأينا إيجاز ما بسطناه واختصار ما وسطناه، في كتاب لطيف نودعه لمع ما في ذينك للكتابين، ضمناهما، وغير ذلك من أنواع العلوم
وأخبار الامم الماضية والاعصار الخالية مما لم يتقدم ذكره فيهما ".
من هذه الالمامة الموجزة التي يذكرها المسعودي في صدر كتاب مروج الذهب يمكننا أن نلم بشئ عن كتاب أخبار الزمان للمسعودي.
ولو قارناه بكتابنا هذا الذي يزعم أنه للمسعودي وجدنا مفارقة كبيرة بين الكتابين، فالذي يصفه المسعودي، تأريخ عام مطول وهذا تاريخ خاص عن أصل الخلق وغرائب الارض والبحار والانهار وعجائبها، ثم أخبار آدم وبعض الانبياء من بعده، وملوك مصر وفتوحاتهم، وفراعنتها وكهانها وسحرتها وآثارها، فهذه مقارنة أولية تذلنا على أن كتاب أخبار الزمان غير هذا.
وأيضا نحن نعلم ان صفحات مروج الذهب تبلغ خمسمائة وألف صفحة فلو فرضنا أنه على النصف من أصله الكتاب الاوسط لكان أصله ثلاثة آلاف صفحة، وسيكون كتاب أخبار الزمان إذا في ستة آلاف صفحة لان الكتاب الاوسط مختصر منه.
Shafi 11
فما مبلغ هذا الذي بين أيدينا ، وعدد صفحاته مائتان وخمسون صفحة لا غير، من هذا الذي تبلغ صفحاته ثلاثة آلاف على أقل تقدير. وسأورد أيضا بعض عبارات من مروج الذهب وإحالات فيه على كتاب اخبار الزمان نتبين منها صحة ما نذهب إليه.
1) قال المسعودي " ولمن سمينا من ملوك الحيرة أخبار وسيرة وحروب قد أتينا على ذكرها والغرر من مبسوطها في كتابنا أخبار الزمان...فأغنى ذلك عن إعادته " ولو عدنا إلى كتابنا لنبحث عن ملوك الحيرة هؤلاء لم نر شيئا عنهم في كتابنا هذا.
2) قال المسعودي: والفرق بينه (أي الفيل) وبين سائر أنواع الدواب ما يظهر من الفيل من الجزع عند ورود المياه من الغدران والانهار للشرب إذا كان الماء صافيا، فانه يثيره ويكدره ويمنع من شربه حين صفائه، وان ذلك يوجد في أكثر الخيل إذا وردت الماء وكان صافيا ضربته بأيديها فكدرته، فتشرب حينئذ.
وتوافق الخيل الفيلة في هذا المعنى، دون سائر الحيوانات، وإن ذلك لمشاهدة صورها في الماء لصقالته وصفائه، ولعلمها بذلك عند زوال كدره.
وإن الابل الاغلب منها يفعل ذلك، ولمعان غير ذلك مما وصفنا من أن ما عظم من الحيوانات إذا رأى صورته منعكسة على صفاء الماء أعجبته لعظمها وحسنها، وما بان له من حسن الهيئة عما دونه من أنواع الحيوان، وليس يفعل ذلك من الحيوان غير ما ذكرنا من الخيل والابل.
وإن الفيل مع عظم جسمه ولطافة نفسه وخفة روحه وحسن تمييزه والمعرفة بوليه وعدوه من الناطقين وغيرهم، وقبوله الرياضة تمتنع أنثاه، كما تمتنع النوق إذا لقحت.
Shafi 12
وليس شئ من الدواب يمتنع من السفاد من الاناث عند حملها إلا الفيلة والابل، وهذا باب إن نحن تقصيناه وذكرنا ما فيه طال به الكتاب، وخرج عن حد الاختصار والايجاز، وقد أتينا على وصف جميع ذلك في كتابنا " أخبار الزمان ".
فإذا نحن نقبنا في صفحات هذا الكتاب لم نجد عن ذلك شيئا.
3) قال المسعودي: ثم اختلفت الكلمة بين اجناسهم (اي الصقالبة) فزال نظامهم وتحزبت أجناسهم وملك كل جنس منهم ملكا على حسب ما ذكرنا من ملوكهم لامور يطول ذكرها وقد أتينا على جمل من شرحها، وكثير
من مبسوطها في كتابنا (أخبار الزمان).
ونحن لا نجد فيه ذكر أمور يطول أو يقصر، عن زوال ملك الصقالبة وتدهوره وانفراط أمر ملوكهم وتبدد جماعتهم وتحزب عصبتهم في هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
(4) قال المسعودي: وأما الدلائل [ على ] أن السماء تدل على مثال الكرة وتدويرها بجميع ما فيه من الكواكب، وأن الارض بجميع أجزائها من البر والبحر على قدر مثال الكرة، وأن كرة الارض مثبتة في وسط السماء كالكرة وقدرها عند قدر السماء قدر النقطة في الدائرة صفرا، ووصف الربع المسكون من الارض، وما يعرض من دور الفلك، واختلاف الليل والنهار، ووصف المواضع التي تطلع الشمس فيها شهورا لا تغرب، وتغرب شهورا لاتطلع.
فقد أتينا على وصف جميع ذلك وما اتضح عليه وما انتصب من البراهين وما قاله الناس في ذلك في كتابنا المترجم بكتاب " أخبار الزمان ".
وهذا أيضا أنموذج رابع يوضح لنا بعض ما يتضمنه كتاب أخبار الزمان، وحجتنا فيه اننا لا نجد من ذلك شيئا ابدا في هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
Shafi 13
ولو أننا تتبعنا عبارات المسعودي في كتابيه المروج والتنبيه لنتبين بها بعض ما كان يحويه كتاب أخبار الزمان لوجدنا أمامنا من العبارات ما يضيق به هذا المكان، لكن في هذا ما يكفي لذي اللب.
(5) وثمة دليل آخر وفرق يسير وهو إن لم يكن دقيقا إلا أننا نذكره من قبيل العرض والتدليل على أنه ليس كتاب أخبار الزمان الذي يذكره المسعودي ذلك أن اسمه جاء هكذا: (كتاب أخبار الزمان، ومن أباده الحدثان، وعجائب البلدان، والغامر
بالماء والعمران).
وجاء اسم ذلك في مروج الذهب هكذا: كتاب أخبار الزمان، ومن أباده الحدثان من الامم الماضية والاجيال والممالك الدائرة.
وإذن فما نسب هذا الكتاب من كتاب أخبار الزمان، وما صلته بالمسعودي ؟ ذلك سؤال يخطر بعد ما أسلفناه من قول، والواقع أن نسبة هذا الكتاب للمسعودي في غاية من القوة، ذلك أننا لو ذهبنا نقيس ما جاء فيه من أخبار على ما جاء في كتب المسعودي المعتمد نسبتها إليه لوجدناه مطابقا لها في الجملة ولا نكاد نرى فيه اختلافا، وبذلك نجزم بأنها آراء المسعودي ونقوله.
ولا يصح أن نذهب إلى أن الكتاب مختصر من كتابي المسعودي اللذين عرفناهما، لان ما يورده فيه من اخبار يضعف بكثير جدا ما يذكره في المروج أو التنبيه ويربي على ما فيهما.
Shafi 14
وأنا بعد ذلك أذهب إلى أن هذا الكتاب إما أن يكون اختصارا لجانب يسير من كتاب أخبار الزمان، ولو لا ان الكتاب تام، وقد عملت له خاتمة لقلت إنه قسم منه، وكذلك قال الذين رأوه وفهرسوا الكتب العربية الخطية امثال برو كلمان وجولدزيهر. كما لا يمكنني أن أجزم بأن الذي اختصره غير المسعودي، وعلى أية حال فقد وجدنا التسمية على صدر النسخة الخطية المحفوظة بباريس، والتي صورت عنها النسخة التي في المكتبة الملكية.
كما وجدت التسمية على صدر النسخة الخطية المحفوظة بمكتبة تيمور باشا،
وفي كلتا النسختين يضاف الكتاب إلى المسعودي.
وأيا ما كان الكتاب للمسعودي أو غيره، فالكتاب فيه أشياء غربية وأخبار طريفة تفيدنا كثيرا في معرفة التاريخ القديم بوجه عام والمصريين بوجه خاص، ولو أن العلم الحديث يقفنا منها موقف الريبة والشك.
وسيجد القارئ فيه لذة لا تعدلها لذة، وسيمضي في قراءته دون كد ولا ملل،، وسيعاود قراءته بعد ذلك مرات، وهو بلا ريب منته إلى إحدى ثمرتين: الاولى - أن الانسان فيما مضى وتصرم من الاجيال كان أقدر منه في هذه الحياة العصرية، وأن السحر والكهانة لعبا دورا كبيرا في غابر الاحقاب، وأن القدماء وصلوا في العلم بهما إلى غاية تتقاصر دونها أقصى الغايات.
الثمرة الثانية - أن قدماء المؤرخين كانوا ذوي خيال واسع، قصاصين بارعين قادرين على أن يجسموا الخيال، ويلبسوه ثوبا من الحقيقة محكم النسج.
وسيقف القراء منه على أن ما بلغه المصريون من الصناعة وعمارة الارض والفنون والعلوم والحكمة والبصر بالكيمياء لم تبلغه أمة من الامم، وسيجدون فيه من العجائب التي أقامها المصريون بالهندسة أو السحر أعاجيب أدناها الاهرام هذه التي أفنت العصور، ولم تبلها العصور.
Shafi 15
وسيعلمون ان ليست هذه الاهرام وحدها التي أقامها القدماء آيات شاهدة لهم بالقوة والايد واتساق الملك الجبروت. بل إن لقدماء المصريين آثارا أخرى جليلة أقاموها في مصر والاسكندرية ومنف وأطرافها وفي غيرها من الممالك والبلدان.
ذلك ما سيقف عليه القارئ الكريم في هذا الكتاب، وفي هذا الكتاب
سيستطيع من يعنيه البحث عن الآثار أن يعلم بوجه التقريب مدافن ومخابئ كثرا ملاها القدماء بالذهب والتحف وغرائب الجواهر والحلى، ففي هذا الكتاب إشارات لتلك المواضع، وهذه الاشارات وإن لم تحددها تلك المواضع بالدقة فهي تفيد عالم الآثار، ولا سيما إذا استعان عليها بالعلم.
ونحن بعد أن ننشر هذا الكتاب سنرقب عن كثب ما يظهره لنا علامة مصر الاثري الفاضل الدكتور سليم حسن، ونود أن يسمعنا رأيه فيما جاء بهذا الكتاب من آثار.
وفي الحق أن ما ذكر في هذا الكتاب يكاد لا يصدقه العقل، بل يكاد ينفيه، ولكن معول الدكتور الفاضل وما كشفه في السنين الماضية من آثار، وما يكشفه الآن، يجعلنا لا نرتاب أبدا في تقبل ما يحدثنا به المسعودي في هذا الكتاب.
على أن المؤلف نفسه يروي ما جاء فيه بتحفظ شديد، بل يرويه على أنه خبر يرتاب فيه العقل، ولكنا الآن أشد إيمانا بتصديق ما جاء فيه من المسعودي نفسه، وذلك بفضل العلم الحديث، وما وصل إليه علماء الآثار، ومعهد الآثار في الجامعة المصرية.
Shafi 16
ولن يضير هذا الكتاب شيئا ما ورد فيه من ذكر السحر والكهانة، وأن مصر كانت عامرة بالسحرة، فالقرآن الكريم يؤيد ذلك في كثير من سوره وهو يذكر السحرة في غير موضع، فيذكرهم مع موسى وفرعون في مواضع كثيرة، ويذكر هاروت وماروت وأنهما كانا يعلمان الناس السحر، ويذكر السحرة مع ملك سليمان ويذكر للرسول صلى الله عليه وسلم كيف يتعوذ من النفاثات في العقد، وفي سيرة الرسول ما يفهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سحر، وقد وضع
الفقهاء عقوبة للساحر في الشريعة الاسلامية، ويروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: تعلموا السحر ولا تعملوا به، فهذه كلها دلائل ناطقة بحقيقة السحر والكهانة وأنها أشياء كانت معروفة مشتهرة بين القدماء.
ونحن وإن كنا الآن لا نشاهد شيئا من آثار السحر، ولا من قوته، فليس لنا أن ننكره، وبين يدينا كتب مؤلفة في السحر تعد بالمئين، فمحال أن تكون هذه الكتب ألفت على غير أساس، وفي الحياة غرائب وأشياء معقدة هي كالسحر، بل ان الحياة ومن فيها جميعا أشبه شئ بالسحر.
ومن الجائز أن يكون السحر علما ذهب بذهاب أهله، لانهم كانوا به جد ضنين.
وقد أحصيت كتب المسعودي التي ذكرها في كتاب مروج الذهب وكتاب التنبيه والاشراف وأحال عليها أثبتها فيما يلي: 1) كتاب أخبار الزمان، ومن أباده الحدثان من الامم الماضية، والاجيال الخالية، والممالك الدائرة وهذا وقسم منه.
2) الكتاب الاوسط.
3) كتاب مروج الذهب، ومعادن الجوهر، في تحف الاشراف من الملوك وأهل الدرايات.
4) كتاب فنون المعارف، وما جرى في الدهور السوالف.
5) كتاب ذخائر العلوم، وما كان في سالف الدهور.
6) كتاب نظم الجواهر، في تدبير الممالك والعساكر.
Shafi 17
أخبار الزمان م (2) 7) كتاب الاستذكار، لما جرى في سالف الاعصار.
8) كتاب التنبيه والاشراف.
9) كتاب نظم الاعلام، في أصول الاحكام.
10) كتاب نظم الادلة، في أصول الملة.
11) كتاب المسائل والعلل، في المذاهب والملل.
12) كتاب خزائن الدين، وسر العالمين.
13) كتاب المقالات، في أصول الديانات.
14) كتاب سر الحياة.
15) رسالة البيان في أسماء الائمة.
16) الاخبار المسعوديات.
17) كتاب وصل المجالس.
18) كتاب تقلب الدول، وتغيير الآراء والملل 19) كتاب الابانة، في أصول الديانة.
20) كتاب مقاتل فرسان العجم.
21) كتاب الصفوة في الامامة.
22) كتاب الاستبصار في الامامة.
23) كتاب المبادئ التراكيب.
24) كتاب الرؤوس السبعة.
25) الزاهي.
26) كتاب الدعاوي.
27) كتاب الاسترجاع.
28) كتاب مزاهر الاخبار، وطرائف الاثار.
29) كتاب الرؤيا والكمال. 30) كتاب طب النفوس.
Shafi 18
31) كتاب حدائق الاذهان، في أخبار الرسول.
32) كتاب القضايا والتجارب.
33) كتاب الواجب في الفروض اللوازم.
34) كتاب الزلف.
يظهر أن كتبه هذه كلها قد ضاعت ولم يقف العلماء على شئ منها سوى: (1) مروج الذهب، وهو أوسع ما طبع من مؤلفاته.
(2) هذا القسم من كتاب أخبار الزمان ومن أباده الحدثان.
(3) كتاب التنبيه والاشراف، وقد قمت بطبعه على النسخة المطبوعة في ليدن.
Shafi 19
(4) الكتاب الاوسط، وفي مكتبة أكسفورد نسخة يظن انها هو. للمسعودي 345 أو 346 - 957 من هو ؟ هو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي المعتزلي الشافعي، من ذرية عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل.
فأما منشؤه فان الثقات من المؤرخين يروون انه نشأ في بغداد، على أن ابن النديم يروي أنه من أهل المغرب، فلعله شخص آخر، أو لعل بعض أجداده نزحوا إلى المغرب.
وعلى أية حال فقد قضى زهرة شبابه في بغداد، ولكنه غادر اقليم
العراق وإرضاء لميوله واذواقه، ورغبة منه في التجول، فخرج عن بغداد سنة 301 ليقوم برحلة قيل انها استمرت أعواما ثلاثة، وقد قضاها متنقلا بين ربوع فارس وكرمان.
ثم بعد ذلك جاب بلاد الهند وصيمور، قطن أخيرا في مدينة بومباي حتى سنة 304، ومن المحتمل أن يكون قد أقام حينذاك في جزيرة سيلان.
ومن ثم وصل إلى مدينة عمان، ويمكن أن نستنتج أنه ذهب إلى قناطر ماليسية العجيبة العظيمة، وشارف الصين.
Shafi 20
ومع أنه خاطر بتلك الرحلة وخصص لها نفسه ووقته، فانه تعمق في دراسات الحدود الاسلامية، واستعان على ذلك بالآيات العلمية، التي كانت معروفة في حياته. وهو يحدثنا انه كان في سنة 314 في فلسطين وفي انطاكية، وظل بعد ذلك متنقلا بين العراق وسوريا ومصر على أن جل ما ورد عن إقامته كان في مصر.
فهو يحدثنا بعد انه كان في سنة 336 قد أتم تأليف كتابه مروج الذهب في فسطاط مصر، وكان قد بدأ تأليفه سنة 332.
ويذكر كذلك انه في سنة 344 كان يشتغل بوضع النسخة الاولى من كتاب التنبيه والاشراف في الفسطاط نفسه، ثم في سنة 345 زاد فيها وأصلحها.
ويظهر مما ذكره من الكتب التاريخية في صدر كتابه، مروج الذهب، والتنبيه والاشراف، ان المكتبة العربية التاريخية في عصره كانت غنية جدا، عامر بالمؤلفات، فقد أورد فيهما عددا وفيرا من اسماء الكتب، وأسماء
المؤلفين.
والمؤرخون، يذكرون انه توفي سنة 345 وبعض يقول في 346، والخطب يسير، لكنه يجل حين نذكر ان ذلك العالم المؤرخ الكبير الذي عاش معنيا بالعلم وبالعالم، والعلماء وبالتاريخ والمؤرخين أهمله التاريخ، ولم يذكر المؤرخون شيئا من نعوته، ولا من تاريخ طفولته أو حياته.
ولكن يكفينا عزاء بقاء اسمه حيا في بطون ما بقي من كتبه، تعمر به قلوب العلماء وصدور الاجلاء، فرحمه الله رحمة واسعة.
Shafi 21
وقد اعتمدت في طبع هذا الكتاب على النسخة المأخوذة من الاصل الباريسي بالتصوير الشمسي والمحفوظة بدار الكتب الملكية تحت رقم 879 تاريخ وقد رمزت إليها باشارة (ب) اول كلمة باريس، وهي نسخة معتبرة وخطها يقرأ بعسر ويذهب القارئ فيه مذاهب شتى لتشابه حروفه، وقد حدث في اثناء التصوير ارتجاج احدث فسادا في طبع بعض الصفحات وقد لقينا مجهودا كبيرا في مراجعتها، والتهدي إلى صوابها. هناك اصل آخر في المكتبة التيمورية كثر فيه الحذف والبتر وكانت الورقة الاولى منه قد ضاعت فأكملها احد الناسخين فدل على سوء علمه ورأيه وعدم امانته وهذه النسخة محفوظة تحت رقم 614 تاريخ وهي كثيرة الخطأ ولم أعتمد عليها الا قليلا بل لقد تركت الاعتماد عليها عندما قاربت منتصف الكتاب لكثرة ما فيها من الخلل والتحريف والنقص وقد رمزت على ما انتفعت به منها بإشارة (ت) أول كلمة من تيمور.
وقد اعتمدت فيما جاء فيه من اخبار مصر وملوكها على تاريخ القرماني
المسمى بأخبار الدول وآثار الاول لابي العباس احمد بن يوسف بن احمد الدمشقي الشهير بالقرماني وقد طبع في مدينة بغداد سنة 1282.
وقد لاحظت انه اطلع على نسخة من اخبار الزمان، لانه يذكر حوادث وأخبارا بنصوصها وعبارتها وألفاظها الا انه مختصر.
وقد أفاد هذا الكتاب كثيرا في تصحيح بعض الاسماء وكشف بعض ما عميت قراءته ولا سيما تلك الصفحات التي حدث بها الارتجاج اثناء التصوير الشمسي في باريس.
وقد رمزت إلى تاريخ القرماني بالاشارة (ق) اول حرف من كلمة قرماني، هذا وان ألفت نظر حضرات الادباء والعلماء إلى ان الفضل في اختيار هذا الكتاب، والانفاق على طبعه لحضرة الفاضل السيد عبد الحميد افندي حنفي عامله الله بلطفه الخفي، وشكر له مسعاه وأبلغه احسن ما يتمناه، وأنا ارجوا ان اكون قد قمت ببعض ما يجب علي من تصحيح هذا الكتاب، وأسأل الله ان يتداركني بلطفه، وان يوفقني إلى ما فيه الخير في الدنيا والاخرى، وأن يلهمني السداد، انه على ما يشاء قدير.
Shafi 22
عبد الله الصاوي بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبنا ونعم الوكيل " قال الشيخ أبو الحسن، علي بن الحسين بن علي بن عبد الله الهذلي المسعودي رحمه الله ورضي عنه ".
نبتدئ بحمد الله وذكره وشكره، والثناء عليه والشكر له، والصلاة على أنبيائه ورسله وملائكته، ونخص سيدنا ونبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وعلى آله
وأزواجه وأصحابه، بأفضل صلواته، وأكمل تحياته، وأزكى بركاته.
ثم نذكر ما وقع الينا من أسرار الطبائع، وأصناف الخلق، مما يكون ذلك (1) مشاكلا لقصدنا، ونصل ذلك بذكر ما يجب ذكره من ملوك
__________
1) أول الكتاب في ت: مفقود، وقد انتحل الناسخ ديباجة أولها: الحمد لله الذي اختص نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتاب أخرس الفصحاء، وأعجز البلغاء عن مثل أقصر سورة من سوره، بل آية آياته.
وبجوامع الكلم، وبدائع الحكم.
وأيد أقواله، وأشهر أفعاله، وقصرت الالسن عن مدح نعت كماله، وقد سطع بدر وجوده، وفاض على الثقلين سح جوده، وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلاة وسلاما دائمين ما دام النيرين * وسلم تسليما، وبعد، لما رأيت فن التاريخ شريف * *، ولهج به كل ظريف، قصدت تأليف هذا الكتاب جهدي، ليكون تذكرة من بعدي، فأقول كان ابتداؤنا به ابتداء الموجودات والمحسوسات مشاكلا الخ...*) الصواب النيرين.
* *) الصواب شريفا، وهذا يدل على فرط جهل الناسخ المنتحل.
Shafi 23